لقد حدث لي أكثر من مرة، أن لجأت إلي هيئات علمية خارج الوطن العربي، لأختار لها نماذج تمثل «الفكر العربي» اليوم. وفي كل مرة كنت أبذل جهدي مخلصا لأقع على ما يعلو بنا في أعين الغرباء؛ لأن النماذج المطلوبة كانت تطلب - عادة - لتترجم وتقدم إلى الطلاب في أقسام الدراسات العربية من جامعاتهم، فكنت أشعر كل مرة بإحباط لأنني لم أكن لأجد ما أتمنى وجوده في إنتاجنا «الفكري». ولو كان المطلوب نماذج من «أدب عربي» في يومنا، لما وجدت عسرا في أن أجد ما يرضي ضميري؛ فالفكر العربي من حياتنا الثقافية الراهنة هو أضعف مواطن الضعف من تلك الحياة. وأسوأ ما يصادفه المتعقب للناتج «الفكري» في الوطن العربي اليوم هو أن يرى هزيلا يطاول بهزاله شم الجبال، واهما بأنه قد جاوز ذراها. الحياة الثقافية قوامها يتضمن علما، وأدبا، وفنا، وفلسفة، ومجموعة من الأفكار التي تحمل في جوفها ضوابط هادية لما هو أمثل، ومعظم هذه الأفكار الأساسية مستمد من الدين. وقد بينا كيف جعلناها أضعف الجوانب في بنياننا الثقافي، وسنزيد الأمر إيضاحا في حديثنا الآتي بإذن الله.
2
عرضنا في حديثنا الماضي صورة نبين بها للقارئ أن جانب «الفكر» من حياتنا الثقافية قد يكون أضعف مواضع الضعف منها، وأوضحنا له ما نعنيه ب «الفكر» بالمقارنة مع «العلم» من جهة، و «الأدب» من جهة أخرى. ولا تستقيم لأمة حياتها الثقافية إلا إذا توازن فيها النظر العلمي فيما يراد استخراج قوانينه من الظواهر، وفيما يصادف الناس من مشكلات تتطلب حلولا مؤسسة على تلك القوانين العلمية، وإلى جانب البحث العلمي يقوم إبداع في «الأدب»، يراد به آخر الأمر أن تصب الأضواء على حقيقة الحياة التي يحياها الناس بالفعل، فلئن كان العلم باحثا عن الأحكام العامة بالنسبة إلى ما يراد العلم به، مسقطا من حسابه التفصيلات الجزئية الفردية التي قد تحدث أو لا تحدث، فإن «الأدب» يسير في الاتجاه المضاد، هو أن يصور تلك التفصيلات الجزئية الفردية الدالة على حقيقة الإنسان وما يكابده أو ما ينعم به، مسقطا من حسابه التعميمات المجردة التي تشبه القوانين العلمية في شمولها. وبعبارة أخرى، بينما البحث العلمي من شأنه أن ينظر إلى الإنسان (إذا كان الإنسان هو موضوع الباحث العلمي) من حيث هو ظاهرة تشاهد وتحلل لتخلص إلى قوانينها العامة، كأن يشاهد عالم النفس ردود فعل الأفراد في مواقف مختلفة، فيستدل القواعد العامة لكل موقف مما ينطبق على جميع الناس، وكأن يشاهد عالم الاجتماع كيف يحاول الأفراد أن يتمايز بعضهم مع بعض تمايزا يجعل منهم أعلى وأسفل، فيستخرج الأحكام العامة التي ينخرط الأفراد تحت مقولاتها حين يقسمون أنفسهم طبقات، وكأن يتعقب عالم الاقتصاد حركة الأسواق وإنتاج السلع وتوزيعها، فيستنتج القوانين العلمية الكامنة وراءها. أقول: إنه بينما البحث العلمي من شأنه أن يرقب ما هو فردي جزئي خاص، ليستخرج منه ما هو شامل وعام، فإن طبيعة «الأدب» هي أن يقف عند الفرد الواحد، في تفاعله مع سائر الأفراد، أو في تفاعله مع الأشياء ليلتقط من ذلك التفاعل لحظات كاشفة عن شخصية الفرد المعين ودوافعها ومسالكها وأهدافها، فإذا وجدنا في علوم النفس والاجتماع قواعد عامة تحكم علاقة الوالد بولده، والغني بالفقير، فإننا واجدون في الأدب - شعرا ورواية ومسرحا - حياة تفصيلية تجمع والدا معينا بولده، أو غنيا يتعامل مع فقير، فنرى التفاعل بينهما مجسدا في موقف أو عدة مواقف. إن الشاعر إذا ما بث حزنه في قصيدة؛ فهو لا يكتب خصائص عامة مجردة تبين الظواهر الدالة على حالة الحزن في كل إنسان وأي إنسان، بل يقدم وصفا لحزنه هو، في لحظة معينة، ويجعل وصفه في صور ترتسم معالمها في ذهن القارئ حتى لكأنه يرى شيئا مجسما بعينيه، وليس هو أمام كلمات منطوقة يسمعها بأذنيه.
