ولم تشذ عن ذلك الاتجاه العام، الأمة العربية بكل شعوبها، فبدأت موجة ثقافية - أو قل إنها قويت واشتد دفعها - وهي الموجة الرافضة لثقافة الغرب، والرافعة لواء ثقافة قومية خالصة، ولكن من أين يبدأ العمل على تنفيذ هذه الرغبة؟ يبدأ بإحياء الدين في قلوب الناس، وفي عقولهم، وفي سلوكهم، وفي اعتزازهم بأنفسهم. ومع الدين يجيء إحياء اللغة العربية كما عرفها الآباء الأولون، وتجيء كذلك تقاليد الماضي، والإشادة بأبطال الماضي، إلى آخر هذا الاتجاه القومي. وبالبداهة تتجمع جماهير الشعوب وراء دعوة كهذه؛ إذ هي - على الأقل - تساير ما قد ألفوه وعرفوه. وهكذا جاءت مرحلة الرفض التي تقابلها قديما وقفة الغزالي وابن تيمية ومن ذهب معهما في هذا الاتجاه.
لكننا قد أسلفنا القول بالنسبة إلى مرحلة الرفض في تاريخنا الماضي، بأنه من الطبيعي أن ينهض من يقاومها، وتكون هذه المقاومة عن طريق أضواء تصب على الثقافة الأجنبية المرفوضة؛ لبيان وجهة النظر الأخرى، التي ترى الصحة والصواب في تقبل الغذاء الفكري من أي صوب جاء. وأخيرا يصحو من غفل وسها، فتكون يقظة، وهذا بعينه ما حدث في تاريخنا الحديث؛ إذ ما هي إلا أن ارتفعت أصوات تصحيح الخطأ. على أن ذلك لم يفلح حتى اليوم - واليوم هو أواخر الثمانينيات - لم يفلح في أن تعتدل كفتا الميزان.
ومع ذلك؛ فمن ذا الذي يتعقب المسيرة الثقافية العربية، ولا يتوقع في رجحان شديد، أن يتحقق في مستقبل قريب اعتدال الكفتين في إطار ثقافي موحد جديد؟
صورة مصغرة
1
أما العربي المشار إليه في هذا العنوان، فهو هذا الكاتب الذي تلاحقت الأعوام على طريق عمره عقودا عقودا، ولم يكد العقد الثاني منها ينتصف، عندما أخذت مراهقة حياته تتحول إلى شباب، حتى بدأت رحلته الجادة على أرض فرشت بأشواك وحصوات، لا تخلص يمنى قدميه من شوكة تثقبها إلا لتقع اليسرى على حصاة ترميها، لكن الطريق بكل ما ملأها من الشوك والحصى، تكشفت مع نضج الشباب وصلابة إرادته ووضوح هدفه، عن حياة اختارت لنفسها أن تكون حياة علم وتعليم، وثقافة وتثقيف، وقراءة وكتابة، منذ بواكير العشرينيات من عمرها، وإلى هذه اللحظة التي يمسك صاحبها بالقلم ليكتب ما يلخص به للقارئ ما كان قدمه إليه في ستة وعشرين حديثا، صممت خطتها قبل أن تبدأ، لتصور وقفة صاحبها بين محصول ضخم من خبرة عقلية وعاطفية، جاءته من ينابيع الثقافتين؛ العربية والغربية. وقد مضى عليه حتى اليوم ثلاثون عاما امتدت به من سنة 1960م إلى الآن، وهو يلتمس لنفسه طريقا يطمئن إليها نفسه وعقله معا، تمكنه من رؤية موحدة ينسج خيوطها من واقع خبرته الحية في دنيا العلم والثقافة، لا يبالي من أي الثقافتين جاءت خيوطها، شريطة أن يجد نفسه آخر الأمر، أمام رقعة أحكم نسجها بحيث شملت بين لحمتها وسداها، خيوطا تقوي في كيانه عناصر هويته مصريا عربيا، وخيوطا أخرى تجعل من ذلك الكيان البشري إنسانا أصلح ما يكون الإنسان في مشاركته الإيجابية لأداء دوره في حياة عصره الذي خلق ليعيش فيه.
