مقدمة
هذا الكاتب العربي
أين نضع المبادئ؟
العروبة موقف
هذا هو عصرنا
العربي بين حاضره وماضيه
جسور عبرناها
من مواطن الضعف
مأزق حرج
إرادات مبعثرة
من إشعاعات التوحيد
جمود الفكر ما معناه؟
فكر على فكر
حياة قلقة
العربي اليوم غامت رؤيته
صورة الإنسان
الثقافة العربية إلى أين؟
صورة مصغرة
مقدمة
هذا الكاتب العربي
أين نضع المبادئ؟
العروبة موقف
هذا هو عصرنا
العربي بين حاضره وماضيه
جسور عبرناها
من مواطن الضعف
مأزق حرج
إرادات مبعثرة
من إشعاعات التوحيد
جمود الفكر ما معناه؟
فكر على فكر
حياة قلقة
العربي اليوم غامت رؤيته
صورة الإنسان
الثقافة العربية إلى أين؟
صورة مصغرة
عربي بين ثقافتين
عربي بين ثقافتين
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
لقد أتيحت لمؤلف هذا الكتاب حياة ثقافية امتدت به منذ شبابه الباكر حتى انتصف العقد التاسع من عمره، ولبثت طوال هذه السنين مفتوحة النوافذ على الثقافة الغربية والثقافة العربية معا. إلا أن أسلوب التلقي لهاتين الثقافتين قد اختلف مرحلة بعد مرحلة من مراحل العمر؛ فلفترة طويلة ظلت الثقافة الغربية وحدها تقريبا هي التي تقدم في صيغة دراسية منظمة بحكم دراستها في المدارس. وكانت الثقافة العربية عندئذ تسايرها جنبا إلى جنب من باب الهواية الحرة؛ إذ تعلق المؤلف وهو بعد في غض شبابه بقراءة ما وقعت عليه يداه من التراث الأدبي العربي، ودواوين الشعراء بصفة خاصة، وكان يجد في ذلك متعة شديدة لما انطوت عليه فطرته من ميل إلى الذوق الفني عموما، والفن الأدبي خصوصا.
فلما انتصف به العمر، كان قد حصل في الجانب الغربي من ثقافته على قدر كبير، منه ما كان مدروسا في معاهد التعليم ومنه ما كان مقروءا في مطالعاته الخاصة، كما قد حصل من الجانب العربي في تكوينه الثقافي قدرا كبيرا جاء معظمه عن طريق الميول الخاصة والجهود الذاتية - إذا صح هذا التعبير - ومنذ ذلك الحين أخذ شيء من القلق يساوره لما أحسه من عرج في بنائه الثقافي، خصوصا وأن محصوله من ثقافة الغرب كان يدعمه سند قوي من حضارة عصرية تقوم على أساسه، وتبرهن بذلك على مدى صلاحيته في عالم التطبيق في حين أن محصوله من التراث الثقافي المأثور عن أسلافه لم يعد ينعكس منه شيء يذكر في الحياة الحضارية كما يعرفها هذا العصر، وإنما يستند على سند حضاري ذهب زمانه، فانكب انكبابا على ذلك التراث، ما كان قد حصده منه مضافا إلى ما أخذ سبيله إلى حصده، محاولا أن ينفذ إلى جوهره ومحوره لتصبح المقارنة ممكنة بينه وبين ما كان يعرف عن جوهر هذا العصر ومحوره، لعله يلتمس بين الجانبين موقفا يحقق الحفاظ على الجوهر الأول، والدخول في قلب الجوهر الثاني في صيغة واحدة، إذا وجدها كانت خير ما يقدمه إلى أبناء الجيل الجديد من شباب المثقفين، وقد يجدون فيه ما يستحق النظر.
ولئن كانت هذه المحاولة الساعية إلى إيجاد تلك الصيغة الثقافية للمواطن العربي الجديد قد غلبت على جميع ما اتجه إليه فكره وقلمه منذ سنة 1960م، فإن هذا الكتاب الذي أقدمه بين يدي القارئ، قد احتوى على جهد مكثف في هذا السبيل، يصطبغ بلون خاص إذا قورن بغيره من الجهود السابقة؛ إذ اختار المؤلف مجموعة من الزوايا التي تصلح للإطلال منها على مواضع اختلاف جذرية بين الثقافتين أدت إلى مذاقين مختلفين لحياة الإنسان. وذلك تمهيدا للنظر من جديد نظرة فاحصة؛ فربما تبين أن ما حسبناه اختلافا يضرب إلى الجذور ويستحيل على المصالحة والتوفيق، إنما هو في حقيقته أكثر مرونة مما حسبنا، بحيث يصبح في حدود المستطاع أن نقترح صيغة تجمع الطرفين دون تضحية بما هو أساسي وجوهري في كل من الطرفين.
فاختار المؤلف أول ما اختار، فكرة «المبادئ» لعمق موضعها من البنيان الثقافي؛ فالمبادئ عند العربي حقائق لا تقبل الجدل، ومنها يبدأ الإنسان ليبني عليها ما يتلاءم مع طبيعتها؛ ومن ثم يتحقق عنصر الدوام في المناخ الثقافي العربي، وأما أبناء الغرب من أهل هذا العصر العلمي بصفة خاصة، فقد أخذوا ينظرون إلى «المبادئ» من حيث هي فروض، يعتمد بقاؤها على نجاح النتائج المتولدة عنها ، فيصبح سؤالنا إزاء هذين الموقفين هو: هل هنالك ما يمكن تعديله في النظرة العربية حتى لا يتورط العربي في ثبات يؤدي به إلى ضعف وعجز، مبقيا على ثبات الجانب الذي لا بد من بقائه، ولأنه في الوقت نفسه سبيل إلى قدرة وقوة؟ وكان الجواب بالإيجاب؛ إذ ليس هنالك ما يمنع التفرقة بين مبادئ تتصل بالعقيدة فتبقى ومبادئ أخرى من صنع الإنسان فتخضع للتغيير إذا كان ازدهار الحياة يقتضي ذلك التغيير.
وكانت الزاوية الثانية التي نظر منها المؤلف إلى كلتا الثقافتين، هي زاوية النظر العلمي إلى أوضاع الحياة بحيث تكون الكلمة الفاصلة للعلم وما يقرره، فهذا العصر القائم هو عصر علم في المقام الأول، ليس فقط بمعناه الذي عرفه الأقدمون من عرب وغير عرب، وأعني توليد النتائج استدلالا صحيحا من نصوص بين أيدينا، بل إن علم هذا العصر قد اتجه بصفة أساسية نحو ظواهر الكون لاستخراج قوانينها، وبالكشف عن قوانين ظاهرة معينة يصبح الإنسان قادرا على تسخيرها؛ ومن هنا جاءت هذه القدرة الهائلة التي سيطر بها أصحاب الحضارة العصرية على ظواهر الطبيعة على نحو ما نرى، وواضح أن العربي في عصرنا لم يضف إلى الحياة العلمية في صورتها الجديدة شيئا. واكتفى بالحصول على ما ينتج عنها جاهزا وبلا عناء؛ مما دفع كثيرين منا إلى التهكم على العلم الجديد، واتهامه بأنه حصرم مر لا يغري على السعي في سبيله، وذلك من قبيل الشعور بالعجز والرغبة في الدفاع عن النفس. لكن المؤلف يسأل جادا: هل في تراثنا الفكري ما يمنع العربي عن المشاركة في جهود العلم الجديد؟ ثم يأخذ المؤلف في تحليلات مفصلة مستفيضة بطريقة التفكير التي مارسها العربي في شتى ميادين الحياة ليرى كيف نشأت وبماذا تميزت؟ فيجد أن من أهم ما يميز العربي استناده إلى حقيقة كبرى مجردة إلى أقصى درجات التجريد ثم يستولد نتائجها، وهو موقف نراه متمثلا عند العربي في حياته العلمية وفي حياته الدينية معا، ثم هو موقف تشربه من طبيعة بيئته الصحراوية من جهة ومن عقيدة التوحيد في مجال الدين من جهة أخرى، وإذا كان ذلك كذلك فلن يتعذر على العربي - إذا صحت عزيمته - أن تطور هذه الوقفة الاستدلالية بحيث يضيف إليها فرعا يقام فيه الاستدلال على أساس ما قد حصلته المشاهدات من خصائص الظواهر، وهذا هو نفسه ما فعلته أوروبا في نهضتها حين أضافت إلى صورة العلم القديم صورة جديدة تواجه ظواهر الكون مواجهة مباشرة، والمهم هنا هو أن منطق العقل قد لازم العربي، مجدولا مع حياة وجدانية تستغني عن ذلك المنطق، منذ عرفته الدنيا وعرفها، فلا هو كمن استغرقه الوجدان كما استغرق أمما أخرى في الشرق الأقصى، ولا هو كمن كاد يستغرقه منطق العقل كما فعل مع أمم أخرى في الغرب.
على هذا النحو أخذ مؤلف الكتاب ينتقل مع أطراف المشكلة طرفا بعد طرف، وقد رأى أن يقدم إلى القارئ في الفصل الأخير بقسميه «صورة مصغرة» يلخص فيها تسلسل الخطوات الفكرية التي سار بها في أحاديثه المسهبة المليئة بتفصيلاتها.
وبالله التوفيق.
يناير 1990م
زكي نجيب محمود
هذا الكاتب العربي
أخذت أنوال الزمن تنسج خيوطها، متفاوتة في قوتها، متباينة في ألوانها، مدى ثمانية عقود من السنين، فكان الذي نسجته هو هذا الكاتب الذي يتقدم إليك بهذا الحديث، وبأحاديث أخرى يتوالى ظهورها بإذن الله تعالى؛ لعله يوفق إلى صورة يتمناها للمواطن العربي، تتألف فيها العناصر تألفا يصون له وحدته وشخصيته، ثم تتيح له التفوق والنصر في هذا العالم الذي كثرت سباعه وضباعه يضرس بأنيابها من لم يحاذر - كما قال شاعرنا زهير في قديم الزمان. وإذا كان هذا هو موضوع هذا الحديث وما سوف يتلوه، فلا منجاة لنا من اختلافات في الرأي بين كاتب وقارئ، وبين قارئ وقارئ؛ إذ الحديث عن المواطن العربي وكيف يجمل به أن يكون، إنما هو حديث مباح لكل من فك الخط ومن لم يفكه على حد سواء لحسبانه حديثا هينا لينا، في وسع كل إنسان أن يدلي فيه بدلو مع سائر الدلاء؟ ومن هنا أخذ هذا الكاتب حيطته منذ الكلمة الأولى، فجعل العنوان العام يشير في صراحة إلى أن الرأي المعروض - في هذا الحديث وفيما يجيء بعده من أحاديث - رأي ل «عربي» ولكل عربي آخر أن يقول ما شاء، فذلك لن ينفي أن «عربيا» ما كانت له رؤية فيما يجب أن يتألف في كيان المواطن العربي من عناصر.
لم يكد هذا الكاتب يبدأ في ترتيب أفكاره التي يريد عرضها، حتى ظهرت له صورة من طفولته الباكرة، تصلح أن تكون نقطة البدء؛ فلقد تذكر يوما كان فيه تلميذا في السنة الثانية الابتدائية، وكان الدرس درسا في اللغة الإنجليزية، وكان موضوع المطالعة بضعة أسطر جاءت في كتاب المطالعة وتحت صورة لحصان وقف بجوار غلام، وقرأ أحد التلاميذ السطر الأول، وكانت هذه هي كلماته:
What a Nice Horse Ahmed Has .
فقال المدرس: كيف ترون الترجمة العربية لهذه الجملة؟ فرفعت الأصابع تريد الإجابة، وطلب المدرس من كل تلميذ أن يجيء بما عنده، ثم دار الأمر على النحو التالي:
التلميذ الأول :
أحمد عنده حصان جميل.
المدرس :
لا، هذه عبارة لا تكفي.
التلميذ الثاني :
عند أحمد حصان جميل.
المدرس :
ولا هذه عبارة تكفي.
التلميذ الثالث :
ما أجمل حصان أحمد.
المدرس :
أنت أحسن قليلا، لكنها عبارة ما زالت ناقصة.
ولم تعد هنالك أصابع مرفوعة، وهنا قدم المدرس ما عنده، فقال في نطق هادئ عميق الصوت، بعد أن مد ذراعه اليمنى ليتكئ بأصابعها على منضدة إلى جانبه، وثنى ذراعه اليسرى واضعا يده على خصره! «يا له من حصان جميل عند أحمد!» ولقد مضت حتى الآن ثلاثة وسبعون عاما، منذ سمع طفل العاشرة ترجمة المدرس للجملة المعروضة، ومع ذلك فلا يزال هذا الكاتب يذكر كيف أحس النشوة بتلك العبارة الجميلة، وكيف أدرك بوجدانه أن الترجمة العربية في عبارة المدرس قد جاءت مطابقة أكمل تطابق مع الأصل الإنجليزي.
وأقول إنه أدرك ذلك التطابق بوجدانه؛ لأنه بالطبع لم يكن في تلك السن الباكرة قادرا على التحليل العقلي، وكبر الطفل شابا، فرجلا، فشيخا، وبقيت تلك اللحظة راسخة في ذاكرته، أضاف إليها على مراحل العمر قدرة تزايدت مع الدراسة، على الفهم الأشمل والأعمق، فطرح على نفسه ذات يوم سؤالا يسأل به عن المقارنة الدقيقة بين تلك الجملة عن أحمد وحصانه الجميل، في صورتيها الإنجليزية والعربية، لعله يقع على السر الذي أدركه طفل العاشرة بوجدانه، حين أدرك التطابق بين الجملة في صورتيها، فكان أول ما أجاب به هذا الكاتب عن السؤال الذي طرحه على نفسه، هو أن هناك فرقا بين مجموعتين من المفردات اللغوية المستخدمة في كل من الصورتين؛ أما المجموعة الأولى فتتألف من العناصر المشتركة بين الحالتين، والتي لم يكن لأحد مفر من أن يجعلها مشتركة، وهي في هذه الحالة ثلاثة عناصر، أحمد، والحصان، وجميل. وأما المجموعة الثانية فتتألف من العناصر المعبرة عن الوقع النفسي عند المتحدث، وهي في هذه الحالة - بالنسبة إلى الجملة العربية - «يا له من» و«عند»، وما يقابلهما في الصورة الإنجليزية، وإذا دققنا النظر في هذه المجموعة الثانية، وجدنا اختلافا واضحا بين الصورتين الإنجليزية والعربية، ولهذا الاختلاف أهمية كبرى سنشير إليها بعد قليل، فقول العربي «يا له من» بعيد عن قول الإنجليزي فيما يقابل ذلك، وقول العربي «عند» أحمد، مختلف اختلافا له مغزاه عن قول الإنجليزي «يملكه» أحمد، فبينما «الملكية» التي يشار إليها في الجملة الإنجليزية توهم بدوام العلاقة بين المالك وما يملكه، نرى «العندية» في الجملة العربية متضمنة معنى الزوال؛ لأن العندية مجرد صلة مكانية، قد تكون اليوم ولا تكون غدا.
وهنا نعرض على القارئ الأهمية الكبرى - بالنسبة إلى موضوعنا - التي نراها كامنة في الفرق بين الصورة العربية والصورة الإنجليزية لجملة واحدة مما يجري على ألسنة الأطفال، وهو فرق نستطيع بعد ذلك تكبيره، فنجده فارقا بين ثقافتين؛ الثقافة العربية من جهة، والثقافة الإنجليزية، أو قل على نحو التقريب الثقافة الغربية من جهة أخرى؛ فقد رأينا في الجملة البسيطة التي تحدثت عن حصان أحمد وكم هو جميل، مما ورد في مطالعة إنجليزية لأطفال في سن العاشرة أو ما دونها، أن الصورة الإنجليزية والصورة المتمثلة في ترجمتها العربية، تتلاقيان حتما في عناصر مشتركة، هي في هذه الحالة المعينة: الحصان ، وأحمد، وجميل ، لكنهما مختلفتان في طريقة التعبير عن وقع الجمال في نفس الرائي، كما تختلفان كذلك في تصور العلاقة بين الحصان وصاحبه، وهي علاقة عبرت عنها اللغة العربية بما يشير إلى مجرد «التجاور» في مكان واحد، كل هذا والأمر هنا هو أمر ترجمة من اللغة الأولى إلى اللغة الثانية، ترجمة شهدنا لها بالدقة، فما معنى هذه المقارنة بين الصورتين؟ معناها أن الثقافتين المختلفتين، إنما تختلفان في الموقف «النفسي» تجاه الوقائع، لكنهما لا تختلفان في الوقائع ذاتها؛ فالعربي والإنجليزي معا - في الموقف الذي نحن بصدده الآن - لا يسع أيا منهما إلا أن يقر بوجود حصان وصاحبه، فإذا هما افترضا معا أن الحصان «جميل» أراد كل منهما أن يعبر عن ذلك الجمال المفترض، اختلف أحدهما عن الآخر في طريقة التعبير من جهة، وفي المضمون النفسي الذي يريد أن يعبر عنه من جهة أخرى، وذلك هو نفسه الموقف الذي نراه ماثلا أمامنا، إذا ما أجرينا المقارنة بين ثقافتين بأكملهما، لا بين جملتين وردت إحداهما في كتاب إنجليزي يطالعه أطفال صغار، وأوردنا الأخرى في ترجمة عربية لها، فإذا نحن تأملنا الجسم الضخم الذي نسميه «ثقافة عربية»، والجسم الضخم الآخر الذي نسميه «ثقافة إنجليزية» وجدنا مشاركة محتومة في «وقائع»؛ لأن الوقائع تفرض نفسها على الناس فرضا؛ فالأرض أرض، والسماء سماء، والبحر بحر، وهذا أرنب وتلك ذبابة، وإذا أراد رجلان من رجال «العلم»، أحدهما عربي والآخر إنجليزي، أن يبحثا في صخر الأرض، أو في أفلاك السماء، أو في ملوحة البحر، أو في التركيب العضوي للأرنب والذبابة، كان الاتفاق بينهما كاملا في تحديد «الموضوع»، ثم انحصر التفاوت بينهما بعد ذلك في القدرة العلمية عند البحث في تفصيلات ذلك الموضوع، وأما إذا ما كان الأمر أمر وقفة «نفسية» تجاه موضوع ما من موضوعات الواقع فعندئذ يكون الاختلاف - كبر ذلك الاختلاف أو صغر - فالكلب «نجس» عند العربي ويجب الحذر من ملامسته، مع أنه عند الإنجليزي فرد من أفراد الأسرة التي ينتمي إليها، والذبابة عند العربي شيء قد يستهان به ، لكنها عند الإنجليزي خطر مخيف.
وننقل هذا القول نفسه إلى مستوى «العلم» - و«العلم» في هذه الحالة هو علم النفس - فيصبح كما يلي: أننا إذا حللنا الحياة الإنسانية إلى أصغر وحداتها، وجدنا تلك الوحدة الأولية طريقا مؤلفا من ثلاث حلقات، اثنتان منها ظاهرتان لمن شاء أن يرى، والثالثة مطوية في جوف الإنسان، فأولى الحلقات هي أن يتلقى الإنسان من العالم الذي حوله «مؤثرات» تقع على حواسه المختلفة، من بصر أو سمع أو غيرهما من أعضاء الحس، كأن تتلقى العين ضوءا أو أن تتلقى الأذن صوتا، وهكذا، والحلقة الثانية هي أن تفعل تلك المؤثرات فعلها في مكنونات الكيان العضوي، مما قد يسهل تحليله وتحديده أو يتعذر، والذي يهمنا في سياق حديثنا هذا، هو أن هنالك مجموعة ضخمة ومعقدة ومتشابكة من عناصر تكمن في بواطننا؛ منها الغرائز، ومنها المشاعر، ومنها ذكريات عما قد تعلمناه ونشأنا عليه، ومنها اعتقادات وعقائد آمنا بها حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من نفوسنا، ومنها «قيم» بثت فينا منذ كنا رضعا على حجور أمهاتنا، تراكمت فأصبحت في توجيهنا مثل الدفة في السفينة، وهي هي نفسها التي نجملها كلها في كائن موحد ونطلق عليه اسم «الضمير». هذه المكنونات كلها التي تكمن طي نفوسنا هي التي تتلقى المؤثرات الآتية إلينا من العالم المحيط بنا، فتتأثر على نحو ما، يختلف باختلاف الأفراد في الأسرة الواحدة، أو في الشعب الواحد، ثم تختلف بين الشعب الواحد المعين وسائر الشعوب، وأخيرا تجيء الحلقة الثالثة، وهي النمط السلوكي الذي ينتج عن الطريقة التي تأثرنا بها في الحلقة الثانية؛ فقد يرى شخصان شيئا ما (وهذه هي الحلقة الأولى) فيتأثر كل منهما بما يراه على نحو متفق مع مكنونه النفسي (وهذه هي الحلقة الثانية)، وأخيرا يسلك كل منهما وفق ما يوجهه إليه ذلك التأثر الباطني (وهذه هي الحلقة الثالثة). وخذ مثلا لذلك زعيما يهيب بأمته أن تثور على ما يحيق بها من استعباد أو استبداد وظلم، فيتلقى صيحته مواطنوه، كما يتلقاها المستعبد لهؤلاء المواطنين، فيكون الأثر الداخلي عند المواطنين تمجيدا لصيحة زعيمهم واستجابة لها، في حين يكون الأثر للصيحة نفسها عند من استعبد واستبد وظلم، فزعا ونفورا، فإذا ما انتقل الفريقان من مرحلة التأثر الداخلي إلى مرحلة السلوك الخارجي رأينا «ثورة» من الفريق الأول - فريق المواطنين - ورأينا «مقاومة للثورة» عند الفريق الثاني - فريق المتسلطين استعبادا واستبدادا وظلما - وهكذا نرى المؤثر الواحد المعين، يلتقي بنوعين من مكنون النفس، فيخرج نمطان مختلفان للسلوك. وقد يكون من الضروري هنا، أن يعلم القارئ بأن رد الحياة الإنسانية بكل تعقيداتها، إلى وحدات ثلاثية الحلقات، مسألة لا يجمع عليها كل علماء النفس المحدثين والمعاصرين؛ إذ قد يردها فريق منهم إلى وحدات ثنائية الحلقات، بحيث لا يكون هناك إلا «مؤثر» يقع على حواس الإنسان من خارج. و«استجابة» سلوكية تنبني عليه، فهذا الرأي يسقط من حسابه ما هو مكنون في الكيان العضوي، وعذرهم في ذلك هو إصرارهم على أن يصبح علم النفس «علما» كأي علم آخر يبحث في ظاهرة تخضع للمشاهدة والحساب فهم لا يريدون أن ينكروا أن للنفس مكنونها، لكنهم لا يريدون أن يقيموا عليه «علما» لأنه خاف مجهول؛ شأنهم في ذلك شأن عالم في الفيزياء أو الكيمياء، يرصد ما «يظهر» ويستخرج قوانينه، مسقطا من حسابه ما يخفى سواء عليه أكان ذلك الخافي موجودا أم كان معدوما، فأمره موكول إلى غير «العلم» من مجالات الاهتمام.
وعلى هذا الأساس العلمي في تحليل الحياة الإنسانية إلى وحداتها البسيطة، ننتقل بحديثنا إلى «الثقافات» وكيف تختص كل ثقافة بما يميزها، ثم كيف هي في الوقت نفسه تتفاعل مع ثقافات أخرى مما قد تلتقي به في حرب أو في سلم؛ ففي الحلقة الأولى من الحلقات الثلاث (إذا أخذنا بثلاثية الحلقات في الوحدات البسيطة) وأعني بالحلقة الأولى ما أسلفناه، وهو أنها مرحلة «إدراكية» يتلقى فيها الكائن الحي - إنسان وغير إنسان - مؤثرات بيئته المحيطة به، وهنا لا بد أن تختلف مجموعة المؤثرات في ساكن الصحراء عنها في ساكن الأرض المخضرة بزرعها، وأن تختلف مجموعة المؤثرات في ساكن السهل عنها في ساكن الجبل ، وفيمن تتصل حياته بالبحر عمن تتصل حياته باليابس. هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشعوب أو الأفراد الذين يحيون في بيئة واحدة من حيث الظروف الطبيعية، يعودون فيختلفون فيما بينهم في هذه الحلقة الأولى - أعني مرحلة استقبال الإنسان للمؤثرات الخارجية - اختلافا تعليميا وتربويا، بمعنى أن تنشأ جماعة منهم على نمط من التعليم والتربية يفتح أعينهم وآذانهم وسائر حواسهم لما يجري حولهم، فيدركون منه ما لا تدركه جماعة أخرى تحيط بها الظروف الطبيعية نفسها، لكنها لم تجد تربية وتعليما يعملان على دقة الإدراك واتساع أفقه وعمق أغواره، مع أن المرئي هو نفسه المرئي عند الجماعة الأولى، والمسموع هو المسموع، فينتهي الأمر بالجماعتين إلى اختلاف ثقافي بعيد المدى، برغم تجانس المؤثرات الطبيعية التي تؤثر بها عوامل البيئة في كل منهما؛ ففي الجماعة الأولى نجد المعرفة الواعية قد غزرت وتنوعت، حتى لينتقل بها أصحابها إلى ارتقاء على مستوى العلوم المختلفة، وما يترتب على تلك العلوم من نتائج في دنيا العمل والتطبيق. وأما الجماعة الثانية فتصدمها المؤثرات نفسها، لكنها تكون كماء المطر ينزل على صخرة صماء فينحدر على سطحها دون أن تستجيب له الصخرة بنبتة خضراء. وتكون العلة في ذلك الجدب في الجماعة الثانية افتقارها إلى تربية وتعليم.
تلك - إذن - هي الحلقة الأولى من الحلقات الثلاث، وما قد تحدثه من تباين ثقافي بين الأفراد وبين الشعوب، وهو تباين تستطيع - كما ترى - أن تقول عنه إنه مما يمكن التغلب عليه إذا أردنا له أن يزول؛ لأنه تباين لم ينشأ عن ضرورة حتمية بقدر ما نشأ عن عوامل متغيرة، فإذا لاحظنا - مثلا - أن حياة الثقافة العربية الآن - التي هي حياتنا، نحياها كل يوم في ساعات العمل وفي ساعات الفراغ، أقول إننا إذا لاحظنا أن حياة الثقافة العربية قد بلغت من الفقر حدا لا يجوز لها معه أن تطمع في أن تكون ذات أثر في توجيه التيارات الفكرية في العالم، فلا هي تملك الأثر الفعال في سياسة ولا في اقتصاد ولا في عقيدة ، فالسياسة توضع هناك في مخابئ الشياطين، ولا ندري نحن إلا أن نجد الكوارث قد حلت توقعنا في حبائلها وقوع الأشل العاجز، والاقتصاد يضطرب بموجه صعودا وهبوطا هناك في أوكار الأبالسة، فما نحن إلا وقد رأينا العالم قد انقسم إلى شمال غني بموارد الجنوب بعد أن يخضعها للعلم والصناعة، وإلى جنوب باع موارده بثمن بخس واشترى صناعات الشمال بثمن مرتفع، ولم يعد يملك سوى أن يمد إلى أبالسة الشمال أكف الضراعة يطلب العون والقرض والصدقات، وفي دنيا العقائد ترانا وقد اتسعت في حياتنا فجوات واسعة وعميقة بين «إيمان» نصوغه لفظا و«عمل» لا يكاد يمت إلى ذلك الإيمان بسبب من الأسباب، أقول مرة أخرى: إننا إذا لاحظنا أن حياتنا الثقافية العربية قد بلغت هذا الحد من الضحالة والعوز، فليس يعني ذلك - ما دمنا عند الحلقة الأولى التي هي مرحلة الانطباع بما حولنا من مؤثرات - أننا أمام عقبة يستحيل علينا اقتحامها، بل الأمر فيها على غير ذلك؛ لأن نقص الإدراك نقيصة تعالجها في جيل واحد تربية سليمة وتعليم منتج، وليس في إصلاح المرحلة الإدراكية أو في تغييرها من حال الفقر إلى حال الغنى، ومن حالة الغموض إلى حالة الدقة، ليس في أي شيء من ذلك التغيير ما يمس شخصيتنا العربية بحيث نخشى أن يظهر من أولي أمرنا من يعارضه ويقاومه.
فإذا انتقلنا بأنظارنا إلى الحلقة الثانية، حيث مكنونات البواطن التي أسلفنا ذكرها، فها هنا نجد العقبة العصية التي تستدعي النظر الهادئ المتأمل؛ إذ ها هنا يكمن المصدر الحقيقي لما تتنوع به الثقافات المختلفة بين أفراد الشعب الواحد أولا، ثم بين شعب وسائر الشعوب ثانيا، فالمؤثرات التي ينطبع بها الإنسان آتية إليه من خارجه، لا قيمة لها في ذاتها معزولة عن وقوعها في ذلك المضمون الحشوي الذي يكمن في جوانح صدورنا. إن حدثا واحدا معينا قد يضحك إنسانا ويبكي إنسانا آخر، فالحدث هو نفسه الحدث عند كليهما، لكن كوامن النفس في أحدهما ليست هي كوامن النفس في الآخر. ضع لهبا من نار على ورقة تشتعل ، لكن ضع ذلك اللهب على ماء ينطفئ. وفي ذلك المضمون الحشوي تتشكل الرؤية الثقافية في الفرد الواحد، وفي مجموع الشعب، فإذا كان لأحد أن يغير من نفسه، أو من شعبه، رؤيته الثقافية، ليستبدل بالضعف قوة، وبالجهل علما، وبالفقر غنى، وبالمرض النفسي صحة وعافية، فقليل من ذلك ما يعتمد على مرحلة الإدراك الأولى، بالقياس إلى الكثير الصعب الذي لا بد من عمله لتغيير المضمون الحشوي الذي أشرنا إليه، والذي أشار إليه فلاسفة أقدمون - مثل أفلاطون وفرانسيس بيكون - بأنه بمنزلة كهف قعد فيه ساكنه بحيث أدار ظهره لفتحة الخروج، واتجه ببصره نحو الجدار الداخلي، فلا يعرف عن الدنيا الخارجية شيئا إلا ظلالا يراها تتحرك على الجدران منعكسة عن المارة في الطريق العام، مضافا إليها مخزون نفسه، ومع ذلك فالوهم يخيل له أنه يعرف عن الدنيا حقائقها.
ولكن متى وكيف يلجأ «العاقل» إلى تغيير مضمونه الحشوي هذا الذي بفعله تتشكل رؤية الإنسان؟ إن الجواب عن هذا السؤال مرهون بالحلقة الثالثة، التي هي مرحلة السلوك؛ فسلوك الإنسان - كما قلنا - هو محصلة تنشأ مما وقع عليه من مؤثرات خارجية، بعد أن تتلقاها مخزونات الباطن فتوجه فعلها بحسب ما يتفق مع عناصرها، وعندئذ تقتضي منا الحكمة أن نرقب سلوكنا هذا، الذي وجهته مخزونات نفوسنا، ليرى إلى أي النهايات ينتهي بنا؟ هو ينتهي بنا إلى ضعف أم إلى قوة؟ إلى مرض أم إلى عافية؟ إلى رفاهية أم إلى شظف العيش؟ فإن وجدناه سلوكا تتعثر به خطواتنا، وتنتكس به حياتنا، وجبت علينا عندئذ مراجعة نفوسنا وما قد انطوت عليه من مخزونات الأفكار التي قد تكون باطلة، والعواطف التي قد تكون مضللة والرغبات التي قد تكون مؤدية بنا إلى دمار، كان علينا أن نغير من طرائق التربية والتعليم، لنصوغ أبناءنا صياغة جديدة تبرأ مما أصبنا به نحن من معوقات.
على أننا إذ نرقب سلوكنا لنرى إلى أي النهايات ينتهي بنا، فلسنا نريد أن تكون المنفعة وحدها مدار الحكم بالنجاح والفشل، بل المدار هو مقومات «الشخصية» التي نريدها لأنفسنا، ومن تلك المقومات ما قد يتطلب منا النصيحة وليس النفع في صورته المادية من كسب أكثر وجاه أقوى، وها هنا تأتي نماذج البطولات في تاريخنا لتجعل منها هاديا يهدينا إلى ما ينبغي أن يتوافر لنا من عناصر الشخصية العربية المنشودة.
إنها هي الحلقة الوسطى التي تتطلب منا طول النظر وحسن التدبير؛ لأنها هي التي تتجمع فيها الدوافع الحركية نحو سلوك يتلاءم مع طبيعتها. إنه لا يكفي أن نملأ الذاكرة بمعارف ومعلومات لا ينجم عنها عاطفة دافعة نحو الهدف الذي نريده، والمهم هو أن نحرص على شحن المعرفة بالانفعال لها، كما هي الحال مع القصائد وهي في شدة حرارتها. ماذا يجدي أن تملأ وسائل الإعلام دنيانا صياحا بأغان وطنية إذا جاءت تلك الأغاني مثيرة للضحك من تفاهة معانيها؟ إنها على الأرجح تحدث عند المتلقي تأثيرا عكسيا لمجرد شعوره بأنه لا مؤلفها ولا ملحنها ولا مؤديها بالغناء صادق مع نفسه وهو يفعل ما يفعله. إن هناك جماعات من الناس لا تجد لها تاريخا فتصيد لنفسها أسطورة تحيا بها وتعرف كيف تجعلها أسطورة تحرك الناس إلى القوة، ونحن نحمل وراء ظهورنا تاريخا حقيقيا شهده الزمان وشهد له، وهو تاريخ لو تقسمه أهل الكوكب الأرضي جميعا لكفاهم دافعا شريفا نحو هدف شريف، ومع ذلك لم نستطع نحن أصحابه أن نستوحيه سداد العمل لنحقق القوة التي نعتصم بها من الهوى والهوان.
إنها هي الحلقة الوسطى التي تستحق منا كل العناية في تربيتنا لأبنائنا وبناتنا؛ ففيها ترسخ العقائد صحيحة أو مغلوطة مهوشة، وفيها تكمن «الإرادة» قوية أو ضعيفة، وفيها تنبت الميول والرغبات والأهواء والحب والكراهية والرضا والسخط والقلق والطمأنينة، وسائر تلك القوى الدافعة لصاحبها أو المانعة، الصاعدة بحاملها نحو الذرى أو الهابطة به إلى الحضيض، فإذا هي انحرفت انحرف صاحبها وإذا هي استقامت استقام، إنها هي الحلقة الثانية التي يتغير مخزونها فيتغير سلوكنا، وهي هي الحلقة التي لا يغير الله ما بنا من تخاذل وتفكك وتسيب ولا مبالاة، إلا إذا بدأنا نحن البشر فغيرناها بصلاح التربية وحسن التعليم ورشاد الإعلام.
وثقافة الفرد أو ثقافة الشعب في مجموعه، لم تخلق للزينة والزخرف والمباهاة والتفاخر، وإنما خلقت لتكون أداة فعل حقيقي على أرض الواقع وتحت سمائه، فعلا يمهد السبيل نحو الصحة والقوة والعزة والعلم والإبداع. إننا إذا رأينا أمتنا العربية قد وهنت عراها، وإذا وجدنا الأفراد في كل قطر واحد قد أعوزتهم أعز خصائص العربي كما هو مرسوم الملامح في ديننا وفي شعرنا وأدبنا وفي كثير جدا من ميادين الحياة، فذلك لأن الحلقة الثانية من خريطة حياتنا قد شاهت بما امتلأت به من عوامل الأنانية والطغيان والانحراف. ليس المهم في الحياة الثقافية أن نقول: هذه ثقافتنا وتلك ثقافة الغرباء. وإنما المهم هو أن نقول هذا عنصر ضعيف في بنائنا الثقافي لا يؤدي بنا إلى عزة، فلنستبدل به ذلك العنصر لأنه أفعل أثرا.
أرأيت إلى مدرس اللغة الإنجليزية الذي حدثتك عنه في أول هذا الحديث؟
أرأيت كيف وقف بنا ونحن صغار في سن العاشرة أو ما دونها، أمام جملة إنجليزية بسيطة يريد لها أكمل ترجمة عربية ممكنة؟ ولقد أنار أمامنا الطريق؛ فالوقائع هي الوقائع لا سبيل إلى تبديلها، بل ولا حاجة بنا إلى ذلك التبديل، فهي وقائع لمن يصوغها بالإنجليزية كما هي وقائع كذلك لمن يصوغها بالعربية، وأما الروابط الجمالية التي ربطت تلك الوقائع في عبارة واحدة وتعبير واحد، فلكل لغة وجدان أصحابها وما يتحقق به ذلك الوجدان.
وهكذا قل في البناء الثقافي كله، نثقف به فردا، أو شعبا، أو أمة قوامها عدة شعوب، فلا تنكر للواقع، ثم يجيء المبدعون للثقافة فيخدمون أمتهم في وجدانها الخاص.
أين نضع المبادئ؟
تعالوا نبدأ طريقنا معا من بدايته؟ فقد رددنا في حديثنا السابق حياة الإنسان بكل تعقيداتها وتفصيلاتها، إلى وحداتها البسيطة، على غرار ما يحلل الفيزيائي أو الكيميائي قطعة من مادة ليردها إلى عناصرها الأولية، فبغير هذا التحليل لما نريد فهمه يستحيل علينا ذلك الفهم إذا أردناه على الوجه الأكمل، فوجدنا أبسط الوحدات التي تتركب من تجمعاتها وتركيباتها حياة الإنسان كما نراها في أنفسنا وفي سوانا من الناس، مؤلفة من ثلاث حلقات؛ أولاها حلقة المعرفة التي ندرك بها ما ندركه مما يحيط بنا، أو مما نحسه في أنفسنا وهي معرفة نحصلها من المؤثرات التي تتلقاها حواسنا ضوءا أو صوتا أو لمسا أو ما تصادف أن يكون؟ وثانيتها حلقة قوامها ذلك المحتوى المعقد الذي يكمن في باطن الإنسان، بعضه فطري كالغرائز والانفعالات وبعضه الآخر مكتسب كالعواطف التي تؤسس على انفعالات وكالعقائد التي يتلقاها الفرد من مجتمعه وكالأفكار التي تبدأ أفكارا ثم ترسخ مع الزمن في نفس حاملها حتى ليحسبها جزءا لا يتجزأ من فطرته. هذه العناصر وأمثالها هي التي تتكون منها الحلقة الثانية وهي التي تتلقى ما تنقله إليها الحواس من مؤثرات جاءتها من مصادرها الخارجية أو الداخلية، تتلقاها الحلقة الثانية بكل ما شحنت به من مخزونات العواطف والغرائز وما إليها، لتصبغها بصبغتها هي، وتشكلها على الصورة التي تهواها هي. ولما كان المخزون الباطني يختلف في تفصيلاته من فرد إلى فرد، ثم من شعب إلى شعب، كانت المؤثرات التي جاءتنا من العالم الخارجي، معرضة لكل ضروب التشكيل والتلوين التي تضطلع به مكونات النفس؛ فلا يكفي أن يتأثر شخصان بمؤثر واحد معين لنضمن أن تجيء حياتهما على صورة واحدة؛ لأن ذلك المؤثر سيدخل عند كل منهما في مصنع داخلي مختلف، والله أعلم على أية صورة يخرج ذلك المؤثر من المصنع الداخلي عند كل منهما؛ ومن هنا كانت خطورة هذه الحلقة الثانية - كما أسلفنا في حديثنا السابق - لأنها هي «النفس» التي قد تكون أمارة بالسوء مرة، أو تكون لوامة مرة، أو تنالها رحمة الله فتكون مطمئنة مرة ثالثة، وعلى أساس ما ينتجه ذلك المصنع الداخلي لصاحبه تجيء الحلقة الثالثة - التي هي السلوك الظاهر - الذي يؤدي به سالكه ما يؤديه من عمل - أو من كف عن العمل - مما يقع فيما يشاهده منه الآخرون.
ولكل حلقة من تلك الحلقات الثلاث ضوابطها التي تختص بها، فإذا كانت مهمة الحلقة الأولى هي أن تزود صاحبها بمعرفة يعرفها عن عالمه المحيط به، كي يتصرف على أساس ما يعرفه، فإن ضوابط تلك الحلقة المعرفية تدور كلها حول أن تكون المعرفة التي تنقلها إلى صاحبها معرفة صحيحة لئلا يضل الطريق في سلوكه الذي سيرتبه على ما قد عرف، فلا بد للعين أن تكون دقيقة الإبصار، فإن لم تكن استعانت بالمناظير، فإن لم تسعفها المناظير لجأ الإنسان في هذه الحالة العاجزة إلى مبصر يعينه. ولا بد للأذن أن تكون جيدة السمع، وهكذا قل في سائر الحواس. على أن الحواس لو سلمت كلها من العطب، ينبغي أن يكون وراءها إرادة متعمدة من الإنسان المسئول تلزمه بالأمانة في نقل المعرفة التي تلقاها، وبالصبر على المشاق إذا كان طريقه إلى المعرفة عن طريق حواسه فيه ما يشق عليه. وهكذا تقوم بحكم الضرورة ضوابط كثيرة ملزمة للإنسان في الحلقة المعرفية الأولى، ليضمن لمعرفته أكبر قدر من الصواب. ولقد أمكن استقطاب مجموعة القيم الضابطة للمعرفة تحت عنوان واحد، أو قل تحت قيمة واحدة، هي قيمة «الحق».
فإذا انتقلنا إلى الحلقة الثانية، تلك الحلقة المعتمة بضبابها، المحيرة بعنادها، المربكة بخصوبتها وتراثها، المالكة لزمام صاحبها وكأنه مطية لها، ألجمتها لتتحكم في تسييره في أي اتجاه شاءت هي له أن يسير. ومع كل هذه الطبيعة المتمردة العاصية في الحلقة الثانية، فلها ضوابطها، وإن تكن الضوابط هذه المرة شديدة المرونة في معانيها ومقاصدها حتى لكأنها لا ضوابط. لقد كانت ضوابط «الحق» في الحلقة الأولى مما يمكن تحديده تحديدا فاصلا وحاسما، وحسبك أن تعلم بأنها هي هي نفسها القواعد التي يتناولها بالبحث «علم المنطق» الذي أمكنه أن يبلغ دقة رياضية لا تفلت منها شعرة، في صياغته للقواعد التي تسير عليها الحركة العقلية الاستدلالية لتجيء النتيجة العلمية آخر الأمر يقينا لا يحتمل الشك، وذلك في العلوم المتقدمة في تطبيق المنهج العلمي وكعلوم الطبيعة، أو تجيء تلك النتيجة على درجة عالية من احتمال الصدق، وذلك في العلوم الإنسانية التي لم تبلغ بعد دقة العلوم الطبيعية وإن تكن سائرة على الطريق نحو أن تبلغ تلك الغاية.
كان ذلك هو شأن المعايير الضابطة في الحلقة المعرفية الأولى، حتى إذا ما انتقلنا إلى المرحلة «الوجدانية» الثانية، التي تتلقى المعرفة المحصلة لتلجمها وتتحكم في تشكيلها وتلوينها ثم في توجهها الوجهة التي نريدها لها، وجدنا الضوابط هنا - كما قلنا - مرنة عائمة. ولقد استقطبت ضوابط هذه الحلقة تحت اسم واحد، أو تحت «قيمة» كبرى واحدة هي قيمة الجمال، ولا أنبئك كم ألف مرة تكرر ذكر «الجمال» على لسان هذا الكاتب، منذ عرف في صباه الباكر أن القيم الكبرى، التي تنطوي تحتها جميع القيم الإنسانية هي ثلاث؛ الحق والجمال والخير. ولا بد أن تكون أنت كذلك أيها القارئ قد أجريت لسانك بهذه الأسماء الثلاثة دون أن يستوقفك هذا الاسم الغامض المبهم «جمال» مزعوما له أنه يجمع في معناه مجموعة الضوابط التي يظن أنها ترسم طريق السير الصحيح لمكونات الحلقة الثانية التي هي حلقة وسطى بين حلقة «المعرفة» في طرف أول، وحلقة «العمل» في طرف أخير.
كان هذا الكاتب لعشرات السنين يمر على اسم «الجمال» - من حيث هو اسم على إحدى القيم الثلاث الكبرى - مرور الكرام كما يقال، لا يحاسبه ولا يحاسب نفسه، ولا يراجعه أو يراجع نفسه متسائلا: بأي معنى يراد منا أن نفهم «الجمال» على أنه اسم شامل لضوابط مكونات النفس من غرائز وعواطف وانفعالات وعقائد وأفكار بثت في مخزون النفس بغير تحديد ولا توضيح إلى آخر هذه الأسرة العجيبة من عناصر ذلك المخزون الخبيء في صدورنا والذي يريد أن يكون صاحب الحق المطلق في أن يقول لصاحبه «نعم» و«لا» تجاه ما يصادفه من مواقف تريد منه أن يتصرف على هذا الوجه أو ذاك، فلفظ «الجمال» معروف وشائع على كل لسان؛ ومن هنا يجيء معظم الخطر في إساءة الفهم حين يراد لما يسمى ب «الجمال» أن يكون هو الضابط الذي نرجع إليه في ترشيد «النفس» بمكوناتها التي أشرنا إليها؛ فلقد ألف الناس أن يستخدموا صفة «الجمال» ليصفوا بها غادة حسناء، أو زهرة أو بستانا أو شفق الشمس عند غروبها ، فكيف تمكن هذا المدار الذي تدور في فلكه تلك الاستعمالات وما يماثلها، أن يكون هو المقصود حين يراد ل «الجمال» أن يكون المعيار المرجعي الضابط ل «النفس» وما انطوت عليه من مكونات ذكرنا لك بعضها؟
وكانت اللحظة التي أوقفت هذا الكاتب موقف الحذر إزاء هذه الكلمة ومعناها - وذلك في مجال الفكر الفلسفي أو النقدي وليس في مجال الحياة اليومية العابرة - أقول إن اللحظة التي أوقفت هذا الكاتب موقف الحذر في فهم مصطلح «الجمال» هي تلك اللحظة التي كان يراجع فيها بطاقات الكتب في مكتبة الجامعة، باحثا عن كتاب بعينه للصوفي المعروف «ابن عربي»، وإذا به يقع بين البطاقات على بطاقة لكتاب له عنوانه «الجمال والجلال» فأخذته الدهشة والفرحة معا؛ لأن المشتغلين بالفكر الفلسفي لم يعرفوا أن الفكر العربي قد اشتمل فيما اشتمل، على نظرية خاصة ب «الجمال» كالتي نجد أمثلة لها عند فلاسفة الغرب، وعند المحدثين منهم بصفة خاصة؛ لأن تنظير «الجمال» لم تكتمل صورته على الوجه الذي أصبح معروفا عند أصحاب الفكر الفلسفي، إلا على يدي «بندتو كروتشه» الفيلسوف الإيطالي الحديث الذي ربما عرفه الناس من معارضته لموسوليني معارضة أنزلت به الأذى، أكثر مما عرفوه ذا فلسفة خاصة في فكرة «الجمال» أو في غيرها.
لهذا أخذت هذا الكاتب دهشة وفرحة عندما علم أن لابن عربي كتابا عن «الجمال والجلال». وقبل أن أمضي في الحديث أود للقارئ أن يعرف لمحة سريعة عن الفرق بين «الجمال» و«الجلال» في المصطلح الفلسفي. وربما كان أقرب طريق لبيان الفرق أن نسوق أمثلة فيها المقارنة بين المعنيين، فإذا كان مفهوما لنا أن نصف بالجمال «غادة حسناء، وزهرة وبستانا»، فإن الذي يوصف بالجلال «من حيث هو مصطلح فلسفي في هذا المجال» البحر، والصحراء، والجبل، والمبنى الضخم ذو الأعمدة الشامخة وما إلى ذلك؛ فبينما تثير موضوعات الجمال مشاعر الرقة والتناسق، فإن ما تثيره موضوعات «الجلال» هو الشعور بالعظمة والقوة واللانهاية.
