تابع الصدر الأعظم قائلا: «إذا علمت أي شيء آخر عن منصف بك أو الآنسة كوهين، فيرجى إخبارنا به في الحال، وفيما عدا ذلك فسوف نتصل بك نحن عندما نحتاج إلى خدماتك.»
وبينما كان مضمون تلك الكلمات يتكشف للكاهن ببطء، رافقه أحدهم إلى الباب نزولا إلى القاعة الكبرى لمجلس الوزراء إلى مخرج سري يقوده إلى خارج أسوار القصر. اختبأ خلف الواجهة المظلمة لمحل أسماك مغلق على مصراعيه، وفتح الرزمة فوجد فيها خمسة عشر جنيها، وهو ثلاثة أضعاف أجره العادي. يبدو أنه قدم لجمال الدين باشا شيئا مهما.
الفصل الثامن عشر
إنها تجدف في الحلم، والسحب ذات لون أرجواني ترابي، والنجوم خلفها ترتجف كقنديل البحر، وثمة حشد من الناس اصطف بمحاذاة الشاطئ. إنهم يحاولون إخبارها بشيء ما، ولكنها لا تنظر خلفها؛ فلو نظرت خلفها سيؤدي ذلك إلى تباطئها وهي بطيئة بالفعل. إن معها رسالة للشخص الموجود في البرج، والرسالة مكتوبة على ورقة في يدها، وهي تجدف.
تبدو محطة حيدر باشا كعملاق ينام على حافة الأفق، كائن خرافي بعين واحدة يرقد في فتحة كهفه ثم ينهض متثائبا. وتلك الممرات كالعروق التي تصل بين الأصابع والقلب، والقطارات كالذراعين، والساعة هي عينه. وخلف المحطة توجد جزيرة بها برج أبيض مربع يبدو كالسجن، وهو المكان الذي تقصده حاملة رسالتها. يغمز لها القمر بعينه، فتفهم الإيماءة.
إنه كيز كولاسي، برج العذراء، هكذا تعتقد. فالاسم يعلق بذهنها كالحلوى اللزجة، وتحاول أن تتذكر قصة البرج. ثمة فتاة ووالدها السلطان، وثمة لعنة وأفعى سامة وسلة من العنب. حبست الفتاة في البرج، وربما كانت أفروديت لها علاقة بالأمر، أم أن تلك قصة أخرى؟ هل يهم ذلك أصلا؟ هي الآن تجدف عبر المضيق ذي القمم العنيدة والأمواج التي تحفل بقناديل البحر، فهل تهم القصة؟
الغريب في الأمر أنها لا تتذكر الرسالة، ولا تذكر ما من المفترض أن تقوله للشخص المحبوس في البرج، ولم عليها أن تقوله، ولكنها تعلم أنه أمر هام، وهي تعلم أن الرسالة مكتوبة على ورقة تحملها في يدها. تعبر محطة حيدر باشا ثم تقفز سمكة خارج الماء وذيلها يقطر ماء، ثم تظهر سمكة أخرى ثم ثالثة، ثم تصبح المياه حية تعج بالسمك. ينثر السمك عليها الماء وهو يتخبط كالممحاة المطاطية، وتجدف هي بأقصى طاقتها مرورا بمحطة القطار، عبر السمك والمياه البطيئة.
جنح قاربها محدثا صريرا، وترنح البرج الشاحب الشديد الرطوبة كما لو كان سكيرا يطعن الليل بعصاه. وعندما سمعت صرير قاربها وهو يجنح، رأت سربها؛ مئات الهداهد الأرجوانية والبيضاء التي تدور في دوامات كآلات الكمان. إنها تقول شيئا، تحاول إخبارها بشيء، ولكن حتى إذا أمكنها سماع الهداهد، وحتى لو فهمت فإنها لا ترغب في المعرفة. ليس هذا ما أتت من أجله؛ لقد أتت حاملة رسالة للشخص المحبوس في البرج.
فتحت باب البرج فوجدت الدرج يمتلئ بالطيور. إنه رطب يرفرف فيه اللون الأرجواني، كدوامة حماسية تملؤها الثرثرة. رفعت غطاء الرأس المثبت في معطفها وهزت خصلات شعرها. إن الهداهد كلها تتحدث في آن واحد، كلها تحاول أن تخبرها شيئا. أهي تقوله أم تغنيه؟ لا يمكنها أن تحدد. وتصعد الدرج مارة وسط الطيور متجهة نحو الغرفة التي توجد في أعلى البرج.
وعند نهاية الدرج توقفت. لقد اختفت الطيور، وثمة حشد الآن، حشد من الأشخاص لا يبدو منهم سوى الساق والجذع. إنهم يجتمعون حول الغرفة الموجودة في أعلى البرج في انتظار الرسالة. أرتهم الرسالة، لوحت بالورقة أمامهم وأخبرتهم بأنها حاملة الرسالة. إنها تصرخ: «ها هي، ها هي الرسالة التي تنتظرونها ، إنني الرسول.» ولكن لا أحد يستمع إليها. حتى إذا كانوا يستمعون فإن ذلك لا يهم؛ وذلك لأن الورقة التي تحملها في يدها خالية.
نامعلوم صفحہ