وكان هذا الكاتب قد خلص لنفسه إلى مثل هذه الرؤية الموحدة الواحدة، التي يجد أنه بها هو المصري العربي الإنسان الذي يأخذ من عصره ويعطيه. نعم، إنها رؤية عرفنا أشباهها في أعلام حياتنا الثقافية الحديثة، منذ رفاعة الطهطاوي حتى طه حسين، إلا أنه يبلغ من جحود لنعمة الله عليه، مبلغ الجحود الذي يتجاهله به كثيرون إذا تناسى ما قد أداه في سبيل التعبير عن تلك الرؤية، تعبيرا جاء في دقة تحليله، وفي سعة فيضه، وفي درجة شموله لأركان الحياة، على صورة لم تسبقها صورة أخرى تنافسها؛ فمنذ أصدر سنة 1970م كتابه في «تجديد الفكر العربي»، وإلى هذه المجموعة الأخيرة من أحاديث «عربي بين ثقافتين» أخرجت له المطبعة أكثر من عشرين كتابا، تدور كلها حول هذا الموضوع الواحد، وهو البحث عن عناصر الرؤية الجديدة وكيف تنسج، ولن يغير جحود الجاحدين من حقيقة الأمر شيئا. ولعلي لا أجاوز حدود المصلحة العامة من أجل منفعة شخصية، إذا ذكرت للقارئ نبأ قد يكون له مغزاه، وهو أن هذا الكاتب قد حدث له أن كتب وهو في أمريكا أستاذا زائرا خلال العام الجامعي 1953-1954م، عما وجده - ولم يكن يعلم بوجوده - هناك من نظام يتيح للمقالات التي يكتبها كبار الكتاب أن تنشر في عدة صحف تصدر في عدة ولايات في آن واحد، وعندئذ تمنى هذا الكاتب أن يرى نظاما كهذا في الوطن العربي، فتصدر مقالة يكتبها طه حسين أو العقاد في صحف القاهرة وسائر العواصم العربية في صباح واحد، والعكس صحيح بالطبع، وهو أن تصدر في صحف القاهرة مقالة الكاتب الكبير في أي من العواصم العربية، في وقت واحد مع صدورها في صحيفة بلده. كان هذا ما تمناه هذا الكاتب منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما، ولم يكن يدري وقتئذ أن الزمان سيمضي به نحو أربعة عقود، ليرى أن ما قد تمناه في ذلك اليوم البعيد لكبار الكتاب في الوطن العربي قد تحقق في شخصه هو، وكأنه حلم الأمس تفسره أحداث اليوم؛ فمقالته في صحيفة الأهرام بالقاهرة تنشر - باتفاق مع الأهرام - في صحف أربعة أقطار عربية في صباح ظهورها بالقاهرة. ولم يكن للكاتب بشخصه أي جهد، يبذله في تحقيق ذلك؛ فلم يخط خطوة واحدة ليسعى، ولم يتحدث مع إنسان واحد بكلمة واحدة ليقترح، بل لعله سمع بالنبأ بعد أن وقع الحدث. وإنها لسعادة ليس له سعادة بعدها أو قبلها، أن يرى أقطار وطنه العربي قد أرادت أن تقرأ كلمته ساعة ظهورها. وكم كان يتمنى ألا يمتري لسانه في هذه الحالة من الرضى عن النفس بقطرات من حنظل النكران والجحود، ينثرها هنا قلم أو يدل عليها صمت أبكم!