ونعود إلى ابن عربي في كتابه «الجمال والجلال»؛ فقد استخرجه هذا الكاتب من خزانته فوجده كتابا صغيرا، بحيث يمكن قراءته في بضع ساعات، فانكب عليه ليقرأ، وإذا بالمعنى المقصود عند المؤلف هو مما لا يطرأ على بال الباحث في يومنا ف «الجمال» الذي يتحدث عنه ابن عربي، هو مجموعة الآيات الكريمة التي تبشر المؤمنين برحمة الله وعفوه وغفرانه وحسن ثوابه. و«الجلال» عنده هو مجموعة الآيات الكريمة التي تتوعد الكافرين بجهنم وسعيرها. على أن ابن عربي يبين لنا كيف تجيء آيات الجمال وآيات الجلال في الكتاب الكريم متعاقبتين فواحدة من هذه تتبعها واحدة من تلك.
وهكذا عاد هذا الكاتب إلى حيرته بالنسبة إلى معنى «الجمال» كما يريده المصطلح السائد. وهو مصطلح - كما ذكرنا - يشير إلى الجمال - بين جوانب أخرى - من حيث هو قيمة ضابطة للحلقة الوسطى، التي هي مكمن الجانب الوجداني من الإنسان، فبأي معنى نفهم هذا المصطلح في هذا السياق؟ وعلى أي أساس يتم انضباط الحياة الوجدانية وترشيدها؟ هنا قد يساعدنا أن نذكر استخدامات مختلفة في لغتنا لكلمة «جمال» وما يشتق منها؛ فمن هذه الاستعمالات للكلمة يجوز أن ينبثق معناها المقصود حين تجيء اسما يسمى «قيمة من القيم الكبرى الثلاث الضابطة لحياة الإنسان الفكرية والعملية على السواء. وهي الحق والجمال والخير.» فنحن نعزي من أصابته كارثة بقولنا: صبرا جميلا. ونذكر بين فضائل السلوك «عرفان الجميل»، ونقول إن فلانا يجامل فلانا. ونقول إنه «يجمل» بنا أن نفعل كذا. ألا ينبثق لنا من هذه الاستعمالات المتباينة معنى «الرحمة» و«العون» وتخفيف العبء عن المكروث؟ وكلها معان تتفق مع اتجاه ابن عربي في تناوله ل «الجمال» في الكتيب الذي أشرنا إليه. وإذا كان هذا هو المقصود، فأظن أن شيئا من الفهم الصحيح لمعيار الجمال من حيث هو إحدى القيم الكبرى الثلاث؛ إذ يناط به ترشيد الحياة الوجدانية عند الإنسان إلى طريق مستقيم، فإذا نظرنا على ضوء هذا المعنى إلى مختلف العناصر التي منها يتألف مضمون الحلقة الثانية، وهي التي جعلناها مرحلة وسطى في الحياة الإنسانية بين «المعرفة» من ناحية والإجراء السلوكي لما قد عرفناه من ناحية أخرى، أقول إننا إذا نظرنا إلى عناصر تلك الحلقة الوسطى ووجدناها تتباين في غرائز، وانفعالات، وعواطف واعتقادات فيما يجب وما يجوز وما يمتنع، وجدنا معنى مفهوما في ترشيد هذه المتباينات كلها بضوابط «التسامح» أو «العفو» أو الرحمة أو المواساة أو غير ذلك من الصفات التي تجري مجراها. وإذن فذلك هو معنى «الجمال» حين يكون معيارا بين معايير ثلاثة أجمع كل ذي شأن على أنها هي الضوابط التي منها وفي إطارها ينشأ الإنسان في أكمل صورة إنسانية ممكنة.
ولعلك تستطيع الآن أن ترى كيف تتفاوت درجة الدقة في تحديد المعنى بين قيمة «الحق» في مجال المعرفة والعلم، وقيمة الجمال في مجال الجانب الوجداني من حياة الإنسان؛ فبينما نجد معايير الصدق العلمي على درجة من الدقة مكنت المشتغلين بالعلوم من الاتفاق على ما هو صحيح مقبول وما هو خطأ مرفوض، نرى مثل هذا الاتفاق في المجال الوجداني متعذرا في كثير جدا من الحالات، فهذا يحب ما يكرهه ذاك، وما تستريح له النفس عند زيد يكون هو نفسه مصدر القلق عند خالد؛ إذ ما دام المعيار الضابط في هذا المجال، هو - كما ذكرنا - الجمال بمعان تدور حول طمأنينة النفس، فهو معيار مبهم الحدود؛ ومن هنا كان الرأي عند هذا الكاتب، هو أن نجعل مثلنا الأعلى في تربية أبنائنا وبناتنا، أن يقوى الجانب العقلي العلمي المعرفي منهم، وأن يخفت صوت الوجدان الذي هو قلب الحلقة الثانية في تحليلنا الذي قدمناه للحياة الإنسانية.
وبقيت الحلقة الثالثة التي هي مرحلة «التنفيذ» لما قد أدركناه أولا في الحلقة الأولى، وما شكلناه على هوانا ثانيا في المرحلة الثانية. ومرحلة التنفيذ هذه هي مرحلة السلوك، مرحلة الفعل، مرحلة «الأخلاق»؛ فكلمة «الأخلاق» ينصب معناها مباشرة على مجال السلوك؛ ولهذا كانت القيمة الكبرى هنا، وأعني المعيار الذي يقاس إليه نصيب الفعل المعين من الأخلاقية هو «الخير» فكل الفضائل إنما عدت فضائل لكونها مؤدية آخر الأمر إلى ما فيه الخير للإنسان فردا أو جماعة، وقد لا يظهر ذلك بصورة سريعة ومباشرة، بل قد لا يجيء هذا الخير لفاعل الفضيلة في حياته الدنيا، فيكون جزاؤه الحسن في الحياة الآخرة.
وهنا في مجال الأخلاق ترد «المبادئ» التي جعلناها هدفنا من هذا الحديث؛ لأن فهمها فهما صحيحا ركن أساسي في استقامة الحياة الثقافية كلها وبصفة خاصة حين تتفاعل الثقافات بعضها مع بعض أخذا وعطاء؛ لأن أحدا لا يجادل في أن مثل هذا التفاعل أمر لا مفر منه، فالناس من ثقافات مختلفة يلتقون بعضا ببعض، ولا مناص عندئذ من أن يأخذ بعضهم عن بعض، أرادوا ذلك عن عمد وتدبير أم لم يريدوه، فإذا ما جاءت مرحلة التقويم النظري لرجال الفكر في بلد معين، إذ يحاولون النظر فيما أخذه مواطنوهم عن شعوب أخرى من صور الفكر والأدب والحياة العملية ليروا مقدار ما أصابوا فيما أخذوه عن الغرباء ومقدار ما أخطئوا فعندئذ يكون مناط الحكم بالقبول أو بالرفض هو المساس ب «مبادئهم» الأخلاقية الأصيلة التي تعد من أقوى ركائز الشخصية القومية لشعب من الشعوب، فما الذي نعنيه بكلمة «مبادئ»؟ وهل يجوز أو لا يجوز لجماعة من الناس أن تغير هذا المبدأ أو ذاك من مبادئها الأصيلة، وإذا كان ذلك جائزا فمتى يجوز؟
إن كلمة «مبدأ» تدل بذاتها على معناها دلالة واضحة مباشرة مستقيمة، لا نلجأ فيها إلى تشبيه أو مجاز؛ فالمبدأ هو النقطة أو الفكرة التي نبدأ منها السير في عملية التفكير، وذلك لأن العملية الفكرية مستحيلة بغير فكرة ما توضع افتراضا على أنها صحيحة، ومن تلك الفكرة المسلم بها يستدل العقل ما يستدله من نتائج، وتكون تلك النتائج صحيحة على أساس الفكرة التي بدأنا منها خطواتنا الاستدلالية. ولقد سبق لهذا الكاتب في مناسبات كثيرة أن حدد المعنى المقصود بكلمة «عقل»؛ لأنها كلمة بالغة الأهمية في حياة الفكر، تتردد على الألسنة دون أن يكون معناها الدقيق حاضرا عند من يستخدمها، فكثيرا ما نقع في خطأ وخلط؛ فللإنسان بحكم طبيعته أكثر من وسيلة إدراكية يدرك بها صحة الأفكار أو بطلانها، وأجدى تلك الوسائل هي وسيلة الإدراك العقلي، وهي الوسيلة الخاصة بالتفكير العلمي أيا كان الموضوع المطروح للبحث العلمي. إذن فمن المهم أن نعرف ماذا يميز هذا النمط الإدراكي المعين الذي يكون العقل وسيلته. ونعيد ما ذكرناه في مناسبات كثيرة سابقة وهو أن الفاصل الذي يميز «العقل» عن سائر وسائل الإدراك هو أنه حركة انتقالية من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها؛ أي إنه يدرك الحقيقة التي يدركها بطريق غير مباشر؛ إذ لا بد له أن يتخذ وسيطا يوصله إلى الحقيقة المراد الوصول إليها، والوسيط هو المقدمة التي ينتقل منها إلى نتيجتها. لكن قارن هذا الطريق العقلي بالطريق الإيماني في رؤية الحق، تجد الفرق واضحا؛ فبينما يريد العقل وسيطا يتكئ عليه لينفذ منه إلى حقيقة ما ترى الإيمان يلمع بالحقيقة لمعا مباشرا بلا وسيط من مقدمة أو مقدمات.
فقيام «مبدأ» - إذن - ضروري للعملية الفكرية أيا كانت، فإذا كان المجال مجال علم رياضي، رأيت عند بداية الطريق حقائق تؤخذ مأخذ التسليم بغير برهان لا لأنه يستحيل على عالم الرياضة أن يبدأ من سواها، بل لأنه لا بد له من شيء يبدأ منه ليستدل، وبراعة العالم النابغ في علم الرياضة، هو أنه - حين يختار ما يبدأ منه سيره الرياضي - يعرف كيف يختار البداية التي تنتج نتائج نافعة في دنيا التطبيق. وفي العلوم الطبيعية كذلك لا بد من فكرة أو أفكار توضع في البدء على سبيل الاقتراح؛ أي على سبيل افتراض أنها صحيحة، لنستدل منها ما يمكن استدلاله من قوانين علمية، ثم يكون لسلامة التطبيق على دنيا الواقع الحكم الفصل في قبول ما كنا قد وضعناه موضع الاقتراح أو الافتراض. كل ذلك معروف وواضح بالنسبة إلى بدايات السير العقلي وطريقة ذلك السير. حتى إذا ما انتقلنا إلى مجال القيم الأخلاقية، رأينا فجأة أن كلمة «مبدأ» قد تعلق بها شيء من التقديس لم يكن لها في مجالات العلوم مع أن الموقف واحد في الحالتين؛ ففي مجال الأخلاق، إذا أردنا أن نحكم على فعل ما بالقبول أو بالرفض، ترانا نرتد به إلى قاعدة عامة لنرى إذا كان أو لم يكن مستدلا منها؛ فهناك - مثلا - مبدأ عام ينهى عن السرقة، فإذا حدث أن اقترف شخص ما فعل السرقة، حكمنا على فعلته باللاأخلاقية، استنادا إلى المبدأ العام، فمن أين جاء الفرق بين مبدأ يبدأ منه عالم في الرياضة أو في علم طبيعي، ليستدل منه، ومبدأ وضعته الأخلاق ليستدل منه ما يجوز فعله وما لا يجوز؟ لماذا هو أمر مشروع للعالم في أي مجال علمي أن يتخذ لنفسه نقطة بدء أخرى إذا ثبت له أن النقطة التي كان بدأ منها أول مرة لم توصله إلى نتائج مفيدة في التطبيق ثم نحرم مثل هذا التبديل على مجال الفكر الأخلاقي؟ فقد يحدث بالفعل أن مبدأ خلقيا معينا كان نافعا في صورة من صور الحياة ولم يعد ينفع في صورة أخرى استحدثتها الحياة في ظل حضارة جديدة. ومع ذلك فهنالك عرف عام بين الناس بأن المبدأ الأخلاقي يجب أن يظل مبدأ أخلاقيا مهما كانت نتائجه من نفع أو ضرر. ونحن نسأل هنا عن الفرق الذي يبيح لعالم الرياضة أو عالم الطبيعة أن يغير مبادئه ولا يبيح ذلك لعالم الأخلاق. إن الإجابة على هذا السؤال - في رأي هذا الكاتب - ستضع أيدينا على فارق بعيد المغزى بين الثقافة العربية في جانب من أهم جوانبها وبين ثقافة الغرب في عصره العلمي الصناعي الراهن.
الفارق الجوهري بين «المبدأ» في مجال العلوم والمبدأ في مجال الأخلاق - فيما يرى هذا الكاتب - هو أن المبدأ في الحالة الأولى ليس مطلوبا لذاته بقدر ما هو مطلوب للنتائج التي تتولد عنه؛ أي إنه وسيلة توصلنا إلى غاية وليس هو نفسه الغاية التي نريد الوصل إليها. كالطبيب وهو يشخص مرض المريض، لا يستهدف التشخيص لذاته، وإلا لاكتفى به وترك مريضه كما وجده، بل هو يقوم بهذا التشخيص ليكون بين يديه بمثابة نقطة البدء التي يستنتج منها خطوات العلاج المؤدي إلى الغاية المقصودة، والتي هي شفاء المريض من علته، وأما المبدأ في عالم الأخلاق فهو إلى جانب كونه نقطة بدء فهو كذلك يشير إلى الغاية المراد الوصول إليها، فإذا كان المبدأ - مثلا - التمسك بالحق والصبر على ما يحيط بذلك التمسك من مشاق، فهو أيضا المنتهى؛ لأن غاية الغايات هنا هي أن ينشأ مجتمع قائم على حق لا يشوبه باطل.
تلك واحدة مما يفرق بين «المبدأ» في مجال العلوم، والمبدأ في مجال الأخلاق. وأما الثانية فهي أن معظم المبادئ الخلقية جاءت إلى الناس وحيا من رسالات السماء، وليست من صنع البشر، وأكثر ما يسع رجال الفكر أن يصنعوه إزاء تلك المبادئ هو أن يحللوها استخراجا لمضامينها، وإذا كانت هنالك طائفة أخرى من مبادئ الأخلاق قد انبثقت للإنسان من واقع حياته العملية، كأن نقول - مثلا - إننا نأخذ بمبدأ مجانية التعليم لجميع المواطنين، وإعمالا لفكرة المساواة، إذن يكون أمامنا مجموعتان من المبادئ الخلقية؛ مجموعة نزلت وحيا، لا يتم الإيمان بالعقيدة الدينية إلا إذا شمل الإيمان بها، ومجموعة أخرى نشأت من واقع الحياة الإنسانية فيصبح من حق الإنسان أن يغيرها إذا تغيرت صورة حياته العملية.
ذلك هو الموقف بالنسبة إلى مبادئ الأخلاق - في رأي هذا الكاتب - وهو موقف يوضح لماذا يمتنع على الإنسان أن يغير مبدأ أخلاقيا إذا ما كان بين المجموعة الموحى بها في رسالة الدين، حتى لو ظن أنه مبدأ لا يوصل الإنسان إلى حياة مزدهرة؛ لأن التبعة الأخلاقية في هذه الحالة تمتد حتى تجاوز الحياة الدنيا إلى عالم الخلد. لكن مثل هذا الموقف لا يلتئم مع الحياة العلمية الصناعية الراهنة في جميع حالاتها؛ ومن هنا نشأت عند رجال الفكر في الغرب فكرة أخرى، مؤداها أن نعامل مبادئ الأخلاق بمثل ما نعامل الفروض في مجالات البحث العلمي؛ أي أن يظل المبدأ قائما ومعمولا به طالما هو الوسيلة الناجحة في تحقيق الأهداف المنشودة، أما إذا تبين عن مبدأ منها أنه عائق في طريق النجاح استبدلنا به سواه مما عساه يوصلنا إلى غاياتنا كما نفعل في مجال البحث العلمي سواء بسواء.
كان السؤال الذي طرحناه في هذا الصدد يسأل لماذا يباح للباحث العلمي أن يغير فروضه - التي هي بمثابة نقاط البدء في منهج البحث العلمي - إذا ثبت له أنها فروض لا تؤدي إلى النتائج المطلوبة، ولا يباح مثل ذلك التغيير بالنسبة إلى مبادئ الأخلاق إذا ثبت أنها معوقات في طريق السير الناجح المثمر؟ ولقد قدمنا عن هذا السؤال جوابنا فوضحنا الفوارق بين الحالتين.
فإذا كان هذا الكاتب العربي يبحث في حقيقة موقفه بين الثقافتين فها هو ذا يبرز أين يتفق وأين يختلف. لقد أسلفنا في هذا الحديث وفي الحديث الذي سبقه أساسا علميا لحقيقة الحياة الإنسانية، وهو أساس يبين لنا الوحدات الأولية البسيطة التي تبنى عليها تلك الحياة وكل وحدة منها مؤلفة من ثلاث حلقات؛ معرفة بالواقع ومضمون مختلط العناصر مخبوء في بواطن الإنسان ثم سلوك عملي قائم على تلك المعرفة الأولى بعد أن شكلتها ولونتها العناصر الباطنية، فأين في هذه الحلقات الثلاث تقع مبادئ الأخلاق؟ الجواب عند أعلام من مفكري الغرب - فيما نتصور - هو أنها تقع في الحلقة المعرفية الواقعية الأولى ولذلك فهي قابلة للتغيير كلما تغيرت تلك المعرفة، وأما الجواب عند هذا الكاتب العربي فهو أن تلك المبادئ مجموعتان؛ مجموعة منها جاءت مع الوحي الديني فتكون بهذا جزءا من العقيدة؛ وبالتالي فموقعها هو الحلقة النفسية الثانية، ومجموعة أخرى ولدتها خبرة الإنسان في حياته العملية، وإذن فمصدرها معرفة بشرية، وبذلك يكون مكانها هو الحلقة المعرفية الأولى، وبهذه النظرة الحذرة يستطيع صاحبنا العربي أن يجمع بين الثقافتين في وقفة واحدة فيغير من هيكل حياته ما يمكن أن يتغير لحاقا بموكب العصر ويصون الثوابت لينجو بحياته من التحلل والدمار.
العروبة موقف
1
لم يكد هذا الكاتب يجاوز عامه العشرين، حتى انغمس إلى قمة رأسه في بحر الحياة الثقافية كما يصطحب موجها من حوله. وكان من أبرز القضايا التي شغلت الأقلام في مصر عندئذ، انتماء المصري لأي عهد من تاريخه الطويل يعود؟ وفي تلك المعركة القلمية الساخنة، كان الصوت العالي الذي يملأ الأسماع هو القائلين بوجوب انتماء المصري من حيث الأساس، إلى العصر الفرعوني؛ ففضلا عن كون هذا الانتماء حقيقة تاريخية لا يجوز لها أن توضع بين الناس موضع «الرأي» الذي يقبله فريق ويرفضه فريق، فهو انتماء فيه من المجد ما يرتفع به عن مضمار التنافس مع سواه؛ فمن ذا الذي «يبيع سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور»؟ «كما قال ابن المقفع» على أن أولئك الأعلام الذين دعوا يومئذ إلى الانتماء الفرعوني للمصري، لم يريدوا - بالطبع - لتلك الدعوة المصرية أن تشمل الجانب الديني.
فهل كان في وسع ذلك الشاب أن يخرج من المعمعة بشيء غير الذي جرت به أقدر الأقلام؟ وهكذا كان، وهكذا دامت به الحال فترة من الزمن لم تقل عن عقدين، لكنه خلال تلك الفترة كان يتحول من مرحلة الانفعال إلى مرحلة العقل، فلم يعد أمره مقصورا على أن يتلقى ما يكتبه له سواه، بل أضاف إلى ذلك جانبا آخر يشارك به في الرأي يكتبه لمن يقرأ، وهو تحول من شأنه أن يصطحب شعورا بالتبعة العقلية يبثه في ضمير الكاتب؛ فأنت إذ تقرأ ما كتبه آخرون، فقد تقبل في صمت وقد ترفض في صمت فلا يؤرق ضميرك شيء. أما إذا كتبت ليقرأ آخرون، فها هنا تحس عند كل عبارة تخطها وازع الضمير يراجعك ويحاسبك، فتأخذ في نوع من إمعان فكرك فيما تريد أن تقدمه لقارئك، وتتساءل عند كل كلمة: ترى أهي الكلمة التي تؤتمن على حمل المعنى المراد نقله إلى الناس؟ وحصيلة هذه النقلة من موقف قارئ غير مسئول عما قرأ، إلى موقف كاتب مسئول أمام ضميره عن صدق ما يكتبه ودقة معناه، أقول إن حصيلة ذلك هي إطالة النظر في الفكرة قبل عرضها، لا سيما إذا كان لها من الخطورة ما لفكرة «الانتماء» من خطورة.
أصحيح ما دعا إليه أعلامنا في مصر خلال العشرينات - ولا أقول «العشرينيات» - وما بعدها بقليل، من أن مسألة الانتماء المصري هي مسألة تضع المصري بين ضدين، فهو إما إلى هذا الضد منهما وإما إلى ذلك؛ أي إنه إما يرتد بانتمائه إلى أصوله الفرعونية القديمة وإما أن يقف من ماضيه عند ولادة تاريخه العربي؟ اللهم لا ؛ فذلك لا يختلف كثيرا عن شجرة تسأل نفسها: أترجع أصولها إلى الجذور أم إلى الجذع والفروع؟ ومنذ تبين لهذا الكاتب أن الأمر هو من الوضوح بحيث لا يحتمل مجرد السؤال، لم يعد يساوره شك. على أن ذلك اليقين القاطع، لا ينفي أن يتطلب موضوع الانتماء تحليلات كثيرة توضح ما غمض منه. وهكذا فعلت في مناسبات سابقة، وهكذا أفعل الآن؛ فلقد قرأت منذ قريب لأكثر من كاتب يعيدون النغمة القديمة على أوتار جديدة، كأن يقولوا إننا إذا تحدثنا عن «التراث» فلا يكون المقصود هو ثقافة الصحراء، بل المقصود هو ما أبدعه الوادي المزروع منذ فجر التاريخ. والذين يقولون ذلك فإنما يقولونه بلغة الصحراء، يقولونه وكأن الأمر أمر اختيار بين ضدين؛ فإما هذا الضد وإما ذلك الضد، ولا يرون الحقيقة الجغرافية الناصعة وهي أن الوطن العربي الكبير إنما هو صحراء واحدة فسيحة الأرجاء تمتد من المحيط إلى الخليج - كما نقول - وتتخللها «واحات» بعضها كبير وبعضها صغير، ووادي النيل هو واحة كبرى في صحراء الوطن العربي، فإذا كانت حياة الزراعة فيه قد غرست في أهله نزعات تتفق وحياة المزارع، فكذلك الصحراء المحيطة بهم قد تركت بدورها نزعات بدوية؛ ومن هنا وجب الحذر عند التعميم؛ فأخلاق المصري نسيج متألف الخيوط بين زراعة وبداوة. وإذا لم يكن الأمر كذلك لما رأينا الفلاح المصري في القرى يستمع أحسن ما يستمع إليه في أوقات فراغه «قبل عصر التليفزيون» إلى قصة عنترة وقصة أبي زيد الهلالي وكلتاهما تعكس فروسية البدو. إن الوطن العربي هو ذلك الامتداد الصحراوي العظيم، الذي زركشت حوافيه وأواسطه ببقاع خضراء تكبر هنا وتصغر هناك، وليست مصر استثناء يشذ عن هذه الصورة. وإذا أفلتت منا هذه الحقيقة الأساسية أفلت منا بالتالي مصباح كاشف ينير لنا الطريق إلى فهم صحيح لجوهر «الثقافة العربية».
إن الشبه جد قريب بين الروائي الموهوب في اهتدائه إلى المحور المركزي الذي تدور حوله الشخصية التي يريد تصويرها في روايته وبين رجل الثقافة في بحثه عن المحور الأساسي الذي تدور حوله ثقافة شعب معين ؛ ففي كلتا الحالتين يجد الباحث أمامه تفصيلات لا حصر لها؛ فحياة الفرد الواحد وأكثر منها حياة الشعب الواحد، أو الأمة الواحدة، خضم هائل من الأحداث التي قد تبدو للوهلة الأولى متفرقات مبعثرة لا سبيل إلى جمعها في كيان عضوي واحد. إلا أن الأديب الروائي الموهوب أو مؤرخ الثقافات المتمرس يستطيع أن يخترق تلك الكثرة من أحداث الحياة العملية وأوضاعها ليصل عند القاع إلى ذلك الينبوع المستتر، الذي منه انبعثت تلك الكثرة من أحداث الحياة. وإذا وقع الأديب الروائي، أو مؤرخ الثقافة المعينة، على ذلك الينبوع الخبيء كان بمثابة من وقع على المفتاح الذي تنفتح به الأبواب المغلقة، وعندئذ يظهر الفرد المراد تصويره في رواية الأديب، ويظهر جوهر الحياة الثقافية التي يراد تصورها وتصويرها.
فإذا صح ما زعمناه من «صحراوية» في أساس الوطن العربي بأكمله - ممتدا من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي - كان لنا بذلك «مفتاح» الفهم لما نحن بصدده، وهو «الثقافة العربية» لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها. وهذا يتضمن - بالطبع - اعترافا مسبقا منا، بأن هنالك واقعا حقيقيا اسمه «الثقافة العربية» وأن التاريخ قد امتد بهذا الواقع الحقيقي منذ العصر الفلاني في الماضي وإلى يومنا هذا. أما إذا زعم لنا زاعم بأن مثل هذا الشيء لا وجود له في التاريخ، أو أنه كان موجودا في الماضي ولم يعد له اليوم وجود، فإنه يصبح من العبث أن نمضي مع مثل هذا الزاعم المنكر في الحديث.
الغرض الذي نبدأ به حديثنا - إذن - هو أن شيئا اسمه «الثقافة العربية وثقافة مصر جزء منها» كان موجودا وما زال موجودا، وكل ما يطلب منا إزاءه هو أن نقدم «المفتاح» الذي نفتح به مغاليقه لنراه رؤية العين، والمفتاح الذي يقدمه كاتب هذه السطور هو «صحراوية» الثقافة العربية. وأول خطوة نخطوها بعد هذه البداية المقترحة هي أن نأخذ في البحث عما توحيه الصحراء لساكنها عن الكون وعن الإنسان وحياته وعما وراء الكون والإنسان. إذا أحسسنا أن التفسير لا يتم إلا إذا آمنا بأن هنالك «وراء» غير منظور فهل نقول قولا عجبا إذا قلنا إن أول ما توحي به الصحراء لساكنيها هو فكرة اللانهاية؟ إن بصر الرائي أينما توجه، وجد امتدادا لا يعرف أين ينتهي، ولا كيف ينتهي، فإذا ما أقبل الليل واتجه البصر إلى السماء شهد أرتال النجوم التي تفوق العد والإحصاء، فبأي المعاني تنطبع نفس الصحراوي وقلبه وعقله، وهو يشهد تلك اللامتناهيات مكانا وزمانا يوما بعد يوم وعاما بعد عام، إذا هي لم تنطبع بفكرة اللانهائي الذي يسرح فيه الخيال، ويغوص في أغواره الفكر المتأمل ليبدع ذلك الخيال وهذا الفكر ما يبدعانه من معان يسوقها المفكر ويصوغها الشاعر ويهتدي بها الفنان؟
وهنا قد يستوقفني قارئ ليصرخ في وجهي قائلا: على رسلك يا أخانا؛ فقد شطحت بنا شطحا يضل ولا يهدي. إن قوله هذا إذا صح على ساكن الصحراء فكيف يصح على ساكن الوادي الأخضر؟ إننا حتى لو أخذنا بما قدمته إلينا من أن الوديان المزروعة وفي مقدمتها وادي النيل إن هي إلا واحات كبرى في الجسم الصحراوي العظيم، فهذا لا ينفي عن الواحة أنها واحة خضراء تختلف في طبيعتها وفيما توحي به إلى ساكنها، عن الصحراء ورمالها. ومثل هذا القائل يشبه من يجتزئ بقعة من رقعة أرض لينكر عليها صلاتها بما يجاورها؛ فكأن ساكن البيت الذي يطل على بحر أو على صحراء لا يتأثر بهواء البحر أو برمال الصحراء. إن الخط الرفيع الذي يفصل وادي مصر عن صحرائها هو نفسه الذي أظهر للمصري شدة الصلة بين الحياة الدنيا وحياة الخلد. لقد رأى المصري كيف يمكن أن يضع إحدى قدميه في أرضه المزروعة، وأن يضع الأخرى على أرض الصحراء؛ ليعلم علم اليقين أن النقلة من دار الحياة العابرة إلى دار الحياة السرمدية مداها خطوة قصيرة، فكان للمصري ما كان في حياته الثقافية، من دين ومن أدب وفن، مما أقامه على تلك العروة الوثقى التي تصل الدارين.
ومن هذا الانطباع الأول عن «اللامتناهي» تولدت عند «الصحراوي» نتائج تشكلت بها وجهة النظر العربية كان من أهمها وأعمقها أثرا ، فكرة العربي عن ديمومة «المبادئ» وثباتها. وأهم تلك المبادئ الثابتة الدائمة التي لا يجوز لها أن تتغير مهما تغيرت ظروف التاريخ، مبادئ الأخلاق. وهنا تجب علينا وقفة شارحة؛ فالإنسان في حياته العملية لا بد له من قواعد عامة يستعين بها على معرفة الطرق المأمونة للسلوك، لا فرق في ذلك بين إنسان العصر الحجري وإنسان الكمبيوتر والصعود إلى القمر، وتلك القواعد العامة الهادية إلى صور السلوك المأمونة من سوء العواقب هي ما يسمونها ب «مبادئ الأخلاق»، وما دام أمرها كذلك فإن الدنيا لم تعرف مجتمعا بشريا بغير أخلاق، لكن اختلاف جماعة من الناس عن جماعة، فيما يختص بوجهة النظر إلى تلك القواعد الأخلاقية يمكنهم في تصور كل منهما لحقيقة تلك القواعد ماذا تكون، وفي مصدرها الذي جاءت منه. أما هذا المصدر فقد تتصوره جماعة بأنه ما دلت عليه الخبرة البشرية فيما مضى من التمييز بين سلوك يضر وسلوك ينفع، وعن طريق هذه الخبرة تجمعت مجموعة من الصور السلوكية التي ثبت نفعها وسلامتها من سوء النتائج، فكانت هذه المجموعة هي «مبادئ الأخلاق». وهكذا كان للجماعات المختلفة وجهات نظر مختلفة عن المصدر الذي نبعث منه تلك المبادئ، يهمنا منها وجهة النظر «الصحراوية» - أو قل «العربية» - وهي أن مصدر تلك المبادئ الأخلاقية إنما هي ذلك «اللامتناهي» الذي رسخت صورته في القلوب، ثم تأيدت تلك الصور وازدادت رسوخا عندما نزل بها وحي من رب العالمين إلى الأنبياء والرسل لينشروها في الناس، حتى أصبحت الصور السلوكية المطلوبة لا تستند في صوابها على نفعها. نعم إنها بالفعل نافعة، لكن الذي يجعلها «مبادئ» هو أن نزل بها وحي من الله سبحانه وتعالى. وإنه لتنتج لنا نتيجة بالغة الأهمية عن هذا الموقف، وهي أن «مبادئ الأخلاق» لا تتبدل ولا تزول، في حين أن من اقتصر على جانب المنفعة في رؤيته للأخلاق مستعد لاستبدال مبدأ بمبدأ آخر إذا أثبتت له خبرة الحياة أن الصورة السلوكية القائمة لم تعد تصلح، فالعربي - إذن - متميز بجانبين؛ فهو أولا يجعل مصدر الأخلاق وحيا، وهو ثانيا يجعل مبادئها ثابتة لا تتحول ولا تتبدل. حتى إذا خيل للإنسان أن مبدأ معينا منها لم يعد يؤدي بالناس إلى منفعة ظاهرة، قال العربي إن الله أعلم من الإنسان بما ينفع وما يضر. وغني عن البيان أن نشير إلى الملاءمة الوثيقة عند العربي بين انطباعه باللانهائي من الكون الذي يحيط به، وبين ما يهديه إليه الوحي الديني من وجوب المبادئ الأخلاقية وجوبا لا يتغير بتغير الأحداث.
وعند هذه النقطة نختصر حديثنا في «المصري» موغلين به فيما قبل الفتح العربي الإسلامي، فماذا نجد في تاريخه الأسبق عن الرؤية الأخلاقية؟ أنراه من الجماعة التي أقامت مبادئها الأخلاقية على خبرة الحياة الماضية في هذه الدنيا؟ أم نراه من الجماعة التي تستمد رؤيتها الأخلاقية من انطباعها باللامتناهي، ومن اعتقادها - بالتالي - في خلود الحياة الآخرة؟ أظن أن الجواب واضح ليس فقط لمن «درس» التاريخ المصري القديم، بل هو واضح كذلك لمن «يحس» بروح ذلك التاريخ، فالعامل المصري القديم يعمل والفنان المصري القديم يبدع والمحارب المصري القديم يحارب، والوالد المصري القديم ينصح ولده، لا بما يتبدل خلال الحياة الدنيا من نفع أو ضرر، بل بما يرضي رب الخليقة يوم أن يكون حساب. وإننا لنرى على جدران المعابد المصرية القديمة صورة «الميزان» الذي سوف يوزن به الأعمال يوم الحساب، فها هي الرؤية «الصحراوية» للأخلاق لم يغير منها أن يكون في قلب الصحراء المصرية واد مزروع.
المثل الأعلى عند العربي - إذن - هو ثبات «المبادئ» التي على أساسها يحكم على سلوك الإنسان بالاستقامة أو الانحراف، وهو ثبات مستمد من الحقيقة الكونية كما ينطبع بها ساكن الصحراء، ثم جاءت الرسالات السماوية لتؤكده. وأود هنا أن أعيد القول مرة أخرى، دفعا للخلط الذي كثيرا ما يقع في ظنون الناس، بأن القيم الأخلاقية ذاتها لا يكاد يختلف عليها شعب مع شعب، لكن الاختلاف إنما يظهر عند عملية التنظير، فنسأل أولا عن مصدر القيم لنعلم من أين جاءت؟ وثانيا نسأل عن تلك القيم أيجوز لها أن تتغير مدلولاتها مع تغير الظروف؟ وموقف العربي في ذلك هو أن تلك القيم هي التي تحكم المتغيرات ولكنها لا تتغير معها، وأن مصدرها وحي السماء من ناحية، وما يتركه المشهد الكوني عند الإنسان من أثر ينطبع به.
ولعل سؤالا يعن للقارئ فيقول: كيف نزعم أن القيم الأخلاقية مشتركة بين سائر الجماعات الإنسانية - أو قل إنها تكاد تكون كذلك - ثم نقرر في الوقت نفسه بأن جماعة من الناس قد تقبل تغيير المبادئ الأخلاقية إذا استوجبت الظروف المتغيرة ذلك التغيير، وأن جماعة أخرى ترفض قابلية تلك المبادئ لمثل ذلك التغيير؟ والجواب الذي يزيل قسطا كبيرا من هذه المفارقة هو أن «أسماء» القيم الأخلاقية لا اختلاف عليها؛ فليس هنالك على وجه الأرض من يوصي - عن مبدأ - بالخيانة والقتل، والسرقة، والأنانية ... إلخ؛ فالكل مجمع على وجوب الأمانة، وحق الحياة وحق الملكية والتعاون ... إلخ. لكن هذه الأسماء - لحسن الحظ - ليست محددة المعاني تحديدا كالذي نجده في المصطلحات الرياضية، المثلث والمربع والدائرة. ولقد كانت هذه المسألة نفسها هي ما تعرض له سقراط؛ إذ جاء ليرفع في عالم الفكر لواء «ترييض» الأخلاق؛ أي أن تحدد مفاهيم الأخلاق على نحو ما تحدد مفاهيم الرياضة حتى لا يتعرض الناس لفوضى الفهم؛ وبالتالي يتعرضون لفوضى السلوك. وأحسب أن المسألة ما زالت تغري بالتعرض لها، وأما من الوجهة العملية فالضرورة تقضي بمرونة المعنى لأنه لا أمل في دقة رياضية لهذه الأسماء القيمية. خذ - مثلا - حق الملكية؛ فإذا أقررنا هذا الحق للإنسان فهل يجوز لرجل واحد - تبعا لذلك - أن يترك ليملك العالم إذا أوتي القدرة على ذلك، أو أن هناك إدراكا فطريا عند الإنسان يوجب وضع الحدود والقيود؟ وإذا أنكرنا حق الملكية على الأفراد - كما تتصور الشيوعية - فهل تصل بهذه الأفكار حدا يحرم الفرد من ملكية ثيابه؟ أو أن هنالك إدراكا فطريا عند الإنسان يوجب أن يترك للفرد حد أدنى من أشياء يتملكها؟ وهكذا قل في شتى القيم من حيث ثباتها وتغيرها، فلا الذي يؤمن بوجوب ثباتها «كما هي الحال بالنسبة إلى الرؤية العربية» يريد بذلك الثبات أن يؤخذ على إطلاقه كما نفعل مع مفاهيم الرياضة، ولا الذي لا يمانع في تغيير المبادئ الأخلاقية إذا تغيرت الظروف بحيث لم تعد تلك المبادئ صالحة لها، يريد بذلك أن تمحى «القيم» محوا، بل يريد أن تفهم على أسس تزيد من مرونتها حتى تتلاءم مع الأوضاع الحضارية المستحدثة.
ومثل هذا الثبات الذي تزيد فيه الدرجة أو تقل مع ظروف الواقع هو الذي نعنيه حين نجعله صورة مثلى أمام العربي. وإننا لنضغط هنا على عبارة «صورة مثلى» لأن القارئ قد ينظر إلى واقع الحياة العربية، فيرى حياة العربي - على وجه الإجمال - بعيدة بعدا شديدا من ذلك المثل الأعلى. لكن ثقافات الشعوب إنما تقاس بأهدافها، وليس بواقعها في مراحل ضعفها، كالرجل القوي تصيبه علة فتلزمه الفراش حتى يشفى، فلا تزول عنه صفة «القوة» تأسيسا على فترة مرضه.
ولا نريد أن نترك هذه الخاصة الخلقية من خواص الرؤية العربية دون أن نثبت حقيقة لغوية تلفت النظر عند من يمعن النظر في اللغة العربية؛ فعندئذ يجد في الأسماء الدالة على علاقات اجتماعية، بعدا خلقيا كامنا في صميم معناها، مما يدل على عمق النظرة الخلقية عند العربي؛ فكلمة «صديق» تقيم في صلب حروفها صفة «الصدق» كأنما يراد القول بأن «الصدق» شرط أساسي للصداقة، وكلمة «جار» تحمل في صلب مبناها أن «يجير» الجار جاره إذا استجار، وإلا بطل معناها، وكلمة «صهر» تحمل في معناها صفة «الانصهار» فإذا لم يكن هناك قابلية أن تنصهر الأسرتان عند الزواج - أعني أسرة الزوج وأسرة الزوجة - كان ذلك معناه امتناع التكافؤ، وكلمة «مرء» تقضي بحكم حروفها أن تكون «المروءة» صفة للإنسان، وكلمة «أمة» تشارك بحروفها كلمة «أم» مما يقضي أن تكون الروابط بين أبناء الأمة الواحدة هي نفسها روابط الرحم وهكذا وهكذا.
هذا الذي أسلفناه عن الوقفة الأخلاقية عند العربي، والتي هي مستوحاة في المقام الأول من روح «الصحراء» في لا نهائيتها البادية وفي ثباتها النسبي، إنما يبين للقارئ جانبا واحدا من جوانب «العروبة» كما ينبغي أن تعيها؛ فالعروبة في جوهرها «موقف » من الكون ومن الحياة، يتميز مما عداه من مواقف تقفها الثقافات الأخرى. لسنا بذلك نريد أن نفاضل بين ثقافة، وثقافة، ولكننا نميز ثقافة عما عداها؛ فليست العروبة دالة على عرق معين، بل هي اسم يشار به إلى مركب ثقافي معين من شأنه أن يهيئ لمن يتشربه ويعيش تحت مظلته «موقفا» يستلهمه عند ردود الفعل، كلما صادفه على طريق الحياة العملية حدث مثير. وننتقل إلى جانب آخر من جوانب ذلك الموقف العربي، وهو «الذوق» الفني، وسنرى أن العربي قد استوحى من الصحراء قيمه الجمالية في دنيا الفن، على نحو ما استوحى قيمه الأخلاقية كما رأينا؛ فلا يزال «المفتاح» هو نفسه المفتاح، وأعني انطباع ساكن الصحراء باللانهائية وبالثبات النسبي، فكيف ترى أن يصاغ «الذوق» الفني نتيجة لهذا الانطباع؟ إن أول ما يقفز إلى الخاطر قفزا جوابا عن هذا السؤال هو أن يكون مدار الإبداع الفني «صورة مجردة» قبل أن تنصب العناية على تحليل الأفراد؛ ومن هنا جاء الأدب العربي القديم أبعد ما يكون الأدب عن فن الرواية أو فن المسرحية كما عرفهما الغرب، وعرفناه نحن حديثا عن الغرب، ولا عجب إن رفض العرب ترجمة الأدب اليوناني القديم بمسرحياته وملاحمه - عندما ترجموا كل ما عداه من فلسفة وعلم. لقد كان المرحوم توفيق الحكيم في مقدمته المستفيضة التي قدم بها مسرحية «أوديب» قد طرح هذا السؤال: لماذا لم ينتج العربي أدب المسرح؟ ثم حاول الجواب وعرض عدة إجابات ممكنة، لكنه نقدها جميعا ليستقر هو على ما ظنه الجواب الصحيح؛ وهو أن العربي بدوي يرتحل من منتجع للكلأ إلى منتجع، فلا تمكنه حياته تلك من القرار في مدينة ولا مسرح إلا حيث الحياة مستقرة في مكان. وحدث لكاتب هذه السطور أن قرأ تلك المقدمة عند ظهورها ونشر ردا عليها يذكر منه الآن أن الاستقرار في مدن قد توافر للعربي طوال العصر الإسلامي؛ في بغداد، ودمشق، والقاهرة وغيرها من العواصم الكبرى، فلماذا لم ينشأ المسرح عندما توافرت له الظروف المستقرة؟ وأما التعليل الصحيح في ظن كاتب هذه السطور فهو أن العربي - عن مبدأ - يتعلق بالكلي المجرد أكثر جدا مما يتعلق ب «الأفراد» والمسرح، «وكذلك الرواية» بضاعتها أفراد من الناس يتفاعلون فتظهر لكل منهم شخصيته المتفردة بخصائصها خلال ذلك التفاعل.
ولا شك أن معظم الطاقة الفنية عند العرب الأولين، قد انصب على الشعر. إذن فلنمعن النظر إلى فن الشعر العربي لنلمح أخص خصائص الإبداع عند الفنان العربي، فأما من حيث الشكل فأول ما يستوقف السمع - بالطبع - تكرارا نمطيا لتفعيلات بينها مع تكرار قافية واحدة، فما الذي أوحى للعربي بهذه الصورة في إبداعه؟ أوحى بها إليه ما قد انطبع به من الواقع الكوني الذي يحيط به، وأعني طبيعة الصحراء في لا نهائيتها البادية، وفي ثباتها الظاهر. إن القصيدة العربية تعرف كيف تبدأ ولا تعرف كيف تنتهي، تماما كما يدير الإنسان بصره في أرض الصحراء وفي سمائها؛ فليس هنالك الجبل الذي يصد سرحة البصر ولا الجدار الذي يحبسها. إن تلك السرحة تبدأ جولانها من نقطة معينة ولا يوقفها إلا ضرورات الشاعر نفسه، كأن يمل السير أو أن يضعف دون المضي فيه، أو أن الزمن يعاجله، إلى القارئ الذي يكرر قافية القصيدة بيتا منها بعد بيت عندما يصل إلى القافية الأخيرة في البيت الأخير، لا يحس عندئذ بأن انتهاء رحلته قد فرضتها الضرورة، بل يحس إحساس من وقف أثناء رحلته ليستريح ثم يستأنف الحركة إذا وجد ما يسعفه. ألست ترى في هذه الحقيقة الفنية في الشعر العربي - إذا كنت قد أصبت في تصويرها - انعكاسا لطبيعة الصحراء عند من يدير البصر في فسيح آفاقها.
أتظن أن الشاعر العربي إذا وصف ناقته أو جواده، وإذا تغزل في عبلة أو في ليلى، كان يريد حقا أن يصف الكائن المفرد المعين الذي يعنيه؟ لا، ليس هذا ما يظنه هذا الكاتب على الأقل، بل إن الشاعر العربي في كل حالاته تلك إنما يصف ما يراه المثل الأعلى للجواد أو للناقة أو للمرأة؛ لأنه في عمق أعماقه متعلق بالمثال المجرد، لا بالمثل الجزئي مما يرى على الأرض؛ وذلك استلهاما لديمومة الحقيقة الصحراوية التي تحيط به، فهو مؤمن في حياته الفنية، كما هو مؤمن في حياته الدينية بأن «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك» فلماذا يحصر فنه الشعري - وغير الشعري - في زيد كما يحيا أو في عمرو كما يعيش؟ إنه يتكئ على هذا الفرد أو ذاك، على هذا الطلل أو ذاك، على هذه الواقعة الجزئية أو تلك لينفذ منها إلى ما هو أقرب إلى المثال الأفلاطوني في الموضوع الذي يعالجه. تلك هي «العروبة» في خصائصها، والعربي هو من تجسدت فيه تلك الخصائص.
2
ختمنا حديثنا السابق بلمحة سريعة عن الشعر العربي، وكيف تجيء نمطية أوزانه وقوافيه انعكاسا لروح الصحراء كما ينطبع بها ساكنوها، وذلك من حيث الشكل. وأما المحتوى الوجداني فهو كذلك يأتي وكأنه الصدى للانهائية والدوام، اللذين يراهما ويحسهما ساكن الصحراء في الحقيقة الكونية التي تحيط به، فالفلاة اليوم هي الفلاة بالأمس، وكثبان الرمال هي الكثبان، ونجوم السماء والشمس والقمر، هي النجوم والشمس والقمر، كل شيء مسطور أمام العين في وضوح؛ فقلما تغيم السماء لتحجب الرؤية، وقلما يشبع الهواء برطوبة تتغير بها ملامح الأشياء؛ ومن هنا كان تعلق الشاعر بالمثال لا بالمثل؛ فالكائن الجزئي المفرد، كهذا الجواد، وهذه الناقة، وهذه الحسناء، لا يقف الشاعر عند فرديتها وخصوصيتها، بل ينفذ منها إلى ما يكون عليه مثلها الأعلى كما يتصوره خياله؛ فالأفراد يجيئون ويذهبون، يولدون ويموتون، وأما المثال الكامن وراءها فثابت دائم لا يتحول ولا يزول، فقد أصاب من قال عن إيوان كسرى الذي وصفه البحتري في قصيدته السينية، قد بقي على الدهر من حيث هو شعر في ديوان، لكنه سرعان ما زال من حيث هو قصر وإيوان. ربما قيل هذا عن كل شعر وكل فن، في المقارنة بالأشياء التي دار حولها ذلك الشعر وهذا الفن، لكنه في ظن هذا الكاتب، يتمثل في الشعر العربي أكثر مما يتمثل في سواه، وذلك للسبب الذي ذكرناه، وهو أن الشاعر العربي - عن مبدأ وفطرة - يتجه بخياله نحو «المثال» خلال «المثل»، وتلك هي خصيصة من خصائص العروبة؛ فهكذا توحي الصحراء لأبنائها، والصحراء هي مسرح العربي أينما كان، فيما تمتد به الرقعة بين المحيط الأطلسي والخليج العربي.
