وجدت المستشفى كما كنت أجده دائما مكتظا بالمرضى، مكتظا بمرافقيهم، مكتظا بالممرضين والأطباء ورائحة البنسلين والديتول، والملاريا والبعوض والذباب، مكتظا بالأوساخ، مكدسة عند الأركان حاويات الأدوية الفارغة الزجاجية والبلاستيكية، الحقن القديمة والدربات الفارغة وعليها بقايا المحاليل والدماء الباردة، بقايا الأطعمة على أكياس البلاستيك أو في العراء تتدافع عليها القطط السمينة، الذبابات والكلاب الضالة، الموتى يخرجون من المستشفى وقد حمدوا الله على الراحة الأبدية، المرضى الذين من الله عليهم بالخروج سالمين. في الحوائط إعلانات دائمة لفنانين سوف يقيمون حفلات بهيجة بأسعار زهيدة على كازينو النيل الأزرق احتفاء بالسنة الميلادية، بقايا مخرجات بشرية هنا وهنالك. - دقيقة يا دكتورة سهير.
قفزت علي قطة صغيرة تعبث بحاوية بلاستيكية استخدمت لنقل دم لمريض، بها بقايا الدم شاهدة على ذلك. - دقيقة يا دكتورة سهير. - أهلا. - أنا أبو حازم، صحفي بجريدة الخرطوم، وعايز أعمل تحقيق صحفي عن المستشفى، لو سمحت عايزك تجاوبي لي على بعض الأسئلة، وكنت في انتظارك منذ الساعة السابعة صباحا، ومعي المصور جمال زكريا، تسمحي نأخذ صورة مع بعض! - لا بالتأكيد، إذا كانت عندكم أسئلة اسألوها لإدارة المستشفى، أنا طبيبة فحسب. - معليش، سألنا إدارة المستشفى وسألنا الأطباء، فبقيت أنت فقط. - أنا لن أجاوب على أي سؤال بالرغم من أنني لا أعرف ما هي أسئلتكم، انظروا يمينا ويسارا وتحتكم، ثم اسألوا أنفسكم وجاوبوا على أنفسكم، وخذوا صورة تذكارية مع الكدايس.
وذهبت، اعتبرت أن هذه بداية غير مشجعة ليوم عمل صعب يحتاج عادة لروح معنوية عالية، تسلمت ورديتي من زميلة بدت مرهقة وحزينة، تبادلنا جملا قصيرة معتادة، ذهبت.
اثنان من طلاب كلية الطب يسألون ويكتبون في هدوء وأدب، بنت وولد، سألتني البنت سؤالا مفاجئا: الناس ديل عايزين يبيعوا المستشفى؟ - ياتو مستشفى؟ - المستشفى دي اللي نحن فيها الآن. - لمنو؟ - لشركة أجنبية. - تعمل بيها شنو؟ هل ستصدر المرضى للخارج والضبان والبعوض والملاريا؟ - آسف يا دكتورة، سمعت الناس بيقولوا كدا. - والله لا علم لي بشيء. - قام المرضى أمس الجمعة بمظاهرة لمان سمعوا الخبر. - ما سمعت بالموضوع دا، كنت في الغابة. - ياتو غابة؟ - مكان بعيد أسكن فيه ويسمى الغابة، لا عليك. - حيدخل الأطباء في إضراب عن العمل بداية من يوم الخميس القادم. - كويس، من وين بتجيبي المعلومات دي يا دكتورة؟ - كل الناس هنا بيعرفوا، والصحافة والشارع و... و... و... و... - الآن فهمت. - تخشي إضراب مع الدكاترة؟
لأول مرة أنظر إلى وجهها بتمعن وعناية، كانت صغيرة لها وجه طفولي مستطيل، وعينان جميلتان ومتسعتان، شفة سفلى أطول قليلا من العليا، سمينة، على وجهها شبه ابتسامة دائمة، كان الطالب يمشي خلفها في صمت ويبدو مشغولا بكتابة بعض الملحوظات، سألتها: أنت طبيبة ولا صحفية؟
قالت في خجل: متأسفة يا دكتورة.
قلت في نفسي: هل هنالك شخص في هذه الدنيا يشتري كوشة على مقابر قديمة؟
نهضت في ذهني الكوشة الكبيرة في قريتنا، التي تقع خلف السلخانة، ما وراء المقابر، ليس ببعيد عن شاطئ النهر، نطلق عليها ونحن صغار «كوشة حريقا»، لها رائحة الجيفة، رائحة الجلد المشوي، رائحة الموت، ترعى فيها طيور الأبو خريطة العملاقة، وليس ببعيد تقف حاوية الماء والوابور عليه عم توتو بصورة دائمة ونهائية، وكأنهما خلقا معا، بل من مادة واحدة، صورة لا تأتي إلا متكاملة.
في المحراب أفهمتني سارة كل شيء، وأكدت لي أن الأمر تم فعلا، وسوف يعلن رسميا في الإذاعة والتلفزيون والجرائد كأهم حدث طبي في البلاد الكبيرة، شركة ماليزية سوف تقوم بتأهيل المستشفى وفقا للمواصفات العالمية، هكذا وافتنا الجرائد بالنبأ، ونحن في طريقنا إلى قرية الفزراء من مدينة القضارف، ثم غادرنا الأسفلت على أرض صلبة سوداء، سافرنا جنوبا، ثم جنوب شرق، عبر غابات الهشاب والطلح واللالوب الخضراء، ومزارع الذرة والسمسم التي تدخل في النفس عالما من المرح والطفولة. سافرنا نحو الجنوب الشرقي، سافرنا سفرا حلوا ممتعا، غنينا، قرأنا شعرا، تناكتنا، تحاكينا.
توقفنا عند بركة ماء حولها بجعات بيضاوات، بعض الأوز، طار كل شيء بمجرد أن توقفت العربة، حطت بعض الطيور بعيدا تراقبنا عن كثب، اقتربت بعض النعاج الخجولة، الأرض تحتنا لينة خضراء باردة ورحبة، جلسنا تحت ظل شجرة جوغان ضخمة، فرشنا على أوراقها وبقايا ثمارها القديمة الكبيرة فرشة من البلاستيك، أطيار الكلج كلج تصدر ضجيجا حلوا، قطان بريان يمران أمامنا في سرعة البرق ويختفيان بين أعشاب الخريف، آدم وسارة تمشيا في عمق الغابة الصغيرة، أما مايكل وبرهاني وسابا وطفلتها الصغيرة نوار، كنا نتحدث في وقت واحد، نوار سعد وأمين، لكن كانت لمايكل ملاحظات جيدة حول فكرة موت مايا العزيز: مات مقتولا.
نامعلوم صفحہ