كانت سلسلة الأحاديث الأخيرة التي قدمها «عربي بين ثقافتين» مؤلفة من ست وعشرين حلقة، تعاونت كلها على رسم «رؤية» واحدة تصور وجهة النظر التي يرى الكاتب بها كيف يمكن للعربي أن يحيا عربيا معاصرا لزمنه، أو قل مشاركا في بناء عصره. وقد شملت هذه الوجهة من النظر تسع زوايا، تفرقت في حلقات السلسلة على نحو ربما لم يكن القارئ من تعقب الروابط التي جعلت من الأحاديث فكرة واحدة، وفيما يلي صورة مصغرة تجمع للقارئ ما قد تفرق وتناثر. (1)
كانت النقطة الأولى فيما أدرنا حوله الحديث، وهو حديث هدفه أن يستطلع صورة الصيغة المقبولة لحياة العربي الجديد، إذا أريد لتلك الحياة أن تحقق للعربي هويته العربية، وأن ترهف قدراته - في الوقت نفسه - تجاه العصر وحضارته، على أن يندمج الجانبان في شخصية منسقة متكاملة، هي شخصية العربي الجديد، أقول إن النقطة الأولى في هذا السبيل، كانت عن «المبادئ» وطريقة النظر إليها؛ فأحق شيء بالبحث، عندما يكون الهدف هو الكشف عن طبيعة الحياة الثقافية من أي جانب من جوانبها، أو من مجموعة تلك الجوانب متكاملة بعضها مع بعض في كيان واحد، هو أن نبحث وراء التفصيلات الكثيرة الطافية على سطح الحياة العملية الجارية كما هي مرئية مسموعة، عن «المبدأ» الذي يضم جميع تلك التفصيلات في كيان منضبط بقواعد وقوانين، وذلك لأن الوقوف عند تلك التفصيلات، قد يمكن الباحث من الوصول إلى ضرب من المعرفة يشبه ما يسمى بالتاريخ الطبيعي لظاهرة معينة من حياة النبات والحيوان، بمعنى أن يقتصر الباحث على تنظيم الشواهد والمشاهدات، وتبويبها، وتنسيقها في صورة تروي كيف ينمو الكائن الموضوع تحت البحث، وكيف يتكاثر وكيف يثمر، وكيف يدير حياة نفسه وقاية من الأخطار، وجمعا للغذاء وهكذا. لكن مثل هذا التاريخ الطبيعي لموضوع البحث، برغم تقديمه صورة متماسكة الأطراف، تعين على معرفة موضوع البحث، فهو لا يقدم الأساس، أو العلة الأولى، التي «تفسر» تلك الحياة، وتعلل وجودها وطريقة سيرها، فإذا أردنا - إذن - أن «نفهم» الثقافة العربية من جهة، وثقافة الغرب في عصره الراهن من جهة أخرى فهما يساعدنا على أن نتبين إمكان اللقاء أو استحالته، كان علينا أن ننفذ بالبصائر خلال تفصيلات الحياة الثقافية هنا وهناك، لعلنا نكشف عن «المبادئ» الأولى التي أنبتت تلك الفروع الكثيرة البادية للعين في حياة الناس الظاهرة، وأن نكشف كذلك عن نظرة الإنسان إلى تلك المبادئ، من حيث ثباتها أو قابليتها للتغير.
وفي سبيل كشفنا عن هذه الحقائق، رسمنا بادئ ذي بدء صورة هيكلية للسلوك البشري، كما يراها علماء علم النفس المعاصرون، فاكتفينا من ذلك بعرض الوحدات البسيطة التي ينحل إليها سلوك الإنسان بكل مركباته ومقوماته، فإذا بالوحدة البسيطة الواحدة تتألف من ثلاث حلقات؛ الأولى هي «المثير» أي العامل الإدراكي الذي يتلقاه الإنسان من محيطه، كأن يسمع صوتا، أو يرى ضوءا، أو يشهد حشرة ... إلخ. والحلقة الثانية هي طريقته الداخلية في مواجهة هذا الذي رآه - أو سمعه - وتلك الطريقة هي محصلة تربيته. ومع اختلاف العوامل التربوية في البيت والشارع والمدرسة ... إلخ، يختلف أسلوب التلقي قبولا أو رفضا أو حيادا. والحلقة الثالثة هي النمط السلوكي الذي يرد الفعل ردا يجعل ذلك السلوك متوائما مع المثير الخارجي وما أحدثه في النفس من حالة الرضى أو الفزع.
نامعلوم صفحہ