ولم تقتصر هذه الخاصة العربية على الشعر، بل جاوزته لتشمل ضروب الفن رسما وزخرفة. وانظر إلى الرسوم على السجاد، أو حيثما جاءت، تجد الفنان يكتفي مما يصوره - طائرا، أو غزالة أو شجرة - بالخطوط الهيكلية التي تحدد الإطار، وقلما يعنى بتفصيلة من تفصيلات الجسم، وذلك لأنه يحاول أن يستصفي من الشيء «فكرته» أو «روحه»؛ لأنها هي التي يكتب لها الدوام، فكأن الفنان العربي قد أراد أن يرسم «النوع» وليس فردا من أفراده، و«النوع» ذو ثبات ودوام، وأما أفراده فإلى زوال. ولنلحظ في هذه المناسبة، أن ذلك هو الفرق دائما بين دنيا الكائنات الجزئية كما تقع على حواسنا، وعالم «الأفكار» كما يرتسم في رءوس العلماء؛ فالعلماء يحيون مع جمهور الناس في دنيا الأشياء، يبيعونها ويشترونها، ويأكلونها ويلبسونها، ويرونها بالأعين ويمسونها بالأيدي، لكنهم - دون جمهور الناس - يستخلصون من تلك الأشياء ما قد جسدته من أفكار، ليجعلوا هذه الأفكار بعد ذلك موضوع اهتمامهم، يخرجون منها القوانين العلمية التي بفضلها يمكن للإنسان بعد ذلك أن يرتد إلى دنيا الأشياء فيلجمها ويسخرها لخدمة أهدافه.
وشيء كهذا يحدث أيضا في الإبداع الفني؛ فالفنان - مهما يكن وسيطه الفني صوتا أو لونا أو كلمة - هو أيضا يعيش مع جمهور الناس في دنيا الأشياء، لكنه - دون جمهور الناس - يستخلص من تلك الأشياء سرها الذي هو جوهر حقيقتها، ثم يعود فيجسد ذلك السر فيما يبدعه من ألوان الفن. وإنه لفي مقدور المدرب المتمرس، أن يسمع معزوفة موسيقية، فيقول: هذه موسيقى عربية، أو أن يرى صورة فنية فيقول: هذا فن عربي، أو أيا ما كان انتماؤه، وكذلك قل في سائر الفنون، لماذا؟ لأن الفنان الأصيل يتشرب حياة أمته حتى لكأنها تجري في دمائه، ثم تلهمه الموهبة الفنية شكلا ما، ليبث فيه ما كان قد تشربه وتمثله. وهكذا يكون الفرق بين الحياة وهي «معاشة» والحياة وهي مقامة في مبدعات الفن والأدب. ولكم عجب هذا الكاتب من رجال نضعهم في حياتنا الثقافية في مكان الريادة، يخلطون بين هذين الظرفين؛ الحياة كما يعيشها الناس من جهة، والحياة كما يعرضها الإبداع الفني والأدب من جهة أخرى. ويظهر هذا الخلط أكثر ما يظهر عندما يدور الحديث حول «الثقافة» ومعناها، وعندئذ قد يصادفك من يقول - وكأنه قد اكتشف قارة جديدة - إن الثقافة هي مجموع ما يعيش به الناس من طعام، وثياب، ومسكن، وطريقة حكم وطريقة بناء الأسرة، وعقيدة دينية إلى آخر هذه المكونات التي تتجسد في حياة الناس العملية، أما الفنون والآداب والفكر فأمور قد تهم قلة قليلة، لكنها في عزلة عن الحقيقة المعاشة. والذي يفوت هؤلاء - هو كما ترى - الفرق بين الجانبين؛ فهذه هي حياة كما يعيشها الناس من جهة وبين هؤلاء الناس أصحاب موهبة في فن أو أدب، ثم تلك هي - من جهة ثانية - انعكاسات الحياة المعاشة في مبدعات لا تشبه في ظاهرها ما هو معاش بالفعل، لكنها تخليص لسرها وجوهر حقيقتها. ويعتقد هذا الكاتب أننا لو أدركنا في وضوح ذلك الفرق بين الطرفين لتقلصت إلى حد كبير دعوى الدعاة إلى «ثقافة جماهيرية» إذ ماذا يكون معناها، اللهم إلا في دنيا الكلمة؟ افرض أن بين أيدينا مجموعة مما أبدعه كبار رجال الفن والأدب عندنا؛ قطعة موسيقية لعبد الوهاب، ورواية لنجيب محفوظ، ولوحات لصلاح طاهر ... فقل لي بالله كيف أبسط هذه المبدعات لتصبح ثقافة جماهيرية؟ إن كل ما يطلب منا عندئذ هو أن نبين للجماهير كيف ترى حياتها التي تحياها مكثفة ومبلورة في تلك المعزوفة، أو الرواية أو اللوحة.
ولم يشذ الفنان العربي عن دستور أي فنان وكل فنان، فكان أن استخلص في فنه روح الحياة العربية، فإذا أردنا - إذن - أن نرى «العروبة» في جوهرها وصميمها، فلنمعن الفكر في مبدعات الفن العربي، وسوف تمثل أمامنا عندئذ صفة تميز العربي في رؤيته للكون والحياة، فإذا كان العربي قد انطبع من محيطه الكوني بفكرة اللامتناهي والثابت والدائم، فماذا يكون الفن الذي يوضح هذه الرؤية ، إذا لم يكن هو الفن الذي يستخدم أسلوب «التجريد» إلى أقصى درجاته، وأقصى درجاته هي الأشكال الهندسية من مثلثات ومربعات ودوائر وما إليها؟ وهكذا كان، فالزخارف الفنية في الفن العربي سواء أكانت على جدران المساجد والمساكن، أم كانت نقوشا على خزف أو خشب، أو نحاس تقام في معظمها على أسس هندسية، فنعيد هنا ما قلناه عن تصاوير الطيور والغزلان والنبات عند الفنان العربي، أنه قد استهدف «الفكرة» الكامنة في الشيء ولم يستهدف جسده المادي، أو هو بعبارة أخرى قد بحث عن الثابت وراء المتغير وبحث عن الدائم الذي يسقط من حسابه ما يزول ويفنى. وتلك هي «العروبة»، وذلك هو موقفها من الحياة وأحداثها.
إن رؤية العربي لحقائق الوجود من حوله، تجنح به نحو التجريد الذي أشرنا إليه، تجريدا يزيل به القشور العارضة في سبيل الوصول إلى اللب والصميم، وهو تجريد قد يبلغ به - كما رأينا - حد التجريد الهندسي في إبداعه الفني؟ وإن شيئا يوحي بتلك النزعة الهندسية، يستوقف أسماعنا في العبارة العربية البليغة؛ فها هنا يجد قارئ الأدب العربي نفسه وكأنهما هو إزاء أنغام من معزوفة موسيقية أحكم بناؤها حتى لينسى أنه أمام «كلمات» من اللغة جاءت لتحمل إليه مضمونا ذا «معنى». ولقد يساء استخدام هذا الجانب المنغوم في تركيب العبارة العربية إساءة تجعل الكاتب يرص نغمات تطرب السمع وتخلو من المعنى. لكننا نتحدث هنا عن البلاغة العربية على أيدي أربابها الذين يعرفون كيف يرسلون جواهر المعاني على أجنحة النغم. وما أكثر ما يختلط الأمر بين الحالتين عند العاجزين فتجري أقلامهم بلفظ منغوم ثم لا معنى! وقد يحدث الخلط عند آخرين على صورة أخرى حين يخدعهم وهم بأنه إذا أراد الكاتب «معنى» فلن يحمل له ذلك المعنى إلا لفظ منفر قبيح. بيد أن الفرق بين الحالتين؛ حالة اللفظ المنغوم المثقل بالمعنى، وحالة اللفظ المنغوم الأجوف، هو كالفرق بين إنسان قوي فتي، وإنسان هزيل كسيح؛ فهما متساويان في ظاهر الأعضاء، وأما «الحياة» الكامنة في تلك الأعضاء فشتان ما بين صحة ومرض .
تلك ملاحظة عابرة حتى لا نخلط في الظاهرة الواحدة بين قوة وضعف. ونعود إلى ما كنا بصدد الحديث عنه، وهو أن المزاج الفني عند العربي يميل به إلى التجريد، وعلة ذلك أن الفكرة أو الصورة المجردة أبقى على الدهر من المفردات الجزئية العينية. والتجريد بدوره إذا ما بلغ حده الأقصى، أو ما يدنو به من حده الأقصى، كان في صورة رياضية أو ما يشبهها. وإن هذا الكاتب ليزعم بأن بلاغة العبارة العربية كثيرا جدا ما تقتضي ضربا من النظم الموسيقي، - سواء أكان ذلك النظم المنغوم ظاهرا أم مستترا - وأذكر في هذا السياق يوما بعيدا بعيدا كنت فيه مع صديق نقرأ صفحة من كتاب للدكتور طه حسين، «وقد نسيت ما هو»، فلفت سمعنا نغم في العبارات المتتابعة كالموج الهادئ، فأعدنا القراءة وكأنما نطقت شفاهنا في لحظة واحدة فرحة، لنقول إنها أسطر سبكت كل كلماتها في التفعيلات من عروض الشعر العربي. ولم يكن الكاتب - بالطبع - قد قصد عامدا أن يجري كلماته في تلك التفعيلات، ولكن القلم البليغ يسيل بسبائك اللفظ كما تسيل الأوتار بأنغامها.
وقد ترجح عند الأديب العربي أو الفنان العربي، تلك النزعة «الهندسية» حتى لتجاوز حدودها فيطغى القالب على حشوه، كما هي الحال (في رأي هذا الكاتب) في أدب «المقامات» وكما هي الحال أيضا في كتاب «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعري. على أن «المقامات» والفصول والغايات فيها قوة زادت عن حدها حتى أصبحت كعضلات المصارعين أو حملة الأثقال في عالم الرياضة البدنية. لكن تضخم النزعة الهندسية في الكتابة الأدبية قد يجيء على صورة المريض بالورم أو بالبدانة المترهلة، كما قد حدث عند أصحاب النثر المسجوع في فترات الركاكة والضعف.
ونزوع العربي نحو التجريد في فكرة وأدبه وفنه، قد أدى به إلى ميل شديد نحو تكثيف المعنى الكبير في أقصر عبارة ممكنة. ومن هذا التكثيف نشأت عنده الأقوال الحكمية التي يسهل حفظها ويكثر دورانها على الألسنة في أحاديث الناس العابرة. والشعر العربي مليء بالأبيات التي تحمل الحكمة منظومة، فتزداد سهولة حفظها وكثرة دورانها فضلا عن جمال لفظها. وقد يضاف هنا - إذا أردنا تعليل هذه الظاهرة - أقول قد يضاف إلى نزعة التجريد الهندسي كثرة التجوال في حياة العربي قبل أن يستقر في مدن، كأنما أراد أن يضع خبرته في أقراص صغيرة ليسهل حملها في ترحاله المتصل. ولقد قرأت لابن جني في كتابه «الخصائص» تعليقا يلفت النظر يقول فيه إن آيات القرآن الكريم إذا وجهت الخطاب إلى العرب أوجزت العبارة في لفظ قليل، وأما إذا وجهت الخطاب إلى بني إسرائيل، فهي تطيل. وإذا صح هذا التعليق، كان مؤيدا لما ذكرناه عن المزاج العربي في صياغته لفكره وأدبه وفنه.
اللغة هي نفوس أصحابها وقلوبهم، وعقولهم جميعا، هي مرآة حياتهم في ظاهرها وفي باطنها معا. إنه لولا اللغة لاندرج الإنسان مع الحيوان الأعجم في عالم البكم. وإذا لم تكن للإنسان لغته فماذا يكشف عن حقيقته حيا ناطقا عاقلا عالما شاعرا؟ إنها هي حياة الفرد موصولا بسائر الأفراد في يومه، وهي حياته موصولا بأسلافه في تاريخ واحد، وهي حياته موصولا بأبنائه وأبناء أبنائه إلى ما شاء الله للأمة أن يمتد بها تاريخ. إلا أن الكون ليصبح كله كتلة حين الصمت لولا كلمتان؛ كلمة الله جل وعلا، وكلمة الإنسان. إن الكلمة إذ تشرف وتسمو تصنع القديس والعالم والشاعر والفيلسوف، وهي إذ تسفل بفحشها تصنع الفجار. لقد بدأت الإنسانية بآدم عليه السلام، وبدأ آدم بأسماء الكائنات علمه إياها ربه ليملك بها زمام مسمياتها؛ فالعلم بالاسم هو في الأساس علم بطبيعة مسماه. وإذا عرف الإنسان طبيعة شيء فقد عرف كيف يتحكم فيه ويسخره؛ ومن هنا كانت للغة البشرية قوتها وسلطانها.
والحديث عن اللغة وصلتها بأصحابها روحا وعقلا وقلبا ووجودا وعدما، حديث يطول، فماذا - إذن - يمكن أن يخرج الناطق بالعربية عن عروبته؟ إن اللغة العربية - كأية لغة أخرى ولا سيما اللغات التي صحبتها حضارات - ليست عند من يحيونها علما وفكرا وأدبا، مجرد أصوات تلغو بها الألسنة والشفاه نسمعها كما نسمع خشخشة الحصى أو كما نسمع زقزقة العصافير، بل هي أنفس وقلوب وعقول تحولت باللغة من باطن إلى ظاهر، فإذا قرأت علما فأنت إنما تطالع «عقلا» توقد في دماغ صاحبه، وقد سلك نفسه في لغة لتراه. وإذا قرأت شعرا، فإنما هذا الذي تقرؤه هو «قلب» الشاعر وقد وضع نبضاته في كلمات لتسمعها. وماذا تكون «العروبة» إذا لم تكن ضروبا من فكر ومن وجدان تجلت بعد خفائها في صدور أصحابها، تجلت في رموز لغوية خلقت لتحملها ولتعرضها على الأبصار والأسماع؟ وفي اللغة العربية - عند تحليلها - صفات تفرعت عن جذع واحد، وهي ما توحي به الصحراء لساكنيها، ليس فقط في اشتقاق أسرة كبيرة من المفردات تشتق كلها من أصل ثلاثي واحد. تماما كما تتكون في المجتمع الصحراوي عشائر وقبائل تلتقي كلها عند جد واحد، بل إن الأثر الصحراوي في اللغة العربية ليظهر كذلك فيما قد أسلفنا ذكره من نزوع نحو هندسة في بناء الجملة، عندما يرتفع الكلام إلى ذروة الفن الأدبي يشف لنا آخر الأمر عن إيقاع يتضمن شيئا يشبه الأشكال الهندسية، أو المعادلات الرياضية، شأن العربي في نزوعه نحو «التجريد» استلهاما للامتناهي الصحراوي الذي يحيط به ما امتد به البصر إلى أبعد الآفاق. أفيجوز بعد هذا لكاتب أو شاعر أن يتنصل من أصول صحراوية هي ماثلة في كل ما قد أجرى به القلم؟
إن كاتب هذه الكلمات ليشعر بما يشعر به كل مصري واع بمصريته، وعيه في الوقت نفسه بعروبته؛ فهو لا يريد لمصريته أن تمحى بعروبته، كما لا يريد لعروبته أن تتنافى مع مصريته. على أنه في هذا الذي يريده لا يرضى لنفسه أن تؤخذ الأحكام قسرا واعتباطا ويلتزم أمام عقله بأن يبحث عن الأسس القوية التي يستند إليها حين يزعم أن عروبة المصري ليست شيئا طارئا جاء إليه مع الفتح العربي في أوائل القرن السابع الميلادي، اللهم إلا اسم العروبة، وأما الجوهر فهو هو الجوهر الذي بنيت عليه ثقافات الرقعة الجغرافية التي هي الوطن العربي الكبير حيث تمتد الصحراء - بكل ما فيها من أقاليم اخضرت بزرعها - فأوحت طبيعة ذلك الامتداد الصحراوي بما أوحت به من رؤية عامة، هي التي أنتجت لغات المنطقة كلها بأصول مشتركة أو متشابهة، كما أنتجت نمطا عاما مشتركا أو متشابها في البنية الاجتماعية وفي الفكر وفي الأدب وفي الفن جميعا. وإن هذا الكاتب ليود - قبل أن يستطرد به الحديث - أن يذكر القارئ بحقيقة عن نفسه ذكرها في حديثه السابق، وهي أنه لبث عقدين من الزمن - أو قل ما يقرب من ثلاثة عقود - متأثرا بما كان قد قرأه شابا لأعلام الفكر في مصر، بأن المصري إذا أراد عودة إلى أصوله الثقافية وجب عليه أن يرتد إلى العصر الفرعوني - وليس إلى الأصل العربي، وكأن الفكرتين متناقضتان - لكنه أعني هذا الكاتب يحمد الله حمدا كثيرا أن أشرقت عليه الحقيقة فيما بعد ناصعة الوضوح، وهي ألا تناقض من حيث الأساس، بين الوقفة الثقافية التي وقفها المصري القديم، والوقفة التي وقفها بعد ذلك في أي عصر من عصور تاريخه، مع تحفظ ضروري وهو أن ثبات الإطار الواحد المعين، لا ينفي أن ينخرط في هذا الإطار الثابت مضمونات حضارية مختلفة.
إنه لا جدال في أن لكل فرد من الناس هويته التي يجب أن يتحقق لها شرطان ليظل ذلك الفرد هو ما هو على مدى سنوات عمره، مهما تغيرت أحداث حياته وتطوراتها، وإذا لم يكن الأمر كذلك - كما هي الحال مع بعض الأمراض النفسية - وجب أن يعرض الأمر على طبيب مختص. وما يقال عن الفرد الواحد من الناس، يقال مثله على الأمم والشعوب؛ فالأمة المعينة - أو الشعب المعين - لم يكن ليصبح ذا تاريخ إلا إذا ظل الشعب على ثبات في هويته - أو ظلت الأمة المعينة على ذلك الثبات - برغم تكاثر الأحداث وتقلبات العصور. وأما الشرطان اللذان يجب أن يتوافرا للهوية لكي تثبت على وحدانيتها فهما: أولا أن تتألف من كثرة عناصرها وحدة تجعل منها كيانا عضويا موحدا في كل لحظة أو في كل فترة من تاريخها، بمعنى أن يكون لها هدف موحد تتجه إليه بمختلف أعضائها ومختلف مناشطها؛ فالهدف الواحد من شأنه أن يستقطب كثرة الأفراد وكثرة العناصر وكثرة المواهب وكثرة الأعمال بحيث يجعل تلك الكثرة العددية نسيجا متصلا. وأما الشرط الثاني فهو استمرارية تلك الوحدة اللحظية على طول الزمن. وما أكثر ما كتبه الفلاسفة في هذين الشرطين؛ شرط الوحدة اللحظية وشرط الاستمرارية والصمود، عندما تناولوا مشكلة الهوية! ولعلها من أعقد المشكلات التي تستعصي على التعريف والتحديد. وإني لأستغفر الله إن كنت أجاوز الحدود المشروعة حين أشير هنا إلى الآيتين الكريمتين الخاصتين بالذات الإلهية وهما
قل هو الله أحد * الله الصمد
ففيهما تتوافر الصفتان اللازمتان لوحدانية الذات؛ فالأحدية تعني اتساق الصفات الإلهية المتمثل بعضها في أسماء الله الحسنى. ولقد كان مما تناوله المفكرون الإسلاميون منذ القرن الثاني الهجري فصاعدا، التوفيق بين كثرة الصفات الإلهية ووحدانية الذات. وأقل ما يقال في هذا السبيل هو أن يكون بين مجموعة الصفات - على اختلافها - تآلف يوحدها في ذات واحدة. على أن يضاف إلى ذلك التوحد «صمود» يجعله توحدا من الأزل إلى الأبد، وذلك كله إنما يتحقق بالنسبة إلى الذات الإلهية على صورة مطلقة لا استثناء فيها، لكنه كذلك مطلوب له أن يتحقق على صورة نسبية ومحدودة في الذات الإنسانية، فردا كان أم كان شعبا أو جماعة يراد لها أن تكون موحدة الكيان.
وهكذا ننظر إلى الشعب المصري في إطاره التاريخي، فنراه من أكثر شعوب الأرض تحقيقا للشرطين اللذين يكفلان للهوية قيامها؛ فقد كان موحد الروح في كل فترة من فترات تاريخه، ثم كان على صمود في وحدته تلك عبر العصور المتعاقبة. ونقول ذلك استنادا إلى آثاره التي تدل على تعاون؛ فأعماله الخالدة من الصنف الذي لا تنجزه يد واحدة. ومع ذلك ففي أمثال هذه التعميمات الواسعة يكفينا رجحان الصواب إذا امتنع اليقين، وأرجح الظن أنه عندما جاء الإسلام إلى مصر فأسلمت، وجاءت العربية فتعرب لسانها، لم يكن انتقالها من القديم إلى الجديد صدمة نفسية ثقافية، بقدر ما كان انتقالا سهلا ميسرا؛ إذ جاءت العقيدة الدينية إلى شعب متدين تدينا مبرأ من الوثنية منذ آلاف السنين ، وكانت اللغة الوافدة من الأسرة اللغوية نفسها التي تسود هذه المنطقة الجغرافية جميعا، مع اختلافات نوعية بين لغة منها ولغة؛ فاللغة المصرية القديمة (ولا أعني الكتابة - الهيروغليفية) قائمة على الأسس التي تقوم عليها اللغات المجاورة (كما قرأت في نتائج الأبحاث العلمية التي اضطلع بها نفر من علماء «المصريات الفرعونية»). إذن فمن الناحية الدينية كان المصري منذ قديم مؤمنا باليوم الآخر وما فيه من حساب، وكانت الأسس الأخلاقية التي يحيا حياته على هداها والتي يحاسب يوم القيامة على ميزانها، هي الأسس التي تتعلق بها المثل العليا. وأما من الناحية اللغوية، التي لها أبلغ الأثر في صياغة العقل والوجدان معا فالتشابه بين القديم والحديث أشد من أن يغض عنه النظر، فإذا قلنا إن «عروبة» المصري إنما أخذت اسمها هذا منذ كانت فيها «عربية» فلا بد أن نضيف إلى هذا القول استدراكا يؤكد أن «مضمون» العروبة الثقافي كان مصريا منذ عرف التاريخ مصر؛ فحضارتها كانت في المقام الأول حضارة دين وأخلاق وفن، تدور جميعا حول فكرة الحياة الآخرة.
على أن ثبات الهوية لحاملها - فردا كان أم شعبا - وهو الثبات الذي نزعمه للمصري، قبل الفتح العربي وبعده، في امتداد واحد متصل، أقول إن ثبات الهوية هذا لا ينفي أن يكون ثباتا في ركائز البناء. وأما ما يقام على هذه الركائز من مضمون حضاري، فلا بد له أن يتغير مع تغير الحضارات، وإلا فلو جمد المضمون مع الركائز على صورة واحدة فلن يكون بمنجاة من فناء كالفناء الذي محيت به فصائل الديناصور. وقد كان لهذا الحيوان القديم من الضخامة ما ينافس به ضخامة الهرم الأكبر زال بسبب تلك الضخامة نفسها، التي لم تعرف كيف تصطنع خفة الحركة عندما جاء عصر جديد يقتضي الحركة الخفيفة السريعة، فذبل المسكين في مربضه وذوى وأصبح في ذمة التاريخ، تاريخ الحيوان.
3
أراد الله لهذه الرقعة المباركة من الأرض، التي أصبحت في عصرنا الراهن يشار إليها باسم «الشرق الأوسط»، أن تكون مهبط الوحي الديني لكل ما عرفه الإنسان من ديانات ينزل وحيها من السماء على نبي أو رسول، ولا بد أن يكون لذلك معناه ومغزاه. وربما كان ذلك كذلك لأنه لبث حينا من الدهر معمورا وحده بحضارات أو ما يشبه البدايات الأولى لقيام الحضارات، أو ربما كان ذلك لأنه - كما أسلفنا القول في أحاديثنا السابقة - رقعة من الأرض نشأت فيها وديان خصبة اخضرت بزرعها وعمرت بأهلها في وسط صحراوي فسيح الأرجاء، يوحي لسكانه بفكرة اللامتناهي الثابت الدائم، مما هيأ هؤلاء لتقبل الوحي الديني من إله واحد أحد صمد لا تحده حدود. وأيا ما كان التعليل، فهذه حقيقة تاريخية نقبلها ونقيم عليها النتائج، وهي أن أبناء هذه الأرض المباركة «تدينوا» بدين منذ فجر التاريخ، لم يكن عن وحي إلى نبي أو رسول حينا، وكان وحيا إلى نبي أو رسول حينا آخر، لكنه كان في كلتا الحالتين يقيم بنيانه على أسس من «الأخلاق» لينضبط بها سلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا، تمهيدا لمحاسبته يوم الحساب في الحياة الآخرة.
فلئن كان عصر الناس هذا قد جعل «العلم» أساسا للبناء الحضاري، ثم تأتي بعده سائر فروع الحياة الثقافية من دين وأدب وفن، وكأنما أتت تلك الفروع كالتوابع لتخدم العلم وتنتسب إليه، فإن الحضارات السابقة، وفي مقدمتها ما ظهر منها في إقليمنا - إقليم الشرق الأوسط - قد جعلت «الدين» (وإذا قلنا «الدين» فقد قلنا «قواعد الأخلاق») أساسا للبناء الحضاري، ويأتي «العلم» بعد ذلك ليؤدي دوره في ذلك البناء، فلما جاء الإسلام، آخر الديانات التي نزلت على نبي ورسول، جعل العلم جزءا من الدين، ولم يعد في الأمر بينهما تابعا ومتبوعا؛ فجزء من دين الإسلام لا يتجزأ، أن يكون المؤمن ذا علم بما حوله من ظواهر الكون، ما أسعفته في ذلك قدراته. ومثل هذا العلم الذي يستهدف عبادة الله سبحانه وتعالى بمعرفة خلقه معرفة تمكن صاحبها من الإلمام - بقدر المستطاع - بمعجزات هذا الخلق. وانظر إلى آيات القرآن الكريم عن «القراءة» كيف تتابع فيها نوعان من «القراءة» التي أصبحت فرضا مفروضا على المسلم وفق قدرته في ذلك؛ فأولى القراءتين قراءة «المخلوق » كما خلقه خالقه سبحانه وتعالى، وليبدأ الإنسان بدراسة نفسه مخلوقا من مخلوقات الله، ليرى معجزة الخلق متمثلا في الإنسان يخلق من علق، فيصبح هو ذلك الإنسان العالم العامل العابد، الكاتب الفنان الصانع الزارع، منشئ الحضارات التي تعمر كوكب الأرض. وأما ثانية القراءتين فهي أيضا عن الإنسان، لكنها هذه المرة متجهة إلى موروث فيما كتب الأولون، يضاف إليه ما أنتجه أبناء الحاضر، ليتلقى أبناء الغد عن ماضيهم كله ما يتلقونه ليضيفوا بدورهم ما يضيفونه من «علم» بالوجود؛ تقول الآيات الكريمة:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق (هذه هي أولى القراءتين)
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (وهذه هي القراءة الثانية)، وكلتا القراءتين عملية عقلية علمية؛ فعلم بخلق الله للإنسان أولا، وعلم بما خطه قلم الإنسان ثانيا. لكنهما إلى جانب كونهما «علما» يقتضي من صاحبه إعمال العقل فهما في الوقت نفسه «دين» يوجب على المتدين به واجبا مفروضا. ونكتفي بهذا المثل مما يمكن استخراجه من الكتاب الكريم، أدلة نتبين منها طبيعة «الرؤية» الإسلامية لحياة الإنسان، مما يوضح لنا جانبا من أهم الجوانب التي يتألف منه حقيقة «العروبة» وجوهرها.
لقد كان «العربي» (وأعني ساكن هذه الرقعة الفسيحة من الأرض الصحراوية الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، بما يتناثر فيها من أرض خضراء بزرعها، قد تكبر حتى تكون وديانا لأنهار جاءتها من خارج حدودها، وقد تصغر حتى تكون واحة صغيرة) أقول إن أهل هذا الامتداد الجغرافي الواحد، قد أظهروا خلال تاريخهم الثقافي الطويل، قدرة لا تقاس إليهم فيها شعوب أخرى كثيرة، على دمج الدين والعلم في موقف واحد وظهر ذلك بصفة خاصة في ظل الإسلام؛ لأنه دين نص نصوصا مباشرة على وجوب إعمال المسلم لعقله، في تدبر خلق الله من حوله. وقد يجدر بنا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نشير إلى حقيقة ثقافية شهدها التاريخ، وكانت لها آثارها في مجرى الأحداث، وهي ذلك التباين الحاد في وجهة النظر العامة بين اليونان القديمة وجارتها فارس (وهي اليوم «إيران») مما أدى إلى حروب بينهما، ومدار ذلك التباين هو غلبة التفكير العقلي ووضوح أحكامه في اليونان، وغلبة الرؤية الصوفية المغلفة بضباب الغموض على الفرس. وأرجح الظن أنه عندما خرج الإسكندر الأكبر بجيشه من اليونان، مستهدفا أن يجمع العالم المعروف له تحت لواء ثقافي واحد، كان المقصود بذلك أساسا هو أن يطوع جارته فارس للرؤية «العقلية». وربما كان التقسيم الجزافي الغامض، الذي يقسم به العالم إلى «شرق» و«غرب» بحيث يتضمن هذا التقسيم أن تكون كلمة «شرق» هنا دالة على ثقافة تغلب عليها العاطفة الذاتية، وأن تكون كلمة «غرب» دالة على ثقافة من نوع آخر إذ تغلب عليها دقة التفكير العقلي وموضوعيته ووضوحه، أقول إنه ربما كان هذا التقسيم راجعا في الأصل إلى ما كان بين يونان وفارس من تباين ثقافي أدى إلى ما أدى إليه من خلاف بلغ حد القتال، ثم جاء «الغرب» الحديث والمعاصر ليظل على ذلك الرأي في تصنيف الشعوب وثقافتها، مع تفرقته بين ما هو «أقصى» في بلدان الشرق وما هو «أوسط» و«أدنى»، متجاهلا الموقف العربي وطبيعته التي جاءت لتدمج الطرفين في صيغة واحدة، ولكن لماذا نعجب من أهل «الغرب» في تمسكهم بهذا التقسيم الثقافي، إذا كان العرب أنفسهم يتبنون هذا التقسيم ويتحمسون له، وعلى أساسه يقبلون فكرة ويرفضون أخرى، وبذلك تضيع منهم حقائق الأمور، بما فيها حقيقة أنفسهم؟
وحقيقة العربي في موقفه، كما يشهد بذلك تاريخه، هو أنه شرق وغرب معا، فلا هو إلى عاطفة صرف، ولا هو إلى عقل صرف. ولنا أن نتعقب ما أنتجه أعلامنا الأقدمون لنتبين في وضوح أن النظرة الفعلية، وما يتبعها من «علم» في شتى الميادين كانت هي الغالبة، لكنها كانت «مبطنة» بالوجدان (إذا صح هذا التعبير) ففضلا عن نبوغ أفراد منهم في مجال العلم وحده، ونبوغ أفراد آخرين في مجال التصوف وحده، فإن اندماج الجانبين في ناتج واحد أمر مألوف بينهم، فإذا كانت اليونان القديمة قد تميزت بالتفكير العقلي الصرف متمثلا في علومهم وفلسفتهم، فقد ترجم العرب عن اليونان معظم تلك العلوم والفلسفة، مما يدل على قدرة العربي على تمثل المحصول العقلي وهو في أعلى ذروته. ولا أظن أن شيئا يذكر من تلك العلوم والفلسفة قد ترجمته الهند أو الصين رغم ما كانتا عليه من حضارة، مما يدل على قابلية العربي للنظر العقلي المجرد. وفي الوقت نفسه قام العرب الأولون بنقل التصوف عن أعلامه من فرس وهنود، مما يبين أن العربي في طبيعته استعداد لمثل هذه الوقفة. على أن ما يهمنا هنا في المقام الأول، ليس هو أن تقوى الطبيعة العربية على تقبل هذا الجانب العقلي وحده متمثلا في أفراد، وعلى تقبل ذلك الجانب الصوفي وحده متمثلا في أفراد آخرين، بل الذي يهمنا في سياق حديثنا هذا هو أن نرى الجانبين معا مجتمعين في كل عربي، بدرجات تتفاوت مقاديرها، وتلك هي إحدى السمات الهامة، التي تتميز بها «العروبة» من حيث هي «موقف» ثقافي فريد، لا هو «شرق» ولا هو «غرب» ولكنها عروبة العربي.
هكذا جاءت للعربي، أو إن شئت فقل جاءت للشرق أوسطي، قاعدته الأولى التي ارتكز عليها لينطلق في أجوائه الثقافية من أرضه وسمائه؛ فأرضه منبسط صحراوي لا تحده حدود البصر، اللهم إلا وديانا شقتها أنهار نبعت من مصادر خارج الحدود، وأما سماؤه فصافية معظم الزمن، فجال فيها النظر ليرى عالما آخر لا تحيط بحدوده عين. مع هذه اللامتناهيات تحت قدميه وفوق رأسه، نزلت ديانات وحيا من الله سبحانه وتعالى على أنبياء ورسل تعاقبوا دهرا بعد دهر مدى قرون طوال، تنادي الإنسان أن آمن بإله واحد أحد خلق السموات والأرض وما بينهما، فتكونت عند ساكن هذه الرقعة المباركة من الأرض، خبرة وعقيدة؛ خبرة مما يرى، وعقيدة مما أوحي إلى الأنبياء والرسل، ومؤداهما معا هو أن يضع بين يديه تلك «المبادئ» الكبرى، التي هي خبرة نفسية وديانة روحية في آن معا، ومن تلك المبادئ المطلقة له أن يشتق ما استطاع أن يستنبطه لنفسه من نتائج وقوانين، تكون هي قواعد سلوكية من جانبها الأخلاقي ، كما تكون هي علومه العقلية التي يستضيء بها طريقه إلى معرفة ظواهر الكون معرفة صحيحة.
وبرع العربي في هذا الموقف الاستنباطي، الذي ينتزع النتائج من مبادئها، لكنه على مر الزمن، حفظ شيئا ونسي شيئا، وكان الذي حفظه جيدا هو أن يجيد قراءة ما خطه قلم، ليستخرج من كلماته وعباراته ما يتولد عنها مما كان كائنا في جوفها، وأما الذي نسيه - على الأعم الأغلب - فهو قراءة «الأشياء» قراءة مباشرة. و«الأشياء»، أو الظواهر، هي خلق الله عز وجل، أمره الدين أن يقرأها ليستخرج سرها المكنون ما وسعه ذلك. ومن الجانب الأول الذي حفظه العربي وبرع فيه تكونت معارفه وعلومه في معظم الحالات، إلا جانبا صغيرا قرئت فيه «الأشياء» فكان أن ظهر للعرب علماء الفلك، والكيمياء، والضوء، والطب. وأما الجزء الأكبر من علوم الطبيعة فقد تولاها الغرب وحده بعد نهضته من عصوره الوسطى، وأخذ العربي ينقلها عنه إلى يومنا هذا. وإننا إذ نذكر هذا، فإنما نذكره لنتذكر به أن هدفنا ليس هو الإشادة العمياء بالعربي وموقفه، بل هو مجرد الوصف لما هو واقع، لنؤيد صحيحه، ونصحح أوجه النقص فيه.
وما دمنا قد ذكرنا «الواقع» وحقيقته، فها هنا سؤال يطرح نفسه عن نصيب هذا الواقع والاهتمام به من موقف العربي. وإنه لسؤال له خطورته ويتطلب الروية في الجواب، وذلك لأن نضج العقل، الذي نطلق عليه عادة في حياتنا العملية اسم «سن الرشد» وهي السن التي إذا بلغها شاب، أصبحت له حقوق في المجتمع الذي يعيش فيه، وأصبحت عليه واجبات، فترفع عنه الوصاية، ويكون حر الإرادة في تصريف شئونه، ويكتسب حق الانتخاب، ومن جهة أخرى يحق عليه التجنيد والدفاع عن وطنه وهكذا. كل هذه الحقوق والواجبات تنشأ عند سن «الرشد» على افتراض مضمر، هو أن الإنسان عند تلك السن يكون قد خرج من مرحلة المراهقة الحالمة، ودخل مرحلة النضج العقلي، الذي يتميز أول ما يتميز، بانضباط العلاقة بين الإنسان والواقع، فيرى الحقائق الواقعة كما هي واقعة، لا يتوهم فيها ما ليس فيها، ولا يغض النظر عن جانب من جوانبها، ليستطيع بعد ذلك أن يقبلها عن علم بها، أو أن يعدلها على أساس علمه بها.
لكن أفراد الناس، وكذلك الشعوب، يتفاوتون في القدرة على إدراك الواقع على حقيقته؛ وبالتالي فهم يتفاوتون في القدرة على تغييره إذا وجب عليه أن يتغير. وفي هذا السياق يأتي سؤالنا: ما نصيب «الواقع» ودقة إدراكه من «الرؤية» العربية التي منها تتألف «العروبة» ومعناها؟
قد يتساءل القارئ همسا لنفسه: وهل شهدت الدنيا إنسانا، بل هل شهدت كائنا حيا على إطلاق من نبات أو حيوان، فضلا عن الإنسان، قد تجاهل «الواقع» الذي يحتويه، فمن هذا الواقع يأكل الكائن الحي طعامه، ويشرب ماءه، ويعد مأواه الذي يعتصم به، وسائر شئون حياته صغيرها وكبيرها؟ فمن أين يجيء السؤال - إذن - عن علاقة العربي بواقعه الذي يعيش فيه؟ وهنا يكون المتسائل قد فاته إدراك فارق هام بين فوارق عديدة تميز الإنسان دون سائر الأحياء، وهو فارق «الخيال» الذي قد يعلو في مرتبته فيصبح وسيلة إبداع للعالم والأديب والفنان؛ إذ هو عندئذ خيال يضم الأجزاء المتفرقة لتصبح بناء واحدا؛ نظرية علمية، أو قصيدة من الشعر، أو معزوفة موسيقية، وهكذا، ولكنه كذلك قد يهبط في مرتبته ليصبح أخلاطا من تهاويم لا تبني شيئا؛ وبالتالي تكون أوهاما وهلوسة لا تعني شيئا، إلا أن تضل صاحبها عن سواء سبيله؛ لأنها تصرفه عن واقع الأشياء فلا يراها كما هي واقعة. وإن الأفراد ليتفاوتون، كما تتفاوت الشعوب بوجه عام، في النشأة والتربية والاستعداد الفطري، تفاوتا يؤدي بهم إلى تفاوت في القدرة على التعامل مع وقائع الأشياء على حقائقها، حتى لقد رأى عالم النفس «وليم جيمس» أن أفراد الناس يمكن قسمتهم قسمين من حيث الرؤية العامة لدنياهم، والتصرف في حياتهم العملية على أساس هذه الرؤية، ويطلق على أحد القسمين عبارة «أصحاب الأدمغة الصلبة»، كما يطلق على القسم الآخر عبارة «أصحاب الأدمغة اللينة»، وهو يدرج تحت القسم الأول رجال العلوم الرياضية والطبيعية، ورجال الأعمال على اختلافهم، وقادة الجيوش وهكذا، وكلهم يلتزم حدود الواقع أمام أبصارهم وتحت أيديهم، حتى وهم يحاولون تغييره ليصبح واقعا آخر؛ إذ كيف تغير شيئا إذا كنت ساهيا عن حقيقته الراهنة؟ وأما تحت القسم الثاني فهو يدرج المتصوفة، والشعراء، ورجال الأدب والفن بصفة عامة، لأنهم بحكم مزاجهم المجبول في فطرتهم، يهربون من خشونة الواقع وقسوته وغلظته، ويقيمون بما يبدعونه واقعا جديدا، ينتزعونه من خيالهم انتزاعا ليعيشوا فيه.
فليس الأمر - إذن - من قبيل اللغو أن نسأل عن العربي ما موقفه من «الواقع»؟ وليس من شك في أن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تهدينا إلى التصور الصحيح لما أسميناه ب «العروبة». على أن الرأي الصحيح في هذا - فيما يبدو لهذا الكاتب - ليس قريب المنال، مما يتطلب منا شيئا من الروية والتدبر؛ فالعربي - من جهة - «شاعر» في المقام الأول، ولكنه - من جهة أخرى - مضطر بحكم بيئته الصحراوية المتجانسة تجانسا شديدا، أن يدقق النظر ليقع بصره على ما يميز جزءا من جزء، وإلا فالأرجح أن يضل الطريق إذا ما انتقل من مكان إلى مكان. إنه يلحظ معالم الأرض، كما يلحظ مواقع النجوم، ويركز انتباهه فيما يتميز به الحيوان، والطير، واتجاه الريح، وغير ذلك من مكونات بيئته. ولك في هذا الصدد أن تراجع ذاكرتك فيما تحفظه من شعر الأقدمين، لترى كم ترد في سياقه لقطات حسية دقيقة التصوير لما يراه العربي وما يسمعه.
ومع هذا كله فالحقيقة الكبرى في طبيعة العربي هو أنه - كما قلنا - «شاعر» في المقام الأول. لقد عرض الجاحظ في الصفحات الأولى من المجلد الأول من موسوعته عن «الحيوان»، مقارنة سريعة بين أربعة شعوب من ذوي الثقافات، ليحدد الصفة الغالبة على كل منها، وهي ثقافات الهند، وفارس، واليونان، والعرب. وجاءت هذه المقارنة بمناسبة تعليقه الجيد على ما كان قائما عندئذ في «دار الحكمة» بمدينة بغداد، من ترجمة عن اليونانية علوما وفلسفة إلى اللغة العربية. وهنا قال ما معناه إنه إذا كان اليونان قد تميزوا ب «الكتاب» (أي بالمؤلفات في العلم) فالعرب قد تميزوا بالشعر، ولهذا فقد يسهل على العربي أن ينقل عن اليوناني فلسفته وعلمه ، وأما اليوناني، أو غير اليوناني، فمحال عليه أن يترجم الشعر العربي إلى لغته، وبذلك يستطيع العربي أن يضم إلى حصيلته فكر الآخرين، وأما هؤلاء الأخرون فلن يتاح لهم قط أن يعرفوا من هو العربي؛ لأن جوهر العربي شعره، والشعر مكتوب عليه ألا يجاوز حدود وطنه.
وإذا كان ذلك كذلك، إذن فقد انفتح أمامنا طريق الإجابة عن السؤال الذي طرحناه لنعلم شيئا عن العلاقة بين العربي و«الواقع»، فما علينا سوى أن نسأل: ماذا تؤدي إليه طبيعة الشعر في هذا الصدد؟ إن الشعر ليفقد جوهره إذا غابت عنه قوة الخيال، والخيال المقصود هنا هو ذلك النوع الذي يعلو بصاحبه إلى درجة يستطيع عندها أن يؤلف بين خبرات استقاها الشاعر متفرقات من حياته العملية؛ إذ هو يرسل البصر في جنبات الكون ليرى، وينصت بأذنيه ليسمع، ومن حصيد المرئي والمسموع، وما كان قد أضيف إليه من حالات وتحولات في وجدان الشاعر، يبني في خيال الشاعر بيتا جديدا هو بيت الشاعر، أو أبياته التي تؤلف قصيدة الشاعر. وفي إقامة الشاعر لعالمه الخاص، من لبنات مستمدة من الحياة كما وقعت وكما تقع، يستحل مجاوزة القوانين الطبيعية التي تحكم الأشياء في عالم الواقع، ليضع لها هو ما يسنه لها من قوانين، وبذلك يجيء العالم الشعري الذي أقامه الشاعر، عالما جديدا كل الجدة، لا شأن للواقع به، اللهم إلا موازاة بين العالمين، يبحث عنها الناقد ليستخرجها من الخفاء إلى العلن. إن الصخر في دنيا الواقع لا ينطق، لكن الشاعر يستحل أن ينطقه بما أراد له وكيفما أراد، والشجر لا يعزف موسيقى على أوتار، لكن الشاعر يحل له أن يجعل الشجرة عازفة للنغم على أوتارها. إن البرق والرعد يحدثان بقوانين تعرفها العلوم، وليس لهما «نفس» تغضب وتثور، ولكن الشاعر من حقه إذا أراد، أن يتصورهما ثورة غاضبة، وأن يتصور المطر بكاء أو طلقات من الرصاص في حومة القتال، كما شاء. وهكذا، فالفاصل الحاد الحاسم بين «العلم» و«الشعر» هو أن العلم لا يرى من الواقع إلا ظواهره البادية للحواس، ليستخرج قوانينه التي تحكم سلوكه؛ فالصخر صخر، والشجر شجر، والرعد والبرق والمطر رعد وبرق ومطر، ولكل شيء مسالك مفروضة عليه، ومهمة العلم استخراج القوانين التي تنظم تلك المسالك. وأما الشعر (والفن بكل أنواعه) فليس ذلك شأنه، وإنما شأنه أن يخلع المشاعر الإنسانية على كل شيء في الطبيعة وكأنها قد أصبحت أناسا مع الناس.
ونحن نقول عن العربي إنه في المقام الأول شاعر، أو له رؤية الشاعر، فإذا كانت تلك هي حقيقة أمره، إذن فعلاقته بالواقع هي أن يحصد منه لقطات حسية يشاهدها متفرقة، فيحفظها في وعيه ليستهديها خلال حياته العملية، ومن هذه اللقطات الحسية ذاتها يبني الشاعر العربي ما يبنيه من بيوت الخيال، ومعنى ذلك هو أن علاقة العربي بالواقع هي تلك اللقطات الحسية المتناثرة، ينتفع بها في حياته العملية. وأما «الرؤية»، العامة للحياة، أو «وجهة النظر» التي يتوجه بها إلى الوجود الكوني، أو «الموقف» الذي يقفه إزاء ما يحيط به فهي أقرب إلى طبيعة الشعر، فيراه وكأنه يحيا بين جدران ما يشعر هو به، حتى يجوز أن تصطخب الدنيا الخارجية بما تصطخب به من أحداث، ومن أفكار، وهو هناك في موقفه، يستدفئ النظرة الشاعرة، حتى وإن قرأ وعرف ما قد صخبت به الدنيا من تقلبات.
لقد ذكرنا فيما أسلفناه، أن هذه الأحاديث لم تكتب للإشادة بالعروبة في موقفها أيا كان ذلك الموقف وما يقتضيه، ولكنها كتبت وصفا موضوعيا لما يظنه كاتبها أنه وصف أمين. ومع ذلك فهو اجتهاد فردي قد يخطئ وقد يصيب، فإذا صدق ما أوردناه عن طبيعة الشاعر في العروبة وموقفها، كان حتما على العربي أن يغير من موقفه بعض الشيء، بالإضافة لا بالحذف، فلنبق على «الشاعر» الكامن في قلوبنا، حتى لا نفوت على أنفسنا سمة من أبرز سماتنا ومن أجملها، على أن نضيف في تنشئة أجيالنا الجديدة نظرة «العلم» كلما اقتضى الموقف التزام الواقع في حدوده وقوانينه الصارمة. وانظر إن شئت إلى الحياة العربية في تاريخها الحديث، لترى كم دهمتها المفاجآت، التي لم تكن في الحقيقة مفاجئة، بل لبثت كل واحدة منها تغزل خيوطها وتنسج مؤامراتها أعواما طوالا، ونحن عنها غافلون، أو كالغافلين؛ لأننا ربما عرفنا شيئا عما يدبر لنا في سواد الليل، لكننا نسهو ونغضي لانشغالنا بما بناه لنا الخيال في رءوسنا. حتى إذا ما أصبح علينا صباح فجأتنا المفاجأة التي لم تكن قد ولدت منذ لحظة، بل ظلت هناك تبيض وتفرخ في صدور مدبريها أو في جحورهم، لتباغتنا وكأنها بنت لحظتها.
