كالسائر نحو هدفه البعيد، أضناه السير، فوقف يتلفت وراءه، ليرى كم قطع من الطريق وكم بقي، كهذا السائر المكدود الحائر كنت، حين سألني من سألني قائلا: ماذا تتوقع لمستقبل الثقافة العربية؟ وذلك أني وقفت أمام السؤال لأنظر ورائي، كي أتثبت قبل أن أجيب ، أين نحن الآن؟ وكيف كنا؟ لعلي بذلك أهتدي إلى إجابة مرجحة الصواب، عما نتوقعه للثقافة العربية في مقبل الأيام، قريبها وبعيدها، لكنني ما كدت أحاول استرجاع الذي كان، حتى تساءلت: وما الذي تعنيه بالذي كان ؟ أهو ما قد مضى من هذا القرن العشرين؟ أم هو ما قبل ذلك، قافلا بخطاك خطوة وراء خطوة حتى تبلغ الأوائل الغامضة، التي بدأ عندها الشيء الذي نسميه بالثقافة العربية؟
ومع كلمات هذا السؤال، حين ألقيته على نفسي، وجدت ذاكرتي تنتقل بي عبر مراحل التاريخ في خطف سريع، فلمحت على بعد تشابها يلفت النظر، بين قديم وحديث، من حيث تتابع المراحل، مع بعد بعيد بين الحالتين، من حيث قوة الصحة وضعف المرض، فأخذتني فرحة من وجد الطريق الموصل إلى إحابة مقنعة عن سؤال السائل: كيف ترى مستقبل الثقافة العربية؟
فلقد ارتسم أمام مخيلتي خطان متوازيان، كان أحدهما مقسما سبعة أقسام، وأما الثاني فقد بدأ في مسايرته المتوازية مع الخط الأول، عند المرحلة الثالثة، وكأنه أخذ المرحلتين أخذ المحاماة الباردة، لا أخذ المكابدة والمعاناة والمعايشة الدافئة. نعم لقد ارتسم ذلك الخطان المتوازيان في مخيلتي، فكنت كمن ينظر إلى خريطة واضحة المعالم أشد ما يكون الوضوح، خريطة تصور مسار الثقافة العربية قديما وحديثا، تصويرا يكاد ينطق لي بالإجابة عن السؤال المذكور: ماذا ترى في مستقبل الثقافة العربية؟
كان الخط الأول من الخطين المتوازيين، هو خط القديم الذي جعلته يبدأ من القرن الأول الهجري، ويمتد إلى القرن العاشر الهجري (من السابع الميلادي إلى السادس عشر) فكان أول قسم من أقسامه خلال القرن الأول الهجري، بمثابة عين «الموضوع»، الذي سيصبح المدار الرئيسي لما يسمى بعد ذلك باسم «الثقافة العربية»، وبهذا كان القسم الأول من خط السير، أقرب إلى أن يكون «حياة» تنبض، منه إلى أن يكون تنظيرا بالفكرة، وصياغة للمبادئ والقوانين والقواعد؛ ومن ثم كان الأجمل بنا أن ننظر إلى تلك المرحلة الأولى من مراحل السير، نظرتنا إلى أساس البناء، الذي لا يعد طابقا من طوابق ذلك البناء، ومع ذلك فهو الشرط المسبق، الذي بغيره لا يكون بناء ولا تكون طوابق.