وحين تستقيم الحياة الثقافية في أمة معينة، إبان فترة زمنية معينة، نجد فيها العالم والأديب جنبا إلى جنب، كلاهما ينظر إلى ما حوله مما يحياه هو مع سائر الناس، كأن تكون هناك حالة نصر على الأعداء في ساحة القتال أو هزيمة، وكأن تكون هناك أزمات سكان وإسكان، وكأن يكون هناك انصراف من الشباب عن شبابهم، دعاهم إلى الانحراف بهذا الشباب عن مستقبلهم ليغوصوا في سمادير الأوهام، وهكذا وهكذا. وعندئذ يكون من طبائع الأمور أن يتجه صاحب المنهج العلمي نحو الظاهرة التي تشغله وتشغل مواطنيه معه، فيحللها ويردها إلى أسبابها بطريقة موضوعية لا يشوبها الهوى، وأن يتجه صاحب الموهبة الأدبية فيرسم بأدبه صورا للحقيقة البشرية ظاهرها وباطنها في مواقف يبنيها خياله لتتوازى مع الواقع فتوضحه.
وبين العلم الذي يعمم الحكم، والأدب الذي يخصص التصوير، هناك عالم وسط، هو عالم ما يسمونه ب «الفكر» يضطلع به «المفكر» الذي إذا اتسع أفقه وارتفعت درجة تجريده أدخلناه في دنيا الفلسفة؛ ليكون مع أسرة الفلاسفة عملاقا أو قزما، لكنه يسير على دربهم؛ فكل «فكرة» في هذا العالم الذي يتوسط بين تعميم العلم وتخصيص الأدب، تحمل طي معانيها «قيمة» من القيم التي لا بد منها في حياة الناس لتكون معيارا يقاس به الطيب والخبيث، كما تحمل طي معانيها كذلك «غاية» مما يتحتم على الناس أن يضعوه نصب أعينهم في خضم الحياة ليتجهوا نحو الوصول إليها أو الاقتراب منها ما استطاعوا. خذ - مثلا - فكرة «الحرية»، وتأملها تجدها موحية لك بميزان تزن به سلوك مواطنيك قبولا ورفضا؛ فكلما رأيت نمطا سلوكيا من أحد، ينحني به لغير الله سبحانه وتعالى، ابتغاء مصلحة، أدركت لنفسك أولا، وقد تجعل الآخرين يدركون معك ثانيا، أن مثل هذا النمط السلوكي الذليل في غير موضعه، يفقد الإنسان حريته، ويضع صاحبه موضع العبد من سيده، فهذه - إذن - «قيمة» أوحت إليك بها فكرة «الحرية» إذا أحسنت فهمها. وأعني بكلمة «قيمة» معيارا تقاس به صلاحية السلوك واستقامته، ثم توحي إليك فكرة «الحرية» كذلك ب «الغاية» التي توجب على الإنسان أن يتجه نحوها بسلسلة المواقف التي يقفها إبان حياته إزاء الأحداث. وهكذا قل في سائر ما نطلق عليه اسم «أفكار».
ولماذا تجيء الأفكار في موضع وسط بين «علم» في ناحية و«أدب» في ناحية أخرى؟ الجواب هو أنها وإن تكن في ذاتها لا هي من العلم الخالص ولا هي من الأدب الخالص، إلا أنها شرط ضروري في تكوين العالم والأديب معا، فإذا كانت الفكرة المعينة هي فكرة «الحرية» مثلا. قلنا إن شرط العالم أن يكون حرا في بحثه العلمي حتى لا يصرفه أي ضاغط خارجي على تزوير الحقيقة العلمية، وكذلك شرط الأديب أن يستلهم الحقيقة الإنسانية وحدها، التي يريد أن يجسمها في إبداعه الأدبي أيا كانت صورته، فلا ينحرف عن تلك الحقيقة بأي عامل يغريه، حتى ولو بدا ذلك العامل وكأنه جدير بالاستماع إليه وإيثاره عما عداه، كأن تغلب الروح الوطنية - مثلا - على روائي فيصور شخصياته تصويرا هو أقرب إلى الدعاية السياسية يوم الانتخابات العامة.