وكما رأينا في وقفة العربي «الشاعر» دفئا جميلا تشوبه غفوة يسهو بها عن مواجهة الواقع برؤية علمية كلما اقتضى الأمر ذلك، حماية لنفسه، وتقريرا لذاته في دنيا التنافس والعدوان التي كتب علينا ولنا أن تكون دنيانا، فكذلك نلحظ مثل هذه الشائبة في سمة أخرى من سمات «العروبة»، فليس ثمة من شك فيما يعرف به العربي من بناء اجتماعي - قبيلة، أو أسرة، أو أمة تضم القبائل والأسرة - يكفل للفرد أن يجد مكانا في جماعته، وهو مكان يعطيه حقوقا ويفرض عليه واجبات، وإننا لنفقد الشيء الكثير إذا فقدنا مثل هذا الانتماء الأسري الحميم، لكننا كذلك نفقد كثيرا جدا من طاقتنا الحيوية إذا بولغ في طغيان النظام الأسري أو القبلي أو الوطني والقومي على الفرد، بحيث تقيد حريته بأكثر من القيود التي تفرضها ضرورة الاجتماع، وتحدد قدراته المبدعة إذا كان من أصحاب المواهب، أكثر مما تحتمه ضرورة الحياة الاجتماعية من حدود.
وهكذا ترى أن «العروبة» موقف مركب من عناصر اشتقت بعض أصولها مما توحيه الصحراء إلى ساكنيها، من رؤية عامة تتعلق باللامتناهي أكثر مما تشغلها العابرات الزائلات، وبالثابت أكثر مما تتعلق بالمتغير، وبالمجرد أكثر مما يلهيها المتعين. ومن هذا الموقف تهيأت شعوب المنطقة بقلوبها لتقبل الديانات المنزلة وحيا إلى الأنبياء والرسل (وجميعها نزل في هذه المنطقة)؛ ومن ثم أصبحت عقيدة التوحيد مدارا للوقفة العربية، حتى فعلت فعلها في تشكيل النمط الثقافي العربي - الذي هو أساس «العروبة» وجوهرها - فالأدب (والشعر منه بصفة خاصة) يكثف الحكمة المستخلصة من الحياة الجارية، والفن ينزع نحو التجريد الذي يرتفع حتى يبلغ أن يكون أشكالا هندسية وما يتركب منها، والبناء الاجتماعي يتبلور في النظام الأسري أو القبلي الذي يجعل مثله الأعلى تكاملا وتعاونا ووحدة بناء. ولئن كان الواقع العربي الحديث قد انحرف عن تلك الرؤية العربية المتميزة، فقد جاء انحرافه هذا في اتجاهين؛ أحدهما نكسة أفرزتها الأوضاع السياسية الحديثة، محليا وعالميا، وإذن فهو انحراف لا بد لنا من تقويمه. وأما ثانيهما فانحراف نحو الأفضل والأكمل، وذلك في المواضع التي اضطررنا فيها إلى تعديل ما هو تقليدي في ثقافتنا من شأنه أن يعرقل النمو، فأحللنا مكانه عناصر قوة مما أنتجته حضارة هذا العصر وثقافته، وإذن فمثل هذا الانحراف جدير بالمؤازرة والتأييد.
هذا هو عصرنا
1
ليس العصر من العصور عددا من السنين يكبر حينا ليمتد بضعة قرون، ويصغر حينا ليكفيه قرن واحد أو بعض قرن، وإنما «العصر» المعين هو «فكرة» أساسية تسود الحياة، وتصبح محورا تدور حوله مسالك الناس ومناشطهم، حتى إذا ما تطورت تلك المسالك والمناشط، بحيث لم تعد «فكرة» العصر تكفيها ينبوعا تنبثق منه المبادئ والقواعد ومواصفات الحياة العملية، أخذت «فكرة جديدة» في الظهور والانتشار والرسوخ، حتى تصبح بدورها محورا تدور حوله رحى الحياة، وعندئذ ينظر الناس فإذا هم في عصر جديد، فإذا حدث لفرد من الناس أو لفئة منهم، أن تخلفت في رءوسهم فكرة عصر مضى، ثم نشطوا على أساسها وسلكوا فالأرجح ألا تسعفهم فكرتهم القديمة تلك بما يتطلبه العصر القائم من صور الحياة، فيصبحون - بالضرورة - كالغرباء في قومهم، حتى لتلتفت إليهم الأنظار دهشة، وذلك على أفضل الفروض، أو تلتفت إليهم ساخرة - وذلك على الأعم الأغلب - ولا ينفع المتخلف عن «فكرة» عصره أن يقارن للناس بين الفكرتين؛ أي بين العصرين، ليبين لهم كم كانت الأولى طيبة فاضلة خيرة أصيلة؛ لأن الحكم في مثل هذه المقارنة، مرهون بالنتائج التي تعود على الناس من ضروب العلم، والقوة، والثراء وغير ذلك مما يرفع «كيف» الحياة في مجمل نواحيها وأطرافها. والأرجح - كما قلت - هو أن تكون الفكرة الجديدة أصلح لذلك الارتفاع الكيفي المنشود، من «الفكرة» التي ذهبت وذهب عصرها معها. وها هي ذي قصة «أهل الكهف» للذين غيبهم نومهم نحو ثلاثة قرون عن تيار التغير فأصبحوا في قومهم غرباء، إلى الحد الذي أحرجهم ودفع بهم إلى العودة حيث كانوا، إيثارا للموت على حياة المنبوذ في أرضه.
ولا بد لل «فكرة» الجديدة التي يتولد عنها عصر جديد، أن تبلغ من الغزارة حدا من شأنه أن يفسح المجال لأفكار فرعية تنبثق منها ولفروع من تلك الفروع حتى تظلل الحياة على تشعبها وتعقدها وكثرة الأفراد والجماعات التي تستظل بظلها، فإذا أخذنا الفترة التي امتدت بالغرب من عصوره الوسطى إلى اليوم - وهي نحو أربعة قرون - على أنها عصر جديد واحد أعقب ما يطلق عليه في تاريخهم اسم «العصور الوسطى» كانت «الفكرة الجديدة» التي ميزته عن سابقه، هي أن يضيفوا إلى قراءة الكتب الموروثة عن أسلافهم (وأقول: أن يضيفوا ولا أقول: أن يحلوا محلها) قراءة ظواهر الطبيعة قراءة مباشرة، لعلهم يخرجون بما يخرجون به من قوانين العلم الطبيعي التي من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على تسخير الطبيعة لخدمته، وأعظم ما ينتج له عن ذلك التسخير هو التحرر من قيود هي أقسى ما يتعرض له الإنسان من قيود، وأعني القيود التي تفرضها طبائع الأشياء على الإنسان قبل أن يعرف كيف يلجمها فيمسك بأعنتها ويسيرها كيفما أراد لها أن تسير. ولك أن تلقي بلمحة خاطفة إلى ما قد حققه الإنسان لنفسه من سيادة بمعرفته لقوانين الضوء والصوت والكهرباء والجاذبية ... إلخ.
لكن تلك القرون الأربعة التي يمكن ضمها معا تحت فكرة واحدة جديدة هي فكرة قراءة الطبيعة قراءة مباشرة يمكن كذلك أن تتفرع بين أيدينا إلى عصور فرعية، يمتد كل عصر منها قرنا واحدا على التقريب، ولكل من تلك الفروع خصائصه المميزة التي تجعل منه عصرا قائما بذاته. وعلى هذا الأساس ننظر الآن إلى عصرنا الفرعي الذي نعيش فيه، وأعني هذا القرن العشرين، فما هي «الفكرة» الجديدة التي باتت محور الرحى، وميزت هذا القرن عن سابقه. وأرجو من القارئ ألا ينسى أننا نتحدث الآن عن «الغرب» المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ لأن حضارة العصر من صنعه، ثم سارت معه على الطريق بعض أقطار الشرق الأقصى كاليابان، وأما بقية العالم فقد كفاها أن تأخذ ولا تعطي. وأعود بعد ذلك فأسأل: ماذا كانت «الفكرة» الفرعية الجديدة التي عملت على أن يكون القرن العشرون وحدة حضارية قائمة بذاتها؟
ولكي نجيب عن ذلك أريدك أن تقف معي لحظة عند مفترق القرنين؛ التاسع عشر والعشرين، لندير أبصارنا، في مجال العلوم متسائلين: هل حدث فيها من جديد؟ وعندئذ سيجيئنا الجواب واضحا نعم. فإذا كان العصر بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما أعقب العصور الوسطى قد عرف بخروج العلماء من محابسهم ليجوبوا الأرض والبحر وأفلاك السماء، كاشفين عن كل مستور غطاءه ما أسعفتهم قدراتهم في هذا السبيل، ومع الكشف يقرءون صحائف الكون فيعلمون ظواهره. أقول إنه إذا كان العصر الحديث بمعناه الذي امتد أربعة قرون، قد كان مداره «قراءة» الطبيعة قراءة مباشرة، بعد أن كان شغل العلماء الشاغل قبل ذلك هو أن ينكبوا داخل الجدران يقرءون صحف السابقين، فإن «العصر» بمعناه الأضيق الذي يقتصر على القرن العشرين وحده، لا يزال استمرارا للاتجاه نفسه، إلا أن قراءته للطبيعة مختلفة الأساس عما كانت عليه. وقد تسأل أليس كتاب الطبيعة هو هو نفسه الكتاب الذي قرأه جاليليو ونيوتن؟ فنجيب نعم هو هو الكتاب، لكن الذي اختلف في القرن العشرين، هو الزاوية التي ينظر منها إلى المادة المقروءة. وأحب في هذه المناسبة أن ألفت نظر القارئ إلى نقطة مهمة في دنيا العلم هي أن الظاهرة المعروضة للبحث، ولنفرض مثلا أنها ظاهرة الضوء، لا تبوح بسرها طواعية، بل إن العالم الباحث هو الذي يقدح ذهنه ليهتدي إلى طريقة تجعل الظاهرة تفصح عن قوانينها؛ فعلماء «الضوء» قد ابتكروا من عندهم فكرة هي أن يحاولوا قراءة ظاهرة «الضوء» بطريقة «هندسية» أي كما تقرأ أشكال الهندسة من خطوط وزوايا. إنهم لا يرون هذه الخطوط والزوايا في «الضوء» بادئ ذي بدء، بل يرونه كما تراه أنت وكما أراه أنا حين ننظر إلى ضوء الشمس أو ضوء المصباح، ولكنهم - أعني علماء الضوء - افترضوا من عندهم أن سر قوانين الضوء قد ينكشف لهم إذا هم نظروا إلى الظاهرة من هذه الزاوية الهندسية. وقد كان أن دبروا التجارب التي يحصلون بها على خيط رفيع من الضوء يشبه الخط المستقيم، ويسقطونه على مرآة، فرأوه ينعكس على سطحها بزاوية قاسوها فوجودها مساوية لزاوية سقوط الضوء على سطح المرآة. إذن فها هو ذا قانون علمي عن ظاهرة الضوء، وهكذا.
ونعود إلى حديثنا عن عصرنا بالمعنى الضيق الذي يحصر العصر في القرن العشرين فنقول إنه استمرار للثلاثة القرون السابقة في الاتجاه بالجهد العلمي نحو قراءة الطبيعة قراءة مباشرة، إلا أن القراءة اختلفت أبجديتها عما كانت؛ فبعد أن كان أساسها عند نيوتن وغيره من علماء الفترة السابقة هو أن أي شيء يبقى على حاله، عاجزا عن أن يغير شيئا من وضعه، حتى يأتيه عامل خارجي فيغيره، فالجسم المتحرك في اتجاه ما يظل متحركا في هذا الاتجاه لا ينحرف عنه إلا إذا صدمه جسم آخر فيتغير، لا يتغير إلا بفعل عامل خارجي، هو الأساس الذي نقرأ عليه ظواهر الطبيعة في مسالكها. جاء هذا القرن العشرون ليغير أساس القراءة، فيجعل التغير نتيجة اعتمال داخلي في الشيء المتغير، بالإضافة إلى ما قد يكون هنالك من مؤثرات خارجية، ولماذا غير العلماء أساس القراءة؟ إنهم فعلوا ذلك حين رأوا أن الفرض السابق قد ترك مشكلات بغير حل، فكان لا بد من بحث عن رؤية جديدة تفسر كل ما هنالك من ظواهر، فمثلا كان قانون الجاذبية عند نيوتن مقبولا في الأجسام التي تقع في خبرة الإنسان، لكنه لم يكن يصدق على طرفين؛ الأجسام ذات الأبعاد الفلكية البعيدة كالضوء الآتي من مصادر نائية يبعد ملايين السنين الضوئية، وكذلك لم يكن يصدق على المكان اللامتناهي في الصغر، كحركات الإلكترونات داخل الذرة؛ فالإلكترون يقفز من فلك إلى فلك آخر غير مقيد بقانون الجاذبية عند نيوتن. وهكذا كانت هنالك مشكلات لا تحلها الرؤية النيوتونية التي كانت لها السيادة نحو قرنين، وكان محورها أن المكان مطلق وأن الزمان مطلق، وأن قوانين المادة في حركتها حتمية الحدوث.
وجاء عصرنا ليرى غير ذلك، فيقرأ ظواهر الكون على أساس «النسبية»، لا على أساس أن حقائق الكون مطلقة، بمعنى أن كتلة أي شيء تتغير بتغير سرعته، وأن أطوال الأشياء تتغير بتغير اتجاه حركتها، وتفصيلات كثيرة في هذا الصدد يعرفها العلماء المختصون، لكن الذي يهمنا نحن ممن لا يعلمون إلا أقل من القليل عن تفصيلات العلوم الطبيعية وقوانينها، هو أن التغير قد شمل طبيعة القانون العلمي نفسه؛ فبعد أن كان يقينا رياضيا محتوما، أصبح عملية إحصائية تنتهي بنا إلى درجة عالية من «الاحتمال»، وذلك لأن الظاهرة الطبيعية لم نعد ننظر إليها على أنها محددة تحديدا قاطعا، بل هي في حقيقتها الموضوعية مذبذبة، ولذلك فمقاييس أطوالها وأحجامها وسرعاتها ... إلخ، تتغير قليلا في كل مرة، ويقتضي الأمر أن تؤخذ تلك المقاييس عدة مرات ليستخرج متوسطها، فضلا عن أن أجهزة القياس نفسها تزداد دقة كلما تقدم العلم، بل إن «تعريف» تقدم العلم هو ازدياد الدقة في أجهزته، ومع زيادة الدقة في الجهاز تتغير أرقام المقاييس.
كان الفكر العلمي إبان القرن الماضي قد أخذ يتراكم في توكيده للرؤية الجديدة التي تجعل تغير الأشياء - والأحياء منها بوجه خاص - مرهونا باعتمال كيانها الداخلي؛ أي إن التغير لم يعد مقصورا على العوامل الخارجية وحدها. وجاءت أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن بذروة ذلك التراكم في نظرية النسبية عند أينشتين، فماذا يكون وقع ذلك كله على «الإنسان» حين يتأمل حقيقة وجوده وصورة العلاقات التي تربطه بالآخرين؟ قد يدهشك أن نلقي هذا السؤال عقب اللمحة الخاطفة التي قدمناها عن تغير الرؤية عند علماء الطبيعة عما كانت عليه رؤية العلماء في القرون السابقة، ودع عنك رؤية ما قبل هذا وذاك من عصورهم الوسطى، لكن علم العلماء في أي عصر لا يخاطب الخلاء، بل إنه علم يتبعه تطبيق، والتطبيق لا يكون إلا في دنيا الناس؛ فمحال أن يكون لعلم العصر المعين اتجاه وأن يكون لأهل العصر اتجاه مضاد، كل ما في الأمر هو أن تغير النظرة العلمية يسبق تغير الحياة العملية، ريثما ينتقل التغير من النظرة إلى التطبيق. على أن الأرجح أن يكون علم العلماء قد سبقه بفترة قد تطول يسودها مناخ عام ينسج خيوطه السابقون لعصورهم من رجال الفكر والأدب والفن. وهذا هو بالفعل ما قد حدث في حالتنا هذه؛ فقد ظهر من الفلاسفة والمفكرين ورجال الأدب والفن، ابتداء من رومانسية العشرات الأولى من القرن الماضي، التي تبدت في كبار الشعراء والروائيين وفي فلسفة هيجل المثالية، ثم في فلسفة شوبنهاور ونيتشه التي تجعل أولوية الحياة في إرادتها قبل أن تكون في تعلقها، وكلها اتجاهات تحول محور الارتكاز في تطور الحياة من تأثير العوامل الخارجية إلى اعتمال الدوافع الداخلية. وانعكس الاتجاه نفسه في أواسط القرن الماضي على مفكرين من أمثال ماركس وفرويد. وربما كان الشذوذ الوحيد هو نظرية «دارون» في التطور وكان ظهورها في أواسط القرن الماضي أيضا؛ فهي وإن سايرت عصرها في توجيه الاهتمام نحو فكرة التطور، إلا أنها جعلت تطور الكائنات الحية نتيجة عوامل البيئة الخارجية، التي ترغم الكائن الحي على أن يتكيف لبيئته وإلا كان مصيره سرعة الفناء، وهو اتجاه جاء عصرنا ليعلن نقيضه - وهو أن حياة الكائن الحي من الداخل هي التي بفاعليتها تملي على البيئة شروطها وذلك بأن تغيرها لتجعلها أصلح لبقائها.
إلا أن العصر الواحد لا بد أن يسوده آخر الأمر صوت واحد، وإلا فلا هو «عصر» ولا هو يحيا كما تريد له الحياة السوية أن يحيا، فإذا كان العلم والفكر والفن والأدب قد عملت كلها خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أن تجعل الطبيعة تتحرك من داخلها - حتى ما هو مادي منها - فهل يمكن أن يأتي إنسان القرن العشرين ليترك نفسه فريسة عوامل خارجية تشكله كما أرادت؟ تسعده أو تشقيه كما تشاء؟ على أن زوال رؤية عامة لتأخذ مكانها رؤية جديدة، تنتشر حتى تصبح هي الرأي العام بين الجماهير، لا بد له من رجة كبرى تهز أوضاعا بالية فتهدمها لتقام أوضاع جديدة. وكانت هذه الرجة هي التي تمثلت في حربين عالميتين، وفي سلسلة من الثورات توسطتهما أو أعقبتهما مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وبينها ثورة مصر 1919م، وثورتها 1952م؛ أولاهما عقب الحرب العالمية الأولى والثانية عقب الحرب العالمية الثانية، وثورات أخرى رأيناها بعد ذلك بقليل في بعض أقطار العالم العربي وفي كثير من بلدان القارتين الآسيوية والأفريقية، فماذا أرادت كل هذه الثورات لشعوبها؟ الجواب في ضوء ما ذكرناه هو أنها أرادت لحياة الإنسان فردا أو شعبا أن يكون له ما لسائر كائنات الأرض والسماء من إرادة تغيير نفسها بنفسها.
لكن شيئا يلفت أنظارنا فيما تميزت به العناصر المختلفة التي أخذت في الظهور منذ أواخر القرن الماضي، والتي اتجهت منذ ظهورها تتضافر عنصرا مع عنصر لينتهي أمرها إلى أن ينسج بعضها مع بعض في حياة هي الحياة التي يحياها العالم الآن، وذلك هو أن تلك العناصر المستحدثة كانت تنطوي على ضدين في وقت واحد؛ إذ تنطوي على ما من شأنه أن يزيد من حرية الإنسان مما يقيده في انطلاقة فكره ونشاطه، ثم ينطوي في الوقت نفسه على ما يزيد قيوده قيودا من نوع جديد. وأول ما نذكره في هذا الصدد هو ما أخذ يظهر منذ أواخر القرن الماضي وطفق منذ ظهوره وإلى يومنا هذا يثب وثبات سريعة جبارة حتى لقد أوشك أن يطوي الحياة الإنسانية بكل أطرافها تحت جناحيه وأعني به «العلم التكنولوجي». وهنا أود للقارئ أن يمعن النظر في قولنا «العلم التكنولوجي» ليلم بما تعنيه على وجه الدقة حتى لا تنقلب عليه العادة التي لا بد أن تكون قد تجمدت فيه من كثرة تكرار هذه العبارة أو ما يقرب منها مأخوذة عن غير فهم صحيح؛ فأولا: لا ينبغي لنا أن نتجاهل حقيقة هامة هي أن هذا الطراز الجديد من «العلم» يختلف اختلافا بعيدا عن صور «العلم» التي سبقت فيما سبق من مراحل التاريخ، وأساس الاختلاف هو استخدام الأجهزة في عملية البحث العلمي بصفة أساسية. ولم يكن العلم في تاريخه كله قد عرف قبل ذلك استخدام أجهزة تساعد على دقة البحث إلا بدرجة لا تكاد تستحق الذكر. وحتى ذلك القليل من الأجهزة الذي كان إنما كان على درجة من البساطة شديدة لا تقاس بما نألفه اليوم في أجهزة العلم من دقة بعيدة المدى. وثانيا: يحسن بنا أن نكون على وعي يقظ بأن معنى كلمة تكنولوجيا في هذا السياق ليس كما أصبح شائعا في الناس الآلات التي تنتج آخر الأمر ليستخدمها الناس في حياتهم من مصانع وأدوات للحياة اليومية كالسيارات وأسلحة القتال والثلاجات وغيرها؛ فهذه كلها ثمرات نتجت عن العلم التكنولوجي؛ فكلمة تكنولوجيا عندما استعملت لأول مرة في المجال العلمي إنما قصد بها منهج البحث العلمي عن طريق استخدام أجهزة تساعد على دقة النتائج. وإذا جاز لنا أن نصف عصرنا بأنه عصر التكنولوجيا؛ فذلك لأن الأجهزة العلمية قد كثرت وتنوعت وازدادت دقة حتى أصبحت ملمحا بارزا من ملامح العصر، ولم يكن العصر الواحد من العصور السابقة يعرف في ميادينه العلمية إلا عددا قليلا وبسيطا من أجهزة البحث العلمي بحيث لم يكن من حقه أن يصف نفسه بهذه الصفة. وثالثا: أن الأجهزة العلمية قد أخذت تتطور بسرعة شديدة حتى لتتعاقب الأجيال في كل نوع منها تعاقبا سرعان ما ينسخ جديدها قديمها مما يعمل على تغير وجه الحياة تغيرا يفوق شطحات الأحلام. وكان لهذا التغير السريع أثره العميق في بنية المجتمع؛ إذ أصبحت الخبرة الأكثر في أيدي الشباب بعد أن كانت على مدى التاريخ في أيدي الشيوخ.
وأخذت الآلات الناتجة عن العلم التكنولوجي من الكثرة والكفاءة بحيث وصلت إلى بيت الريفي في قراه وكفوره ونجوعه. ولأول مرة في تاريخ الإنسان يمد «العلم» أطرافه بما ينتج عنه إلى أبعد بعيد من حياة الناس اليومية. لقد كان العلم فيما مضى يشغل جماعة العلماء فيجيء ويمضي دون أن يشعر بمجيئه ومضيه إلا أقل من القليل بين أفراد يعدون على الأصابع، ولو أن تلك الآلات التي أنتجها العلم وجهازه كانت ضعيفة الأثر في الجانب الكيفي من حياة الإنسان لما حق لنا أن نطيل عنها الحديث، ولكنها جاءت لتزيد من حرية الإنسان بما لم تستطع أن تحققه كل القرون الماضية مجتمعة، فخذ معنى «الحرية» من أي جانب شئت تجدها قد زادت بفضل أجهزة العلم وما نتج عنها من آلات وأدوات زيادة تلفت النظر. ألم يكن الإنسان إلى عهد قريب يحمل الأثقال على ظهره وكتفيه كأنه دابة من دواب الحيوان؟ بل إنه لا يزال كذلك في كثير من بلدان العالم المتخلف؟ فجاءت الآلة لتحمل عنه هذه الأثقال. وانظر إلى العمارة تبنى في بلادنا وإلى العمارة تبنى في بلد تقدمت آلاته؛ فالإنسان عندنا لا يزال يحمل الحجارة والرمل وكل ما تتطلبه عملية البناء، والإنسان في البلد المتقدم لم يعد يحمل شيئا. تلك إذن حرية بدنية انتقل منها إلى حرية «عقلية». وانظر كم يستعين الإنسان في بلد متقدم بالجهاز والآلة على معرفة ما لم يكن ليعرفه أحد من قبل إذا اعتمد على حواسه وحدها وعلى قوته الذهنية وحدها. وبديهي أن حرية العقل مقرونة بسعة المعرفة؛ إذ ماذا تجدي كلمة حرية في مجال التفكير إذا لم يكن في حوزة الإنسان معرفة بطبائع الأشياء التي يريد أن يكون «حرا» في استخدامها؟ الحق أننا نقول لغوا إذا مضينا في ذكر ما قد بات جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان المعاصر. وكل ما في الأمر من اختلاف بين إنسان هنا وإنسان هناك هو اختلاف في درجة الحرية البدنية والعقلية؛ فكلما ازداد استخدام الأجهزة والآلات ازدادت معه الحرية، وكلما قل قلت، ولكن هل جاءتنا تكنولوجيا بما جاءت به من حرية البدن والعقل منحة خالصة من الشوائب والأضداد؟ كلا، كلا فحياة الإنسان لا تعطيه النعمة إلا إذا اقتصت منه الثمن باهظا كأنها المرابي اليهودي في مسرحية «تاجر البندقية» قد أعطى ليسترد مقابل ما أعطاه لحما ودما من جسد من نعم بعطائه. وهكذا أنعمت علينا تكنولوجيا العصر بحرية لم يكن أسلافنا ليحلموا بجزء منها، لكنها أعطت بشمالها ما اقتصت أضعافه بيمينها، قيودا على قيود لم يكن ليشقى بها أسلافنا؛ فالعامل في مصنع حديث ينتج الكثرة الغزيرة، أما هو في شخصه فقد سلبه ذلك المصنع نفسه فرديته وحريته وجعله لا يزيد إلا قليلا على أي مسمار أو ترس من مسامير الآلات وتروسها. إنه يعمل من الصباح إلى غروب الشمس دون أن يعلم ماذا صنع، ولماذا؟ لأنه مكلف بجزء يسير لا معنى له عنده يكرره ويكرره آلاف المرات دون أن يدري كيف بدأت السيرة وإلى أية غاية تنتهي، فأصيب العامل بما نقرأ عنه من ويلات الحياة الصناعية؛ قلق وتمزق واغتراب وملل ويأس وضيعة إيمان بقيمته وقيمة حياته.
وانظر إلى أمثلة من الأجهزة التي تنتجها مصانع التكنولوجيا مما له صلة بحياة الإنسان الخاصة كالراديو والتليفزيون تجد إلى جانب فوائدها العظيمة في طريق المعرفة والتنوير وفي التسوية بين عباد الله غنيهم وفقيرهم في قضاء أوقات الفراغ؛ فجميعهم على السواء يشاهدون ويسمعون ما يشهده الجميع ويسمعونه، ولكن اقلب صفحة هذه النعمة لترى النقمة كامنة في ظهرها؛ فأولا كان حتما محتوما بطبيعة الحال أن تراعى أغلبية الجمهور فيما تعرضه هذه الأدوات؛ ومن ثم وجب تبسيط المعرفة وتسطيحها. ووجب كذلك تفتيتها وجبات مجزأة بحيث لا يزيد عرض الموضوع الواحد على أكثر من بضع دقائق. ومن هذه الأشياء المبتورة أصبحت تتكون ثقافة من يتثقف، ومع ذلك فلا تقاس هذه البلوى بالنكبة الكبرى التي تلحق بحرية الإنسان، فتأمل كم أعطتنا من حرية العقل بما قدمته لنا من معارف وكم سلبت من حرياتنا حين حتمت على المستقبل أن يبلع المر، ولا تناقش. وتبلغ النكبة أقصاها عندما يهبط على الشعب مستبد، وعندئذ فلا يسمع المتلقي إلا كلمة واحدة هي كلمته. ولا غرابة أن نجد زعيم الانقلاب حيثما وقع انقلاب يسرع أول ما يسرع إلى دار الإذاعة، فإذا سيطر عليها فقد قطع معظم الطريق إلى ذروته. ولا نقول شيئا عن ويلات الحروب الحديثة بما أمدها به العلم الحديث وتقنياته، فذلك مكرور معاد ومعلوم للكبار وللصغار.
وللحديث بقية نستكمل بها صورة عصرنا وأين يقع العربي منه وأين يقع هو من قلب العربي وعقله.
2
فتح القرن العشرون أبوابه على أفكار ضخمة غزيرة الثراء، أفرزتها عقول الجبابرة من أبناء القرن الماضي، ولكن القرن الماضي لم ينعم ولم يشق بالعيش في ظلال أفكاره، وترك لخلفائه من أبناء هذا القرن العشرين، أن يحللوها ويبسطوها ويطوروها، لتخرج بهم آخر الأمر من حياة ذهب عهدها، إلى حياة جديدة في عهد جديد. وكانت هذه هي سنة الحياة الفكرية على امتداد تاريخها؛ فرجال الفكر يفرزون فكرهم الرامي إلى التطوير والتعديل، ثم يذهبون مع ذهاب جيلهم دون أن يتسع لهم الوقت فيروا ثمرات فكرهم، وقد سارت بأرجلها على الأرض أو طارت بأجنحتها في السماء؛ لأن هذه الثمار الحية التي تتفتق عنها الأفكار، إنما هي مقسومة للجيل اللاحق أو الأجيال اللاحقة. وهكذا كان الأمر حين ورثنا نحن أبناء هذا القرن العشرين، عن القرن الماضي، وكان علينا نحن أن نستولد تلك الأفكار نتائجها لنحيا بها ولها. ولقد أسلفنا لك القول في حديثنا الماضي، بأن تلك الأفكار الضخمة القوية الغنية بما انطوت عليه من غزارة الفحوى، وإن تكن قد اختلفت ميادينها، إلا أنها جميعا أوشكت أن تدور معا على مدار واحد، هو أن الحقيقة الكونية في مجموعها، وأن كل كائن حي مفرد من كائناتها، جوهره «الحركة» وليس «السكون»، وأن كل شيء تنبع له حركته التي يتغير بها ويتطور من داخله، وليس كل التغير ناشئا عن فعل العوامل الخارجية.
وكان من الطبيعي أن تتولد عن هذا التحول رؤية علمية جديدة، ترى الأشياء نامية متطورة متغيرة، بعد أن كانت الفكرة العلمية قائمة على افتراض الثبات والسكون والدوام على حالة واحدة، فلا يتحرك ساكن إلا بعامل خارجي يحركه، ولا يسكن متحرك إلا بعامل خارجي يوقف حركته. وكان السؤال إذا ما رأى الناس متحركا أن يسألوا: ما الذي بث فيه الحركة، فأصبح السؤال إذا ما رأى الناس ساكنا أن يسألوا ما الذي جمد فيه حركته؟ واختصارا كان الثبات الساكن هو الأساس المفترض، فأصبح التغير المتحرك هو ذلك الأساس. ولا عجب أن ترى ذلك كله قد انعكس في فلسفات «التطور» التي شغلت كثيرين من فلاسفة القرن الماضي والقرن الحالي على السواء.
ومع هذا التغير في الرؤية العلمية، من السكونية إلى الحركية، أضيفت للعلم قوة منهجية تتمثل في استخدامه للأجهزة في بحوثه استخداما على نطاق واسع، حيث أصبحت هذه الظاهرة معلما من أبرز معالم عصرنا، وهي ظاهرة التكنولوجيا أو «التقنيات». وقد أسلفنا لك في حديثنا الماضي أن المعنى الأساسي لهذه الكلمة كان يشير إلى منهج البحث، ولكنه اتسع مع الأيام ليضيف جانبا آخر، وهو الشائع اليوم بين الناس، وذلك هو أن يطلق هذا الاسم نفسه على المصنوعات التي تنتج عن استخدام ذلك المنهج، وبعبارة قصيرة نقول إن التعبير الصحيح بادئ الأمر، هو قولهم، العلم بالتكنولوجيا، ثم غلب على الناس اليوم أن يقولوا «العلم والتكنولوجيا» كأن العلم شيء يسبق، والتكنولوجيا شيء آخر يتبعه في الظهور.
وفتحت أبواب القرن العشرين، فيما فتحت عليه، على هذا الضرب الجديد من العلم الذي يقام على أجهزة، وينتج بدوره أجهزة، وكانت لهذه الحداثة العلمية حسناتها وسيئاتها، كان لها خيرها وشرها، وفي طليعة خيراتها - كما بينا في الحديث السابق - ما كسبته للإنسان من حرية يتحرر بها من قيود الطبيعة المادية، بعد أن طال العهد بالإنسان عبدا لها، فمن ذا الذي استطاع من بني الإنسان، منذ دب إنسان على الأرض بقدميه، أن يغوص في أغوار البحر كما غاص إنسان اليوم، أو أن يطير في أطباق السماء كما طار، أو أن يسرع في انتقاله على اليابسة كما أسرع؟ من ذا استطاع في كل من شهدهم التاريخ، أن يخترق الجدران بضروب الأشعة ليرى ما وراءها ويسمع؟ فطبيب اليوم يكشف في جسم مريضه عن كل خبيء مستور في القلب والرئتين والمعدة والأمعاء، دون أن ينخدش خدش في جسم المريض. ومن ذا الذي استطاع من أطباء الأمس القريب والبعيد، أن يستبدل في الإنسان المريض بقلبه التالف قلبا صحيحا، وبكليته الفاسدة كلية سليمة؟ من الذي أرغم جفاف الصحراء أن ينتج الغلال والخضر والزهور كما أرغمه إنسان اليوم، ثم من ذا الذي جرؤ أن يصنع ما يشبه العقل الإنساني في جهاز كما جرؤ إنسان اليوم؟!
ولن نستطرد أكثر من هذا في ذكر ضروب من سيطرة الإنسان على تمرد المادة وعنادها بفضل العلم الجديد وتقنياته، لكي نقلب صفحته الأخرى التي ملئت بقيود وأغلال قيدت الإنسان وغلته بسبب العلم الجديد وتقنياته. وقد ذكرنا في حديثنا الماضي أمثلة لذلك فيها الكفاية، إلا أن إنسان العصر لم يقف عاجزا أمام هذه العلوم، ينعم بخيرها ويشقى بشرها وهو في حيرة من أمره، بل هو يحاول أن يجد لسموم حضارته الجديدة، لعلمها التقني الجديد، ترياقها، فإذا كان العلم الجديد بما يفرضه على طبيعة الإنسان من ضوابط وقيود، قد سلبه تلقائيته الفطرية، بمثل ما أضاف له حرية إزاء الظواهر الطبيعية التي لم يكن له إزاءها حول ولا قوة، فقد شاع في نفسه شعور بالضيق للتلقائية الحرة التي ضاعت، أكثر مما شاع فيها من رضى وطمأنينة بالحرية المكسوبة، التي أمدته بشيء من السيادة على عناصر الطبيعة التي تحيط به؛ ومن ثم راح ينشئ لنفسه أدبا جديدا، وفنا جديدا، روعي فيهما أن تكون النبرة الذاتية الخاصة بالمبدع، أعلى صوتا وأبرز ظهورا من الجانب الذي يشير إلى وقائع الكون الخارجي وقوانينها، راجيا بذلك أن يعتدل له الميزان بين داخل وخارج، أو بين ذات وموضوع.
فرأينا في الأدب الجديد صورا اغترفها الأديب المبدع من ذات نفسه اغترافا، حتى ليكاد المتلقي أن يتعذر عليه الفهم؛ إذ الفهم ميسور حين تكون الإشارة إلى «واقع» مشترك بين المبدع من جهة والمتلقي لثمرة إبداعه من جهة أخرى. أما حين تنعدم، أو تكاد تنعدم تلك الحلقة الوسطى، فها هنا يتعذر جدا في كثير من الأحيان أن يجد المتلقي ما يفهمه حق الفهم فيما يطالعه من شعر أو رواية أو مسرحية من الأدب الجديد، اللهم إلا أن يتولى ذلك دارس متمكن، يستطيع أن يرجع إلى مراجع المكتبة الأدبية، ليتعقب الغوامض إلى أصولها عساها تضيء له ما قد غمض عليه واستعصى. وهذا هو ما رأيناه في الأدب الأوروبي الجديد عقب الحرب العالمية الأولى، بل وإن مبدعي الأدب عندئذ لم يجعلوا أمرهم سرا على الناس، وأعلن بعضهم صراحة بأنه قد تعمد الغموض إلا على القادرين. وأما العامة من جمهور القراء - إذا جاز هذا القول - فلم يكونوا عندهم بذوي خطر يحسب له حساب، وإلا فكيف أمكن أن تصل بهم الغفلة وسهولة الانقياد حدا يستسلمون معه للساسة الذين تغريهم حرفة السياسة وحماقتها أن يبثوا الفرقة بين الإنسان والإنسان، ويشعلوا الحروب نارا لا تبقي ولا تذر. وإذا لم يكن أمر المبدعين للأدب في العشرات الأولى من هذا القرن هو كذلك «في الغرب» فلمن - إذن - كتب «جيمس جويس» روايته «يولسينر» عصية الفهم إلا على الدارسين، ولمن كتب «أزراباوند» شعره الذي ملأه بمفردات من لغات مختلفة يكاد يستحيل على قارئ فوق متوسط القراء أن يقرأ ليفهم، إلا إذا قرأ وهو في مكتبة جامعية تعددت فيها قواميس اللغات، لا يستثنى منها اللغة الصينية واليابانية.
كان ذلك ضربا من ضروب الألغاز في أدب هذا القرن في عشرات أعوامه الأولى. وكان بعض التعليل لتلك الظاهرة هو أن مبدع الأدب قد أراد أن يطلق لنفسه العنان إقرارا وتثبيتا لوجودها، فيشعر بحريته الشخصية وقد ردت إليه بعد الذي فقدته في عالم العلم والصناعة، بما في ذلك العالم من ضوابط وضواغط! لكن ذلك لم يكن هو الضرب الوحيد فيما لجأ إليه مبدعو الأدب في هذا الصدد، بل لجأ نفر كبير منهم عن عمد وتدبير، إلى مركبات لغوية لا تفهم بالطريقة المألوفة لفهم المقروء، قائلين في ذلك إنهم لا يعرضون على الناس «فكرا» واضح الحدود حتى يطالبهم القراء بالفهم المحدد الصريح؛ لأن ذلك أمر متروك لل «علم» في ميادينه، وأما الأدب فتصاغ عبارته ل «توحي»، فإذا أفلحت في الإيحاء للقارئ بالحالة النفسية المطلوب إشاعتها في النفوس، فقد أفلح الأدب في أداء رسالته.
وربما كان اتجاه الفن الجديد إلى التمرد على «عملية» عصرنا وما قد طغت به على روح الإنسان المتطلعة بطبيعتها، الحرة في تلقائيتها وفي تفردها ، أقول إنه ربما كان التمرد على نمطية العلم والصناعة في عصرنا، أوضح ظهورا في الفن منه في أي مجال آخر؛ فكلنا يلحظ كم تحلل الفنان التشكيلي الجديد من الروابط التي تربط مبدعاته بصور الأشياء كما تقع في الخارج، وطفق ذلك الفنان يبتكر لحريته تلك أسلوبا جديدا في كل يوم؛ فهو اليوم «تجريدي» وكان بالأمس «تكعيبيا» أو «سرياليا»، وسوف يكون غدا مزيجا من هذا وذاك. إنه لا يريد أن يكون مسئولا في إبداعه الفني إلا عن طريقة استخدامه للألوان والخطوط والفراغ والملاء في مسطح لوحته؛ فهو - كما شاع القول - ينتج «موسيقى للعين» كما ينشئ الموسيقار موسيقى للأذن، فهل يجوز لسامع المعزوفة أن يسأل الموسيقار: أين المقابل الموضوعي لمعزوفتك في الطبيعة التي تحيط بنا؟! فإذا كان هذا السؤال غير وارد في دنيا الأنغام، فيجب كذلك ألا يرد في دنيا الألوان والخطوط. ووراء هذه الحرية الذاتية في الإبداع الفني، يكمن الدافع الأساسي، وهو أن تقنين العلم والصناعة في عصرنا قد أزهق روح الإنسان وأرهقها، فانتقم لنفسه بإسرافه في الركون إلى ذات نفسه فيما يقوله شعرا وما يعزفه موسيقى وما يرسمه ألوانا وخطوطا، لا سلطان عليه في ذلك إلا قواعد الفن ذاته.
وهنا نعرج بالحديث إلى الأدب العربي وإلى الفن العربي كما نراهما الآن، لنلحظ فيهما ملامح مما قد جرى في الغرب ردا لفعل العلم والصناعة هناك، فلا يسعنا إلا التساؤل في شيء من العجب: لأي المؤثرات في حياتنا العربية يستجيب رجال الأدب والفن عندنا؟ إن العربي لم يشارك العالم الحديث في علمه وفي صناعته بأكثر من أنه يشتري مؤلفاته العلمية ليتعلم العلوم الحديثة، ويشتري مصنوعاته الجديدة لينعم بها، فلا هو عانى في ساحة العلوم إبداعا، ولا هو قد مارس حياة الصانع وهو يبتكر في صناعته أشكالا جديدة، فما الذي ضغط على نفس العربي حتى ضاقت ودفعته دفعا إلى التمرد في دنيا الإبداع الأدبي والفني، إنقاذا لتلقائيتها الطبيعية التي أفقدتها إياها معاناة العلم في انضباطه، ومكابدات الصناعات في دقتها؟ بل إن العربي في الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يشارك محاربا في ساحات القتال، وإنما كان موقفه موقف المتفرج، كلا، بل كان موقفه موقف من وقف ينتظر حكم القضاء فيه؛ إذ إن تلك الحروب إنما وقعت بين ضباع يقتتلون على فريسة، وبين الفرائس المقتتل عليها كانت الفريسة العربية!
أفيحل للشاعر العربي - أو الأديب العربي، أو الفنان العربي - أن تضيق له نفس وأن يضطرب له قلب بذات الصورة التي ضاقت بها نفس الشاعر في الغرب واضطرب قلبه؟ ومع ذلك فقد شاع فينا شعر جديد انصرف فيه الشاعر إلى ذات نفسه انصرافا تاما، وأخذ يغترف من تياره الشعوري الباطني ما ليس يفهم له معنى إلا صاحبه، أو ناقد متحذلق يدعي أنه يعلم؟ نعم لقد كان ما يريده الشاعر دائما - أيا كان مكانه وزمانه - لا ينكشف كله للقارئ، بل يظل بعض المعنى المقصود حبيسا في «بطن الشاعر» - كما كان العرب يقولون - لكن تبقى بين المعلوم والمجهول من معنى الشعر المعروض، نسبة معقولة؛ ومن هنا استطاع القارئون أو السامعون درجة من الفهم، حتى لو بعدت مسافة المكان وفترة الزمان، وإلا فكيف يتاح للعربي اليوم أن يفهم بدرجة كافية، شعرا أنشده أصحابه منذ خمسة عشر قرنا؟ لكن اقرأ لشاعر عربي جديد، أو استمع، تجدك أمام مركبات لفظية قد تردعك بشفافيتها، وإيحاءاتها، وهي في كل الحالات تشير إلى باطن أكثر جدا مما تشير إلى ظاهر. وسؤالنا المطروح هنا هو: ماذا دعا شاعرنا الجديد إلى هذه الضبابية الموحية وليس هناك في حياته العصرية إلا سلبية يتلقى بها علوم الغرباء ومصنوعاتهم؟! ربما جاءك الجواب بأن أزماتهم في الوطن العربي من نوع مختلف عن أزمات المبدعين في الغرب، لكنها أزمات على أية حال جاءت، فإذا كانوا في الغرب قد ضاقوا صدرا بضبط العلم ودقة العمل في المصانع، فنحن قد ضاقت صدورنا هنا بأفاعيل السياسة الخارجية، ومظالم السياسة الداخلية، فقد تزهق نفوسهم هناك معامل العلم ومصانع الإنتاج، وتزهق نفوسنا هنا معتقلات وصور مختلفة من الاضطهاد والتعذيب والانتقام وكم الأفواه، فضلا عن ضيق اقتصادي في العيش تتعذر معه الحرية لو أردناها، فأي عجب - إذن - أن ينكب الشاعر على ما قد طواه بين ضلوعه من هموم؟ وجوابنا على ذلك هو حيرة لا تعرف كيف تجيب، اللهم إلا «حدسا» نرى به ما لا نملك له برهان العقل، والذي نراه بذلك الحدس المبهم هو أنه ما دامت قد اختلفت همومنا نوعا عن همومهم؛ إذ اختلفت مصدرا وطبيعة، فقد كان المتوقع المرجح - إذا لم تتدخل سلبية المحاكاة العمياء - أن يجيء رد الفعل على صورة عربية فريدة في نوعها وطبيعتها. وهذا الذي نقوله الآن يصدق على الأدب صدقه على الفن بجميع أشكاله، ونسوق مثلا؛ فقد نشأ في الغرب أدب «العبث» أو ما أسميناه نحن عندئذ بأدب «اللامعقول»، وكان الدافع إليه هناك هو الدافع نفسه الذي بسطناه فيما سلف، وهو أن ظروف الحياة العصرية قد مزقت المجتمع الإنساني شعوبا وأفرادا، تمزقا نشأ عنه عدم التفاهم بين متكلم وسامع أو بين كاتب وقارئ؛ إذ انسدت قنوات التفاهم بين الطرفين؛ فما يقصده المتكلم لا يصل إلى قلب السامع، لاختلاف نظرته، فيجيب جوابا بعيدا عن سياق الحديث. وهكذا جاء هذا الأدب انعكاسا للحياة المعاصرة هناك، فأغرى أدبهم العبثي هذا بعض أدبائنا لينسجوا على منواله، وكان اعتراضنا عندئذ هو أن ما دفعت إليه ضرورات الحياة هناك ليس حتما أن يكون هو ما تدفع إليه الضرورة هنا، ففيم المحاكاة؟ إنهم هناك قد شبعوا إلى حد التخمة علما وصناعة، فضاقت صدورهم، وأما نحن فلم نعبر بعد عتبة الدخول إلى دنيا العلم والصناعة، اللهم إلا في صورة سلبية متلقية، ليس فيها عناء المبادرة والكشف والإبداع، فلماذا نفزع حنينا إلى العبث كما يفزعون؟
والمفارقة التي تلفت النظر حقا، هو أننا قد نسرع إلى الأخذ بكل بدعة جديدة تظهر في الغرب، إذا جاءت في ميادين الأدب والفن، لا نقف لنرى في تلك البدعة ما يمكن أن يلتئم منها بتيارنا الذوقي وما لا يمكن، في الوقت الذي نتردد ألف مرة إذا ما دعينا إلى الأخذ بالجانب المنهجي من الحياة العقلية العلمية عندهم ، حتى لقد انقضى على لقائنا الحديث مع الغرب نحو قرنين دون أن نفتح صدورنا وعقولنا للوقفة العقلية العلمية التي هي عماد الحضارة الحديثة؛ لأنها هي التي انتهت بهذه الحضارة إلى ما يميزها من علمية النظر حتى في المجالات التي لم يكن مألوفا من قبل أن تندرج في دائرة المنهج العلمي، وبصفة خاصة ما يختص منها بالإنسان وحياته الفردية والاجتماعية، فإذا كانت حياة الغرب في حضارته الجديدة تقوم على ركيزتين؛ إحداهما علم من النوع التكنولوجي الجديد، والأخرى فنون وآداب جديدة تسرف في الاغتراف من تيار الشعور الداخلي، لعل ذلك يعين الإنسان على تقرير ذاته أمام طوفان الآلات التي يتدفق بها العلم، والتي من شأنها أن تحوله ليكون عبدا لها بعد أن كان الظن أن يكون سيدها، أقول إنه إذا كانت حضارة الغرب الحديث تقوم على هاتين الركيزتين، فقد كان موقف العربي الحديث منهما هو أن يفتح ذراعيه في فرحة الطفل، ليستقبل كل جديد في ناحية الفن والأدب، وأن يعرض عن قبول الوقفة العقلية العلمية إلا في حدود ما يحفظه أثناء دراسته، حفظا لا يصاحبه قلب مطمئن مؤمن، مع أن منطق الحياة السوية يصرخ بأنه إذا كان الإنسان ليقبل أحد الجانبين دون الآخر لأي سبب من الأسباب، فالجانب المتصل بالذات الإنسانية وذوقها - وهو جانب الفنون والآداب - هو الذي لا يؤخذ عن الغرباء بل يترك لينبع وينمو داخل الحدود، وأما الجانب العقلي العلمي فهو مشترك بين الناس جميعا؛ فلا خير في أن يأخذه عربي عن يوناني أو عن هندي أو عن إنجليزي أو عمن شاء له الحظ من سائر الشعوب أن يكون له السبق في علم أو ما يترتب على علم؛ لأن ذلك كله وليد العقل، والعقل إنساني مشترك. ولا بد لنا أن نذكر هنا عن آبائنا العرب الأولين، حين فتحوا أبوابهم ونوافذهم على الحضارات القديمة المجاورة لهم، لينقلوا عنهم ما أرادوا نقله، لم يترددوا في نقل كل ما استطاعوا الحصول عليه من نواتج العقل البشري، كالعلوم والفلسفة، لكنهم أحجموا على نقل الأدب ؛ إذ لم يتصوروا إلا أن يكون الأدب نباتا محليا ينبت في وطنه الذي ينتمي إليه.