والقسم الثاني من الخط الأول، هو القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) ومعه جاء التفكير والتنظير، فكأنما قال العربي المسلم لنفسه: إن موضوعي هو كتاب الله وسنة رسوله، فلا بد لي من العلم بهما علما يوثق به، ولكن كيف لي أن أبلغ ذلك العلم الثابت، قبل أن أكون على دراية تامة باللغة العربية، وهي لغة الكتاب الكريم والحديث الشريف؟ فلأن تكون لغة بعينها هي اللغة التي نتحدث بها ونكتبها وننظمها شعرا وأدبا، فهذا شيء، وإما أن تكون على «علم» بتلك اللغة (وأرجو أن تقف لحظة عند كلمة «علم»)، فذلك شيء آخر. وإذن فنجمع أدوات البحث العلمي، بكل ما يقتضيه من جمع المادة اللغوية نفسها، في مفرداتها، وفي تراكيبها، وفي قواعد نحوها وصرفها، وفي جمع الشواهد التي نستند إليها في كل ما ينتهي بنا البحث العلمي إليه من مبادئ وقوانين وقواعد؛ فذلك كله شرط أساسي لمن يريد أن يفهم حق الفهم كتاب الله وسنة رسوله؛ ومن هنا قامت علوم اللغة قياما كان وحده كفيلا بأن يرفع الثقافة العربية إلى أعلى عليين، وهي بعد في أول خطوة على الطريق، ومع علم اللغة جاءت علوم الفقه بأحكام الدين، فما دامت اللغة العربية قد أسلمت مفاتيحها إلى علمائها، فقد كان أول ما استخدمت فيه تلك المفاتيح هو أن يستخلص الفقهاء أحكام الشريعة.
فلماء جاء القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) كان ذلك هو القسم الثالث على خط السير في الثقافة العربية؛ فها هنا كان العربي المسلم قد رسخت قدماه في بيته - لغة ودينا - ففتح نوافذ البيت، ليرسل منها بصره إلى حيث يستطيع ذلك البصر أن يمتد. ولقد استطاع أن يمتد إلى كل ما كانت الدنيا قد عرفته من قبل، وأخذ العربي ينقل إلى بيته كل ما استطابه من علوم الأوائل ومعارفهم. وقد ينفعنا في هذا الموضع من حديثنا، أن نميز بين نوعين مختلفين في ذلك المنقول، وذلك لأن أحد النوعين سيكون عند العرب مادة ثقافية للصفوة دون الجمهور العريض، وأما النوع الثاني وحده فهو الذي سيتسع مداه ما اتسعت دائرة الجمهور، وأعني بأول النوعين ما ترجم عن اليونان من فلسفة وعلم، كما أعني بالنوع الثاني شيئا أقرب إلى ما نسميه اليوم بلغة عصرنا «علوما إنسانية» إذ كان قوامه تصوفا وأدبا وفنا، نقل عن الهند وفارس ومصر.
فلما جاء القرن الرابع الهجري، وامتداده في القرن الخامس، كنا من خط السير الثقافي عند قسمه الرابع، وفيه انصهرت كل المواد الثقافية السابقة في بوتقة واحدة، وأصبحنا أمام نضج بلغت به الثقافة العربية ذروتها؛ ففيها من الفلاسفة الفارابي وابن سينا وفيها من الشعراء المتنبي وأبو العلاء، وفيها من المفكرين التوحيدي وإخوان الصفا، وفيها من نقاد الأدب عبد القادر الجرجاني، وفيها مما لا يتسع المقام الضيق لذكر شيء فيه. وحسبنا - فيما له صلة بموضوع حديثنا هذا - أن نعلم أن تلك المرحلة من مراحل السيرة الثقافية، كانت مرحلة النضج.
وماذا بعد أن نضجت الثمرة، وبلغت كمالها؟ كانت الخطوة التالية - وهي القسم الخامس في خط السير - هي مرحلة راجع فيها المثقف العربي نفسه، وكأنه وقف ليتساءل: ترى هل بعدت بي الشقة عن جادة الطريق؟ ترى هل ذهبت بي الروافد الثقافية الوافدة إلي من خارج الحدود، إلى أبعد مما كان ينبغي لي أن أبعد به عن خطي الأصيل؟ ثم ما هو أضل سبيلا: هل تكون الفلسفة التي أخذتها عن اليونان، وعن أرسطو على وجه التحديد، كما تمثلت تلك الفلسفة في ابن سينا، هل تكون تلك الفلسفة حاوية لما يتناقض مع دين الإسلام؟ أسئلة كهذه تشكك بها المتشككون في قيمة ما جاء به الناقلون من خارج الحدود، وكان فارس هذه الحركة، هو الإمام أبو حامد الغزالي، في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) في كتابه «تهافت الفلاسفة».
