كان هذا هو العيب الأكبر في جمال الدين؛ فرغم أنه كان أفضل بمراحل، مشورة وولاء، من الصدر الأعظم السابق لدى عبد الحميد، فإنه كثيرا ما دهسته عجلة الأحداث في خضم وقوعها، وفتنته للغاية مكانته الخاصة في التاريخ. ومن وجهة نظره، كان كل تمرد بداية ثورة، وكل تجسس بداية انقلاب، وكل حرب نقطة تحول في ميزان القوة. ومع أنه كان شديد الذكاء، لم يكن جمال الدين باشا قادرا على النظر على المدى البعيد، والرجوع إلى الوراء ومراجعة موقفه، ولكنه كان صائبا في هذه الواقعة على وجه الخصوص. فعلى المرء أن يدافع عن إسطنبول مهما كلف الأمر.
قال عبد الحميد: «حسنا، لعثمان باشا مطلق الحرية في سحب قواته إلى أدرنة أو أي مكان آخر قد يراه مناسبا. والآن أخبرني يا جمال الدين باشا، ماذا لديك من أخبار أخرى؟»
عدل الصدر الأعظم عمامته، وحدق إلى الدفتر الأسود الصغير الذي يحتفظ به في جيب سترته العلوي، وبدأ يسرد أحداث الأيام الماضية. «نحن مستمرون في تحقيقنا بشأن تمرد الضابط. وصل العميد الجديد لكلية روبرت إلى إسطنبول منذ يومين، وثمة عدد هائل من التقارير حول التوتر الطائفي في سنجق نوفي بازار.»
شعر عبد الحميد بوخزة شفرة الموسى تحت أنفه وطرف بعينيه ليكتم عطسة. «أخبرني المزيد عن هذا العميد الجديد.» «بناء على أوامر جلالتك حاولنا ألا نزعجه أو نثير أي شكوك. وعليه، لم تكن التحريات التي قمنا بها شاملة كما ينبغي أن تكون، ولكننا نعرف الحقائق الأساسية، وهي الآتي: ولد في ولاية اسمها كونيتيكت، وتلقى تعليمه هناك، وبعدما أنهى تعليمه حصل على وظيفة بالجامعة الأمريكية في بيروت، وظل هناك طوال السنوات السبع الماضية، وأحدث وظيفة شغلها هي عميد شئون الطلبة.»
توقف الصدر الأعظم كي ينظر في دفتره.
ثم استطرد قائلا: «ثمة شائعات حوله، ولكنها غير مدعومة بالمرة بأي أدلة حتى الآن. أشار بعض معارفنا إلى أنه جاسوس أمريكي، وأشار البعض الآخر إلى أنه شاذ جنسيا.» «أليس هذان النشاطان متعارضين؟» «نعم يا جلالة السلطان، ليسا بمتعارضين.» «مع أن كليهما يتعارضان إلى حد ما مع مهنته.» «بالفعل يا جلالة السلطان، وأقسمت لي أيضا مدام كورفيل، وهي إحدى معارفنا في القنصلية الأمريكية، أنها التقت العميد من قبل باسم مختلف تماما عندما كانت تعيش في نيويورك، لكنها لا تستطيع أن تتذكر اسمه في ذلك الحين، ولا الظروف التي التقته فيها.»
قال السلطان: «استمر في رصد تحركاته، وأحطني علما إذا اكتشفت أي شيء مثيرا للانتباه.» «سأفعل يا جلالة السلطان.»
وبينما جهز الحلاق وعاء مليئا برغوة الصابون، مال عبد الحميد إلى الوراء ووضع ساقا على الأخرى، وحينها أدرك أنه غفل عن تبديل خفه المنزلي؛ فارتداء خف في هذا الجزء من القصر كان بمنزلة خرق صغير لقواعد الإتيكيت وآداب التصرف. ولكن إذا كان الصدر الأعظم قد لاحظ هذا، فإنه تكتم الأمر. «قبل أن أهم بالرحيل يا جلالة السلطان، ثمة مسألة أخرى قد تكون ذات أهمية.» «تفضل.» «ثمة تقارير تفيد أن منصف باركوس بك قد أنشأ مؤخرا جمعية سرية جديدة، وهو نفسه منصف بك الذي كان له دور نشط في حملة الترويج للدستور الذي كتب في ظل حكم سلفك.»
رد السلطان وهو غارق في التفكير: «منصف بك! أذكر هذا الاسم جيدا. أظن أننا منحناه وظيفة ما في ديار بكر.» «هذا صحيح يا جلالة السلطان. ولعلك تذكر أيضا أن وظيفته انتقلت في اللحظة الأخيرة إلى كونستانتسا.» «التي تقع تحت سيطرة الروس الآن.» «بالضبط، ولكن مدة بقاء منصف بك في منصبه انتهت للأسف العام الماضي، ومنذ ذلك الحين عاد إلى إسطنبول.»
أومأ عبد الحميد برأسه في غموض، وزفر وهو يشاهد الضوء يحيك نسيجا من اللونين الأصفر والأحمر على جفنيه. «هل نعرف طبيعة جماعته الجديدة؟ هل تمثل خطرا؟ أم أنها مجرد حلقة أخرى من حلقات القراءة الثيوصوفية التي يعقدها؟» «من الصعب معرفة ذلك يا جلالة السلطان.» «لننتظر ونر مجريات الأمور.» «حسنا يا فخامة السلطان، ومرة أخرى أعتذر لمقاطعة جلالتك أثناء الحلاقة.» «لا ضير في هذا مطلقا.»
نامعلوم صفحہ