وربما تساءل قارئ هامسا لنفسه: لماذا يزعم لنا هذا الكاتب - كما رأيناه يزعم دائما - أن العربي الحديث قد تردد في قبول الجانب العقلي العلمي من حضارة الغرب الحديث، وها هي ذي جامعاتنا وسائر معاهدنا الدراسية، مكبة على ذلك العلم بشتى فروعه ومختلف درجاته؟ والجواب على ذلك هو أن نطلب من القارئ المتسائل أن يفرق بين «حفظ» ما نتلقاه من علوم الغرب، ثم ممارسة تلك المادة المحفوظة في حياتنا العملية ممارسة تنحبس في حدودها، وبين حالة أخرى يتشرب فيها منهج ذلك العلم ليستخدمه - أولا - في المشاركة الإيجابية في الكشف العلمي، و- ثانيا - ليحمل ذلك المنهج العلمي في صدره ميزانا يزن به الأفكار العامة، كلما نشأت عند الناس فكرة يقابلون بها مشكلة عرضت لهم في حياتهم.
لكن انظر حولك بعين نزيهة، وارقب شعور العربي كما يعبر عنه في مناسبات كثيرة، نحو «العلم» وحدود قدرته، ونحو «العقل» وعجزه، ولم يكن مثل هذا الحذر في تقدير الإنسان لقدراته ليثير القلق؛ لأنه حذر مطلوب حتى لا يسرف الإنسان في ذلك التقدير إسراف الطفل الغرير الذي يمد ذراعه ليمسك بالقمر، لولا أن العربي حين يسخر من منجزات العلم الحديث، ويهزأ بالعقل الإنساني وقدراته، إنما يفعل ذلك على ظن منه بأن مثل هذه الوقفة ترضي ضميره الديني، وبأنها وقفة تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله، واعتداده بقدرته العلمية كما تشهد بها منجزاته الحديثة، فيه جرأة على رب العالمين، الذي هو العليم والذي هو القدير، وكأن أحدا من الناس على مدار الكوكب الأرضي جميعا، يسبق إلى وهمه في مثل هذا السياق، أنه خالق عقل نفسه، ولذلك فهو صاحب الفضل في كل ما ينتج عن ذلك العقل من علم ومنشآت ونظم، كلا، إن شيطانا وسوس للعربي منذ نهض في أوائل القرن الماضي وإلى يومنا، بأن العقل وقدرته رجس، فلا يجوز الاقتراب منهما بأكثر من أطراف الأنامل. وإن شئت أن تتبين ذلك، فقارن مقارنة متأنية بين معظم أوطان الجنس الأصفر - الصين - واليابان، وكوريا، وتايوان وغيرها - في الروح التي يأخذون بها الجانب العلمي والصناعي من الحضارة الحديثة، دون أن يكون في ذلك إهدار لذرة واحدة من قوميتهم، أقول: قارن تلك الروح بروح العربي إزاء هذا الجانب، ولو كان العربي في غنى عن العلم ومنجزاته لقلنا معه: كفى الله المؤمنين شر القتال. لكنه من أكثر أهل الأرض إقبالا على شراء تلك المنجزات. يذكرني ذلك بخبر سمعته من صديق، أعيده هنا لنضحك تخفيفا مما يثقل قلوبنا بالحسرة والأسى، على عربي أراد له الله سبحانه وتعالى أن تكون له الريادة، وأراد لنفسه التبعية، فيقول الخبر إن بلدا عربيا يقع على شاطئ بحر يكثر فيه السمك، لكن أهله لا يصيدونه لأنهم لا يأكلونه، وجاءت إلى أرضهم شركة أوروبية وأقامت مصنعا، فيصاد السمك ويقوم المصنع بتجهيزه وتعليبه، فأقبل الناس عندئذ على شرائه في صورته المصنعة! ولنتذكر أن الشركة الأوروبية قد استخدمت أهل البلد في عملية الصيد وقام مصنعها بالإعداد والتعليب! وفي هذا الخبر موازاة مع ما كنا بصدد الحديث فيه؛ فقد وهبنا خالقنا عز وجل «عقولا» لتنجز ما يتفق مع طبيعة العقل، وطبيعته فكر وعلم وزراعة وصناعة ... إلخ، فأهملنا عقولنا في أدمغتنا، عزوفا عن إعمالها فيما خلقت لتؤديه، فلما أنجز الغرب ما أنجزه بعلمه، اشتريناه!
لكل عصر فكرة تميزه، لا يشذ عن ذلك عصرنا، وفكرته - أساسا - هي أن يقرأ الطبيعة قراءة جديدة، لم يقرأها من قبل عصر آخر، وهي قراءة نتجت عنها للإنسان حسنات وسيئات؛ فمن العلوم الجديدة وتطبيقاتها نشأت حرية أوسع أفقا وأعمق غورا، حين تحرر الإنسان بفضلها من عوائق الطبيعة، لكن المصدر نفسه قد أدى إلى قيود من نوع جديد فرضت على الإنسان، كادت تفقده هويته وذاتيته، لولا فنون جديدة، وآداب جديدة وبعض النظم الجديدة، عملت كلها على إعادة التوازن، وهذا هو عصرنا بخيره وبشره. ولست أطالب العربي بأن يسبح في بحره عن صمم وعمى، بل أطالبه بأن يشارك بنصيب في الإمساك بعجلة القيادة، ليحمل مع غيره تبعات عصر هو يعيش فيه.
3
حوار غريب جرى بين هذا الكاتب ونفسه، عندما أمسك بالقلم ليكتب هذا الجزء الثالث من حديثه عن هذا العصر الذي هو عصرنا، فانقسمت نفسه قسمين؛ سائلا ومجيبا. وفيم الغرابة؟ أليست هذه هي طبيعة العملية الفكرية كلما وقعت لإنسان؟ ماذا تكون «الفكرة» - أية فكرة وكل فكرة بلا استثناء - إن لم تكن عند صاحبها جوابا عن سؤال دارت به نفسه وإن لم ينحدر بين شفتيه لفظا مسموعا؟ كل فكرة هي جواب عن سؤال فقد كان موضوع ما غامضا عند السؤال، وأصبح واضحا بدرجة ما عند الجواب، ولكن لا علينا، فماذا سألت النفس السائلة عند هذا الكاتب لحظة إمساكه بالقلم ليكتب، وبماذا أجابت النفس المجيبة؟
بدأت السائلة فقالت: مهلا! ألا تلحظ أن فترة الزمن التي تسميها «عصرنا» تكاد هي نفسها أن تكون فترة الأعوام التي امتدت بك على هذه الأرض؟
قالت المجيبة: إي والله إنهما ليكادان يتطابقان؛ فقد امتد بي العمر حتى أمسك بالقرن العشرين من طرفيه، أو هو أوشك على ذلك، ولكن ماذا تريدين بسؤالك؟
قالت السائلة: لقد طافت بي فكرة أردت عرضها، وهي أن أسألك: ألا يكون من الطريف ومن المفيد أن يجيء حديثك هذه المرة عن عصرنا حديثا عن صورة العصر مجسدة في خبرتك؟ فتحدث أيها الكاتب عن نفسك، تحدث عن عصرك من الزاوية التي رأيته منها.
قالت المجيبة: وهل تظنين أن أمامي طريقا غير هذا الطريق؟ ومن أين يغرف الكاتب مادة حديثة إذا لم يغترفها من تجاربه؟
وهنا بدأت أكتب لأضع حقيقة أولى بين يدي القارئ. وهي أني رجل قسمت له حياة هادئة أهدأ ما تكون الحياة، قضى معظمها (أم أقول «كلها») في بحر من كلمات قارئا حينا، كاتبا حينا، وكان ذلك منذ خرج من برعم الطفولة. إنه لم يواجه صور الحياة في زحمة الطريق، بل التقط ما التقطه منها حين وقعت عيناه عليها (وكانت له عندئذ عينان) مرسومة في كلمات، فكان كلما وقع على شيء منها بدت له الكلمات كأنها مصابيح يفهم على ضوئها ألغازا، مما شهده بالفعل في مسالك الناس، وما يكون «العصر» الذي نتحدث عنه، إلا أناسا وما سلكوا؟ ومن السلوك ما يبني ومنه ما يهدم، أو يذهب في الهواء هباء مع الهباء.
وصورة الحياة خلال هذا القرن العشرين، هي - كما انطبع بها صاحب هذه الكلمات - حروب وثورات تملأ النصف الأول من القرن، فكأنها الفئوس تهوي على البنيان العتيق لتهدمه. يتلوه ربع القرن، جاء كأنه الصدى لتلك الحروب والثورات لأنه شغل نفسه بأن يهيل البنيان المتهاوي ركاما من الأنقاض، ثم بدأت بعد ذلك بشائر رفع الأنقاض لتخلو الأرض لبنيان جديد يقام على فكر جديد. والأمل هو أن يتحقق هذا الحلم إبان القرن الحادي والعشرين، فأما أولى هذه المراحل الثلاث فهي التي شهدت حربين عالميتين؛ الأولى فيما بين 1914م و1918م، ولم تقع أنباؤها على مسمع هذا الكاتب إلا كما تقع أواخر الصدى، صوتا خافتا محيت حروفه ومعالمه، ففقد المعنى. وأما الثانية فكان صاحبنا ينتقل مع العمر بين الشباب والرجولة، ومع ذلك فلم يدرك أبعادها ومغزاها كل الإدراك، مع أنه قضى شطرا منها في إنجلترا دارسا، فشهد شررها من بعيد فعرف لمحة من ضراوتها، وهي حرب امتدت ما بين 1939م و1945م. ومع الحربين العالميتين، وقعت في الفترة التي نتحدث عنها، ثورات وحروب إقليمية كانت بالنسبة إلى الحربين العالميتين بمثابة الهوامش التي تورد تفصيلات توضح ما قد ورد في المتون، وذلك إذا رأينا في تلكما الحربين ما يشير إلى انقلاب حضاري وشيك الوقوع، تتغير فيه أوضاع العالم تغيرا ينقله من قديم إلى جديد. ومن الثورات نذكر ثورة روسيا سنة 1917م، وثورة مصر سنة 1919م، ومعها ثورة الهند، ومن الحروب الإقليمية نذكر الحرب الأهلية في إسبانيا في الثلاثينيات بين اليمين واليسار. وكان من أهم معالم تلك الفترة «فاشية» موسوليني في إيطاليا، و«نازية» هتلر في ألمانيا؛ مرحلة صخبت بدوي المدافع في ساحات القتال وبهتافات الحناجر في شوارع المدن، وبملايين الضحايا سالت دماؤهم لتشهد على غفلة الإنسان وهو يمسك بالزمن حتى لا تتحرك خطاه، ولتشهد في الوقت نفسه على طموح الإنسان، وهو يدفع الزمن دفعا لينقل قدميه سائرا بالناس إلى أمام.
ولقد أراد الله لهذا الكاتب أن يكون رفيق كتاب متعلما ومعلما، وصاحب فكر حر ناقد يبحث في وقائع الدنيا عن «أفكارها» التي تخفيها وراء ظاهرها، وحامل قلم يرصد ما قد اختلجت به نفسه من رؤى، فرأيناه خلال ما وعاه من تلك الحروب والثورات، قد استخلص لنفسه شيئا من لبابها كما يراها. وكان من ذلك اللباب الذي استخلصه، والذي وجد مصداقه فيما يحياه هو في شخصه وفيما يكابده في تلك الحياة من شد وجذب، أقول إنه كان قد رأى في اللباب الذي استخلصه مما حوله، ومما يحس ويعي أن هذا العصر بحروبه وثوراته قد جاء إلى الناس بأضداد لم يستطيعوا حتى هذا اليوم أن يوفقوا بينها لتستقيم بهم حياة وتستقر.
وفي مقدمة هذه الأضداد ما تطلبه العصر من حرية للإنسان الفرد، وما تطلبه في الوقت نفسه من سيطرة الجماعة على كل فرد من أفرادها، ومن تكون هذه الجماعة؟ إنها في معظم الحالات تكون متمثلة في إرادة حاكمها وفي لسانه، فما يريده هو يصبح بقدرة قادر ما تريده الجماعة كلها، وما ينطق به لسانه هو يكون بمشيئة الله ناطقا بما تريد الجماعة أن تقوله لو كان لها لسان. لقد كان صاحب هذه الكلمات شابا في فترات الثورات والحروب، كان قارئا دءوبا للكتاب العرب ولبعض الأعلام من كتاب الغرب، فكان أعمق الأثر فيما تركه هذا كله في نفسه، هو أن الأولوية الأولى في القيم الإنسانية، إنما تكون لحرية الفرد فكرا ونشاطا، مع ما يراعى في هذه الحرية الفردية من عدم العدوان على حريات الآخرين. وكيف يخرج بنتيجة غير هذه النتيجة، ما دام قد قرأ متفهما مترويا، ما كتبه أحمد لطفي السيد، وطه حسين والعقاد وهيكل وسلامة موسى وغيرهم من أعلام ذلك الجيل؟ ثم كيف يخرج بنتيجة غير هذه عن حرية الفرد من الناس فكرا وفعلا، بعد أن قرأ شيئا كثيرا بما كتبته الطليعة الفكرية في إنجلترا بصفة خاصة ممن أطلقوا على أنفسهم منذ أوائل القرن اسم «جماعة بلومزبري»؟ إن كل كاتب من أولئك وهؤلاء كان يترك قارئه وقد ارتسمت في ذهنه صورة للإنسان الذي يحترم إنسانيته فردا قوي الاعتداد بفرديته؛ لأنه مسئول وحده أمام ضميره، ومسئول وحده أمام الله سبحانه وتعالى عما نطق به لسانه وما قدمته يداه. أيقول يومئذ إذا سئل عن ضلالة اقترفها: لقد خطب الزعيم في الجمهور فقال:
بالحق أو بالباطل خرج صاحبنا مما قرأه لأعلام عصرنا، هنا وهناك، بأن للفرد الإنسان حقوقه التي تنبع له من فطرته التي فطره خالقه عليها ولا تمنح له هبة من أحد، وعلى رأس القائمة في تلك الحقوق الفطرية حق «الحرية» على أن تفهم عند الناس فهما مستنيرا؛ فهي دائما قوة تبني ويستحيل على طبيعتها أن تكون عامل هدم، إلا أن تهدم العوائق التي تصادفها على الطريق. لكن العصر نفسه الذي نادت بشائره بحرية الإنسان فردا مسئولا، قد حمل في أعطافه رسالة أخرى، فحواها أن يتكتل جمهور الناس في الجماعة المعينة ليجعلوا الحياة مشاركة متساوية بين الجميع، عاليهم مع سافلهم عند السفوح، أو سافلهم مع عاليهم عند الذرى. وكما كان محالا - من الوجهة العملية - أن تتحقق هذه المشاركة المتساوية إلا إذا أمسك بالزمام زعيم قوي القبضة صارخ الصوت، فلتكن هذه سنة الحياة الإنسانية؛ ومن هنا تولدت نظم سياسية في كثير جدا من بلدان العالم الثالث، التي ظفرت بحرياتها السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لها كفرت بحرية الفرد مستقلا عن قومه. إذن فلا مجال لأحزاب تصطرع في الرأي، ولا موضع لجهود فردية يسير بها أصحابها ليحققوا نجاحا لأنفسهم في دنيا الاقتصاد، إلى آخر ما نعرفه في هذا السبيل.
ولا يدري صاحب هذه الكلمات كم من الناس هم الذين أحسوا بالتضاد بين الدعوتين اللتين جاء بهما عصرنا؛ دعوته إلى حرية الإنسان، ودعوته إلى حياة المشاركة المتساوية بين الناس ومشاركة تمحو الفوارق التي قد تفضل منهم إنسانا على إنسان. لكنه - أعني هذا الكاتب - قد أحس ذلك التضاد في كل نفس شهقت به رئتاه أو زفرت، فلو أنه كان ممن يحيون لأنفسهم فكرا لجاز له أن ينطوي على أفكاره التي قد تتولد له عما يجب وما يجوز وما يمتنع فلا يحس بفكره أحد؛ ومن ثم فلا يلحظ حدة التضاد الذي أشرنا إليه فيما يخص حق «الحرية» كما جاء عصرنا مبشرا به، لكنه - أعني هذا الكاتب - قد وضع لسانه في سن قلمه منذ زمن بعيد، منذ أن كان في عشرينيات عمره الأولى، أحس به القراء أو لم يحسوا فذلك لا ينفي شيئا من صدق هذا القول، لكن الذي أحس بما يكتبه منذ ذلك الزمان البعيد هي إدارة الحكومة التي لم يكن ليعلم أين تسكن ولا من يمثلها.
ولم يكن قط هذا الكاتب ممن تعلقت نفوسهم بالسياسة، إلا كما يتأثر كل عابر سبيل من المواطنين، حتى نتوقع لإدارة الحكم أن تمد بصرها وسمعها لترى وتسمع ما يكتبه شاب هو من غمار الشباب - نعم، إنه لا يتواضع إذ يقول هذا القول عن موقعه من الناس يومئذ - وإنما كان كل اهتمامه معلقا بمستويات الفكر التي تتصل بمواقع الحياة اتصالا وثيقا، ولكنها في الوقت نفسه تعلو عن أرض هذه الحياة العملية بضع درجات لتصل إلى مبادئها ومراميها، وما هو إلا وقد أطبق عليه سدنة الحكم ذات يوم، والشاب لم يزل في باكورة حياته الفكرية ليجروه إلى تحقيق إداري طال فيه السؤال وطال الجواب:
س:
ماذا تعني بقولك كذا وكيت؟
ج:
عنيت هذا وعنيت ذاك من المعاني. وعاد الشاب إلى بيته وهو يسمع دقات قلبه في صدره لأنه خلق لحياة هادئة ولم يكن من هدوء الحياة ما تعرض له، ذلك اليوم، وكان سؤاله لنفسه شبيها بسؤال هاملت: أتريدها حياة أم تريدها ضربا من الموت؟ لا، لا بل أريدها حياة، إذن فلأحمل تبعات الحياة، المسئولة، وسوف أمضي.
وذلك هو عصرنا في أضداده التي بشر بها؛ إذ أعطى الإنسان الفرد بيمينه حق الحرية المسئولة، ثم أسرع فمحاها حين نادى بوجوب المشاركة المتساوية برغم ما قد فرق الله سبحانه وتعالى بين عباده فجعلهم درجات ؛ في قوة العضل وفي قدرة العقل وفي الهدى، وفي كل جانب من جوانب حياتهم.
ويقترن بهذا التضاد بين حق الإنسان فردا وحقه عضوا في جماعة تضاد آخر على نطاق أوسع، وهو أن نادى بضرورة استقلالية الشعوب من قبضة مستعمريها ونادى إلى جانب ذلك بضرورة اجتماع الشعوب في هيئة دولية تكون لتلك الشعوب وسيطا للمحاورة والمشاورة فيما قد يعترضها من مشكلات. إلى هنا والكلام معقول لا ينبئ بالتناقض، إلا أن هذا التناقض سرعان ما يظهر في صورتين؛ الأولى هي أن وفود الدول الأعضاء إذ هي في طريقها إلى مجمع الصفاء والإخاء والمحاورة والمشاورة، إنما تحمل في حقائبها روحا قومية متزمتة متعصبة، تعتزم أن تقول ما عندها، وألا تنصت إلى ما يقوله الآخرون، وتنتهي الجلسات ولا إخاء ولا صفاء ولا محاورة ولا مشاورة. وأما الصورة الثانية فهي أقسى وأبشع، وخلاصتها أن خمس دول كبرى قد خصت نفسها بحق، هو أن ترفض أي قرار تصل إليه سائر الدول، ولا تراه في صالحها، على أن رفضها هذا لا ينصب عليها وحدها، بل هو كاف لهدم القرار من أساسه بالنسبة إلى الجميع، وما معنى هذا؟ معناه أن تلك الدول الكبرى الخمس بمثابة من يقول لعشرات الدول الأخرى: نحن أيها السادة إخوة متساوون، إلا أننا نحن الدول الكبرى سادة وحدنا ما نفعنا يقوم وما ليس ينفعنا ينهدم، ولعنة الله على من يجرؤ فيدعي بأن التناقض أمر تأباه فطرة العقول - وهذا هو عصرنا.
هذه - إذن - واحدة. وأما الأخرى فهي عن فكرة «العدالة» مقرونة بالمساواة، وهي - كحق الحرية للأفراد وللشعوب - من أهم الحقوق الإنسانية التي ركز عليها «إعلان حقوق الإنسان» الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة في باريس في ديسمبر سنة 1948م، أي إنها حقوق يريد لها عصرنا أن تتحقق، لكن ما أبعد المسافة بين الأمنية وتطبيقها! نعم إنها لمن حسنات عصرنا أن نجد ضميره الاجتماعي العام أشد يقظة مما عرفه الإنسان في القرون الماضية، بدليل أنه قد أصبح مألوفا لنا أن نجد هيئات تسهم عن طواعية في الدفاع عن حقوق الإنسان في غير أوطانها، كما هي الحال - مثلا - في مؤسسة العفو الدولية - ومقرها في إنجلترا - تتعقب بدقة في كل أقطار العالم حالات الاعتداء على تلك الحقوق من قبل الحكومات لتعلن عنها بكل وسائل الإعلان ردعا للمعتدي. كما أصبح مألوفا لنا أن نجد حركات تعاونية تنشط تلقائيا في أي مكان من العالم لتعمل على إعانة الشعوب المنكوبة في وجه من وجوه حياتها، كما قد حدث في أقطار كثيرة لمعونة الشعوب الأفريقية إزاء ما أصابها من جفاف، وما حدث كذلك من جهود دولية لمساعدة السودان عندما نكب بالسيول وفيضان النيل في صيف 1988م.
كل ذلك محسوب للعصر الراهن، لكنه لا ينفي صورا من الظلم الظالم الذي يلحق شعوبا أو فئات مظلومة ولا يتحرك لها ضمير؛ فالإرهاب تقترفه دولة معززة عند حماة العصر وهداته غير الإرهاب تؤديه جماعة ليس لها نصيب من الرضى عند هؤلاء الحماة الهداة. حدث لهذا الكاتب أن ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الجامعي 1953-1954م، أستاذا زائرا بناء على اتفاقية عقدت عامئذ بين أمريكا ومصر لتبادل الأساتذة، فكان نصيبه أن يقع الاختيار عليه، وهناك عينت له خلال الفصل الدراسي الأول، جامعة من جامعات الجنوب، حيث التفرقة العنصرية كانت على أشدها. لقد كان يعلم قبل سفره كثيرا من تلك التفرقة بين البيض والسود (أو «الزنوج» كما وجدتهم يقولون) لكن محال على خيال أن يتخيل ماذا تعني تلك التفرقة في الواقع العملي حتى يراه بعينه. وتصادف أن قرأ صاحبنا في صحيفة يومية تصدر في البلد الذي كان يقضي فيه النصف الأول من مهمته خبرا يروي عن محاكمة مواطن أبيض قتل مواطنا أسود في حانة، ولنلحظ هنا أنه بينما يسمح للبيض أن يرتادوا أماكن السود فإنه لا يسمح للسود أن يرتادوا أماكن البيض. وجاء في الخبر المنشور في الصحيفة عن محاكمة القاتل الأبيض، نص العبارة التي نطق بها القاضي بحكمه، وفيه يقول مخاطبا المتهم ما معناه: لقد قضت المحكمة بسجنك سنتين، لا لأنك قتلت رجلا أسود؛ بل لأنك سمحت لنفسك أن تخالط السود، فوصلت بذلك جنسين أراد لهما الله أن ينفصلا . قرأ صاحبنا هذه العبارة فنقلها نقلا حرفيا في مذكراته لأنه كان يعد مادة لكتاب يصدره عن أيامه في أمريكا خلال زيارته الأولى. ولم يمض بعد ذلك يومان، حتى اجتمع صاحبنا مع مدير الجامعة في حفل عشاء وجلس معه على المائدة وفي سمر تبادلاه، سأل مدير الجامعة الضيف المصري قائلا: بماذا انطبعت نفسك عن بلادنا؟ فأجاب الأستاذ إجابة تعمد أن يورد فيها دهشته لحكم المحكمة في قضية الأبيض قاتل الأسود؛ ففضلا عن غرابة أن يحكم على جريمة قتل متعمد بالسجن سنتين، فقد كان الأغرب هو حيثيات الحكم. وهنا أطرق مدير الجامعة لحظة، ثم قال: لقد عوقب القاضي الذي أصدر هذا الحكم - وأود أن أذكر القارئ بأن ذلك كان منذ خمسة وثلاثين عاما (ونحن الآن في سنة 1988م) ولا أدري إلى أي حد قد تغيرت الصورة بالنسبة إلى التفرقة العنصرية في أمريكا.
وما دام الحديث قد انتهى بنا إلى التفرقة العنصرية فلا يجد هذا الكاتب بدا من ذكر الموقف في جنوب أفريقيا بين الأقلية البيضاء الحاكمة والأكثرية السوداء صاحبة الحق الأول في أرضها. وليس من القراء من لا يعلم حقيقة ما يجري هناك من تفرقة عنصرية بين اللونين، وشيء كهذا يراود خيال اليهود في إسرائيل بالنسبة إلى عرب الأرض المحتلة؛ فلقد ظلم اليهود على أيدي النازية في ألمانيا الهتلرية، وليس في العالم كله منصف لم يغضب لهذا الظلم، فهل يعقل أن ينتقم اليهودي المظلوم في حكم النازي لنفسه من الفلسطيني في بلده؟ وكان حماة العصر وهداته من أنصار العدالة والمساواة قد ضجوا وحق لهم أن يضجوا للوحشية النازية، وما زالوا حتى هذه الساعة يتسابقون إلى العمل على مواساة اليهود فيما نكبوا به وهو واجب يشكرون على أدائه، ولكن انظر إليهم وقد دارت الدوائر نفسها على عرب فلسطين وعلى أيدي من؟ على أيدي من ذاقوا مثل هذا العذاب، فماذا صنع حماة العدالة والحرية والحق في عصرنا؟ صموا آذانهم وأغمضوا أعينهم ، واكتفوا بعبارات مكسوة بميوعة الدبلوماسية التي تتكلم ولا تقول شيئا؛ فهذا هو تعريف الدبلوماسي الماهر - كما يقال - ومثل هذا الكيل بكيلين ومعالجة الأمور الخطيرة بوجهين هو من ملامح عصرنا.
ومع ذلك فهذا هو العصر الذي أنصف الملايين بعد عصور من الظلم والإهمال؛ ففيه قامت حركات اجتماعية إصلاحية على صورة فريدة في التاريخ كله؛ إذ هي حركات تجاوزت الحواجز الإقليمية والقومية ليجتمع بها الشبيه بشبيهه في رابطة متآزرة يشد بعضها أزر بعض في المطالبة بحقهم الضائع؛ فالعامل مع العامل مهما تباعدت بينهما المسافات واختلفت الأوطان، والمرأة مع المرأة والأديب مع الأديب، والرياضي مع الرياضي. وهكذا وبهذا التضامن المهني والحرفي عبر الحدود أمكن للأبصار أن ترى وللآذان أن تسمع حتى كسبت كل جماعة بعض حقوقها المشروعة؛ فالعمال في شتى أرجاء العالم قد انتقلوا من دائرة المحال إلى دائرة الممكن، أعني أنه بعد أن كان الرأي على امتداد التاريخ هو ألا يكون للعامل نصيب في الحكم والإدارة، أصبح ذلك ممكنا ومشروعا، بل أصبح واجبا مفروضا في كثير من الأحيان. والمرأة أضافت إلى حقوقها في البيت والأسرة حقوقا لم يكن معترفا بها، من حيث هي مواطنة تشارك بما تستطيع قدراتها ومواهبها أن تشارك به في شئون بلادها بجميع ميادينها. وهكذا قل في سائر الجماعات التي يرتبط أفرادها بما هو مشترك بينهم من مهنة أو عقيدة. على أن هنالك جماعتين لم يكونا موضع عناية في الضمير الجماعي العام، مع حقهما الصارخ في تلك العناية، إلا أنهما لم تكونا تنطقان لاستحالة النطق على إحداهما ولعجز في الصحة عند الثانية، فأما الأولى فهي «الأطفال» أينما كانوا، وأما الثانية فهي «الشيوخ»؛ فلكل من الجماعتين ضرورة ملحة في رعاية القادرين، لكنها ضرورة لم يكن يلتفت إليها أحد بالقدر الكافي على الصعيد الرسمي. وكان الفضل لعصرنا هذا أن جذب الانتباه إلى الجماعتين حتى أصبحتا اليوم موضع أرق في الضمائر.
وكذلك كان لعصرنا هذا فضل «التعاون» بين الشعوب على نحو لم تعرفه الإنسانية من قبل وذلك في أمور الثقافات المتنوعة في الشعوب المختلفة، كيف تضمن كل ثقافة منها أن تنمو على أسسها الخاصة مع إمكان تفاعلها مع سائر الثقافات، وهذه مهمة يضطلع بها في عصرنا مؤسسة اليونسكو التي هي جناح من أجنحة الأمم المتحدة. وهنالك أجنحة أخرى لكل منها شأن تختص برعايته على مدار العالم بغير تفرقة بين شعوبه؛ فكل الدول تساهم بنصيب في التمويل، على أن يكون الاتفاق مرهونا بالحاجة إليه في أي موضع نشأت تلك الحاجة. ومن هذا القبيل منظمة الصحة ومنظمة الزراعة ومنظمة العمل وهكذا.
لكن روح الإخاء التي أنشأت في عصرنا هذا التعاون بين مختلف الشعوب والاعتراف بحقوق الإنسان اعترافا أزاح نير العبودية والتبعية والخضوع، فتحررت «الألوان» البشرية بعد أن كانت السيادة للون واحد هو اللون الأبيض، ولذلك كتبت له السيادة في الحكم ولثقافته السيادة على سائر الثقافات، أقول: إن هذه الروح من الإخاء والحرية مع كل ما أثمرته في عصرنا من طيب الثمرات، لم تمنع أن يكمن وراءها روح مضادة ربما كانت أشد وأفعل أثرا، وهي روح العصبية العرقية والثقافية، وتظهر للناس في صورة التكتلات السياسية التي يتحصن بها كل فريق ضد غيره. وفي هذا المناخ المشحون بالحذر والتأهب اشتدت الحاجة إلى ترسيخ «الانتماء» ليكون كل فرد على وعي بمن هو أحق بمساندته في الشدائد. وإنه لمن عجب أن تكون هذه هي صورة العالم العصري وظروفه، كل يبحث عن مأمنه ليلوذ به إذا وقعت واقعة، والأمة العربية التي حباها الله بكل ما تحتاج إليه أمة من عوامل الوحدة ما زالت تتلفت حولها تتساءل إلى أي قطب ينتمي أبناؤها، وكأنما التاريخ لا يصرخ بأن هذا الوطن الممتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي يرتبط بثقافة واحدة في العقيدة والفن والأدب والتقاليد برغم التفاوت بين أجزائه في البعد التاريخي؛ فقد يضرب جزء منه في عمق التاريخ حتى يبلغ مطالع الضوء عند بزوغ فجره، وقد تتفاوت سائر الأجزاء بعد ذلك حداثة على صفحات التاريخ، لكن الشجرة الثقافية واحدة وطرحها ذو مذاق متشابه متقارب.
هذا هو عصرنا بما له من حسنات وفاعلية وما عليه من سيئات، لم يكتب على بابه لل «غرب فقط» حتى يظن الآخرون أن الدار ليست دارهم، بل هي دار للجميع وعلى جميعنا تقع تبعاتها.
العربي بين حاضره وماضيه
1
تجيء الأيام وتمضي، أعواما بعد أعوام، فيتغير من الإنسان ما يتغير، فلا الملامح هي الملامح، ولا القوة هي القوة، ولا الطموح هو الطموح، ولا العاطفة المشبوبة والانفعال المشتعل، هما العاطفة المشبوبة والانفعال المشتعل، ولم تعد الحواس تفعل اليوم فعلها كما كانت بالأمس؛ فالعين لا تبصر كما كانت تبصر، والأذن لا تسمح كما كانت تسمع، بل واللسان لا يتذوق الطعوم كما كان يتذوق. إلا أن شيئا ما - برغم ذلك التغيير كله - يبقى ليظل به فلان هو نفسه فلان الذي عرفه الناس. ولقد وقعت اليوم على شاهد جديد يؤيد هذه الحقيقة، وكان شاهدا من نوع جديد غير مألوف.
كان ذلك حين هممت بالكتابة عن العربي بين حاضره وماضيه، فقذفت لي الذاكرة فجأة بشبح من أصدائها الخافتة الباهتة؛ إذ وسوست لي بشيء كتبته سنة 1950م، أو ما يقرب جدا منها، عن «نشر القديم» فألحت علي الرغبة في أن أبحث عن ذلك المقال القديم الذي كتب منذ أربعين عاما (نحن الآن سنة 1988)؛ لأرى ما فيه، سواء أكان ذا صلة بما أعددته في رأسي من أفكار لأتناول في ضوئها حديثي هذا عن حاضر العربي وماضيه. ووجدت ضالتي بين مجموعة من أخوات لها، كنت جمعتها معا في كتاب جعلت عنوانه «الكوميديا الأرضية». وقرأت المقال القديم فإذا بالشعور الغريب يغمرني فيصور لي نفسي في أوائل أربعينياتها، وكأنما شغلت عما كنت بصدد البحث عنه؛ لأنصرف إلى شيء آخر، هو المقارنة بين الرجل الواحد في لحظتين من عمره، تباعدتا بما يقرب من نصف القرن، كيف كان يكتب حينئذ عن «التراث» ونشره وكيف يكتب عن الموضوع نفسه اليوم؟ وأمعنت النظر ما أمعنته لعلي أقع على مواضع الشبه بين الحالتين ومواضع الاختلاف، فكان أول ما لحظته هو أن كل ما قد حدث للرجل من تغيير، برغم هذه المدة الطويلة هو أن فترت قوته مع الشيخوخة وخفتت نبرته وبردت حرارته؛ فما كان رجل الأربعين يجرؤ على قوله بلا حذر ولا حيطة، هو هو نفسه الذي يريد رجل الثمانين أن يقوله، ولكنه تعلم كيف يضبط عبارته ويقيدها، حتى لا تندفع في تعميمات لا حق لها في إطلاقها؛ فقد يكون الشيء المعين الذي هو موضوع الحديث «أبيض» اللون، لكن «الأبيض» ليس على درجة واحدة من البياض دائما. وأظنني قد ذكرت للقارئ في مناسبة سابقة، تلك اللوحة الفنية التي رأيتها في متحف للفن الحديث، وهي لفنان له قيمته الكبرى في عالم الفن الحديث، ولم يكن في اللوحة شيء قط إلا مربعات من اللون الأبيض، مع درجات مختلفة حتى ليرى الرائي عشرات من أطياف اللون، لكل طيف منها ما يميزه عن سائر الأطياف، ومع ذلك فجميعها «أبيض». وهكذا يكون الفرق بين كاتب الأربعين وكاتب الثمانين؛ فالفكرة قد تكون واحدة في الحالتين، إلا أن رجل الأربعين كان يطلقها بلا قيد، وأما رجل الثمانين فقد تعلم مع طول الخبرة كيف يحدد المطلق ليبرز أوجه التباين بين جوانبه.
وبعد أن أشبعت رغبتي في رؤية نفسي كيف كانت، بدأت مع «سلفي» مناقشة صامتة فيما أوردته في مقاله الغاضب. نعم فلقد خيل إلي أنه كتب ما كتبه في اختلاجة الغضب مما كان ينشر عندئذ من كتب التراث ويشير إليها دون أن يسميها، إلا أن الذي هاله في المقام الأول هو كثرتها كثرة أفقدتها التوازن في البنيان الثقافي، أو هكذا ظن رجل الأربعين، فهمست لنفسي قائلا: إنني لا أعلم الآن، وقد مرت أربعون عاما أو ما يزيد عليها، منذ كتبت مقالة «نشر القديم» ولم أعد أذكر ماذا كانت تلك الكتب القديمة التي أثارت في نفسي يومئذ ما أثارت، لكن الذي أذكره جيدا هو أنني كنت قد عدت منذ قريب من إقامة بالخارج لم تقصر ولم تطل، لكنها كانت إقامة شهدت من قلاقل الحرب العالمية الثانية ما شاهدت. وحسبنا أن كان ختامها قنبلتين ذريتين تسقطهما أمريكا على اليابان، إحداهما على مدينة هيروشيما والأخرى على مدينة ناجازاكي. وبتلك الضربة القاضية وضعت تلك الحرب الضروس أوزارها - كما يقولون - وماذا يجدي أمام مئات الألوف من البشر يفتك بهم فتكا في أقل من لمح البصر، ماذا يجدي أن نقرأ للمقاتل الطيار الذي ألقى بالجحيم من عليائه على الأرض وأهلها، أنه بكى بدمع سخين لما رأى عمود الدخان يصعد فيملأ جو السماء. نعم عاد صاحبنا إلى وطنه ليجد حوارا بين علمائنا في الصحف يختلفون فيما بينهم أهو الأصح في اللغة أن نقول عنها «قنبلة أم أن نقول قنبرة»؟ فلما دار ببصره فيما حوله من كتب تدور بها عجلات المطابع عندئذ ألفى كثرتها الغالبة نشرا للقديم فكتب ما كتب.
قرأت ما كتبه رجل الأربعين فتساءلت: ترى كم بقي عندك من سلفك هذا ما يجعلكما إنسانا واحدا وكم تغير بينكما بفعل الزمن وما يحمله للأحياء من خبرة تتحدد وتزداد يوما بعد يوم؟ ها هنا رأيت أن أجري حوارا هادئا بين الرجلين: ابن الثمانين وسلفه ابن الأربعين، ليتبين من الحوار كم بقي برغم الزمن وكم تغير.
رجل الثمانين :
قرأت مقالك عن «نشر القديم» فوجدتني راضيا عنك حينا، متشككا حينا، مخالفا حينا، وأول ما وقفت عنده هو قولك: «... إن كثيرا جدا مما نقوم على نشره هذه الأيام من كتب العرب الأقدمين، لا تساوي قيمته قيمة الورق الذي طبع عليه، وليت الأمر في ضرره يقف عند حد انعدام قيمته، بل إنه ليعيد لنا جوا فكريا، قد يضطرنا اضطرارا إلى تنفس هوائه حتى تمتلئ به رئاتنا وصدورنا فنكون عندئذ بمثابة من يعود بالزمان القهقرى، ولست أدري بأي حلق أصيح حتى تسمع الصيحة، فأقول: إننا يا قوم في واد والدنيا الجديدة في واد آخر.» وملاحظاتي على قولك هذا تدور حول كلمات وردت فيها، أجريتها على قلمك بغير حساب، وكانت تتطلب ما يحددها، فبأي مقياس تزن «قيمة» الكتاب المنشور عن القدماء؟ لو كانت كل «قيمة» الكتاب عندك هي ما فيه من معلومات تنفع قارئها في صنع الأشياء، كأن يعرف منها كيف يزرع الأرض وكيف ينجر الخشب أو يصهر الحديد، فقد بعدت عن الصواب؛ لأن ذلك كله - على ضرورته - إنما هو جانب من النفع، لكن هنالك جانبا آخر يراد له أن يشيع، وهو العمل على تشكيل «الرؤية» العامة التي ينظر بها الإنسان إلى العالم وما فيه وما يؤدي إليه، وها هنا تختلف الشعوب. ونحن وإن كنا نتشابه مع غيرنا في الوسائل التي يجب أن نتوسلها في زراعة الأرض وفي نجارة الخشب وفي صهر الحديد، إلا أننا نعود فنتميز برؤية خاصة إلى الحياة الدنيا، أو هكذا ينبغي أن نكون. وتلك الرؤية «العربية» المنشودة وسائلها كثيرة منها أن نضع أنفسنا - عامدين - آنا بعد آن مع أسلافنا في مناخ واحد، لننظر معا بعين واحدة ولنسمع معا بأذن واحدة ولتنبض قلوبنا معا بدقة واحدة، ومن هذه المشاركة ينشأ الألف بيننا وبينهم، لكننا بعد ذلك أحرار، نستقل بذواتنا في مواجهة دنيانا. وليس في ذلك تناقض كما قد يبدو؛ فأنت قد تلاعب طفلك فتتقمص معه روح طفولته لتتوثق الصلة الروحية بينك وبينه، ولا بد لك بعد تلك اللحظة الوجدانية أن تعود إلى حقيقتك رجلا ناضجا يواجه الحياة بما تقتضيه، فلو أنك قد استحضرت هذا الفارق حين كتبت لتقول عن كثير من القديم الذي ننشره لا تساوي قيمته الورق الذي طبع عليه، ثم وجدت أن ذلك الغث الذي يشغلنا أحيانا، لا هو مما ينفع في الجانب العملي من الحياة، ولا هو مما يربط النفوس ليتألف حاضر وماض، لاقتربت من الصواب، فلعلنا متفقان على أن «قيمة» الكتاب القديم لا تنحصر في النفع العملي المباشر وحده، بل لا بد أن يضاف نفع آخر، هو القدرة على إحداث الأثر النفيس المطلوب فيما يتصل بين سلف وخلف لتتواصل الحلقات في وجدان الأمة الواحدة.
تلك - إذن - نقطة أولى فيما لحظته من عبارتك التي أسلفتها، أضيف إليها نقطة ثانية وأكتفي، وهي عن الصيحة التي أردت أن تصيح بها، لتقول للقوم: إننا يا قوم في واد والدنيا الجديدة في واد آخر. وإني لأصيح معك الصيحة نفسها، بعد أن نتفق على أن الدنيا الجديدة هذه أسقطت فيها قنبلتان ذريتان على هيروشيما وناجازاكي، فنحن وإن كنا نود لأنفسنا أن نشارك دنيانا في علومها الجديدة - ذرية وغير ذرية - إلا أننا نود كذلك لو أعطينا دنيانا شيئا مما عندنا، والذي عندنا هو عقيدة في «التوحيد» لو سرت بكل قوتها في قلوب البشر، لنتج عنها بالضرورة توحد للإنسان المعاصر، يشفيه من التمزق النفسي الذي جعله يرتفع بالعلم إلى ذروة ويهوي في الوقت نفسه إلى هاوية تعمي بصيرته حتى ليقذف بلدانا بأسرها بقنابله التي صنعها بعلمه. إن علوم دنيانا الجديدة قد وضعت ثمارها في أيد مجنونة عابثة، فمن ذا يستطيع أن يرد إلى المجنون رشاده وإلى العابث حكمته ليعتدل الميزان؟
رجل الأربعين :
قد تكون على كثير من الصواب فيما ذكرته من ضرورة النظر إلى الحقائق من مختلف جوانبها، حتى لا يضيع منها جانب لحساب جانب آخر. على أنني لم أرفض الكتاب القديم على إطلاقه؛ فقد ألحقت بعبارتي المذكورة عبارة أقرر فيها: «إن إخراجه واستنفاد الورق والحبر فيه إذا قام إلى جانبه ألف كتاب، مما ينقل إلينا ثمار المدنية الحاضرة والفكر المعاصر لما كان هناك موضع للشكوى ...»
رجل الثمانين :
نعم قرأت لك ذلك، فأعجبني أن تطالب بنسبة صحيحة في عناصر الغذاء الثقافي الذي نقدمه، ولكني عجبت للنسبة الحسابية التي ذكرتها وهي أن يكون مع كل كتاب ننشره عن القدماء، ألف كتاب ننقل بها فكر الحضارة القائمة. إن الأمر يا أخي ليس مرهونا بعدد ما ننشره من هذا ومن ذاك، بل هو مرهون بما «يوحي» إلى القارئ بانطباع يساعده على نسج الشخصية العربية الجديدة التي نريد لها أن تنتشر، وجوهرها أن يكون العربي عربيا قادرا على مواجهة عصره وتحدياته، فإن جاء هذا الإيحاء من قديم أو جاء من حديث فمرحبا به في الحالتين. أما الذي نرفضه - قديما كان أو حديثا - فهو أن يجيء الكتاب عاملا على الهدم وليس عاملا على البناء.
رجل الأربعين :
عفوا سيدي؛ فأخشى أن يفهم الناس من قولك هذا، أنه إذا عبأ المواطن العربي نفسه من مصادر القدماء وحدهم ففي ذلك ما يكفي إذا كانت المادة المحصلة عاملة كلها على بناء الشخصية العربية الجديدة. وإننا لنرى فيمن حولنا - بالفعل - ألوفا، بل عشرات الألوف وربما مئاتها ممن ملئوا حواصلهم من الزاد الموروث، ثم عاشوا في غيبة تامة عما يعج به عصرهم من أفكار وفنون ومشكلات، فتلك عزلة قاتلة، أدت بنا إلى كوارث متلاحقة تكرثنا؛ لأنها تقتحم علينا حياتنا من حيث لا ندري، ومن أين لنا الدراية إذا أغلقنا دون العالم أبوابنا؟ واسمح لي يا سيدي أن أقرأ لك فقرة أوردتها في مقالتي التي ذكرتها، فقد قلت ما يأتي: «إن كل أنواع العزلة شر على الحياة إذا أرادت أن تكون حياة خصبة مليئة، إلا إذا كانت عزلة مؤقتة فيها استعداد لما بعدها. وشر أنواع العزلة جميعا هي العزلة الفكرية عن سائر العالم؛ فليس الفكر طاحونة تدور في الهواء ولا تطحن شيئا، إنما الفكر يدور في بحوث علمية حول موضوع من الطبيعة أو الكيمياء أو عن نبات وحيوان ونفس واجتماع واقتصاد وتجارة وزراعة وصناعة، وعن حرب وسياسة ونظم في الحكم وفي التربية والتعليم وغير ذلك. وفي كل هذه الأمور يكتب المؤلفون من علماء الغرب عشرات الكتب تلو عشراتها بل مئات وألوف تلو مئاتها وألوفها، فهل نترك هذه الأكداس الفكرية كلها لننطوي على أنفسنا في جب مظلم؟ ... إلخ.»