والذي نزعمه عن حياة الثقافة العربية في عصرها القائم، هو أن دنيا الفكر منها هي أضعف جوانبها، فيضعف بالتالي إدراكنا للمعايير التي يقاس بها الصواب والخطأ، كما يضعف إدراكنا للغاية الموحدة التي من شأنها - إذا وضحت - أن تكون كالمنارة للسفن، تستهدفها لترسم طريقها مهما كانت الجهة التي هي آتية منها، فإذا رأيتنا اليوم على تناقض حاد في رؤانا وكأننا عدة شعوب في شعب واحد، فسر ذلك أساسا هو أن «الأفكار» الموجهة مبهمة غامضة، تتفق على «اسم» الفكرة ، ثم تتفرق في تحديد معناها فرقا شتى. ومما يزيد ضعفنا الفكري ضعفا أمران؛ هما: أولا: أن «الأفكار» من شأنها أن تنمو مضموناتها مع خبرة السنين؛ فقد تكون «الحرية» أو «المساواة» معروفة للناس منذ القدم، لكن معانيها تتسع مع الزمن وتفرز، ولكي تتبين ذلك يكفيك أن تراجع فكرة «الحرية» في حياتنا العربية، ماذا كانت حدودها في أوائل القرن الماضي، وما حدودها اليوم؟ وسوف تجدها قد تنوعت جوانبها من ناحية، وقد عمقت أهدافها في كل جانب على حدة من ناحية أخرى؛ فربما بدأت بمعنى التفرقة بين «الحر» و«العبد» ثم أخذت لها فروعا أخرى؛ حرية في الحياة السياسية تجعل السلطة للشعب، وحرية في الحياة الاقتصادية ترفع عن العامل تسلط صاحب العمل، وحرية في الفن والأدب، تجعل الفنان والأديب لا يلتزمان إلا بما يتطلبه منهما التسامي فيما يبدعانه، وهكذا. ولهذا النمو الذي تنمو به «الفكرة» المعينة مع الزمن لنماء الخبرة عند الإنسان، كان من الضروري لمن أراد أن يتأمل فكرة أن يقرأ عنها ما قد وصل إليه فيها أعلام الفكر حيثما كانوا، فإذا كانت قراءاتنا محدودة كانت حصيلة معرفتنا بفكرة معينة محدودة كذلك، فلا تتسع إلا لما يستطيع الواحد منا إدراكه بنفسه اجتهادا.
ذلك - إذن - هو أحد الأمرين اللذين أديا إلى ضعف حياتنا الفكرية. وأما الثاني، فهو أن مجال الحياة الفكرية تعوزه الضوابط الواضحة لما هو صواب منها وما هو خطأ، فإذا كان «الصدق» في الأدب يمكن قياسه بدقة الموازاة بين ما أبدعه الخيال من جهة، وما هو واقع في حياة الإنسان من جهة أخرى، ثم إذا كان «الصدق» في دنيا «العلم» واضح المعيار كذلك، فإذا كان المجال مجال علوم رياضية، كان صدق الحقيقة الرياضية المعينة مرهونا بصحة استدلالها من سوابقها، وإذا كان المجال مجال العلوم الطبيعية، كان الصدق مرهونا بانطباق النتيجة العلمية على واقع الأشياء التي تقع في مجالها. وهكذا ترى معايير الأدب، ومعايير العلم، واضحة أمام الناقد، وأما في عالم «الأفكار» فليس الأمر بهذا الوضوح كله، بل قد تجد أن مجال «الأفكار» لا موضع فيه لمعايير الصواب والخطأ، بل يستند قبول الإنسان لفكرة أو رفضها، على أساس آخر، هو مقدار ما ينتج عنها من طمأنينة النفس أو قلقها، وذلك لأننا لم نستمد أفكارنا المحورية الأساسية من «واقع» الأشياء؛ فليست الفكرة شيئا من الأشياء، وإنما تستمد الأفكار أساسا من فطرة الإنسان ذاتها، فإذا كنا نطالب لأنفسنا بالحرية، ثم بمزيد من الحرية، إلى غير نهاية معلومة، فذلك لأننا نريد أن نعيش على الفطرة التي ولدنا بها، وجاءت الحياة الاجتماعية فقيدتها؛ ومن هنا ترانا ونحن نسعى إلى الحفاظ على الحرية التي فطرنا عليها، نحاول في الوقت نفسه أن نبحث عن أقل درجة ممكنة لندخل المجتمع بقيوده، لكي نتمتع بأكبر قدر ممكن من الحرية، التي هي الأساس الفطري. وهكذا تأمل أية فكرة شئت، باحثا عن معنى «الصدق» فيها ماذا يكون، فأخالك منتهيا آخر الأمر إلى النتيجة التي أسلفتها لك، وهي أن الحق أو الباطل ليس هو مدار القبول أو الرفض لفكرة ما، بل المدار هو الملاءمة مع سائر ظروف الحياة أو عدم الملاءمة، مما ترضى عنه النفوس أو تسخط، ولهذا قد تجد فكرة ما مقبولة في شعب ما مرفوضة في شعب آخر. وحتى إذا كان هنالك اتفاق على «اسمها» فالاختلاف يجيء بعدئذ في فهم المراد بهذا الاسم في كل من الشعبين أو الجماعتين من الناس. إن فكرة الأخذ بالثأر، مثلا، يراها فريق من الشعب المصري أساسا للعدل ولا أساس سواه، في حين يراها فريق آخر من الشعب ذاته مرفوضة، ليترك أمر العدل إلى ساحات القضاء. ومهما يكن من أمر في هذا الصدد، فأقل ما يقال هنا هو أنه إذا اختلف رجلان حول «فكرة» ما، فلن يكون هنالك الفاصل الواضح الذي يفصل بين خطأ وصواب؛ ومن هنا كان سبيل النجاة من فوضى تضارب المعاني للفكرة الواحدة في الشعب الواحد، مرهونا - أولا - بأن يكون الناس على وعي بما تتضمنه الفكرة المعينة من عناصر المعنى، و- ثانيا - أن يكون الناس على قدرة تمكنهم من تصور المستقبل كيف تجيء صورته إذا ما فهمت فكرة ما - كالحرية والعدل مثلا - على هذا الوجه أو ذاك. ولما كانت كثرة المثقفين في أمتنا - ودع عنك من قل حظهم من الثقافة - لا هم يتمهلون إزاء أية فكرة مما يعنيهم أمرها، حتى يتبينوا عناصر معناها، ولا هم يصبرون حتى يتعقبوا جوانب المعنى المختلفة إلى ما تصير عليه حياة الناس في المستقبل، لو أخذنا بهذا المعنى أو ذاك، أقول إنه لما كانت الكثرة الغالبة منا لا تتمهل ولا تصبر حتى تحكم التصور قبل أن تتسرع بالقبول أو الرفض، أصبحت حياتنا الفكرية كالسفينة فقد ربانها، ففقدت وسيلة بلوغها مرفأ الأمان.