ولم تكن حركة الرفض لتمضي دون أن يتصدى لها من يردها، فما مضت بعد حركة الغزالي الرافضة بضع عشرات من سنين، لم تبلغ أن يكتمل بها قرن من زمان، حتى أجاب المغرب العربي في الأندلس - متمثلا في الفيلسوف ابن رشد - على المشرق العربي في محاولات رفضه للعناصر الدخيلة في الثقافة العربية. وكان العنوان الذي اختاره ابن رشد لكتابه الذي رد فيه على ثورة الغزالي، واضح الدلالة؛ إذ أسمى كتابه «تهافت التهافت »؛ أي إن ما هو متهافت بتناقضاته، ليس فلسفة أرسطو كما مثلها ابن سينا، بل هو ما جاء به الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة». ولم أدع هذه الفرصة تفلت من يدي قبل أن أشد انتباه القارئ إلى نقطتين هامتين لنا الآن؛ أولاهما ذلك التجاوب الحي في حياة الثقافة العربية حينئذ؛ فمفكر عربي في هذا الطرف من الأمة العربية، يرد على مفكر عربي في ذلك الطرف من الأمة العربية. وبمثل هذا التجاوب والتجاذب والمحاورة واللقاء، كانت هنالك «ثقافة عربية» يتدفق ماؤها في نهر قوي التيار، موصول الاتجاه، فقارن ذلك بما نحن فيه اليوم من تجرؤ وتفكك في حياتنا الفكرية والأدبية وغير ذلك من جوانب، حتى لكأن كل واحد منا جزيرة قائمة وحدها في محيط واسع، فإذا صرخ صرخاته كان سعيد الحظ لو سمع صداها مرتدا من سفوح الجبال، وأما زملاؤه البشر، فقد سد كل منهم إحدى أذنيه بالطين، وسد الأخرى بالعجين، فلا يسمع حتى صرخات نفسه إذا صرخ؛ ولذلك جاز سؤال السائلين: أحقا هنالك ما يصح تسميته بالأمة العربية من ناحية الفكر والأدب وغيرهما من عناصر الحياة الثقافية، تلك واحدة. وأما الأخرى فهي أن من رفض ثقافات الغرباء ومن تقبلها كان كلاهما يصدر في رفضه أو في قبوله عن بحر من العلم بتلك الثقافات التي يرفضها أو يقبلها؛ فالغزالي حين قدم رفضه للفلسفة الأرسطية، قدمه على علم تفصيلي كامل بما يرفضه، وكذلك قل في ابن رشد حين أجاب، فقارن هذا بما نحن فيه اليوم؛ إذ يجرؤ الرافض والعامل معا، على رفض ما لا يعرف عنه شيئا، أو قبول ما لا يعرف عنه شيئا؛ لأننا قد أصبحنا في شغل عن تحصيل المعرفة، والذي يشغلنا هو لا شيء!
ونعود إلى ما لنا فيه، فلقد سرنا مع الثقافة العربية في عهدها القديم ورأيناها بعد انطلاقها من الإيمان بالدين الجديد، تدخل مرحلة التعبئة العلمية استعدادا لفهم ذلك الدين فهما صحيحا، ثم انتقلت - بعد أن اطمأنت منها النفس - إلى الأخذ عن الجيران ما كانوا يملكونه من ثقافات ، وبعدئذ مزجوا الأصيل بالوافد فحصلوا بذلك على ثمرة ناضجة من إبداعهم. وهنا فزع الفازعون من أن يكون العربي قد ضل السبيل في ثقافته، لكن سرعان ما نهض من استطاع أن يعيد الطمأنينة إلى النفوس. ونضيف الآن إلى هذه المراحل الست التي ذكرناها، مرحلة سابعة هي صحوة أخيرة جاءت بعد ذلك الأخذ والرد. ويكفي أن نذكر عملاقا كابن خلدون ممثلا لتلك الصحوة الأخيرة، التي بها ختم عهد قوي مبدع شديد الوعي بذاته وبما يحيط به.
نامعلوم صفحہ