رجل الثمانين :
إذا عدلت من عبارة «جب مظلم» ما يجعلها تشير إلى غرفة غنية بما فيها، لولا أن نوافذها مغلقة وجدتني على استعداد بأن أوقع معك على صدق ما ذهبت إليه.
هكذا مضى الرجلان؛ رجل الثمانين ورجل الأربعين، في حوار حول ما كتبه ابن الأربعين عن نشر التراث القديم، لكنه حوار جرى هينا لينا هادئا، لما كان بين الرجلين من صلة القربى؛ فلم يكن أكبرهما يتجاهل أن رفيقه هو أخوه الأصغر، كلا، ولا كان أصغرهما يستهين بأن محاوره قد أضاف إلى علمه وخبرته حصيلة جمعها خلال أربعين سنة تفصل بينهما، بل إن رجل الثمانين حين قرأ ما كان قد كتبه ابن الأربعين، أحس كأنه يرى شبابه في مرآة فتذكر كم توهجت فيه حرارة الشباب طموحا وقدرة وجرأة ووضوح هدف، لكن ذلك كله لم يعد يشفع له عند أخيه الأكبر تسرعا في الحكم وبصفة خاصة حين يقيم ذلك الحكم على تشبيهات أخاذة بجمال فكرتها وصياغتها معا، لكنها عند منطلق العقل موضع شك في صوابها، ومن ذلك تشبيهان أجراهما الكاتب الأصغر فيما كتبه عن «نشر القديم» وحقا لقد أجراهما بدقة في التصوير وبقلم يعرف كيف يصوغ العبارة وبنى عليها أحكامه، فهل أصابت الأحكام؟ فقد زعم في التشبيه الأول أن الكتاب القديم هو عندنا - نحن المحدثين - أقرب إلى تحفة نعنى بها ونرعاها، منه إلى كتاب نبحث في صفحاته عما ينفع حياتنا الحاضرة ويثريها، ثم راح يبني على هذا التصوير ما يبنيه، فيقول ما معناه إن النسبة بينه - أي الكتاب القديم - وبين المؤلفات التي تحمل علما جديدا ومشاعر جديدة، يجب أن تتوازى مع النسبة بين متحف الآثار - أو متاحفها مهما بلغ عددها - وبين سائر المباني التي يسكنها الناس، ويتاجرون فيها أو يعلمون فيها أبنائهم. إن هذه الأخيرة إنما أقيمت ليعيش فيها الناس، وأما المتحف فيزار للفرجة أو للعبرة. وما دام الأمر كذلك بين قديم وجديد وجب أن تكون هذه هي نفسها النسبة التي نراعيها فيما نحييه من تراث الصلب وبالقياس إلى ما ننقله عن المحدثين أو ما نؤلفه تأليفا جديدا.
وأما التشبيه الثاني فقد أقامه بين موقفنا العاطف إزاء كتاب قديم ننشره وبين موقف عاطف يوازيه، حين يقع أحدنا في خزائن كتبه وأوراقه، على كراسة قديمة كان يكتب فيها موضوعات الإنشاء وهو صغير. إنه لا يمزق الكراسة ولا يلقي بها في سلة المهملات، بل يبتسم لها ابتسامة إشفاق، ويمسح عنها الغبار، ويتخير لها مكانا ملائما في خزائنه، فهل أصاب كاتب الأربعين في التشبيهين من حيث صلاحيتهما لاستخراج الأحكام على حركة إحيائنا لتراثنا العربي؟ إن أصحاب الفكر المنهجي يعلمون أن اللجوء إلى التشبيه منزلق خطير للوقوع في الخطأ؛ إذ يندر جدا أن يكون التطابق كاملا بين المشبه والمشبه به؛ ومن ثم يجيء خطأ النتائج التي نستدلها، ولذلك تراهم يحذرون الباحثين من إقامة التفكير العلمي على تشبيهات.
وعلى ذلك فانظر إلى التشبيه الأول عند صاحبنا رجل الأربعين حين جعل الكتاب القديم ننشره لنحيي جانبا من تراث السلف، هو أشبه بالتحفة نحنو عليها ونرعاها منه إلى الكتاب ندرسه ونتفع بما فيه، فهل يصدق هذا القول على كتب تحتوي على شيء من علوم اللغة العربية؟ هل يصدق على فقه الفقهاء الكبار؟ هل يصدق على كتب التاريخ وكتب الرحلات؟ ثم هل يصدق على ديوان الشعر العربي؟ هل يصدق على كتب المتصوفة الكبار، التي عبروا فيها عن حالاتهم الروحية والنفسية في مجاهداتهم الصوفية؟ هل يصدق على النثر الفني الغني عند أدباء النثر؟ هل يصدق على بعض الجوانب العلمية الخالصة في هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك؟ إذن فليس كل ما نحييه من تراث السلف هو أقرب إلى آثار المتاحف كما زعم. وشيء كهذا يقال عن التشبيه بكراسة الإنشاء في سنوات الدراسة الأولى، يعثر عليها صاحبها إبان رجولته أو شيخوخته؛ فليست كتب اللغة التي خلفها الخليل وسيبويه من قبيل الكراسات القديمة نحنو عليها كما يحنو الوالد على صغاره، وليس شعر أبي العلاء المعري، أو من شئت من فحول الشعر العربي من قبيل الكراسات القديمة، لا ولا فقه مالك والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة شبيها بالكراسة القديمة. وهكذا قل في ذخائر الماضي، التي كتبت لتبقى موضوعا ومنهجا.
إنه شيء من الجمال الأدبي في صياغة تشبيه فاسد، أدى بصاحبه إلى خطأ في حكمه على قضية كبرى في حياتنا الثقافية. وإن الروابط الوثيقة والحميمة التي تربط كاتب هذه السطور وهو في ثمانينياته، بذلك الكاتب الأربعيني لتجعله على يقين من صدق النوايا عند سلفه الأصغر، لكن حسن النوايا لا يحول الخطأ صوابا. وسر الوقوع في مثل هذا الخطأ عند صاحبنا وأمثاله - وهم كثيرون - هو الحكم على قضية كبرى، كقضية التراث العربي وإحيائه، وكأنهم يحكمون على سطر واحد من صفحة واحدة في كتاب واحد، وربما كانت وسيلتنا إلى النجاة من الوقوع في مثل هذا الخطأ هي أن ننظر إلى المجموعة الكبرى من زاوية مفرداتها، وعندئذ لا يكون سؤالنا إلى ماضينا العربي هو: هل نحيي ذلك الماضي أو نتركه في مخابئه؟ بل ننصرف بسؤالنا نحو المجموعة كتابا كتابا؛ ومن ثم فلا يترك الحكم لفرد واحد معين مهما بلغت درايته؛ فمن المغالطات العجيبة أن يسود فينا ظن أن للتراث العربي علماءه الخاصين والمختصين، برغم تنوع مواده تنوعا يتناسب مع عدة قرون نشأ خلالها ذلك الجسم الهائل الذي نسميه بكلمة واحدة هي كلمة «تراث»، كما يتناسب كذلك مع عشرات الألوف من رجال العلم والأدب الذين أنتجوه. ومع هذه الكثرة الهائلة على امتداد ذلك الزمن الطويل يصور لنا الوهم أن فلانا أو علانا من الناس عالم بالتراث وله كلمته المسموعة، فيما ينشر منه وما لا ينشر، مع أن البداهة تقضي بأن يترك الرأي لأصحاب العلم في كل ميدان. على أن يضاف إلى ذلك وجوب الأولوية لما عساه أن يكون أقرب من سواه في قوة الإيحاء بالنهوض.
إن ضخامة سؤال يطرحه إنسان على نفسه بحثا له عن جواب غالبا ما تحد من قدرة ذلك الإنسان على الإجابة عن سؤاله، وربما سهل أمامه الصعب لو أنه سلط فكره على عنصر فردي واحد من عناصر المسألة المعروضة؛ فبدل أن يسأل العربي نفسه قائلا: على أي نحو أجعل الصلة بين حاضر حياتي وماضي الأمة العربية؟ يستطيع أن ينصرف بسؤاله بادئ ذي بدء إلى حاضره هو وكيف يرتبط بماضيه هو في حدود حياته الفردية، وعندئذ قد تلمع أمامه حقيقة كبرى استنادا إلى حقيقة فردية صغرى. ولقد قدمت لنا المصادفة البحتة في غضون حديثنا هذا أن رجع كاتب هذه السطور وهو في ثمانينيات عمره إلى شيء كتبه وهو في أوائل الأربعينيات في موضوع العلاقة الثقافية بين حاضر العربي وماضيه، ولم يكن هذا الكاتب يتذكر مما كتبه في لحظة ماضيه شيئا، اللهم إلا أنه كان قد كتب ذات يوم بعيد مقالة عن نشر التراث، ودفعه التطلع إلى البحث عن تلك المقالة في مظانها، حتى وجدها وقرأها فاستحسن فيها ما استحسن، واستقبح ما استقبح ، مما دعاه إلى وقفة قصيرة يناقش فيها نفسه أين الصواب فيما وقع في الماضي وأين الخطأ ولماذا أخطأ حين أخطأ؟ إذن فقد كانت استعادة لحظة فكرية ماضية من مجرى حياته الفردية مناسبة أثارت حوارا داخليا، ربما أفاد منه هو في توضيح رؤيته، بل صادفت كلمات حواره هذا قارئا يتابعه بفكرة قبولا أو تعديلا أو رفضا، فيعمل كل ذلك عنده على توضيح رؤيته كذلك، فماذا لو وسعنا رقعة هذا المثل الصغير الفردي الواحد، لننتقل بعقولنا إلى أفق أوسع، بأن نجعل الأمة العربية تحاور ماضيها؟ فكيف يتم لها ذلك إلا - أولا - بأن يجد القارئ العربي مسألة تقع في دائرة اهتمامه وقد تعرض للرأي فيها كاتب من أبناء الماضي، و- ثانيا - بألا يحيط القارئ العربي الجديد زميله الماضي بهالة التقديس؛ ومن ثم ينفتح أمامه مجال الحوار الحر بين عربي وعربي باعد بينهما الزمن، لكن بقيت بينهما مسألة مشتركة مما يمس عصبا حيا من الحياة العربية أو الحياة الإنسانية على إطلاقها.
وانظر إلى أمثلة حية في نفر من أعلام الفكر العربي الحديث، تجد هؤلاء الأعلام قد استمدوا عظمتهم من مثل هذا اللقاء بين عربي جديد وعربي قديم في موضوع مشترك، فكان ما كان من اتفاق في الرأي أو اختلاف، فكم كنا لنفقد من موهبة طه حسين إذا لم يكن قد التقى بالشعراء العرب الأقدمين كما التقى؟ وكم كنا لنفقد من قدرة مصطفى عبد الرازق إذا لم يكن قد أدار فكره في فلسفة الفلاسفة وفقه الفقهاء من العرب الأقدمين؟ وكم كنا لنفقد من عباس العقاد إذا لم يكن قد عاش مع البطولات العربية في أبطالها كما عاش، وكم كنا لنفقد من مصطفى صادق الرافعي إذا لم يكن قد اتجه بقلبه وبعقله نحو السلف؟ وكم كنا لنفقد في عالم الشعر إذا لم يتمثل أحمد شوقي نماذج الفحول من الشعراء العرب؟ وكم كنا لنفقد من أدب توفيق الحكيم إذا لم تكن عيناه قد التقطتا أهل الكهف وشهرزاد والسلطان الحائر وغيرها من التراث العربي؟ وهكذا تستطيع أن تراجع أعلام حياتنا الثقافية واحدا واحدا لتجد الكثرة الغالبة منهم قد انقدحت لهم شرارة الموهبة عندما مست مواهبهم كنوز الأقدمين. وهكذا يكون العربي الموهوب بين حاضره وماضيه.
الإحياء في كل معنى من معانيه لا بد أن يتضمن بث الحياة فيما لم يعد حيا، وبث الحياة في كل معنى من معانيه لا يتحقق إلا إذا سرى في كائن حي؛ فعناصر التربة الكامنة في الأرض تمتصها جذور الشجرة فتحييها حين تمتصها وتجعلها قابلة لأن تسري في كيان الشجرة فتتغذى بغذائها وتنمو بنمائها وتثمر بأثمارها. وهكذا أيضا يكون إحياء الماضي بإحياء مأثوراته، فافرض - مثلا - أن شاعرا عربيا قديما ترك ديوانا من شعره، لكن ذلك الديوان مرت عليه أصابع الإهمال لتغرقه في هاوية النسيان، ثم يحدث أن يقيض الله منا باحثا أديبا محبا للشعر، فيهم بإحيائه فماذا عساه صانع به؟ أيكفي أن يحققه وأن ينشره على ورق أبيض، فإذا بالديوان بعد بعثه قد ركن على رفوف المكتبات؟ إنه لو كان ذلك هو مصيره الجديد فالذي أصابه لا يختلف كثيرا عما كان مصابا به قبل بعثه، اللهم إلا أن نكون قد بدلناه كفنا جديدا بكفن أبلاه الزمن والإهمال، ثم هل يكفي أن تضاف إلى نشره خطوة فيقرأه قارئ أو قل فيحفظه حافظ عن ظهر قلب، دون أن تعمل تلك القراءة وهذا الحفظ على أن يهتز بالشعر وجدان قارئه وحافظه. إنه لو كان ذلك هو كل ما حدث فلا يكون قد حدث للديوان القديم المنشور سوى أن نزل من رفه ليمشي بين الناس على رجليه، إنه بكل ذلك لم تعد إليه حياة، وإنما يبعث الديوان حيا إذا ما تمثله قراؤه تمثلا توحدت به قلوبهم مع قلب الشاعر، فأحسوا ما أحسه الشاعر ورأوا ما رآه وسمعوا ما سمعه، ولو للحظات خاطفة؛ ففي تلك اللحظات تتوحد هوية العربي الجديد مع هوية الشاعر القديم، ثم تمضي اللحظات لكنها تترك وراءها أثرا عند قراء الديوان قد يكون خافيا خافتا أول الأمر، لكنه بعد أن يضاف إليه على امتداد الأيام أثر وأثر وثالث ورابع تكون خيوط الانتماء العربي قد نسجت في النفوس نسجا قويا، وكأنما السلف والخلف قد اجتمعوا معا على صعيد واحد.
إننا لا نطالب العربي الجديد الذي يتلقى نتاج سلفه أن يأخذه شيء من خشوع أو خضوع، يكون من شأنه أن يصغر أمام سلفه، لا، بل الأرجح أن يجد الخلف في أعمال سلفه قصورا إذا قيس بما قد تراكم للخلف من خبرة السنين، بل الذي نريده هو أن يتلقى العربي الجديد أعمال سلفه بالحب والنقد معا، لينشأ في نفسه ما يشبه الحوار، وبمثل هذا الحوار الحي قد تنقدح شرارة الإيحاء الذي يتلوه إبداع، فيكون في هذه الحالة إبداعا يحمل في شرايينه دم الماضي، فيتلاحم ماض بحاضر في نفس واحدة.
إنه ليخيل لهذا الكاتب، أن خطأ ما يقع لنا عندما نتحدث عن إحياء الماضي في قلوبنا بإحياء كنوزه. وربما كان موضع ذلك الخطأ هو أننا لا نحسن تصور العلاقة بين طرفي الموقف؛ ففي الموقف طرفان؛ الموروث عن الماضي من جهة، والإنسان الجديد الذي نريد له أن ينعم وأن ينتفع بهذا الموروث. والخطأ الذي أشرت إليه هو أننا ننظر إلى الأمر وكأنه أمر تكليف؛ فهنالك واجب قومي يفرض نفسه علينا وهنالك مواطنون محدثون لا بد لهم من الاضطلاع بهذا الواجب، فكأننا بهذه النظرة نعطي الأولوية للماضي وموروثه، لتقع التبعية على العصر الحاضر وأبنائه. والأقرب إلى الصواب هو أن نعكس الترتيب في أذهاننا بحيث نبدأ من حياة العربي الجديد وكيف نعلو بها لننتهي إلى أن إحياء شيء من فكر السابقين ومن شعورهم قد يكون إحدى الوسائل الفعالة في ذلك التسامي الذي أردناه، إذا نحن عرفنا كيف نحييه في النفوس، فالغاية المنشودة هي العربي الجديد والرقي بحياته مادة وروحا، ومن الوسائل المحققة لتلك الغاية أن يكون على صلة حية بماضيه من أية زاوية اختارها لنفسه؛ فالماضي وما تركه لنا واسع سعة المحيطات، بعد أن نتصور تلك المحيطات وقد انقلب أجاجها عذبا. وليس المطلوب من كل فرد عربي على حدة أن يشرب المحيط، بل إنه ليكفينا أن تصل إلى كل مواطن شربة ماء يستسيغها فترويه.
2
لا أستطيع أن أحصر لك الصفات الأساسية التي ذكرها رجال الفكر على اختلاف عصورهم وشعوبهم، كل من وجهة نظره، ليميزوا بها الإنسان من سائر خلق الله، وربما كان أكثر تلك الصفات شيوعا، صفة «العقل»، على تفاوت شديد بعد ذلك في فهم الناس لكلمة «العقل» هذه، وإن يكن معناها المقصود محددا قاطع التحديد، عند أول من أبرز هذه الصفة مميزا للإنسان، وأعني أرسطو فيلسوف اليونان، وذلك حين جعل تعريفه للإنسان أنه «الحيوان الناطق» قاصدا ب «النطق» هنا قدرة الإنسان على التفكير العقلي الذي يعرف كيف يستدل النتائج من مقدماتها استدلالا صحيحا. لكن تاريخ الفكر قد شهد رجالا آخرين بتعريفات أخرى لما يميز الإنسان؛ فمرة هي «الإرادة»، ومرة هي «الشعور»، والشعور الديني بصفة خاصة.
والراجح عند هذا الكاتب، هو أنها صفات تصدق كلها على الإنسان مجتمعة، ويمكن بعد ذلك ترتيبها ترتيبا يبين أيها أسبق من أيها. ومهما يكن الأمر في ذلك، فإن صفة من تلك الصفات المميزة للإنسان، تلفت نظري من ناحيتين؛ الأولى أنها نادرا ما تذكر، الثانية أنها تلزم للعربي في عصره هذا؛ لأنها قد تنبهه إلى ما هو غافل عنه، برغم ضرورته وحيويته، وأعني بتلك الصفة ما قد عبر عنه الشاعر الإنجليزي الرومانسي من شعراء الكوكبة العظيمة التي ظهرت في مرحلة مبكرة من القرن الماضي، وهو الشاعر «شلي» في قوله عن الإنسان إنه هو ذلك الذي ينظر قبل وبعد، قاصدا بذلك أنه هو الذي يتميز بذاكرة تحفظ له الماضي وتعيده أينما استدعى وكيفما، ثم يتميز كذلك برؤية المستقبل المرجو قبل وقوعه. نعم إنه يمكن القول عن سائر الكائنات الحية، من نبات ومن حيوان، أن في طبائعها ما يفعل فعل الذاكرة، وما يؤدي شيئا يشبه استباق المستقبل قبل وقوعه، وإلا فكيف نضع البذرة المعينة من نبات معين، فإذا هي تعيد تاريخ ذلك النبات مرحلة مرحلة؟! وكيف يحدث لهذا النبات نفسه أن تجيء مراحل نموه على النحو الذي يؤدي إلى الثمرة ذاتها التي أخرجها أسلافه؟! وما نقوله في هذا عن النبات، نقول أكثر منه على الحيوان، لكن الإنسان - مع ذلك - يظل له موقف خاص يميزه في استدعاء الماضي واستشراف المستقبل، وهو أنه يدبر لنفسه ماذا يريد استدعاءه من ماضيه وماذا لا يريده في اللحظة المعينة، كما يدبر لنفسه كذلك كيف يريد لصورة مستقبله أن يكون، فإذا كانت بذرة القمح لا تستطيع إلا أن تخرج نباتها كما كان أخرجه أسلافها، والثور مع البقرة لا يملكان إلا أن يجيء النسل ثورا أو بقرة على غرار ما قد حدث في نوعهما في أجياله السابقة، فإن الإنسان وحده هو الذي يتحكم فيما يستدعيه من مخزونات الماضي، ليستثمره في حاضره على أية صورة شاء، كما يتحكم في تصور المستقبل الذي يريده ويسعى إلى تحقيقه.
لكن النظر إلى ما هو «قبل» وما هو «بعد» - أخذا بالصياغة التي صاغها الشاعر «شلي» - إنما هما الطرفان اللذان تتوسطهما لحظة «الحاضر». وسؤالنا المطروح هو عن موقف العربي اليوم بين حاضره وماضيه، ولم نذكر «المستقبل» في سؤالنا ذكرا صريحا؛ لأن تصوره إنما يتولد بالضرورة بناء على الطريقة التي يجمع بها الإنسان ماضيه وحاضره. وإني لأخشى أن تقع هذه التقسيمات في نفس القارئ موقع التهاويم المجردة التي لا صلة بينها وبين حياته الفعلية كما يحياها، مع أنه لو نظر إلى نفسه من باطن، وجدها تحمل له في وقت واحد ماضيه وحاضره وما يرجوه في مستقبله، إلا أن التفاوت بين الأفراد في درجات وعيهم بالأبعاد الثلاثة، هو تفاوت شديد، بمقدار ما يختلفون فيه من درجات وعيهم، وعلمهم، وخبرتهم، ودقة إحساسهم بما حولهم. إنك أنت بمفردك، وأنا بمفردي، وهو بمفرده، وهي بمفردها، وكل إنسان على وجه الأرض بمفرده، يحمل في أصلابه وأعصابه، هذا الذي نطلق عليه اسم «الماضي» مع الذي نطلق عليه اسم «الحاضر» مع تصور ما نتوقع حدوثه غدا أو بعد غد، مما خططنا لحدوثه، فتجيء الأحداث مواتية فيتحقق، أو لا تجيء فلا يتحقق كما تصورناه. وبعبارة أخرى ربما كانت أوضح وأقرب إلى الأفهام، أقول إننا حين نتحدث عن «حاضر» العربي وعن «ماضيه» فإنما ينصب حديثنا على حالات «داخل» الإنسان، وليس على أشياء خارجه، وإذا كنا نستهدف أن نغير من وقفة العربي اليوم إزاء حاضره وماضيه، فإن الذي نريد أن نغيره في حقيقة الأمر، هو تصورات اجتمعت له في جوفه عن ماضيه وعن حاضره معا.
إنني في هذا الموضع من سياق الحديث، حريص كل الحرص على أن يتأكد للقارئ في وضوح ناصع، بأن حديثنا هذا عن ماضينا وحاضرنا، إنما ينصب انصبابا مباشرا على حياته الواقعية التي يحياها كل لحظة، وليس هو نسجا من خيال قد لا يكون ذا صلة وثيقة بلحمه ودمه، ولذلك أدعوه إلى تضييق دائرة الحديث بحيث نحصرها في ثلاثة أيام فقط من حياتك، هي يومك الذي أنت فيه، وأمسك، وغدك، وبعد ذلك نسأل: أين تلتقي هذه الأبعاد الثلاثة؟ هل تراها مجتمعة معا على قارعة الطريق، أو في غرفة من غرف منزلك؟ لا، بل إنها لا توجد ولا تلتقي إلا في رأسك أنت، فما حدث بالأمس مما تعرفه موجود في ذاكرتك الآن؛ أي إنه بالنسبة إليك لم يعد ماضيا، بل هو حاضر مع الحاضر، وكذلك قل عن غدك، إنه لم يولد بعد، لكن توقع ما قد يحدث فيه، مرسوم في خواطرك الآن؛ أي إنه حاضر مع حاضرك، وأما يومك هذا الذي يتوسط بين أمسك وغدك، فإذا استثنينا منه اللحظة العابرة التي أنت فيها، تراه ما تراه وتسمع ما تسمعه، وتعاني ما تعانيه، وجدنا أن بقية لحظاته إما مضت مع الماضي المحفوظ في ذاكرتك، وإما هو جزء يضاف إلى مستقبل لم يولد بعد، وحضوره هو حضور في ذهنك أنت، تتوقع به ما سوف يحدث، سواء تحقق توقعك أم لم يتحقق. ومعنى ذلك كله أنك تحمل معك ماضيك ومستقبلك في كل لحظة حاضرة، فإذا أردنا لأي شيء من هذه الأقسام أن يتغير فلن يكون التغير إلا في شخصك أنت وما انطوى عليه.
وأزيد الأمر وضوحا وتوضيحا، فأقول ليس «الماضي» شيئا قائما فيما هو قائم حولنا ، وإلا لما كان «ماضيا»؛ فكل ما هو قائم، تقع عليه العين، وتسمعه الأذن، وتمسه الأيدي، هو «حاضر» حتى ولو كان الذي صنعه قد مضى وترك وراءه ما صنع، الهرم الأكبر شيء حاضر كأي شيء آخر ذي وجود حقيقي في عالم الأشياء، والذي مضى هو خوفو والذين أقاموا له الهرم، وديوان المتنبي شيء حاضر بين أيدينا لكل من أراد أن يسمع شعره، والذي مضى هو شخص المتنبي، فإذا سئلنا: أين هو «ماضينا» الذي يراد لنا أن ننسج خيوطه في ثوب «حاضرنا»؟ أجبنا بأن ماضينا بهذا المعنى الحي، هو ما «نعلمه» عنه؛ أي إنه موجود منسوج في حياتنا بالمقدار نفسه الذي هو «حاضر» به في رءوسنا وفي وعينا وفي سلوكنا، كثيرا بكثير وقليلا بقليل، فإذا كنت - مثلا - لا تعرف معرفة المتذوق الواعي، إلا بيتا واحدا من ماضي الشعر العربي، كان «الماضي» العربي فيما يختص بالشعر، هو عندك بيت واحد، حتى ولو كان في بيتك خزائن تحتوي على ألف ديوان مما ورثناه في مجال الشعر. لقد كتب الفقهاء الأقدمون ما كتبوه في فقه العقيدة وفي فقه الشريعة، فإذا لم تكن قد «عرفت» شيئا منه، كان ماضينا في هذا الميدان بالنسبة إليك صفرا، وكأنه لم يكن لنا ماض فيه، حتى ولو قيل إن دار الكتب فيها كل ما خلف لنا الفقهاء محققا ومطبوعا على أجود ورق، وفي صورة هي أجمل ما تستطيعه المطابع. وهكذا لا يكون لماضي الإنسان وجود حي مؤثر، إلا إذا كان محصلا في أذهاننا على نحو يتيح له أن يكون جزءا لا يتجزأ من حياتنا الواعية. ولا فرق في هذا بين أن نتحدث عن فرد واحد من الناس وما قد دس في وعيه - الظاهر منه والباطن - من خبرات ومؤثرات، وبين أن نتحدث عن الأمة بأسرها، فماضيها الحي المؤثر إنما هو على وجه التحديد، ما قد وجد طريقه إلى أذهانهم وإلى قلوبهم، ثم ظهر في تشكيل سلوكهم وفي تعيين أهدافهم وفي طرائق تقويمهم للأشياء والمواقف قبولا ورفضا.
وهنا نلفت الأنظار إلى فكرة ربما كان الشاعر «ت. س. إليوت» (صاحب قصيدة «الأرض اليباب» التي وفاها نقادنا عرضا وتحليلا) أقول إنها فكرة ربما كان «إليوت» أكثر القادرين شرحا لها، وأعني بها أن ثقافة الأمة المعينة في حقبة معينة، هي حاصل جمع ما قد وعته الرءوس من مواطنيها؛ فالفرد الواحد من أبنائها، مهما اتسعت دائرة علمه، فهو لا يعلم إلا جزءا يسيرا مما نسميه بوجه عام وشامل «ثقافة الأمة» الذي هو فرد من أفرادها، وهذه الفكرة مفيدة في سياق حديثنا هذا؛ فنحن نتحدث الآن عن «ماضي» الأمة أين نراه؟! ونجيب بأنه هو ما قد وجد سبيله من الموروث عن أسلافنا إلى تيار الحياة الجارية، فهو كامن في خواطرهم، مثير لمشاعرهم، متمثل في مسالكهم. وإن ذلك كله لا يتحقق لكل فرد على حدة، بل يكون حسابه بالنظر إلى مجموع الأفراد.
فكم - يا ترى - نجد من الماضي ما هو قائم في حياة الناس، فكرا ووجدانا وسلوكا؟ ثم لا يكفينا أن نجيب عن هذا السؤال وهو قائم برأسه مبتور الصلة بأطراف أخرى لها معظم الخطر في حياتنا؛ إذ قد يكون ما هو محصل من ذلك في الأذهان والوجدان والسلوك، أضخم مما نريد؛ فهو إذا تضخم فربما تحول إلى قيد يعرقل سيرنا مع مستلزمات الحياة الحاضرة، وكذلك قد يكون أقل مما نريد؛ لأنه إذا كان كذلك، جاءت الشخصية العربية شاحبة؛ مما يؤدي إلى سرعة ذوبانها في مياه الغرباء، ومع ذلك فليست المسألة في هذا مسألة «كم» فقط، ضخما وجدناه أم ضئيلا؛ إذ لا بد من النظر إلى جانب ذلك، بل ربما قبل ذلك، إلى نوع الحصيلة التي اخترناها لتكون هي ماضينا المبثوث فينا، وذلك لأننا قد نسيء الاختيار - وكثيرا جدا ما نفعل - فنبث عوامل الضعف والشلل، من حيث أردنا القوة وانطلاقة الحياة.
وإني لأذكر في هذا الصدد شيئا من ذكريات عام واحد من حياتي، وهو العام الذي كنت فيه تلميذا في السنة الثالثة الابتدائية ، كما أذكر مدرسا واحدا ممن تولوا تعليمنا عامئذ، هو مدرس اللغة العربية. كان شيخا قوي التأثير، يبعث على الرهبة التي تجنح بنا نحو رعدة الخوف، أكثر مما يبعث على الحب وطمأنينة النفس، لكنه كان كذلك جادا طموحا. ولعله أراد أن يرتفع كل طفل منا حتى يبلغ مستواه ويصبح صورة منه، ومن ذلك أنه لم يكن يكتفي بمادة النحو الموجود في الكتاب، بل طالبنا بأن نرسم بالمسطرة خطوطا في هوامش الكتاب، تميل بزاوية معينة، لتكون شبيهة بالهوامش التي نراها في الكتب القديمة، وذلك استعدادا منا لنكتب في تلك الهوامش ما يمليه علينا من إضافات تضاف إلى ما هو مذكور في الكتاب المقرر. وما زلت أذكر شيئا مما أملاه علينا وحفظناه حفظا أصم وأعمى؛ إذ كان منه تعليق على أداة الشرط «إذا» وهو أنها «ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه». وكم تساءلت بيني وبين نفسي كلما وردت إلى ذهني تلك العبارة: ماذا تفيد؟ لا سيما والمتلقي طفل في الحادية عشرة من عمره؟ ولكم أردت، حتى وأنا في هذه السن التي تقدمت، أن أفهم لماذا قال عن أداة الشرط، التي هي كلمة «إذا» إنها خافضة لشرطها، ومنصوبة هي بجوابها؟ وخيل إلي حينا أنني قد فهمت؛ فنحن إذا قلنا - مثلا - «إذا حل الربيع تفتحت الأزهار» كان ذلك مساويا لقولنا: «عند حلول الربيع تتفتح الأزهار»، ومن هذه الجملة يظهر لنا أن الشرط في الجملة الشرطية التي ضربناها مثلا، قد تحول إلى أن يكون «مضافا إليه» إذ يقول «عند حلول ...» ويكون بالتالي في حالة خفض أو كسر، وأما جواب الجملة الشرطية فهو عبارة: «تفتحت الأزهار» فيجعل كلمة «عند» التي هي ظرف زمان، مفتوحة أو منصوبة، كما تقول مثلا: «قرأت الصحف صباح اليوم» فتكون كلمة «صباح» منصوبة. هكذا خيل إلي أني أفهمت نفسي كيف ولماذا قالت قاعدة النحو لتلميذ الحادية عشرة، إن كلمة «إذا» هي «ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه». ومع ذلك فافرض أني قد استطعت الفهم الصحيح، وأنا في مثل سني وخبرتي باللغة، فهل كان يستطيعه طفل؟ ثم افرض أن الطفل قد استطاعه، فأين وجه المنفعة؟ وإني لأدعو القارئ إلى استعادة ما أسلفناه، وهو أن العربي إذ يحيا حياته، حاملا في رأسه هذا الذي قيل له عن كلمة «إذا» وما تؤديه، فإنما هو يحيا حاملا معه نتفة من «الماضي»، لكنها نتفة عسيرة الهضم، قد تصيب المعدة بالأذى. وأما اليقين عنها فهو أنها لن تنفع حاملها غذاء يقتات منه ليكون عربيا موصول الهوية بماضيه، فإذا تصورنا أن مئات الألوف ممن يعدون بين حملة العلم في بلادنا، يحيون وهم يحملون في رءوسهم أطنانا من أمثال هذه «المعرفة» التي إن صلحت في الأركان الأكاديمية المعزولة عن الهواء الطلق؛ فهي لا تصلح لحياتنا الناهضة وسيلة حفز، ودفع، وتحريك.
ثم شاء القدر لذلك الشيخ الجاد الطموح، أن يكون هو نفسه المدرس الذي جعل من محفوظاتنا الأدبية خطبة الحجاج في أهل العراق: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، إذا وضعت العمامة تعرفوني ... إلخ» وهي خطبة مليئة بالتوعد والتهديد، مما يكره كل إنسان حر أن يكون هو أساس التعامل بين حاكم ومحكوم، فكيف يمكن لمثل هذه النتفة الأخرى من «ماضينا» إذا ما ثبتت في نفوس الصغار الناشئين، ألا تنتهي بحافظها وحاملها إلى أن يقابل استبداد المستبد بشعور بليد لا يتحرك ولا يثور، اللهم إلا إذا أدركته رحمة الله، فوجهته نحو أن يعصي «ماضيه» ولا ينصاع إليه، كلما صادف منه أمثال هذه الصور برغم روعتها في موازين الصياغة الأدبية.
لكن شيخنا الجليل لم يكن قد اقتصر على أمثال تلك المحاولات المستمدة من «الماضي»، بل تركنا والوعاء مليء بعوامل القوة. وإني لأزعم بأن أقوى ما يستمده العربي المعاصر من مطالعة الموروث عن أسلافنا، كل في ميدان تخصصه واهتمامه، هو روح الجدية، والوقار، والضمير الحي. اقرأ ما شئت من نصوص التراث، وفي أي ميدان تختاره، تجدك أمام إنسان يجد ولا يهزل، يسمو بقارئه إلى قمته ولا يهبط من قمته إلى السفوح ليرضى عنه قراؤه. وإني لأشهد الله أن ما قد بثه فينا ذلك الشيخ في دروسه، وفي شخصيته، لم يذهب عنا قبل أن يترك فينا أثرا من الشعور بالجد، والوقار، ويقظة الضمير، انعكست كلها من روح «الماضي» الذي كان الشيخ همزة الوصل بيننا وبينه.
اللغة هي الوسيلة الأولى لربط الصلة بين إنسان وإنسان آخر، يعاصره، أو يسبقه في الزمن أو يلحق به، فإذا كنا نريد للعربي اليوم أن يكون موصول الوجدان بالعربي الذي مضى، فإن أهم ما يحقق تلك الصلة هو اللغة المشتركة بينهما، على أن يكون واضحا لنا بأن تلك المشاركة لا تنفي أن تتغير أساليب التعبير بين كاتب وكاتب في العصر الواحد، ودع عنك أن تباعد بينهما مئات السنين أو ألوفها، لكن اختلاف الأساليب في اللغة الواحدة، يخفي وراءه أسسا ثابتة هي التي تضمن للغة المعينة استمرارها، أو قل إنها هي «روح» اللغة كما يقولون، وبوحي من هذه الروح يستطيع الذوق الفطري السليم - فضلا عن النقد العلمي الاحترافي - أن يفرق في مختلف الأساليب بين قوي وضعيف؛ فوجدانية الروح مع تنوع الأساليب تنوعا لا يتناهى عند حد معلوم، هو سر عجيب من أسرار «اللغة» أيا كان نوعها؛ فالأصل واحد، وأما «الإبداعية» اللغوية (كما يسميها «تشومسكي» الذي هو في الطليعة بين فلاسفة اللغة في عصرنا) فلا نهاية لتنوعها؛ فلا يكاد الطفل ذو العامين يلتقط شيئا من روح اللغة في قومه، حتى تراه قد بدأ يمارس تلك القدرة على الإبداع اللغوي وهو لا يدري؛ إذ تراه وقد استطاع أن يضع المعنى الواحد في تشكيلات لغوية لم تكن هي التي سمعها ممن حوله، إنها تشكيلات من عنده هو، خرط صياغتها على مخرطته الخاصة، حتى ليحدث في حالات كثيرة أن تجيء صياغته بعيدة عن المألوف، ولكنها مؤدية للمعنى، فيضحك السامعون للتركيبة اللغوية العربية، التي جاء بها الطفل، ومن أين جاء بها؟ إن ذلك سر الإبداع في أبسط صوره وفي أعلاها.
وهذه الحاسة اللغوية وإن تكن مشتقة من فطرة الإنسان، إلا أنها - شأنها شأن ما هو فطري في معظم الأحيان - قابلة للتهذيب والإرهاف بالتدريب الدراسي. ومثل هذه الحاسة المرهفة التي تميز الصواب من الخطأ، كما تميز الأجمل من الأقبح ، تكاد تنحصر في أبناء اللغة، دون من يتعلمونها من أبناء اللغات الأخرى. وأذكر أني في مناسبة سابقة قد رويت رواية سمعتها من المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهي أنه بعد أن أهدى كتابه «فجر الإسلام» إلى أحد المستشرقين الكبار، جاءه خطاب شكر ختمه صاحبه بقوله: «نفعنا الله بخرارة علمك»، فالخرارة عند المستشرق الكبير هي ما يخر، أما ملابساتها الأخرى التي يحسها ابن اللغة فهي شيء آخر.
ومثل هذه الحاسة اللغوية هي ما كنا نتوقع من مدرس اللغة العربية أن يبثها، ويربيها، وينميها، ولو قد فعل لما رأينا هذه الكثرة الكاثرة من الكتاب بل ومن الشعراء في هذا الجيل، تكتب على نحو ما تكتب، وتنظم على نحو ما تنظم. وبعض العلة يرتد إلى جماعة ممن وضعوا أنفسهم مواضع الأساطين في اللغة. وإذا سألت عما يفعلونه، وجدت ما يفعلونه أقرب الأشياء شبها بالحفريات الأثرية، لا تفرق بين كسرة من الخزف، وعملة من الذهب؛ فكلتاهما أثر نفيس، يستحق على التساوي أن يعنى به حفظا في الخزائن. ولا عجب أن تجد هؤلاء الأساطين إذا ما أمسكوا الأقلام ليكتبوا، جرت بهم الأقلام إلى عي، وغث، وهزال.
ولن يتحقق لنا أمل في صلة وجدانية بيننا وبين ماضينا العربي، إلا إذا تغيرت وجهة النظر إلى طبيعة اللغة، لنبثها في نفوس أبنائنا وبناتنا، بحيث يقرءون ما يقرءونه، أو يكتبون ما يكتبونه، والشعور يملؤهم بأنهم إزاء خلجات حية كأنها خيوط من عصب ينتفض تحت سن القلم، وعندئذ نقرأ ما نقرؤه مما كتبه السلف (كل فيما يثير اهتمامه) فلا يكون الذي بين أيدينا ورق بارد في كتاب، بل يتمثل لنا إنسانا يتحدث إلينا بما يتحدث، لا لكي نقول له: نعم، صدقنا. بل لنحاوره فيما يعرضه علينا، فيعود هو إلى الحياة عن طريق حوارنا معه، ونزداد نحن حياة على حياة، عندما تضاف خبرة الماضي إلى خبرة الحاضر في خط واحد موصول الطرفين. ولم يكن هذا هو الذي بثه فينا مدرس اللغة العربية وهو يعلمنا أصول الجملة الشرطية، ولا كان هو الذي بثه فينا وهو يطالبنا بحفظ خطبة الحجاج، كلا، ولا هو الذي يبثه القائمون على اللغة العربية فيمن يتلقاها دراسة أو قراءة.
ذلك - إذن - هو شيء عن «الماضي» وأين يقع منا ونقع منه. إنها جملة نطالب بربط أواصرها بين حاضرنا وماضينا، لا لكي نستشير السلف كيف نزرع القطن وقصب السكر، وكيف ننشئ مصانع الحديد والصلب ومولدات الكهرباء، ولا لكي نستشيره كيف نقيم نظم الحكم النيابي ونظم التعليم الذي تتسلسل حلقاته من روضة الأطفال إلى الدراسات العليا بالجامعات، بل نطالب بربط حاضرنا بماضينا لنستلهم ما عسانا نصون به مقومات الروح العربية في كبريائها وفي حفظها للتوازن بين ما يزول ويفنى، وما يخلد ويبقى. وإنه لميزان لو أحسن العربي إقامته كما أحسن السلف في فترات عزتهم، لعرفوا ماذا يضحى به من أجل ماذا؟ إننا نطالع القدماء لا لكي نكون عيالا عليهم، هم يأمرون ونحن نأتمر، كلا؛ فهم رجال ونحن رجال، لكننا نطالعهم لنشعر بطمأنينة من يعتصم بالحبل حتى لا تقتلعه الريح أو يبتلعه الطوفان؛ فالذي نطالعه حين نطالع القدماء، إنما هو ما أبقى عليه الدهر لجودته، بعد أن نفخ في الهواء كثيرا جدا من الغث كأنه هباء من الهباء. وإذا ما طالعت لأحد الأسلاف الذين خلدهم التاريخ، شعرت بصفاته إنسانا عملاقا ارتفع كما ارتفع لقدرات فيه، دقة علم، ونفاذ بصيرة، وقوة عزيمة، وفضيلة أخلاق ... تحس بهذا كله، وتنطبع به، فيسري في شرايينك من دمائه ما يسري، وحسبك منه أن تشعر بعزة قومية، لكونك خلفا لهذا السلف. كان الإنجليز أيام امتلاكهم للهند، يقولون: إن نسب شكسبير إلى أمتنا أعظم من تملكنا لإمبراطورية الهند. وحين قالوا ذلك عن شاعرهم العظيم، فهم لم يقصدوا بقولهم ذاك، أن شكسبير سيعلمهم بمسرحياته وبشعره، كيف تغوص الغواصة إلى أعماق المحيط، وكيف تطير الطائرة إلى قلب السماء، وكيف تجري على الأرض سيارة وقطار، بل كان المقصود - بالإضافة إلى النشوة الفنية - الشعور بالعزة القومية. وهكذا نحن حيال ماضينا وعمالقته، أو هكذا ينبغي أن نكون.
لكن انظر في غير تعصب وبلا حكم مسبق تضمره في نفسك قبل أن تنظر لترى، انظر إلى ما يقع في حياتنا من حيث العلاقة بين العربي ورجوعه إلى ما خلفه السلف من فكر وأدب وما شئت من ثمرات القلم واللسان! وسوف تعلم كم يقرأ القارئ كتابا من الماضي، بحثا عن حلول يفض بها مشكلات يومه، على ظن بأن حاكم الأمس لا بد أن يكون أعدل من حاكم اليوم، وفقيه الأمس لا بد أن يكون أفقه من فقيه اليوم، وتاجر الأمس لا بد أن يكون أكثر أمانة ونزاهة من تاجر اليوم، وامرأة الأمس لا بد أن تكون أعف من امرأة اليوم وهكذا. نعم هكذا نفتح دفاتر الماضي بحثا عن حلول لمشكلاتنا على غرار ما حلت به مشكلات الأوائل. ومن هذا الأساس المغلوط، يتحتم أن تكثر في حياتنا الحاضرة أغلاط ننحرف بها عن سواء السبيل.
3
ما زلت أذكرها لحظة من لحظات الانفعال، التي كثيرا ما أخذت بزمامي، فتراجع العقل، وتقدم الوجدان ليمسك باللجام؛ فهي لحظة عشتها في حيرة مع نفسي، وكان ذلك في آخر عام من أعوام الأربعينيات، حين قرأت - لأول مرة - تفرقة بين شمال العالم وجنوبه؛ فللشمال قوة العلم، وقوة الحرب، وقوة المال، بل وقوة الفن والأدب، وللجنوب ضعف الجهل، وضعف الهزيمة، وضعف الفقر، بل وضعف طرأ عليه في عالم الإبداع. ولم أكد أفرغ من قراءة ما كنت أقرؤه، حتى تملكتني الحالة الانفعالية التي أشرت إليها، سبحانك اللهم ربي خلقتنا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فهل كانت مشيئتك - يا رباه - أن ينكب الشرق، إن كانت القسمة بين شرق وغرب، وأن ينكب الجنوب، إن كانت القسمة بين شمال وجنوب، وأن تتراكم النكبتان على من كان «شرقا جنوبا» معا؟! وأن تجتمع النعمتان عند من كتب له أن يكون «غربا شمالا»؟!