حياتنا الفكرية هي أضعف جزء في البنيان الثقافي الذي نحيا في غرفه وأبهائه، لكن الوهن إذا كانت «الفكرة» موطنه، تحتم أن تسري العلة في سائر الأجزاء، لماذا؟ لأننا وإن كان لا بد لنا من تقسيم الحياة أقساما تتوزع على الأفراد ليتخصص كل فرد فيما يلائمه، إلا أن مثل هذا التقسيم لا يعني أن الحياة الفعلية كما يمارسها الأحياء، مقسمة على هذا النحو بل هي كيان موحد، على غرار ما نرى في الكيان العضوي للكائن الحي؛ فهنالك - مثلا - في الفرد الإنسان دماغ، وقلب، ورئتان، ومعدة، وأطراف ... إلخ. كلها متشابك متآزر في حياة واحدة، ومع ذلك فهنالك من الأجزاء ما يؤثر في جميع الأجزاء الأخرى لو أصابه مرض، أكثر مما يؤثر جزء آخر؛ فإصابة المخ تشل بقية الأعضاء، وضعف القلب هو ضعف في وظائف أعضاء أخرى، في حين أن بتر ذراع أو ساق، قد لا يؤثر في المخ أو في القلب. وعلى هذا النحو يمكن أن يقال في حياة «الفكر» عند شعب معين، بالنسبة إلى حياة سائر الجوانب الثقافية عند ذلك الشعب؛ لأن «الفكرة» المعينة من الأفكار، هي في حقيقتها خريطة عقلية يسلك الإنسان على هداها، وذلك بالإضافة إلى احتوائها دائما على «قيمة» معينة؛ أي على معيار محدد يقاس به الصواب والخطأ في ذلك السلوك، ثم عن احتوائها كذلك عن «الغاية» التي من أجلها يسلك السالك في حياته العملية . ولو أن دورة الحياة الثقافية اكتملت حلقاتها لفرد من الأفراد، أو لشعب في مجموعه، لاكتملت حلقات ثلاث معا في سلسلة واحدة؛ فأولا: هناك «الفكرة» وهي نفسها التي يشار إليها في المجال الديني بلفظ «الكلمة» كلمة الله - سبحانه - ف «الكلمة» بهذا المعنى هي بدء الخلق. وتأتي الحلقة الثانية وهي أن تتجسد «الفكرة» المعينة في فرد يؤمن بها؛ إذ لو تركت الفكرة مسطورة أو منطوقة في ألفاظ دالة عليها، دون أن يتمثلها إنسان ما، لبقيت جزءا من عالم الضوء (وهي مسطورة) أو من عالم الصوت (وهي منطوقة) وكان يمكن للإنسان الذي يلقفها ويحملها ويؤمن بقوتها، أن يقف عند هذا الحد، فيظل الطريق ناقصا، وإنما يكتمل الطريق بتلك الفكرة، إذا أصر حاملها على أن ينشرها في الناس لتكون أساسا من الأسس التي تبنى عليها مناشط الحياة العملية، وبهذه الخطورة الأخيرة تتغير بالفكرة صورة الحياة. ويحضرنا في هذه المناسبة ما قاله أحد الصوفية تعليقا على عروج محمد عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وعودته بعد ذلك إلى حيث كان قبل المعراج، وكان تعليق ذلك الصوفي هو قوله ما معناه: لو أني كنت الذي صعد إلى السماء، لما رضيت بالعودة إلى حيث كنت من الأرض. ففي هذا التعليق من ذلك الصوفي بيان للفرق بين حالتين في حياة الناس الفكرية؛ إحداهما أن تكتمل المسيرة في ثلاث حلقاتها، وهي «الفكرة» وتجسدها في فرد يؤمن بها، ثم إصرار ذلك الفرد على نشرها في الناس حتى تسود حياتهم فتتغير بها صورة تلك الحياة. وأما الحالة الثانية فهي مسيرة منقوصة، تتألف من فكرة، ثم من فرد يتقبلها ويلم بها، ويقف عند هذا الحد لا يتقدم خطوة، فتموت الفكرة بموته.
وعلى ضوء هذا البيان لدور الفكرة في طريق الإصلاح والتغيير ترى خطورة أن يحتضن الناس أفكارا يكتنفها غموض، أو أفكارا لو انتقلت إلى دنيا السلوك، كان مؤداها أن تعود بالناس إلى الوراء، أو أفكارا سلمت من هذا كله لكنها حبست في صدور حامليها، لا ينشرونها فلا يغيرون بها شيئا مما ينبغي له أن يتغير لتصلح الحياة؛ ففي جميع هذه الحالات ندرك خطورة ألا تؤدي «الأفكار» دورها. ونحن إذ نقول إن أضعف جانب في بنيان حياتنا الثقافية إنما هو الجانب الفكري، قد قصدنا هذه الحالات جميعا؛ فأفكار غمضت في أذهان حامليها غموضا يضل عند السلوك العملي ولا يهدي، وأفكار أخرى إذا هي وجدت طريقها إلى عالم التطبيق والعمل، جذبت حاملها إلى نمط من الحياة يهوي به إلى مهاوي الهزيمة والضعف والفقر أمام أعدائه، وأفكار قد تصح في ذاتها، لكنها تبقى حبيسة الصدور عند أصحابها، ففيم العجب إذا رأينا الأعوام تدور علينا، فلا يتغير في موقفنا الإبداعي الإيجابي شيء كثير، حتى لو تغيرت من حياتنا الظاهرية صور كثيرة محاكاة للآخرين.
نامعلوم صفحہ