نعم، ما زلت أذكرها، تلك اللحظة المنكودة؛ فلقد كنت قبلها أحترق غضبا كلما وجدتنا ننساق انسياقا أعمى وراء من قسم الناس إلى شرق وغرب، ليضع الهزال في الشرق والعافية في الغرب؛ ففضلا عن أن هذه القسمة لا تستقيم مع الواقع الجغرافي، فإننا لو سلمنا بتلك القسمة في الثقافات الكبرى التي شهدها التاريخ، بحيث رأينا التباين الحاد بين شرق في فارس والهند، تميز برؤية صوفية ملغزة غامضة، وبين غرب في اليونان القديمة، تميز برؤية عقلية تضع المقدمات محاولة أن تستدل منها النتائج في وضوح علمي لا يلفه الضباب، أقول إننا إذا سلمنا بهذه التفرقة الثقافية بين شرق وغرب، بقيت لنا الرقعة التي تتوسط الطرفين والتي هي الوطن العربي بمعناه الثقافي؛ ففي تلك الرقعة نشأت ثقافة ثالثة، ونمت وازدهرت وأنتجت حضارات، ولم تكن في رؤيتها العامة شرقية خالصة، ولا كانت غربية خالصة، بل أفرزت طبيعتها كيانا ثالثا تلاقت فيه عقلية الغرب مع صوفية الشرق في وحدة عضوية لا ينفرد فيها أي من عنصريها بوجود مستقل، فإذا كان لهذا المزيج قدرته على الإبداع الحضاري كما شهد بذلك واقع التاريخ، في الحضارة المصرية القديمة، وفي الحضارة الإسلامية العربية بعد ذلك، فلماذا نتنكر لأنفسنا ونتجاهل حقيقتنا وطبيعتنا؟
أقول إني كنت قبل أن وقعت لأول مرة على قسمة جديدة للأمم بين شمال قوي وجنوب ضعيف، على كثير من قلق نفسي وعقلي معا، أحاول أن أقيم الدليل على أن لنا ثقافة تجمع بين الحسنيين، فلما صادفتني القسمة الجديدة في تلك اللحظة المنكودة، أخذ مني الغيظ ما أخذ، هامسا لنفسي: ألم تكن تكفينا قسمة واحدة تحاول أن تضعنا في كفة المغبون، حتى تجيئنا هذه القسمة الثانية لتزيد الطين بلة كما يقولون؟ لكن المواجهة الانفعالية لا تنفع أحدا ولا تشفع لأحد؛ فأيا ما كان الأمر، فنحن في عصرنا هذا أمام حقيقة واقعة، وهي أن هنالك قارتين في عصرنا هذا، وهما أوروبا وأمريكا الشمالية، تجتمع فيهما «الغرب الشمال» وهما القارتان اللتان اجتمعت لهما ضروب القوة التي ذكرناها؛ في العلم، والحرب، والمال. كما أن هنالك ثلاث قارات، هي آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، تنقصها قوة «الغرب الشمال»، ومنها يتكون - بصفة عامة - «العالم الثالث». وإذا نحينا جانبا أمريكا الجنوبية، لخروجها عن النطاق الذي يهمنا في هذا الحديث، كما نحينا أستراليا كذلك للسبب نفسه، بقيت لنا الكتلة الأفروآسيوية، وهي الكتلة التي يقع فيها الوطن العربي الكبير، مشرقه في آسيا، ومغربه في أفريقيا. وعلينا أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي لنبحث له عن جواب، في صدق ونزاهة وشجاعة، وهو: ما الذي تميز به «الغرب الشمال» المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية، ومتى تميز؟ وكيف تميز؟ وما الذي نكب «الشرق الجنوب» المتمثل في آسيا وأفريقيا، ومتى حلت به نكبته؟ وكيف؟
وربما انفتح أمامنا الطريق إلى الإجابة الصحيحة، إذا أضفنا حقيقة برزت خلال هذا القرن، وهي أن الشعوب الصفراء قد أخذت شيئا فشيئا تشق طريقها إلى القوة التي ميزت «الغرب الشمال» بقدر ما أخذت تتخلص من الصفات التي أضعفت سائر الشعوب الأفريقية الآسيوية، فبدأت اليابان وحدها أولا، ثم تبعتها أقطار أخرى من بلدان اللون الأصفر. وهنا قد يساعدنا على الجواب الصحيح عن سؤالنا، أن نسأل سؤالا فرعيا، عما فعلته اليابان - مثلا - لتخرج من زمرة «الشرق الجنوب» ثقافة وحضارة؟
وتيسيرا على أنفسنا في عملية المقارنة وصولا بها إلى الإجابة المنشودة، فلنحصر النظر في الأمة العربية من جهة، وفي «الغرب الشمال» الذي هو أوروبا وأمريكا الشمالية - من جهة أخرى - قد كانت للأمة العربية ريادة حضارية مدى تسعة قرون «من أول ق7 إلى أواخر ق15 بالتاريخ الميلادي» ثم غابت عنها ريادتها، وكانت أوروبا بلا ريادة إبان تلك القرون التسعة نفسها، ثم استحدثتها خلال القرون الخمسة الأخيرة، انفردت بها في أربعة منها، وشاركتها أمريكا الشمالية في الخامس مشاركة احتلت فيها مكان الصدارة، فسؤالنا - إذن - يتحول ليصبح: ما الذي كان في أيدينا ثم ضاع؟ وما الذي كان ضائعا بالنسبة إلى «الغرب الشمال» ثم تحقق وحضر؟ ترى هل تبلغ شيئا من الحق إذا قلنا إنها القدرة القتالية، كانت لنا إبان القرون التسعة التي أشرنا إليها، ولم يكن لهم نظيرها، فهم وإن وفقوا إلى نصر في الحروب الصليبية، فقد كان نصرا مؤقتا وانتهى بهم الأمر إلى هزيمة؟ وأما بعد تلك القرون التسعة ، فقد انتقلت إليهم القدرة القتالية ولم يعد لنا منها شيء. على أن نلحظ هنا جانبا ستكون له في إجابتنا عن السؤال المطروح أهمية كبرى، وهو أن القدرة القتالية حين كانت لنا، كان سندها هو «الدين»، وأما وهي لهم فإن سندها هو «العلم»؛ فقد قاتلناهم - وكانوا هم المعتدين في الحروب الصليبية - دفاعا عن الدين بالإضافة إلى أرض الوطن. وأما هم إذ يقاتلوننا في مرحلة ريادتهم، فهم يقاتلون بحثا عن أرض يملكونها، وشعوب يحكمونها، ومواد خام يغتصبونها لصناعتهم بعد أن وقعت لهم ما يطلقون عليه «الثورة الصناعية».
وإننا لنقول الحقيقة نفسها بعبارة مختلفة، إذا وضعنا طرفي المقارنة في صورة أخرى، قائلين إنه بينما كانت أوروبا عند خروجها من عصورها الوسطى؛ لتدخل عصرها الحديث الذي هو عصر قوتها، قد جعلت ينبوعها الذي تستلهمه روح نهضتها، أسلافهم اليونان والرومان، إما بطريق الاتصال المباشر بتراثهم، وإما عن طريق العرب؛ ومن ثم فقد عرفت طريقها إلى الرؤية العقلية العلمية، وهي الرؤية التي بنيت عليها حضارة الغرب الحديثة كلها، وأقول إنه بينما كانت تلك هي مصادر إلهامها، فقد كانت الأمة العربية إبان ريادتها خلال القرون التسعة التي أشرنا إليها، تستلهم الدين؛ أي إنها كانت تستلهم وحيا إلهيا أوحي به إلى نبي رسول.
ونضع أمامنا هذه الصورة بجوانبها المختلفة، لننتقل بها إلى حاضر الأمة العربية، فنسأل عن هذا الحاضر نفسه ماذا نعني به في حديثنا هذا؟ وهنا يأتينا الجواب على درجة عالية من الوضوح؛ فحاضر الأمة العربية، من الزاوية التي تهمنا في هذا الحديث، هو أنه موقف قوامه طرفان؛ فهناك حضارة ركيزتها الأساسية هي علم طبيعي بمعنى جديد، وهنا ركيزة أساسية، هي دين وتاريخ، كانت قد قامت عليها حضارة فترت قوتها، ولكن بقيت ركيزتها وستبقى، فكيف يكون سبيلنا إلى مستقبل قوي مزدهر؟ إنه ليبدو للوهلة الأولى «وربما للوهلة الثانية كذلك» أنه لا سبيل إلا إذا عرفنا كيف ننقل حضارة القوة المستندة إلى علم، فنقيمها على أرضنا فوق ركيزتنا نحن، بما تنطوي عليه من دين وتاريخ، ترى هل هو مطلب ممكن التحقيق؟ وكيف يتحقق؟
ولست أريد لنفسي، كلا ولا أريد للقارئ أن يمر على هذه الكلمات مرا سريعا؛ لأننا لو فعلنا، أفلتت بنا المشكلة التي نحن الآن بصدد طرحها، وشرحها، وحلها، مع أنها مشكلة توشك أن تكون أخطر ما صادف الأمة العربية منذ أسدل ستار على مسرح إبداعها في أواخر القرن الخامس عشر، فماذا نعني بقولنا: هل يمكن للعقل العربي أن يقيم العلم الطبيعي الجديد على قوائم من دينه وتاريخه؟ وهو سؤال إذا وفقنا إلى جوابه، استطعنا اقتحام العقبة التي حالت، وما زالت تحول دون دخول العربي عصره الذي يعيش فيه توقيتا، ولا يعيش فيه بانيا، حتى لقد قنع بأن يأخذ من ثمرات عصره ما يتصدق به عليه سادة العصر، وأصبح بهذا الوضع تابعا، ولا يمحو عنه التبعية أن يهتف لنفسه بالحرية! ونعود فنسأل: ماذا نعني بإقامة العلم الطبيعي الجديد «الذي هو سمة العصور الأولى» على ركيزة الدين والتاريخ؟ ولكي نجيب شارحين في حدود علمنا القليل، نقول: إن موضع الجدة في العلم الطبيعي الجديد، هو «الأجهزة التي هي وسيلة البحث العلمي على نطاق واسع، ثم هي في الوقت نفسه نتيجة ينتجها البحث العلمي في صورته الجديدة، فالوسائل البحثية أجهزة، والنواتج أجهزة»، وتلك هي التقنية «التكنولوجيا» بمعناها المنهجي الصحيح، وهو المعنى الذي لم يكن هناك سواه عندما أطلق هذا المصطلح لأول مرة في أواخر القرن الماضي، ثم شاع للكلمة معنى آخر، بحيث أصبح يطلق على الأجهزة المنتجة وحدها. وكان الأولى، إذا أردنا الاقتصار على أحد الطرفين، أن نطلق الكلمة على أجهزة البحث العلمي، من مقاييس، ومناظير وغيرها مما تمتلئ به معامل البحوث العلمية، وكان الأصح بدل أن نقول العبارة الشائعة «العلم بالتكنولوجيا» فعلاقة العلم الطبيعي بمعناه الجديد، علاقته بأجهزة البحث هي من الشدة بحيث إذا سئلنا: ماذا نعني ب «التقدم» في العلم؟ كان الجواب هو أننا نعني التقدم في دقة الأجهزة المستخدمة في البحث، والعكس صحيح أيضا؛ أي إننا إذا سئلنا: ماذا نعني بالتقدم في أجهزة البحث؟ كان الجواب هو : إننا نعني التقدم العلمي. ولم يكن قط لهذه العلاقة المتبادلة بين البحث العلمي وأجهزته وجود في ماضي البشرية بأسره، وكل ما عرفه رجال العلم الطبيعي قبل القرن الماضي من أجهزة وسائل غاية في القلة وفي البساطة في آن واحد. وكان مؤدى هذا التقدم الهائل والسريع في أجهزة البحث العلمي، هو أن استطاع الإنسان المعاصر أن يعلم عن الكون علما لم يكن يجرؤ فيما مضى أن يحلم به. وأضرب مثلين اثنين وأكتفي؛ أولهما هو أن لدى الإنسان الآن منظارا فلكيا يستطيع به أن يتلقى الضوء من مصادر تبعد عن الأرض - كما قرأت أخيرا - عشرين ألف مليون سنة ضوئية، وأذكر القارئ بأن الضوء سرعته في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلومتر، فكم يكون في الساعة؟ وكم يكون في اليوم؟ وكم يكون في السنة؟ ثم كم يكون في عشرين ألف مليون سنة؟ فهذا جهاز يمد آفاق علمنا بالكون إلى هذا المدى. والمثل الثاني هو تلك الأجهزة التي يطلقون عليها اسم «الإنسان الآلي» فيتخيل السامع أنها أجهزة تشبه الإنسان في شكله الجسدي، فيكون لها أذرع وأرجل وجذع ورأس، وحقيقتها أنها أجهزة تؤدي ما يؤديه الإنسان في عملياته الإدراكية، وقد يأخذ الجهاز منها صورة الصندوق؛ فللإنسان - مثلا - قدرة على الإدراك البصري، ولاحظ أن ذلك شيء أكثر من مجرد انطباع صورة شيء خارجي على حاسة البصر، فهذه العملية كانت تقوم بها آلة التصوير «الكاميرا» أما «الإدراك» فهو أن تترجم الصورة المتلقاة من الخارج إلى «معرفة» بما يترتب على تلك الصورة من ردود الفعل ... إلخ ... إلخ.
ذلك هو العلم الطبيعي الجديد، في دقة أجهزته، وفي أبعاد نتائجه، ولعله من الواضح أنه يقتضي دقة بالغة أقصى مداها في «تحليل» الظاهرة المادية التي توضع موضع البحث، مما حدا ببعض رجال الفكر في الغرب أن يطلقوا على هذا القرن العشرين اسم «عصر التحليل» وهي صفة تصدق على عصرنا كل الصدق، وقد انعكس صداها على ظاهر الحياة الإنسانية ذاتها، انعكاسا ظهر أثره واضحا في العلوم الإنسانية كلها؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد وغيرها. وحسبك أن ترى إلى أي حد تلجأ هذه العلوم الآن إلى صياغة قوانينها في صورة رياضية، وإذا قلنا رياضية فقد قلنا آخر درجة من درجات التحليل العقلي. ولا شك في أن كل قارئ يعرف شيئا قل أو كثر، عن مدى ما وصل إليه علماء الطبيعة من تحليل المادة إلى ذرات، والذرة إلى كهارب بعضها سالب، وبعضها موجب، وبعضها محايد. وها هو ذا ضرب جديد يظهر بين مكونات الذرة، كشف عنه ثلاثة علماء، استحقوا من أجله جائزة نوبل لعلوم الفيزياء لعام 1988م، وهو ضرب بلغ من الصغر ومن الخفاء حدا جعل مكتشفيه يسمونه «الشبح» إذ رأوه أدخل في باب الأشباح منه في عالم الأجساد، فانظر كم من دقة التحليل يتطلبها العلم الطبيعي اليوم ليبلغ أصغر الوحدات التي فيها نسجت الظواهر المختلفة في نسيج واحد متصل، هو هذا الكون العظيم، وكلما بلغ العلماء بتحليلهم ما ظنوا أنه آخر المطاف، وجدوا ما هو أصغر. وأما عن القوة الجبارة التي حبست في تلك الكهارب اللامتناهية الصغر، فحدث ولن تجد لحديثك خاتمة يقف عندها.
وما علاقة هذا كله بسؤالنا الذي طرحناه أخيرا، وهو: هل يمكن للعربي أن يشارك في هذا الجهاد العلمي، شريطة ألا يتنافر مع جذور في حياته ولا تكتمل له تلك الحياة إلا بها، ألا وهي دينه وتاريخه؟ وقد يتعجب القارئ من سؤالي هذا، قائلا لنفسه: وما الذي يمنع الجمع بين الجانبين في شخص واحد؟ على أن هذا المتعجب يرجح له أن يكون على تصور للمشاركة العلمية المطلوبة هو التصور السائد فينا جميعا؛ أي أن تكون تلك المشاركة مقصورة على دراسة ما قد أنتجه آخرون وكان الله يحب المحسنين. أما أن يتصور بأن المشاركة المطلوبة مختلفة كل الاختلاف عن حفظ ما بين يديه؛ إذ تعني - أولا - أن نحيا حياة اجتماعية من شأنها أن تفرز لنا وجوب البحث العلمي الذي نواجه به تلك المشكلات. و- ثانيا - أن تنشأ في جوف تلك الحياة العلمية، اهتمامات على مستوى أعلى يرتبط بها رجال الاختصاص العلمي بمن يقابلهم في أنحاء العالم المتقدم، ليكون لنا نصيبنا المعقول في بحث أمهات المسائل العلمية التي تستهدف سد الثغرات الموجودة، والمتعلقة بأسئلة كبرى لم تجد أجوبتها بعد. و- ثالثا - أن يكون منا من يبادر الدنيا بلفتة علمية جديدة في أي ميدان من ميادين الطبيعة، فهذا كله لا يطوف للدارس العربي ببال، إلا إذا حفزته موهبته المحبطة في وطنه، إلى هجرة تضعه في مكان يقدره ويشجعه ويفسح له مجال المشاركة العلمية بهذا المعنى الكبير.
إنه لا عجب في أن يكون الوطن العربي قد انفتحت أبوابه على الغرب منذ ما يقرب من قرنين كاملين، ومع ذلك فهو يعد بمنزلة من رفض، ويرفض تقبل هذه الحضارة العلمية، اللهم إلا مستهلكا لثمارها، ودارسا في معاهده وجامعاته دراسة التلاميذ، فيحصلون ما بين أيديهم، وعلى أساسه يكون منهم المهنيون والمحترفون في ميادين الحياة العملية، حتى إذا ما واجهتهم تلك الحياة بمفاجآت لم تكن مذكورة في المادة العلمية المدروسة، استدعينا لمعالجتها خبراء من خارج بلادنا!
فإلى المتعجب الذي يسأل قائلا: وما هو وجه الصعوبة في أن ندرس علوم العصر لنضيفها إلى دين عندنا وتاريخ لنا؟ نقول: إن الصعوبة قد نشأت من الطريقة التي ربينا عليها، وتعلمنا في جوها، وهي طريقة من شأنها أن يؤخذ الدين وأن يفهم التاريخ على نحو يظهرهما وكأنما يتنافران مع العلم الطبيعي الجديد ونتائجه؛ ومن هنا نرى دارس العلم عندنا - ودع عنك أفراد الجمهور العام - يتناول ذلك العلم على حذر، خشية أن يكون الأخذ به أخذا كاملا، يصدر عن قلبه حبا وإقبالا، صدوره عن عقله دراسة وفهما، قد يتنافى مع الإيمان الديني أو مع أي شعور مما توارثناه عن ماضينا جيلا بعد جيل؛ إذ قد يتنافى - مثلا - مع خوارق الأولياء، أو مع الاعتقاد في عجز الإنسان وقصوره بالقياس إلى علم الله وقدرته سبحانه وتعالى.
فما الذي ألقى في روع العربي الجديد هذا الفزع كله من العلم الطبيعي في صورته الحديثة؟ ولكي تدرك إلى أي حد قد بلغ منه الحذر الفازع تجاه هذا العلم ، قارن بين موقف العربي في هذا الصدد، وموقف الشعوب الصفراء، كاليابان، والصين، وكوريا، وتايوان؛ لترى الفرق البعيد بينهما في الجرأة على تشرب الروح العلمية الجديدة في عالم الصناعة، حتى لترى إنتاجها الصناعي يقتحم على بلاد الغرب أبوابها لينافسها في عقر ديارها، مع أننا وشعوب البلاد الصفراء نلتقي إلى حد ما في أن لكل منا تقاليده التي انحدرت إليه عبر تاريخه الطويل، ويرفض أن يلقي بها في البحر ليستقبل الغرب الحديث بكل كيانه. إنني إذ أتأمل موقف العربي من علم عصره، وهو موقف حذر رافض بوجه عام، ولا يخدعنا أن تمتلئ أرضنا وسماؤنا بثمرات ذلك العلم، وأن تتجاوب القاعات في جامعاتنا بأصداء المقررات العلمية والمعامل وغيرها؛ لأن ذلك كله - كما ذكرت فيما أسلفته - إنما هو قطف لنتاج غيرنا، نأخذه ونحفظه ونستخدمه، وحتى إذا صنعنا شيئا مثله، جاءت صناعتنا في أغلب الحالات نسخة منقولة عن أصل أنتجه غيرنا، أقول إنني إذ أتأمل هذا الموقف الرافض لحضارة العصر متمثلة في روحه العلمية، أجدني متجها بفكري في اتجاهين؛ في اتجاه منهما أحاول مقارنة هذا الرفض بما كان للعربي من ريادة علمية خلال ما يقرب من تسعة قرون، فأسأل لماذا؟ ثم أحاول الجواب. وفي الاتجاه الثاني أحاول أن أتلمس في روح العلم الجديد معالم قد تبدو وكأنها تناقض روح الدين وروح الحياة كما مارسناها عبر عصور التاريخ.
فأما في الاتجاه الأول - الذي أقارن فيه بين موقف العربي من علم اليوم وموقفه من علم الأمس - فما أسرع ما تأتيك المقارنة بما تريد؛ فعلم الأمس منذ بدأ عند الإنسان نظر علمي حتى نهضت أوروبا في القرن السادس عشر، كان في أغلب حالاته يدور حول استخراج صيغة من رموز، باستدلالها من صيغة أخرى من رموز. ولقد تعمدت هنا استخدام كلمة «رموز» لتشمل فيما تشمله، قسمين هامين هما: «اللغة» وتراكيبها، و«الرياضة» وما فيها من أعداد أو حروف، فكان مدار الفكر العلمي في معظمه؛ إما علوما لغوية وفقهية وتحليلات شارحة لما قد سبق السلف إلى قوله، وإما علوما رياضية خالصة كالحساب والجبر والهندسة، وإما علوما أخرى تنبني على الرياضة كالفلك، وفي جميع هذه الحالات لم يكن النظر العلمي ينصب على ظاهرة طبيعية انصبابا مباشرا ليستخرج قوانينها، بل كان ينصب - كما قلت - على أقوال، أو مركبات رياضية (ومنهج الاستنباط في كلتا الحالتين واحد في أساسه)؛ ومن هنا وجبت الحيطة حين نذكر «علم» القدماء، لنقارنه بعلم المحدثين؛ فالفرق بعيد بين المعنيين برغم أن كلمة «علم» مشتركة في الحالتين، فعلم السالفين توليد كلام من كلام، أو رموز من رموز، وأما العلم الطبيعي عند المحدثين فموضوعه الطبيعة ذاتها، يتناولها تحليلا ليصل إلى أبسط وحداتها التي هي بمنزلة الخامة الأولية التي هي قوام الكائنات، واستخلاص القوانين التي على نسقها تجري الظواهر الطبيعية كما تجري. وفي هذا الميدان برع العرب الأقدمون براعة تفوقوا بها على معاصريهم في الغرب، مع ملاحظة أن القرون التسعة التي جعلناها فترة الإبداع العربي كانت هي نفسها عصور أوروبا الوسطى التي كثيرا ما توصف بأنها «العصور المظلمة» وتبدل الموقف حين نهضت أوروبا في القرن الخامس عشر؛ إذ وجهت نظرها العلمي إلى الطبيعة، بعد أن كان ذلك النظر موجها إلى صحف خلفها السابقون. وفي تغيير الاتجاه من الصحف وكلماتها إلى الطبيعة وظواهرها وكائناتها، اقتضى الأمر منهجا جديدا غير منهج التوليد الذي كان مستخدما في استخراج كلام من كلام، أو رموز من رموز، وعندئذ وقف العرب حيث كانوا؛ فبينما زاوج الغرب في حياته العلمية، فجمع فيها قديما مقروءا إلى جديد مرئي ومسموع؛ مضى العربي في طريقه يستأنف قديمه في جديده. على أننا لا نريد للقارئ أن يتجاهل جانبا في مرحلة الإبداع العربي، كان فيه النشاط العلمي منصبا على «موضوع خارجي» وليس على صيغ كلامية ليستولدها صيغا كلامية أخرى تنتج منها.
فإذا أقبل العربي المعاصر على حياة علمية، حاملا معه نظرة القدماء إلى العلم مادة ومنهجا، وجد الهوة عميقة بينه وبين ما يتطلبه العلم التقني «التكنولوجي» المعاصر بأجهزته التي يتوسل بها في عملية البحث العلمي، ثم بأجهزته وآلاته التي هي بدورها ثمرات صناعية ينتجها ذلك العلم. ومن هذه المسافة البعيدة بينه وبين عصره في الرؤية العلمية، يشعر بالغربة التي تؤدي به إلى النفور الرافض أو إلى القبول الحذر الخائف.
وأما الاتجاه الثاني الذي أجدني متجها إليه كلما تأملت موقف العربي في حاضره من علوم عصره فهو اتجاه أتساءل فيه: ترى هل يكون ذلك الشعور بالغربة الذي ينتاب العربي المعاصر، ناشئا كذلك من فجوة أخرى تفصل ماضيه عن حاضره، وهي فجوة أعني بها الفرق البعيد بين ما ينتج للعلماء من تحليل المادة الكونية إلى ذرات، والذرات إلى كهارب، والكهارب إلى صنوف منها مختلفة أظنها أربعة في عددها؛ فمثل هذا التحليل الجديد لمادة الكون قد أوحى بعدة أفكار، منها: أن الفاصل بين ما هو «مادي» وما هو «لا مادي» أوشك أن يزول؛ فها هي ذي قطعة الخشب أو الحديد، قد رددناها آخر الأمر إلى «طاقة» كهربية، ثم يضاف إلى ذلك ما هو أدعى إلى العجب، وهو أن تلك الكهارب التي تتآلف منها الذرة لا تنقاد في نشاطها إلى قوانين حاسمة محكمة، بل هي تنشط في كثير من «الحرية» فلا يتمكن العلم من التنبؤ في لحظة معينة، كيف تنشط في اللحظة التالية، فإذا أراد العلم إزاء ذلك أن يستخرج للذرة وكهاربها قوانينها، لجأ إلى منهج إحصائي لا حتمية في نتائجه. وفوق هذا وذاك، قد يتفرع عن الموقف العلمي الراهن، نتيجة نراها بالفعل عند نفر من مفكري هذا العصر وفلاسفته، وهي أن الكون «تعددي» يتعذر على الباحث فيه أن يجد «الواحدية» التي تجعله كونا واحدا موحدا فيما يشبه الكيان العضوي الفرد، خصوصا إذا تذكرنا أن «الكون» كما يراه علم اليوم، «يمتد» في كل اتجاه كأنه كتلة غازية تنتشر وتزداد اتساعا ثم تظل تنتشر وتتسع آفاقها، وإذا كان ذلك كذلك، فالكون في مجموعه اليوم لم يكن على صورته وحجمه هذا بالأمس، لا، ولن يكون غدا. ولنا - بالطبع - أن نضيف نتائج فرعية كثيرة أخرى مما انتهى إليه علم هذا العصر، كالهندسة الوراثية التي تزداد قوة كل يوم، ومن شأنها أن يزداد الإنسان قدرة على التغيير والتبديل في طبائع الكائنات الحية، بما فيها الإنسان نفسه، وهذا مثل واحد من أمثلة كثيرة.
وحيال هذه الممارسات العلمية العصرية بكل ما ذكرناه وما لم نذكره من نتائج، أراني مسائلا نفسي، كلما تأملت الوقفة الرافضة التي يصطنعها العربي الجديد، قائلا: أتكون علة موقفه هذا تلك الهوة السحيقة بين رؤية هذا العصر، وبين ماضيه الذي أورثه رؤية أخرى؟ قد يكون ذلك. وبهذا - إذا صح - يصبح الرفض العربي للوقفة العلمية ذات الطراز الذي يميز عصرنا، مؤسسا - في أعماقه - على عاملين؛ أولهما هو أن العربي قد وقف بإبداعه الفكري عند مرحلة التوليد الذي يستنبط رموزا من رموز، والرموز قد تكون مفردات اللغة ومركباتها، وقد تكون رياضية، ولم يدخل مع الغرب مرحلته العلمية الحديثة التي تتجه نحو الكون وكائناته وظواهره، بالإضافة إلى الاتجاه الأقدم نحو الكتب الموروثة عن السلف، والنسج على منوالها. وأما العامل الثاني فهو ما قد تطور إليه العلم الحديث نفسه إلى مرحلة تقنية تقوم على أجهزة وتنتج أجهزة، مما أدى إلى مزيد ومزيد ثم مزيد من تحليلات للكون وكائناته، في دقة أوصلت الإنسان إلى علم أوسع وأعمق لطبيعة الكون ومادته، فازداد بعلمه هذا قدرة لم يكن يتصورها بشر من قبل، كما أوصلته - بناء على المعرفة الجديدة - إلى أفكار واعتقادات تصطدم في - في ظاهرها على الأقل - مع وجهة النظر في الموروث العربي.
ولسنا نريد تبسيط الأمور المعقدة، لكننا مع ذلك إذا ما قلبنا النظر في العاملين المذكورين اللذين رأيناهما - على سبيل الظن - علة إحجامنا عن الأخذ بجوهر العصر لنشارك فيه مشاركة سيد مع سيد، وجدنا الخروج من المأزق الحضاري في حدود المستطاع، دون أن نلجأ إلى اعتساف في تصورنا لحقيقة الأمر الواقع، فأما عن العامل الأول، الذي يتلخص في أن العربي يسير بفكره على منهج التوليد الاستنباط وحده كما كانت الحال مع السلف ب «صفة عامة» وبرغم أنه يحصل علوم العصر بمناهجها الجديدة، إلا أنه يحصر تلك المناهج الجديدة في مجالها الأكاديمي أو المهني وحده، ولا يجاوز بها تلك الحدود ليجعلها عمادا من عمد منظوره الفكري بصفة عامة، فالتغلب على هذا القصور مرهون بضرب جديد من التعليم في مدارسنا وجامعاتنا ننقل به إلى الدارس مادة علمية ومنهجها؛ بحيث يتشرب مع العلم طريقته، فحتى لو أنسته شواغل الحياة العملية بعد ذلك، مادة الموضوع العلمي الذي درسه، بقي له منهج النظر، يستخدمه في شتى مجالات الحياة التي تتطلب فكرا منهجيا يتلاءم مع جو العصر.
وأما عن العامل الثاني، وهو أخطر شأنا، وأعني به تلك الفجوة بين ما قد انتهى إليه العلم الجديد من تحليل للمادة، ومن قدرة للإنسان على التغيير والتبديل في الكائنات الحية، ومن رؤية عامة ترى الكون مقطوع الأوصال متعدد الأجزاء، مما قد ينفي عنه التوحد، الفجوة بين هذا كله، وبين ما يظن العربي أنه رؤية عربية أصيلة، ترى في الكون واحدية، وثباتا ودواما، وتنكر على الإنسان حقه في العبث بالكائنات كما خلقها خالقها، فذلك كله يمكن إمعان النظر فيه، فنراه غير ما ظنه العربي حين قارن بين حاضر الدنيا وماضيه، فلو أن علماءنا القدماء المبدعين الذين - بحكم اهتمامات عصرهم - صبوا قدراتهم البحثية على موضوعات أخرى غير الطبيعة وظواهرها، كاللغة، والفقه، وتحقيق الحديث، وغيرها، أقول لو أن هؤلاء العلماء القدامى المبدعين قد عاشوا في عصرنا هذا، باهتمامات العصر المتجهة نحو مزيد من العلم بالكون وكائناته، لكان الأرجح أن نراهم في الطليعة مع غيرهم، كشفا لطبائع الأشياء وصوغا لقوانينها، وتحليلا للمادة إلى الذرة بمفهومها الجديد وما دون الذرة، وهو تجرؤ للمادة في معامل العلم، لا يؤدي إلى تمزق في الكون يبعده عن واحديته؛ فليس في الدين أمر يقيد الإنسان في تدبره لخلق الله عز من خالق.
إنها طريقة التربية، وطريقة التعليم، وطريقة الإعلام في الوطن العربي، لو استنارت فأنارت، لأضحى العربي الجديد عربيا حقا وجديدا حقا، وفي شخصه يتواصل حاضره وماضيه.
جسور عبرناها
كنا في حديث مضى نصور القلقلة الهائلة التي تجتازها المرحلة التاريخية التي يجتازها العالم كله اليوم، وذلك لأن هذا العالم كان قد استقرت بحياته أوضاع حضارية وثقافية معينة، حتى بلغ استقراره حد التجمد والجمود إبان القرن الماضي (التاسع عشر) في أوروبا بصفة خاصة ؛ لأن أمريكا لم تكن بعد قد دخلت مع أوروبا على مسرح الأحداث العالمية، بل كانت طوال الجزء الأكبر من القرن الماضي، ما زالت تأخذ أفكارها من أوروبا، قبل أن تقف على قدميها مستقلة بفكرها الجديد، الذي لاءمت بينه وبين حياتها العملية والعلمية الجديدة. وأما سائر أجزاء الدنيا القديمة - في آسيا وأفريقيا - فكانت إما غير مسموع بها، وإما ألحقت توابع للدول الأوروبية، فإذا نحن قلنا إن صور الحياة في أوروبا كانت قد بلغت من الثبات على قواعد معينة محددة حد التجمد والجمود، فكأننا قد انصرفنا بالحكم نفسه إلى معظم أقطار العالم. وأحسب أننا لم ننس بعد ما كان قد شاع عن التقاليد كيف أطبقت بقبضتها القوية على تفصيلات الحياة العملية في إنجلترا إبان ما يطلق عليه اسم «العصر الفيكتوري» «نسبة إلى الملكة فيكتوريا» حتى لقد كان كل حركة تتحرك بها ذراع أو قدم في موقف اجتماعي معين «منضبطة بقوالب تفرضها» التقاليد. ولما كان مما يستعصي على حيوية الحياة الإنسانية أن تنخرط في قوالب من جديد على هذا النحو الذي فرضته التقاليد، فقد شاع النفاق الاجتماعي في ذلك العصر نفسه، فيظهر الإنسان سلوكا منضبطا في صورته الخارجية ويبطن في الخفاء سلوكا آخر يحياه خلف الستائر.
لكن القرن الماضي نفسه، الذي عاش أبناؤه حياة متجمدة الصورة، هو نفسه القرن الذي أفرزت فيه العبقريات أفكارا جديدة في كل ميدان، كان من شأنها أن تحدث انقلابا جذريا في معايير الحياة الإنسانية وأشكالها. إلا أنه لم يكن من حظ القرن الماضي، الذي أفرزت فيه تلك الأفكار الضخمة أن يشهد تحولها من نظر إلى تطبيق. وأقل ما يقال في تفسير ذلك هو أنها سنة الحياة كما قد شهدها التاريخ الفكري؛ فالفكرة المعينة تولد في زمن لكنها تستغرق فترة تطول حينا وتقصر حينا، قبل أن تتقطر قطرة قطرة من ذروتها العليا لتصل إلى سفوح الجماهير، في حياتهم العملية. وإذا كانت الفكرة الانقلابية العظيمة تمس سياسة الحكم، كان الأغلب ألا تتحول إلى تطبيق إلا بعد حروب وثورات تنشب في سبيل تحقيقها، وذلك هو ما حدث فعلا في بعض ما ترتب على الأفكار المحورية التي ولدت في القرن الماضي، وعلى رأسها جميعا فكرة نقلت محور الرؤية إلى الكون في مجموعه، وإلى كل كائن على حدة في ذلك الكون؛ فبعد أن كان المحور هو أن ينظر إلى الكون وكائناته نظرة سكونية؛ أي إن الشيء المعين هو بطبيعته الأولية ساكن إلى أن يحركه عامل خارجي يأتيه من خارج كيانه؛ لأنه هو بذاته قاصر عن أن يحرك نفسه بنفسه.
وذلك هو مبدأ القصور الذاتي الذي أقام عليه «نيوتن» بناءه النظري للكون وأصبح هو إطار الفكر الأوروبي - والعالمي - خلال الفترة الممتدة من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر، أقول إنه بعد أن كان محور الرؤية العامة في العلم وفي الثقافة سكونيا على الوجه الذي شرحناه، جاءت الفكرة الدينامية الجديدة منذ أوائل القرن التاسع عشر، على يدي هيجل أولا، من حيث أساسها الفلسفي، ثم على أيدي من اتجهوا إلى فكرة «التطور» في صورها المختلفة بعد ذلك. ولا يدري هذا الكاتب على نحو يطمئن إليه، إذا كانت الحركة الرومانسية الواسعة في الأدب الأوربي في الثلث الأول من القرن الماضي والتي كانت بدورها صدى مباشرا للثورة الفرنسية التي لم يكن قد مضى على شبوبها أكثر من ربع قرن، أقول إن هذا الكاتب لا يعرف على دقة يطمئن إليها، إذا كانت تلك الحركة الرومانسية في الأدب، نتاجا في دنيا الأدب يضاف إلى هيجل في دنيا الفلسفة في ولادة الفكرة الدينامية الجديدة التي كان لها صداها في أفكار القرن الماضي؛ ماركس في نهج المادية الجدلية عند تفسير التاريخ، و«دارون» في نظرية البيولوجية عن أصل الأنواع وطريقة تطورها، وإن يكن «دارون» أقرب إلى فكرة القصور الذاتي في تفسيره؛ إذ هو يجعل لعوامل البيئة الطبيعية كل الأثر في انتخاب ما يبقى من الأنواع الأصلح للبقاء وفناء الأنواع التي لا تتكيف لبيئتها، ثم «فرويد» في نظرته الجديدة لحقيقة الإنسان ودوافعه، بل نضيف إلى هؤلاء «العلماء» فلاسفة «الإرادة» «شوبنهاور» وإرادة الحياة و «نيتشه» وظهور الإنسان الأعلى، وكل هذه الأسماء ظهرت متقاربة كالكوكبة الواحدة فيما حول منتصف القرن الماضي إلى أن جاء في أواخر القرن «أينشتين» كالمنارة تشق بضوئها سبيل العلم الجديد فيما بعد؛ أي في هذا القرن العشرين الذي نحيا اليوم في نصفه الثاني. أفكار نظرية كبرى ولدت في القرن الماضي، كما رأيت سارت جنبا إلى جنب مع تجمد التقاليد في الحياة العملية بما في ذلك الحياة السياسية التي شهدت حركة استعمارية واسعة النطاق، مدت شباكها لتلف شعوبا كثيرة في أفريقيا وآسيا، وكانت مصر ومعظم بلدان ما قد أصبح يسمى بالشرق الأوسط، بين الأقطار التي شملتها مصائد المستعمرين، فاحتاج الأمر إلى حربين عالميتين وإلى ثورات قومية لتحطم القوالب الحديدية التي انصبت فيها الحياة العملية بما فيها الجانب السياسي، بحيث تتاح الفرصة لولادة عالم جديد تتطابق فيه جدة الحياة العملية والسياسية مع الأفكار النظرية الجديدة، التي كان القرن التاسع عشر قد تمخض عنها، والتي بقيت في صياغاتها النظرية تنتظر هذا القرن العشرين ليتحول بها إلى تطبيق يجريها في مسالك الحياة حياة.
وقد أسلفنا في حديثنا السابق بعض الأمثلة لما تغيرت به حياة الناس عقب الحرب العالمية الثانية. وحسبنا الآن مثل واحد نعيد ذكره لنتناوله بتفصيل يكشف أمامنا جوانب حيوية في موقف الأمة العربية اليوم بين الثقافتين؛ ثقافتها الموروثة، وثقافة الغرب، وهذا المثل الواحد الذي نعيد الحديث فيه هو ما قد يسمى أحيانا بثورة الألوان، بمعنى أنه بعد أن كانت «الثقافة» تقاس ارتفاعا وانخفاضا بثقافة «الرجل الأبيض» أي إنها كانت تقاس بثقافة أوروبا حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، إلى ما بعد منتصف القرن الماضي بقليل كانت تخضع لهذا المقياس نفسه، إلى أن أطلق «أمرسن» صيحته المشهورة في أواسط القرن، بضرورة أن تستقل الولايات الأمريكية بثقافة تميزها. وأما شعوبنا نحن في أفريقيا وآسيا فقد كانت عليها أن تنتظر حربين عالميتين وعدة ثورات وطنية وإقليمية قبل أن يطلق سراحها الثقافي، فتحيا ثقافتها الخاصة بها، دون أن يعيرها أحد ببعدها عن ثقافة الغرب، فرأيناها بعد الحرب العالمية الثانية وقد أخذت تستقل سياسيا من ربقة مستعمريها شعبا بعد شعب قد أخذت كذلك تحيي أصول ثقافاتها الخاصة.
وكانت الأمة العربية بين هؤلاء، بل قد سبقت هؤلاء جميعا في صحوتها الثقافية التي كانت قد بدأتها في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، متأثرة في ذلك بمواجهة مباشرة كانت قد واجهت بها الغرب في حملة نابليون على مصر، وتولد لها من تلك المواجهة فرعان من التوجه الثقافي يتفق كلاهما على ضرورة إحياء التراث الثقافي ليكون لها شريانا حيويا، يتصل به حاضر بماض، ثم اختلف الفرعان بعد هذه النقطة الإحيائية المتفق عليها، فأحدهما يضيف إلى إحياء الموروث نقولا من ثقافة الغرب وعلومه، وأما الثاني فيضيف إلى إحياء الموروث إحياء آخر للموروث.
ودارت مع الأمة العربية عجلات الزمن بأحداثها بعد تلك المواجهة الأولى مع الغرب فشملتها موجهة الاستعمار الأوروبي التي أشرنا إليها، البريطاني منها والفرنسي بصفة خاصة، فانطوت تحت هذه الموجة مع سائر ما انطوى، ورفع معيار الثقافة الواحدة التي هي ثقافة المستعمر بريطانيا هنا فرنسيا هناك، مع أصوات خافتة تأتي منادية بالمضي في إحياء موروثنا، لكنها لم تكن هي الصوت الأعلى، إلا أنها مع ذلك ذات أثر في التوجيه، فرأينا أعلام حياتنا الثقافية في النصف الأول من هذا القرن، يمزجون في وقفتهم بين موروث وغربي، أو بين غربي وموروث، على اختلاف بينهم في درجة ما يأخذه هذا أو ذاك، من موروث ومن مصدر غربي شاءت له الصدفة أن يكون على صلة به؛ فبعض يغترف من معين فرنسي، وبعض آخر لجأ إلى مصدر إنجليزي، حتى ليتميز أعلام حياتنا الثقافية إبان تلك الفترة - إذا قيس إليهم المثقفون في الفترة الراهنة - بتمكنهم من الثقافتين معا؛ فكلهم تقريبا على علم واسع بالموروث، وكلهم تقريبا كذلك على معرفة بتيارات الفكر الأوروبي والأدب الأوروبي، معرفة قد تشتد مع فريق وتضعف مع فريق. وعلى هذه الصورة في حياتنا الثقافية انفتح الستار بعد ختام الحرب العالمية الثانية، وبدأت الشعوب المحكومة بالأجنبي تظفر باستقلالها، ونجحت ثورة الألوان في أن تتعدد المعايير الثقافية ليكون لكل ثقافة إقليمية معيارها، وذلك بعد أن كان اللواء المرفوع، هو واحدية المعيار الثقافي واحدية تجعل الثقافة الأوروبية وحدها مثلا أعلى تقاس عليه سائر الدرجات. ولم يكد يرفع الستار عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى حدث لنا حدثان؛ أولهما هو أن زرعت إسرائيل في أرضنا زرعا قويا مقتدرا. ولست أعني فقط بهذا الزرع إن كان وراءها تلك الدولة القوية من دول الغرب، أو هذه الدولة، بل أعني ما هو أهم من ذلك وأبعد أثرا وهو أن إسرائيل هي، هي نفسها الغرب مختصرا ومكثفا؛ لأنه وإن يكن ما يقرب من نصف شعبها عربيا في نشأته إلا أن النصف الثاني الوافد من أوروبا وأمريكا هو إسرائيل بمعناها الذي نواجهه. أما الحدث الثاني، الذي ربما كان نتيجة مباشرة للوجود الإسرائيلي الطارئ فهو ثورة مصر في يوليو سنة 1952م، وهي ثورة استهدفت عدالة اجتماعية في المقام الأول؛ لأنه إذا كانت الثورة السابقة عليها، وأعني ثورة 1919م قد نجحت نجاحا جزئيا، فإن ذلك النجاح الجزئي نفسه قد انحصر في الجانب السياسي بصفة أساسية بمعنى أن تستقل مصر، وأن تحكمها حكومة يختارها الشعب عن طريق نوابه، وأما الجانب الاجتماعي من حياتنا فلم يكن هدفا مباشرا فبقي جمهور الناس كما كان في حقوقه؛ فالعامل هو هو العامل الذي يتحكم فيه صاحب العمل. وكان أمرا طبيعيا إذا ما اتجهت الثورة الجديدة نحو عدالة اجتماعية أن تسارع إلى إشباع حاجات الجمهور العريض التي لم تكن موضع عناية كافية قبل ذلك. ولقد أسلفنا لك في حديثنا السابق عما يترتب على ذلك الإشباع من مشكلة يصعب حلها، وهي نفسها المشكلة - عندنا وعند سوانا - التي صيغت من أجلها عبارة «المعادلة الصعبة» التي ألاحظ أن استعمالها قد اتسع على ألسنة المتكلمين، حتى لتراهم يشيرون بها إلى مواقف تفقدها معناها؛ فهي تعني في مجال الجماهير المحرومة وإشباع حاجاتها التي حرمت من التمتع بها أمدا طويلا، أن ينفق على ضرورات الحياة لجمهور عامة الناس ما يمكنهم من دخل اقتصادي معقول ومن تعليم إلى آخر درجاته، ومن علاج طبي بالمجان، ومن مساكن تبنى من أجلهم، ومن مواد غذائية بأسعار تدعمها الدولة، إلى آخر تلك الضرورات. وهنا تنشأ المشكلة التي تصوغ نفسها في معادلة يصعب حلها؛ لأن أحد شطريها هو تلك المبالغ الضخمة التي تستنفدها تلك الضرورات والتي تفوق الدخل القومي بمقدار كبير، وأما الشطر الثاني فهو كفاية السلع المنتجة لإشباع تلك الضرورات، مضافا إليها فائض لا بد منه ليستعان به على تنمية الإنتاج ليتكافأ مع سكان يزداد عددهم بمتوالية هندسية. والسؤال الصعب هو: كيف تتعادل العدالة الاجتماعية المشار إليها في الشطر الأول من المعادلة، مع كمية الإنتاج المطلوبة في الشطر الثاني؟
والذي يهمنا من هذا الموقف في سياق حديثنا هذا، هو أن مالت ثورة 1952م، نحو العناية بثقافة الجماهير، ميلا اضطرها إلى التهاون في ثقافة الصفوة من أصحاب المواهب (وهم أيضا أفراد من الشعب)، فكانت النتيجة الحتمية لهذا، هو أن انحدر الخط البياني بدرجة ملحوظة، في نوع المتعلم الذي تخرجه معاهدنا وجامعاتنا، وفي نوع مبدع الثقافة من الموهوبين، وفي نوع المتلقي العام لشتى صنوف المؤثرات، فإذا كان أعلام الحركة الثقافية في الجيل الماضي قد عرف معظمهم بتمكنه من موروثنا الثقافي وبقدر كبير من ثقافة الغرب، بحيث لو كانت بهؤلاء الأعلام ومن يأتي بعدهم على شاكلتهم قد امتدت الفترة الزمنية مع قيام ذلك النموذج ذي الجناحين، لكان لنا أمل كبير في إبداع ثقافي وحضاري يولد من ذينك الجناحين يمكننا من المشاركة الفعالة في موكب العصر.
لكن سرعان ما ملأ الساحة جيل جديد فقد القدرة اللغوية بشعبتيها العربية والأجنبية (بصفة عامة) فلا هو يستطيع قراءة الأصول العربية في عيونها ولا هو يستطيع أن يكون على صلة بما تنتجه ثقافة الغرب، فحتى عملية الترجمة فقدت كثيرا من فاعليتها إذ من أين لنا مترجمون يتقنون اللغة المنقول عنها واللغة المنقول إليها في وقت واحد، وقد قررنا أن المالكين لزمام لغة واحدة أقلية قليلة، فنتج عن هذا الموقف نتيجته الحتمية؛ فأصحاب المواهب طبعا موجودون، لكن الموهبة وحدها قدرة تحتاج إلى ما يعينها على الفعل، فإذا لم تكن هذه المعينات بين أيدي الموهوبين لم يكن أمام الموهوب منهم إلا أن يصب موهبته على ما يملكه، فإذا كان الذي يملكه من اللغة - مثلا - هي العامية التي يتبادل بها الحديث مع مواطنيه، وكان موهوبا في الشعر أو قص الرواية، كتب شعره أو روايته بالعامية الصريحة آنا وبلغة منضبطة افتراضا، ولكنها في واقعها ركيكة ضعيفة مغلوطة آنا آخر. وأما في غير مجال الأدب والفن من مجالات العلم والفكر، فهنالك نرى الغالبية العظمى وهي لا تكاد تجد مجالا لمواهب الموهوبين منها؛ فقد حفظوا جميعا ما حفظوه في معاهدهم وجامعاتهم، وهم في كثير من الحالات قادرون على تطبيقه في مجالاتهم المهنية والحرفية، فأما إذا جد في الحياة جديد أسقط في أيديهم، واستضافوا «الخبراء الأجانب».
ضع هذه الصورة جنبا إلى جنب مع أول الحدثين الكبيرين اللذين ظهرا عقب الحرب العالمية الثانية وهو أن زرعت إسرائيل في أرضنا، وإسرائيل كما أشرنا ليست فقط مدعومة بقوى الغرب، بل هي الغرب ذاته في خلاصة مكثفة تفهم أبعاد الأزمة الحقيقية التي تواجه الأمة العربية؛ فقد نستطيع أن نحلل هذه المواجهة إلى عناصر مختلفة كمنت فيها، إلا أن عنصرا من هذه العناصر يجب إبرازه في سياق حديثنا هذا لنرى حقيقة الموقف في وضوح، وهو أن المواجهة بين الأمة العربية وإسرائيل هي مواجهة بين ثقافتين نستطيع على سبيل التجريد والتبسيط أن نقول إنهما الثقافة العربية الخالصة من جهة، وثقافة الغرب المعاصر من جهة أخرى. الأولى تكاد تخلو خلوا تاما من العلم الطبيعي وما قد ترتب في مرحلته الأخيرة من صناعة تقنية في طرازها الجديد. والثانية تكاد تجعل ذلك العلم الطبيعي وما يترتب عليه مدارها. وفي هذا القول تجريد وتبسيط كما ذكرنا لنرى حقيقة الموقف رؤية أيسر وأوضح، وإلا فكل من الثقافتين قد أضافت إلى جوهرها إضافات أدخلتها في نسيجها لتكتسب منها مزيدا من قوة الدفع والحركة؛ فالجانب الإسرائيلي قد أضاف إلى علمية العصر وتقنياته، أسطورة رأوا فيها ما يحفز اليهود في أنحاء العالم إلى التجمع حول هدف موحد. وأما الجانب العربي فقد لجأ إلى «التاريخ» ليستشهد به، وكان منطق العقل يقتضي أن يكون التاريخ أقوى سندا لصاحبه من «الأسطورة» لصاحبها، وذلك فضلا عن الجسور الكثيرة التي عبرتها الأمة العربية لتأخذ نصيبها من روح العصر متمثلة في علومه وتقنياته، لولا أنه قد فاتها في ذلك العبور عامل جوهري أحدث لها نتائج أضعفتها إذا ما قيس الأمر بمقاييس القوة في هذا العصر. وسنرجئ ذكر الجانب الذي أفلت منها إلى نهاية الحديث لنبين - أولا - كم كانت جسور الصلة بين الأمة العربية وعصرها.
فمن ناحية الاتصال الفكري بالغرب الحديث، أقامت الأمة العربية جسرين لم ينقطع العبور عليهما بينها وبين فكر الغرب منذ الثلث الأول للقرن الماضي وإلى يومنا هذا؛ أحدهما النقل عن طريق الترجمة أو العرض والتلخيص، والآخر هو الصلة المباشرة بين عرب يعبرون إلى بلاد الغرب للدراسة أو للتجارة أو للسياسة أو غير ذلك من أهداف، وغربيين يعبرون من الغرب إلينا لتلك الأسباب المختلفة. ومن اللقاء الحي يحدث التفاعل بين الثقافتين أخذا وعطاء. ولك أن تراجع ألمع الأسماء التي سطعت في سماء الفكر العربي لترى كم منها قد استمد النور من هذا اللقاء الفكري. وليس بالضرورة أن يكون النور صادرا عن أخذ أفكار الفريق الآخر كما هي، بل قد يصدر النور من النقد والمعارضة؛ فالناقد لا ينقد والمعارض لا يعارض إلا شيئا قرأه أو قرأ عنه فعرفه. لقد سادت الفكر الأوروبي في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي موجة مادية لا ترى في العالم إلا كونا من مادة تظهر ظواهرها وتتفاعل عناصرها، وحتى «العقل» نفسه في الإنسان حاولوا رده إلى تفاعلات عضوية في الجهاز العصبي. وكانت تلك الموجة المادية التي لم يطل أمدها هي التي أطلق عليها الأفغاني اسم «الدهرية» ورد عليها بكتابه المعروف «الرد على الدهريين» وكذلك كانت للشيخ محمد عبده ردود ومعارضات لما ينشر في الغرب عن الإسلام، مثل «الرد على هانوتو». ولولا علم بما نشر هناك لما كان نقد هنا، والتلقي الناقد هو كالأخذ المقبول من حيث انقداح الشرارة التي يتوهج بها النور.
وإذا انتقلنا بأبصارنا من عالم «الفكر» في عمومه إلى دنيا «العلم» والتعليم لم تستطع تلك الأبصار أن تخطئ نقل «العلوم» إلى العربية على صور مختلفة؛ فإما هي ترجمة لكتب علمية بذاتها، وإما - وهذا هو الأكثر شيوعا والأهم تأثيرا - دارسون يدرسون العلوم الحديثة على اختلافها، ثم يعرضون مادته العلمية عرضا نستبين به مضموناتها. وفي إيجاز هذه العملية بوجهيها حدث أن اختيرت مقابلات عربية للمصطلح العلمي في شتى ميادينه وما لم يوجد له مقابل عربي نحتت له صورة عربية. وقد لا يتنبه القارئ إلى أن علوما بأسرها في مجال العلوم الإنسانية أو الاجتماعية كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد قد أنشئت لها صورة حديثة، وأصبح لكل منها لغته العلمية الخاصة، مما جعل هذه المواد تكتسي ثوبا عربيا جديدا. وحتى علوم كالتاريخ والجغرافيا والقانون، مما كانت لها في موروثنا العلمي أصول قديمة، قد صيغت في عصرنا الحديث صياغة عربية جديدة جعل لها أسلوبها العلمي الخاص الذي يختلف عما عهدناه في الموروث.
ولما كانت لعصرنا هذا وجوه جديدة للفكر الفلسفي والفكر السياسي، بحكم تميزه بأحداث وتيارات خاصة به، لم يكن لنا بد من نقل ذلك الفكر إلى اللغة العربية على نطاق واسع، حتى لنجد المثقف العادي يستخدم أفكارا ومذاهب مما يقع في هذا المجال وكأنها نبات طبيعي نبت في أرضه. وأما إذا انتقلنا إلى وسائل الحياة العملية من آلات وأجهزة، مما اخترعه الغرب بعلمه الجديد فاشتريناه وأدخلناه في صميم حياتنا بحيث يستحيل عليك أن تجد فردا واحدا منا، أينما كان وفي أية درجة من الحضارة العصرية هو، إلا وتراه قد شارك الحياة العصرية في ناحية من نواحيها؛ فهو يسافر بالطائرة أو السيارة أو القطار، وهو يسمع المذياع ويشاهد التلفاز وهو يحارب بالدبابة والصاروخ وهو يستضيء بمصابيح الكهرباء، إلى آخر هذه التفصيلات التي ليس لها آخر .
فنحن قد عبرنا الجسور إلى عصرنا ولا ينفي ذلك أن نكون قد عبرناه على درجات متفاوتة تفاوتا بعيدا، يكاد يقسمنا عدة شعوب في كل شعب واحد؛ ففي القمة ترى شريحة من أبناء الأمة العربية تحيا عصرها متمثلا في أفكاره وعلومه وتقنياته وكأنهم من أبناء الغرب ذاته الذي صنع تلك العناصر صنعا، وفي الدرجة السفلى تجد شريحة عريضة من أبناء الأمة العربية لم تنفذ إلى أفكار العصر وعلومه وتقنياته إلا بما ليس يرتفع عن درجة الصفر إلا قليلا، وبين الأعلى والأسفل تدريجات ودرجات.
تلك وأمثالها جسور عبرناها إلى حياة العصر والمشاركة فيها، وليس من دقة الصواب أن ننكر على أمتنا ذلك العبور، لكن السؤال الذي نريد له أن يؤخذ مأخذ الجد، هو هذا: أكان هذا العبور منا إلى حياة عصرنا في أوجه كثيرة مما يمس في وجداننا وترا؟ أم كنا نعبر تلك الجسور في شيء من الرفض الذي يجرع به المضطر مر الدواء؟ ونضع السؤال نفسه في صورة أخرى فنقول: إذا فرضنا أن قام في أمتنا العربية صوتان؛ صوت منهما يدعو إلى الإقبال بقلوبنا وعقولنا معا على ثقافة العصر وحياته مشاركين فيها إلى آخر نقطة لا تتعارض فيها مع مقومات الشخصية العربية الأساسية بينما يدعو الصوت الآخر إلى النفور من العصر وأبالسته؟
وإنه لا ضير علينا من استخدام نتائجهم التي وصلوا إليها استخداما حذرا لا يدمجنا وإياهم في زمرة واحدة، فمع أي الصورتين يكون الزحام؟ إنه بلا جدال يكون مع الصوت الثاني.
والحكم الذي يترتب على ذلك هو أن الأمة العربية في مواجهتها لحضارة الغرب الحديث وثقافته إذا هي قنعت بالأخذ الذي لا تصاحبه مشاركة في إضافة جديدة وإبداع جديد، فلا يحق لها أن تطمع في نصر تظفر به أمام عدوها؛ فعبور الجسور إلى العصر الجديد لا يوزن بأكثر من ميزان خفيف، إذا هو اقتصر على أن يكون عبورا بالأقدام حين تكون الرءوس متلفتة إلى وراء.
من مواطن الضعف
1
عرضنا في حديثنا السابق صورة للمواجهة بين الثقافتين، كيف تكون وماذا يترتب عليها من نتائج، وذلك إذا افترضنا جدلا أن الثقافة العربية تقوم وحدها خالصة بأصولها الموروثة، دون أن تتسلل إليها عناصر من ثقافة هذا العصر، وأن ثقافة الغرب تقوم - افتراضا كذلك - خالصة بأصولها التي استحدثها هذا العصر، دون أن يخالطها شيء من موروثات الماضي. نعم إنه موقف افتراضي؛ لأنه لا الثقافة العربية بقيت على نقائها، ولا ثقافة الغرب جديدة بكل أجزائها؛ فالأولى عبرت جسورا كثيرة لتأخذ عن الغرب علومه وتقنياته وكثيرا من أفكاره الجديدة ونظمه الجديدة، ولا الثانية خلت من عناصر كثيرة استبقتها في وعائها من موروثها وموروث التاريخ الإنساني كله، أضافتها إلى الحياة العصرية الجديدة التي طابعها البارز «علم» طبيعي جاء على صورة جديدة لم يألفها تاريخ العلم من قبل. ولا أقصر هذا القول على الماضي البعيد وحده، بل أعني كذلك القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الحديث، وعمر التاريخ الحديث لا يزيد على أربعة قرون، فترة جرت في رؤيتها العلمية على أساس الرؤية التي أقامها «نيوتن» على أساس اليقين الرياضي القاطع في قوانين الطبيعة، ونموذج ذلك قانون الجاذبية الذي صاغه هو في دالته الرياضية المعروفة، التي تقول إن قوة الجاذبية بين جسمين تتناسب طردا مع كتلتيهما وعكسا مع مربع المسافة بينهما، وجدير بالذكر هنا أنه على الرغم من المسافة الزمنية بين «نيوتن» في مجاله العلمي و«عمانوئيل كانط» في مجاله الفلسفي (توفي نيوتن 1727م، وولد كانط 1724م) إذ ولد الفيلسوف قبل وفاة العالم بثلاثة أعوام، فإن فلسفة كانط هي التي جاءت لتساند علم نيوتن؛ فكلاهما يقيم قوانين العلم على «يقين» أولهما يصوغ قوانينه العلمية والثاني يحلل حركة العقل البشري بما فطر عليه من مبادئ ومقولات ليبين كيف أعد هذا العقل لإدراك اليقين العملي.
أقول إن علم عصرنا في القرن العشرين قد جاء على صورة جديدة بالنسبة إلى ما عهده العلم نفسه في ماضيه القريب فضلا عن ماضيه البعيد؛ لأنه وجد في حيوية المادة (إذا جاز لي هذا القول) ما يستعصي على اليقين الرياضي؛ فحقائق الرياضة تصور «ثباتا» لا يتغير مع تغير المكان والزمان، أما وقد تبين أن «المادة» تتغير مع تغير الزمان والمكان؛ إذن فلم يعد في وسع العلم وهو يستخرج قوانين الظواهر الطبيعية إلا أن يلجأ إلى أساس إحصائي فتقام قوانينه على «احتمال» بعد أن كانت منذ عهد قريب تقام على يقين.
وهكذا ترى أنه لا الثقافة العربية الراهنة هي «عربية» خالصة وثقافة الغرب الجديدة كلها «جديدة» جدة علمها في صورته الحاضرة؛ إذ تخالطها رواسب من ماضيها وذلك في الجوانب الإنسانية من حياة الإنسان كاللغة والعقيدة وجزء كبير من النظم الاجتماعية، ومن معايير التعامل الصحيح بين إنسان وإنسان. لكننا حين أردنا أن نضع موضع الاختلاف بين الثقافتين، افترضنا جدلا نوعا من مواجهة تنشأ بين وقفة تأخذ برؤية تقام على حصيلة تتجمع عند المثقف من موروثه، ووقفة أخرى تقام على علم الغرب في صورته الجديدة، فوجدنا أنه لا مناص من هزيمة الأولى وانتصار الثانية؛ لأن هذه الثانية تبصر صاحبها بحقائق الواقع كما يقع، وتزوده بضروب من القوة الجبارة التي يستطيع بها أن يغير هذا الواقع نفسه ليصوره صورة أخرى، فإذا كان واقع البصر عند الإنسان لا يجاوز بعدا معينا، جاء العلم فزوده بأجهزة تضاعف تلك المسافة ملايين المرات، وإذا كانت قدرة السمع البشري لا تجاوز مسافة مقدارها كذا، فقد جاء العلم الجديد ليزودها بأجهزة تضاعف تلك القدرة ملايين الأضعاف وهكذا. وقارن هذه القدرة على إدراك الواقع وتغييره بحالة أخرى نفترض أن ثقافة المثقف فيها محصلة من صور ورقية لفظية، صورت واقعا آخر غير الذي نحياه وليس فيها ما يزيد البصر بصرا ولا السمع سمعا. وحتى لو أرهف البصيرة فإنما يرهفها لإدراك حقائق من النوع نفسه الذي قدمته تلك الصور الورقية اللفظية التي يقدمها الموروث إلى من يريد أن يكتفي به غذاء ثقافيا.
والآن فلننظر من قرب إلى تفصيلات حياتنا الثقافية بالمعنى الذي تشتمل فيه تلك الحياة على العلم والأدب والفن والقيم العامة التي يستمدها المثقف من هذا كله مضافا إليه نبع العقيدة الدينية وشريعتها؛ ليستلهمها جميعا وجهة سيره. ولقد أضفنا «العلم» هنا وكان يمكن حذفه من مقومات الثقافة لأنه نوع قائم بذاته يتميز بالعمومية التي لا تفرق بين وطن ووطن، ولا بين دين ودين؛ أي إنه يختلف عن «الخصوصية» التي تعرف بها الثقافة حين يكون لكل شعب ثقافته الخاصة به. لكننا رأينا أن نتجاوز عن هذه التفرقة، لنتحدث عن كيان العربي عقلا وقلبا معا، وكذلك في تحديدنا للحياة الثقافية العربية التي نعتزم تحليلها والتحدث عنها. لم نغفل عن ذلك المعنى الواسع الذي ينظر إلى «الثقافة» على أنها طريقة العيش عند مجموعة معينة من الناس وبكل جوانبها من مأكل وملبس ومسكن، وعلاقات يتعامل بها الفرد مع سائر الأفراد، فذلك المعنى الواسع للثقافة هو وصف لحقيقة اجتماعية كائنة لا فرق بين أن تصفها أو أن تصف المجموعة الشمسية - مثلا - أو خلية النحل، فهو عمل أدخل في باب الوصف «العلمي» لظاهرة معينة. أما المعنى الأضيق للثقافة والذي يقصر المجال على الجانب التقويمي في صوره المختلفة، سواء أجاءت عن طريق الإبداع الفني والأدبي، أم جاءت عن طريق الفكر النظري علما كان أم فلسفة وحكمة، أم مسائل عقدية ينظر إليها من وجهات نظر مختلفة، أقول إن التحدث عن «الثقافة» بهذا المعنى المحدد الخاص، يحمل في ثناياه الأمل في أن نغير من حياتنا ما نجده معوقا لسيرنا الحضاري، والفرق بين الحالتين هو كالفرق بين تصوير الواقع من جهة، وتصوير ما يجب أن يكون عليه هذا الواقع من جهة ثانية، أو هو كمن يحدد أوقات نهاره وليله بمعالم فلكية كشروق الشمس وغروبها وظهور النجم الفلاني وغيابه، مقارنا بمن يحدد أوقاته بآلة قياس الزمن؛ ففي الحالة الأولى لا حيلة للإنسان إلا أن ينصاع للحقائق الفلكية. وأما في الحالة الثانية فهو إذا أخذته الريبة في قدرة آلة الزمن التي يحملها معا، ذهب بها إلى مصلح «الساعات» ليراجع سلامة تلك الآلة في أدائها لوظيفتها. وهكذا نريد أن نفعل الآن بحياة العربي الثقافية اليوم؛ فنحن على شك في سلامتها وقدرتها على تحقيق أهدافنا وسنعرضها على من يحاول فك أجزائها ليعاود النظر إليها جزءا جزءا ليقوم ما هو فاسد منها، وهي عملية - كما نرى - أعقد وأوسع من أن يؤتمن عليها عقل بشري واحد إلا أن مجال القول فيها مفتوح لكل مجتهد.
وأول ما يطرحه هذا الكاتب على سبيل الفرض، ليفتح لنفسه طريق السير على أساسه، هو أن مجمل الحياة الثقافية بالمعنى الذي حددناه، إنما هو «أداة» عيش، وهو كأية أداة أخرى إذا لم تؤد ما كان يراد لها أن تؤديه وجب إصلاحها أو تغييرها بأداة أصلح منها، وحتى «الثوابت» من العناصر الثقافية التي تدوم أكثر مما تدوم المتغيرات من تلك العناصر عصرا بعد عصر، وأعني «الثوابت» التي منها تتألف «الهوية» الوطنية أو القومية. أقول إنه حتى تلك «الثوابت» من عناصر الحياة الثقافية لشعب معين، لا ينبغي أن يكون لها من القداسة ما يمنعنا عن تعديلها إذا وجد أنها قد فقدت شيئا من قدرتها على أن تهيئ لصاحبها فرصة الحفاظ على حياته قوية مزدهرة.
ومن هذا التصور لوظيفة الحياة الثقافية نسأل سؤالين يتلاحقان واحدا في ذيل الآخر؛ وهما: أولا: أترانا في يومنا هذا بالنسبة إلى شعوب وأمم أخرى نسير في المقدمة الرائدة، أم نسير في المؤخرة التابعة؟ وثانيا: إذا كنا في مؤخرة الموكب نسير على طريق دقته أمامنا طليعة رائدة، فماذا عسى أن نصنع في أنفسنا لنتقدم؟
ولنبدأ بالسؤال الأول؛ فمن حق المجادل أن يبدأ جداله من الصفر، قائلا: ماذا تعني ب «التقدم» و«التخلف» في هذا السياق؟ إنك لا تحكم على رجل رأيته سائرا في الطريق بأنه تقدم أو تأخر، إلا إذا عرفت هدفه الذي يسعى إليه، وحتى إذا رأيته مبطئ الخطى، فربما كان ذلك هو ما أراده لنفسه ليتيح لنفسه فرصة التأمل فيما حوله، أو فرصة التنزه المسترخي. إن الهدف الذي تلهث وراءه حضارة هذا العصر، وهو الحصول على أكبر قدر ممكن من «العلم» بظواهر الطبيعة وأكبر قدر ممكن من «المتعة» ومن «المال» ومن «القوة الحربية» وأكبر قدر ممكن من «السرعة» وهكذا، قد لا يكون أساسا هو الهدف الذي يسعى إليه العربي؛ فهو - مثلا - يستغني عن الحياة الدنيا بالحياة الأخرى. ويكفيك هذا الفرق لتعلم أن ما يلهث وراءه ابن هذا العصر، يدير إليه العربي ظهره ليستهدف غاية أخرى، فكيف - إذن - تحكم على هذا أو ذاك بتقدم أو تخلف إلا إذا استوثقت قبل ذلك من مشاركتهما معا في وجهة السير وفي الغاية المراد تحقيقها؟
سؤال كانت تكون له قوته لو أنه سلم من تناقض داخلي فيه يهدمه من أساسه هدما؛ لأن صاحب السؤال المذكور إنما يكون على حق في سؤاله، إذا هو بالفعل يسير في حياته على طريق لا حاجة فيه إلى شيء من أدوات الآخرين الذين يزعم لهم أنهم يسلكون طريقا آخر غير طريقه، ويستهدفون غاية أخرى غير غايته. وهو زعم يكذبه الواقع. إن صاحب سؤال كهذا هو في حقيقة أمره كمن يسافر من القاهرة - مثلا - فيركب طائرة ذاهبة إلى لندن، ومعه مسافر آخر من أبناء الذين صنعوا الطائرة، فلا حق له إذن في أن يدعي بأنه مختلف مع هذا المسافر الآخر، طريقا وهدفا؛ لأنه معه في الطريق وفي الهدف. وكل الفرق بينهما هو أن المسافر الآخر كان هو الذي صنع الطائرة بعلمه الجديد وبتقنياته الجديدة، في حين أنه هو - أعني المسافر العربي - قد استأجر مقعده من الطائرة بماله. إن هذا المثل الواحد البسيط يصور معظم جوانب حياتنا الواقعية؛ فنحن لا نبتكر شيئا ذا بال من وسائل الحياة القائمة، ولكننا في الوقت نفسه لا غناء لنا عنها إذا حاربنا عدوا اشترينا أدوات الحرب من صانعيها هناك، وإذا مرض منا مريض واستشفى عند طبيب أو جراح، جاء طب الطبيب علاجا ودواء وجاءت جراحة الجراح أجهزة ومنهجا، مما كان أولئك الآخرون قد علموه وابتكروه وصنعوه.
وإذا أقمنا لأبنائنا معاهد وجامعات، لم يكن لنا بد من شراء المعامل والمراجع وغيرها من أولئك الآخرين الذين كتب لهم في هذا العصر أن يكونوا صانعيه، وإذا أردنا أن نسري عن أنفسنا في ساعات الفراغ كانت وسائلنا إلى ذلك من مذياع وتلفاز وغيرهما من ابتكار أولئك الآخرين ومن صناعتهم. ولا ينفي هذا أن يتعلم عربي كيف يحاكي شيئا مما أنتجه أولئك الآخرون، فيحتذيه في صناعة شيء على غراره. إذن فطريقنا في الحياة الدنيا طريق واحد، وكل الفرق بيننا وبينهم هو أنهم هم الذين يرسمون الطريق ويهيئون له الوسائل فنسلك نحن مسلكنا على طريق ممهد، بوسائل قد أعدها أصحابها ومبتكروها وعرضوها للبيع فاشترينا. وإذا كانت تلك هي حقيقة أمرنا وأمرهم، لم يعد لنا خيار في المعيار الذي نعيش به التقدم والتخلف.
وهنا يجيء السؤال الثاني وهو: ماذا ترانا صانعين بأنفسنا إزاء هذا التخلف عسى أن نتقدم، كما يوجب علينا تاريخنا أن نفعل؛ فنحن بناة حضارات وثقافات ولم يحدث لنا قط أن تخلفنا عن مواقع الريادة، إلا لفي هذا العصر وحضارته؛ فقد كنا عبر تاريخنا إذا ما نضب المعين الحضاري الأصيل وجاءتنا من خارج حدودنا صورة حضارية جديدة لم نلبث طويلا حتى نتشربها بشخصيتنا المستقلة، وسرعان ما نتفوق فيها تفوقا يضعنا في مكان الريادة فيها، إلا هذه المرة. وهذه المرة كانت الحضارة الوافدة مرتكزة على دعائم من العلوم الطبيعية في المقام الأول؛ فللمرة الأولى في التاريخ الحضاري كله تكون ركيزة البناء الحضاري هي العلم الطبيعي؛ فحتى العلوم الرياضية كانت قد وجدت مكانها في الحضارات السابقة. وأما العلم الطبيعي الذي يستخرج من ظواهر الكون قوانينها، فهو هذه المرة ولأول مرة يكون هو القابض على الزمام، وذلك لا ينفي أن يكون في عصر ما من التاريخ قد ظهر أرشميدس وفي عصر آخر قد ظهر جابر بن حيان أو ابن الهيثم؛ فنحن لا نقول عن صفة معينة إنها طابع عصر معين، إلا إذا كانت لها السيادة على ذلك العصر، أما أن تظهر فلتات من أفراد هنا وهناك، فذلك لا يضفي على عصر معين طابعه المميز؛ لأنك قد تقع على عصفور شارد في فصل الشتاء، فلا يبرر لك القول بأن برد الشتاء يتميز بزقزقة العصافير؛ فتلك صفة تميز الربيع، والربيع لا يصنعه عصفور واحد.
ونعيد ما أسلفناه قائلين: إذا نحن اعترفنا بتخلفنا في موكب العصر، فما هو سبيلنا إلى التقدم؟ والجواب موجزا هو أن تغير بعض أوتار القيثارة ليتغير النغم، والقيثارة وأوتارها هنا ترمز إلى حياتنا الثقافية وأقسامها، وهي أقسام سنخصص لها في سلسلة هذه الأحاديث نصيبا وافيا لنبين معالمها وخصائصها، ونكتفي في هذا الحديث بجانب «العلم» - والعلم الطبيعي بصفة خاصة - لأنه ربما كان أخطر موضع من مواضع الخطر التي انتهت بنا إلى ما نحن فيه، لماذا؟ لأن التقصير فيه هو في صميمه تقصير في منهج التفكير الذي يميز هذا العصر مما عداه؛ فقد لا يكون بنا قصور في العلم الطبيعي الجديد من حيث دراسته في معاهدنا وجامعاتنا. لكننا إذ نقوم بهذه الدراسة، فإنما ندرس من النتائج العلمية التي كشف عنها أولئك الآخرون، ندرسها ولكننا لأمر ما لا نتشرب المنهج العلمي الذي أدى بأصحابه إلى كشف ما كشفوه من نتائج؛ فليس هو من قبيل الاستثناءات الشاذة أن تجد من علمائنا الذين نالوا أرفع الدرجات العلمية في فيزياء أو كيمياء أو غيرهما من علوم العصر من يجيد عرض العلم، بل والبحث المبتكر فيه، حتى إذا ما عاد إلى حياته العادية اللاعلمية من تفكير في مشكلاتنا الاجتماعية أو السياسية أو ما يجري مجراها، وجدت أمامك إنسانا آخر، بينه وبين الرؤية العلمية الصحيحة، ما بين عامة الناس وتلك الرؤية، ويكون معنى ذلك أن منهج النظر العلمي مقتصر عنده على أدائه المهني، ولم يتسع معه ليصبح عادة ملازمة له حينما كان. وبالطبع نحن لا نريد بهذا أن نطالب الرجل بأن يمشي في مسالك حياته، وعلى كتفيه أنابيب المعامل ومخابيرها، بل كل ما نعنيه هو أن يكون أساسه الأول في تعليل الظواهر الاجتماعية وما يشاكلها قائما على الرباط السببي الصحيح، كما هي الحال في المجال العلمي المتخصص، فيرد الظاهرة المعينة إلى سببها الصحيح. وإذا هو لم يفعل وجارى العامة في الروابط اللاعلمية التي يصلون بها الأشياء بعضها ببعض وقع مع العامة في حياة الخرافة؛ لأن الفارق الأساسي بين الرؤية العلمية ورؤية التخريف هو في إدراك الرابطة السببية الصحيحة في الحالة الأولى، وعدم إدراكها، بل عدم البحث عنها في الحالة الثانية.
هذا عن العلم الخالص وروح منهجه، ننتقل منه إلى عالم «الفكر» بصفة عامة، فهناك فرق بين النتائج العلمية في ميادينها و«الأفكار». ونضرب لك أمثلة، توضح ما نريده، إننا إذا تحدثنا عن طريقة الحكم كيف تكون؟ أيكون الرأي السياسي فيها هو ما تختاره أغلبية الأصوات في مجموعة الأفراد التي يناط بها اتخاذ الرأي، أم يكون الرأي السياسي إلى شخص واحد هو الحاكم، وحتى لو كان من حقه أن يستشير آخرين؛ فالقرار آخر الأمر هو قراره؟ مثل هذا التساؤل هو من قبيل اختيار «فكرة» دون فكرة أخرى، وليست المسألة في ذلك من قبيل ما يعرض له «العلم» بمنهاجه العلمي. وسأرجئ استخراج الفارق الجوهري بين ما هو «فكرة» وما هو «نتيجة علمية» حتى أسوق لك عدة أمثلة موضحة: وهذا مثل آخر مما أسوقه، هل نترك التجارة بين بلدان العالم حرة، فيستورد من يستورد، ويصدر من يصدر، دون أن تتدخل في الطريق جمارك البلاد استيرادا وتصديرا؟ أو أن الخير في أن تقام حواجز جمركية تفرض الضريبة على السلعة الواردة إذا كان فيها ما ينافس مثيلتها من الإنتاج القومي؟ الأمر هنا مداره «فكرة» وليس مداره علمه وقوانينه. وأسوق مثلا ثالثا: ماذا يكون موقفنا من مجانية التعليم؟ أنعمم المجانية تعميما لا تحده حدود؟ أم نقصره على مرحلة معينة، أو على درجة معينة من درجات القدرة عند الدارسين؟ الجواب هنا قائم على «فكرة» وليس هو من قبيل القانون العلمي. ونسوق مثلا رابعا: ترى هل هو أفضل لنا أن ينشئ الفنان فنه والأديب أدبه، وهو على وعي بمشكلات المجتمع بحيث يجيء الناتج الفني أو الأدبي وفي ثناياه ما يعين المجتمع على اجتياز مشكلاته، أو أن الأفضل هو أن يبدع الفنان أو الأديب ما يبدعه، غير ملتزم إلا شيئا واحدا، وهو أن يجيء الناتج المبدع عالما تسرح فيه نفس المتلقي فترتفع وتسمو بما قد أدركته واستشعرته خلال سرحها، حتى إذا ما عاد ذلك المتلقي إلى دنياه الواقعية ، كان إنسانا أرهف حسا مما كان؟ أو بعبارة أخرى تلوكها الألسن، أيكون الفن والأدب للفن ذاته والأدب ذاته، أم يكونان لتعليم أبناء المجتمع كيف يسلكون؟ مرة أخرى نقول إن الأمر في هذا مرهون ب «فكرة» وليس مرهونا بقانون علمي. ونسوق مثلا خامسا وأخيرا، وهو عن المقارنة بين مجتمع دولي موحد، ومجتمعات وطنية أو قومية فرادى، أيهما تكون له الأولوية في ترتيب الأهداف؟ لقد أقام أبناء هذا العصر هيئة الأمم المتحدة رغبة منهم في أن يجيء ذلك تمهيدا لهدف بعيد هو أن يتحد العالم برغم تعدد شعوبه حتى لا يتعرض الإنسان لويلات الحروب مرة أخرى، فلما أن ذهبت وفود الشعوب المختلفة إلى مقر الهيئة في اجتماعاتها، ذهبت وفي حقائبها نعرات وطنية، فكأنما أرادت خصومة قبل أن تريد وئاما. والسؤال هو: أيخطئ أم يصيب من يعلي النزعة الدولية على النزعة الوطنية، أو العكس؟ فهذا أيضا سؤال يجيء الجواب فيه مؤسسا على «فكرة» وليس مؤسسا على قانون علمي.
فما هو الفرق الأساسي بين ما هو «أفكار» وما هو نتائج «علمية»؟ الفرق هو أنه بينما يجوز الاختلاف بين الناس على الأفكار التي يريدون حولها حياتهم العملية، فلا يجوز ذلك الاختلاف بينهم على ما هو «علم» إننا نقبل أن يقول لنا قائل: رأيي في السياسة متفق مع أن يكون لفئة العمال نصف المقاعد النيابية، وأن يقول لنا آخر خلاف ذلك؛ إذ يقول: إن رأيي هو أن ترفع هذه الفئوية من مجال الانتخاب. فكلا هذين الرجلين يقيم رأيه على «فكرة» في ديمقراطية الحكم كيف تكون. لكننا لا نقبل قول قائل: رأيي هو أن الماء يغلي في درجة حرارة مقدارها كذا، أو أن رأيي هو أن حاصل الجمع لثلاثة وأربعة ليس سبعة. فها هنا لا يوكل الأمر إلى آراء؛ لأنه أساسا لا يندرج في مجال «الأفكار».
الفكرة من الأفكار الأساسية في حياة المجتمع هي بمثابة خطة معينة يسلك على هديها الناس إذا هم اعتنقوها جزءا من دستور حياتهم، ومع ذلك فالفكرة دائما تتخذ لنفسها صورة مجردة غاية التجريد؛ ومن هنا تحدث اختلافات شديدة في طريقة تطبيقها عند معتنقيها؛ فقد تؤمن جماعتان بضرورة «الديمقراطية» في حياتهما السياسية، ومع ذلك تراهما عند التطبيق قد اتجها في فهم الديمقراطية طريقين مختلفين، وذلك لأن طبيعة «الأفكار» تسمع بذلك الاختلاف؛ لأن الفكرة - كما ذكرت - هي بمثابة مخطط يبنى عليه، والمخطط ذو بساطة تكتفي بالأوليات الأساسية، ثم تترك تنوعات التفصيلات مفتوحة لاختيار من يتولى التطبيق.
وعلى ضوء هذا الذي قدمناه نتناول حياتنا «الفكرية» فنقول عنها أول ما نقول: إنها أضعف الجوانب جميعا، فقل ما شئت عن جانب «العلم» من حياتنا أو جانب «الفن» أو جانب «الأدب»؛ فأنت واجد في كل فرع من هذه الفروع ما يستحق الذكر. أما الجانب «الفكري» فهو من الفقر بحيث إذا أردت أن تتعقب ما يصح تسميته ب «الفكر» العربي «في عصرنا هذا فربما عدت من رحلتك خالي الوفاض أو عدت بذلك الوفاض وليس به إلا قليل يسهل عليك أن تهمله دون أن يكون في إهمالك له خيانة.»
ففي رحلتك التي تتعقب فيها «الفكر العربي» في يومنا هذا سيصادفك - بالطبع - كثيرون ممن شغلوا أنفسهم بعرض أفكار للسابقين صادفتهم في دراستهم أو في مطالعاتهم الحرة، وسيصادفك - بالطبع - كثيرون آخرون ممن شغلوا أنفسهم بأفكار قالها أصحابها في هذا البلد أو ذاك من بلاد الغرب. وفي كلتا الحالتين فليس بين يديك إلا تعليق على فكرة سلفية أو تعليق على فكرة غربية. ولا ضير على أي من الرجلين، فمن ذا يلوم رجلا استراحت نفسه للجاحظ - مثلا - فعاش معه حياته؟ ومن ذا يلوم رجلا آخر استطاب العيش مع أولدس هكسلي في عصرنا؟ كلا، لا لوم على أحد في اختيار من يصحبه ويصاحبه في عالم الفكر، لكن ليس لأي من الرجلين حق في أن يدعي بأنه كاتب عربي يعيش حياة عصره؛ لأن مثل هذا الكاتب لا بد له من المشاركة بما يكتبه في رسم خريطة حياتنا الثقافية، فمن ذا الذي يساعدنا على أن ترتسم أمام بصائرنا غاية يحسن بنا أن نتغياها، وأن يعمل في الوقت نفسه على أن تتراءى لنا رؤية محددة ننظر خلالها إلى الطريق الأقوم؟ أقول: من ذا يصنع لنا هذا إلا كاتب عربي في وسعه أن يصوغ أفكارا يراها وأن ينسج تلك الأفكار فيما يجعلها أجزاء ممكنة لحياة موحدة مرغوب فيها؟ إنه إذا وجد فينا من يترك هذا الأثر عند جمهور القراء، كان هو الكاتب العربي والمفكر العربي، وعندئذ إذا أراد غرباء أن يرونا في صورة فكرية، قرءوا لذلك الكاتب، لكن قارن هذا بكاتب آخر بذل جهده في دراسة الجاحظ - مثلا - وقدم إلينا صورة لما وجده عند ذلك العملاق القديم؟ فهو بالطبع مشكور على ما يقدمه؛ لأنه سيساعد المواطن العربي على معايشته لسلف عظيم، فيتكون له ذلك الرباط الوجداني الذي يؤكد وجوده العربي، لكنه مع ذلك الفضل لا يربط ذلك المواطن العربي نفسه بما يغمسه في هموم عصره.
لقد حدث لي أكثر من مرة، أن لجأت إلي هيئات علمية خارج الوطن العربي، لأختار لها نماذج تمثل «الفكر العربي» اليوم. وفي كل مرة كنت أبذل جهدي مخلصا لأقع على ما يعلو بنا في أعين الغرباء؛ لأن النماذج المطلوبة كانت تطلب - عادة - لتترجم وتقدم إلى الطلاب في أقسام الدراسات العربية من جامعاتهم، فكنت أشعر كل مرة بإحباط لأنني لم أكن لأجد ما أتمنى وجوده في إنتاجنا «الفكري». ولو كان المطلوب نماذج من «أدب عربي» في يومنا، لما وجدت عسرا في أن أجد ما يرضي ضميري؛ فالفكر العربي من حياتنا الثقافية الراهنة هو أضعف مواطن الضعف من تلك الحياة. وأسوأ ما يصادفه المتعقب للناتج «الفكري» في الوطن العربي اليوم هو أن يرى هزيلا يطاول بهزاله شم الجبال، واهما بأنه قد جاوز ذراها. الحياة الثقافية قوامها يتضمن علما، وأدبا، وفنا، وفلسفة، ومجموعة من الأفكار التي تحمل في جوفها ضوابط هادية لما هو أمثل، ومعظم هذه الأفكار الأساسية مستمد من الدين. وقد بينا كيف جعلناها أضعف الجوانب في بنياننا الثقافي، وسنزيد الأمر إيضاحا في حديثنا الآتي بإذن الله.
2
عرضنا في حديثنا الماضي صورة نبين بها للقارئ أن جانب «الفكر» من حياتنا الثقافية قد يكون أضعف مواضع الضعف منها، وأوضحنا له ما نعنيه ب «الفكر» بالمقارنة مع «العلم» من جهة، و «الأدب» من جهة أخرى. ولا تستقيم لأمة حياتها الثقافية إلا إذا توازن فيها النظر العلمي فيما يراد استخراج قوانينه من الظواهر، وفيما يصادف الناس من مشكلات تتطلب حلولا مؤسسة على تلك القوانين العلمية، وإلى جانب البحث العلمي يقوم إبداع في «الأدب»، يراد به آخر الأمر أن تصب الأضواء على حقيقة الحياة التي يحياها الناس بالفعل، فلئن كان العلم باحثا عن الأحكام العامة بالنسبة إلى ما يراد العلم به، مسقطا من حسابه التفصيلات الجزئية الفردية التي قد تحدث أو لا تحدث، فإن «الأدب» يسير في الاتجاه المضاد، هو أن يصور تلك التفصيلات الجزئية الفردية الدالة على حقيقة الإنسان وما يكابده أو ما ينعم به، مسقطا من حسابه التعميمات المجردة التي تشبه القوانين العلمية في شمولها. وبعبارة أخرى، بينما البحث العلمي من شأنه أن ينظر إلى الإنسان (إذا كان الإنسان هو موضوع الباحث العلمي) من حيث هو ظاهرة تشاهد وتحلل لتخلص إلى قوانينها العامة، كأن يشاهد عالم النفس ردود فعل الأفراد في مواقف مختلفة، فيستدل القواعد العامة لكل موقف مما ينطبق على جميع الناس، وكأن يشاهد عالم الاجتماع كيف يحاول الأفراد أن يتمايز بعضهم مع بعض تمايزا يجعل منهم أعلى وأسفل، فيستخرج الأحكام العامة التي ينخرط الأفراد تحت مقولاتها حين يقسمون أنفسهم طبقات، وكأن يتعقب عالم الاقتصاد حركة الأسواق وإنتاج السلع وتوزيعها، فيستنتج القوانين العلمية الكامنة وراءها. أقول: إنه بينما البحث العلمي من شأنه أن يرقب ما هو فردي جزئي خاص، ليستخرج منه ما هو شامل وعام، فإن طبيعة «الأدب» هي أن يقف عند الفرد الواحد، في تفاعله مع سائر الأفراد، أو في تفاعله مع الأشياء ليلتقط من ذلك التفاعل لحظات كاشفة عن شخصية الفرد المعين ودوافعها ومسالكها وأهدافها، فإذا وجدنا في علوم النفس والاجتماع قواعد عامة تحكم علاقة الوالد بولده، والغني بالفقير، فإننا واجدون في الأدب - شعرا ورواية ومسرحا - حياة تفصيلية تجمع والدا معينا بولده، أو غنيا يتعامل مع فقير، فنرى التفاعل بينهما مجسدا في موقف أو عدة مواقف. إن الشاعر إذا ما بث حزنه في قصيدة؛ فهو لا يكتب خصائص عامة مجردة تبين الظواهر الدالة على حالة الحزن في كل إنسان وأي إنسان، بل يقدم وصفا لحزنه هو، في لحظة معينة، ويجعل وصفه في صور ترتسم معالمها في ذهن القارئ حتى لكأنه يرى شيئا مجسما بعينيه، وليس هو أمام كلمات منطوقة يسمعها بأذنيه.
وحين تستقيم الحياة الثقافية في أمة معينة، إبان فترة زمنية معينة، نجد فيها العالم والأديب جنبا إلى جنب، كلاهما ينظر إلى ما حوله مما يحياه هو مع سائر الناس، كأن تكون هناك حالة نصر على الأعداء في ساحة القتال أو هزيمة، وكأن تكون هناك أزمات سكان وإسكان، وكأن يكون هناك انصراف من الشباب عن شبابهم، دعاهم إلى الانحراف بهذا الشباب عن مستقبلهم ليغوصوا في سمادير الأوهام، وهكذا وهكذا. وعندئذ يكون من طبائع الأمور أن يتجه صاحب المنهج العلمي نحو الظاهرة التي تشغله وتشغل مواطنيه معه، فيحللها ويردها إلى أسبابها بطريقة موضوعية لا يشوبها الهوى، وأن يتجه صاحب الموهبة الأدبية فيرسم بأدبه صورا للحقيقة البشرية ظاهرها وباطنها في مواقف يبنيها خياله لتتوازى مع الواقع فتوضحه.
وبين العلم الذي يعمم الحكم، والأدب الذي يخصص التصوير، هناك عالم وسط، هو عالم ما يسمونه ب «الفكر» يضطلع به «المفكر» الذي إذا اتسع أفقه وارتفعت درجة تجريده أدخلناه في دنيا الفلسفة؛ ليكون مع أسرة الفلاسفة عملاقا أو قزما، لكنه يسير على دربهم؛ فكل «فكرة» في هذا العالم الذي يتوسط بين تعميم العلم وتخصيص الأدب، تحمل طي معانيها «قيمة» من القيم التي لا بد منها في حياة الناس لتكون معيارا يقاس به الطيب والخبيث، كما تحمل طي معانيها كذلك «غاية» مما يتحتم على الناس أن يضعوه نصب أعينهم في خضم الحياة ليتجهوا نحو الوصول إليها أو الاقتراب منها ما استطاعوا. خذ - مثلا - فكرة «الحرية»، وتأملها تجدها موحية لك بميزان تزن به سلوك مواطنيك قبولا ورفضا؛ فكلما رأيت نمطا سلوكيا من أحد، ينحني به لغير الله سبحانه وتعالى، ابتغاء مصلحة، أدركت لنفسك أولا، وقد تجعل الآخرين يدركون معك ثانيا، أن مثل هذا النمط السلوكي الذليل في غير موضعه، يفقد الإنسان حريته، ويضع صاحبه موضع العبد من سيده، فهذه - إذن - «قيمة» أوحت إليك بها فكرة «الحرية» إذا أحسنت فهمها. وأعني بكلمة «قيمة» معيارا تقاس به صلاحية السلوك واستقامته، ثم توحي إليك فكرة «الحرية» كذلك ب «الغاية» التي توجب على الإنسان أن يتجه نحوها بسلسلة المواقف التي يقفها إبان حياته إزاء الأحداث. وهكذا قل في سائر ما نطلق عليه اسم «أفكار».
ولماذا تجيء الأفكار في موضع وسط بين «علم» في ناحية و«أدب» في ناحية أخرى؟ الجواب هو أنها وإن تكن في ذاتها لا هي من العلم الخالص ولا هي من الأدب الخالص، إلا أنها شرط ضروري في تكوين العالم والأديب معا، فإذا كانت الفكرة المعينة هي فكرة «الحرية» مثلا. قلنا إن شرط العالم أن يكون حرا في بحثه العلمي حتى لا يصرفه أي ضاغط خارجي على تزوير الحقيقة العلمية، وكذلك شرط الأديب أن يستلهم الحقيقة الإنسانية وحدها، التي يريد أن يجسمها في إبداعه الأدبي أيا كانت صورته، فلا ينحرف عن تلك الحقيقة بأي عامل يغريه، حتى ولو بدا ذلك العامل وكأنه جدير بالاستماع إليه وإيثاره عما عداه، كأن تغلب الروح الوطنية - مثلا - على روائي فيصور شخصياته تصويرا هو أقرب إلى الدعاية السياسية يوم الانتخابات العامة.
والذي نزعمه عن حياة الثقافة العربية في عصرها القائم، هو أن دنيا الفكر منها هي أضعف جوانبها، فيضعف بالتالي إدراكنا للمعايير التي يقاس بها الصواب والخطأ، كما يضعف إدراكنا للغاية الموحدة التي من شأنها - إذا وضحت - أن تكون كالمنارة للسفن، تستهدفها لترسم طريقها مهما كانت الجهة التي هي آتية منها، فإذا رأيتنا اليوم على تناقض حاد في رؤانا وكأننا عدة شعوب في شعب واحد، فسر ذلك أساسا هو أن «الأفكار» الموجهة مبهمة غامضة، تتفق على «اسم» الفكرة ، ثم تتفرق في تحديد معناها فرقا شتى. ومما يزيد ضعفنا الفكري ضعفا أمران؛ هما: أولا: أن «الأفكار» من شأنها أن تنمو مضموناتها مع خبرة السنين؛ فقد تكون «الحرية» أو «المساواة» معروفة للناس منذ القدم، لكن معانيها تتسع مع الزمن وتفرز، ولكي تتبين ذلك يكفيك أن تراجع فكرة «الحرية» في حياتنا العربية، ماذا كانت حدودها في أوائل القرن الماضي، وما حدودها اليوم؟ وسوف تجدها قد تنوعت جوانبها من ناحية، وقد عمقت أهدافها في كل جانب على حدة من ناحية أخرى؛ فربما بدأت بمعنى التفرقة بين «الحر» و«العبد» ثم أخذت لها فروعا أخرى؛ حرية في الحياة السياسية تجعل السلطة للشعب، وحرية في الحياة الاقتصادية ترفع عن العامل تسلط صاحب العمل، وحرية في الفن والأدب، تجعل الفنان والأديب لا يلتزمان إلا بما يتطلبه منهما التسامي فيما يبدعانه، وهكذا. ولهذا النمو الذي تنمو به «الفكرة» المعينة مع الزمن لنماء الخبرة عند الإنسان، كان من الضروري لمن أراد أن يتأمل فكرة أن يقرأ عنها ما قد وصل إليه فيها أعلام الفكر حيثما كانوا، فإذا كانت قراءاتنا محدودة كانت حصيلة معرفتنا بفكرة معينة محدودة كذلك، فلا تتسع إلا لما يستطيع الواحد منا إدراكه بنفسه اجتهادا.
ذلك - إذن - هو أحد الأمرين اللذين أديا إلى ضعف حياتنا الفكرية. وأما الثاني، فهو أن مجال الحياة الفكرية تعوزه الضوابط الواضحة لما هو صواب منها وما هو خطأ، فإذا كان «الصدق» في الأدب يمكن قياسه بدقة الموازاة بين ما أبدعه الخيال من جهة، وما هو واقع في حياة الإنسان من جهة أخرى، ثم إذا كان «الصدق» في دنيا «العلم» واضح المعيار كذلك، فإذا كان المجال مجال علوم رياضية، كان صدق الحقيقة الرياضية المعينة مرهونا بصحة استدلالها من سوابقها، وإذا كان المجال مجال العلوم الطبيعية، كان الصدق مرهونا بانطباق النتيجة العلمية على واقع الأشياء التي تقع في مجالها. وهكذا ترى معايير الأدب، ومعايير العلم، واضحة أمام الناقد، وأما في عالم «الأفكار» فليس الأمر بهذا الوضوح كله، بل قد تجد أن مجال «الأفكار» لا موضع فيه لمعايير الصواب والخطأ، بل يستند قبول الإنسان لفكرة أو رفضها، على أساس آخر، هو مقدار ما ينتج عنها من طمأنينة النفس أو قلقها، وذلك لأننا لم نستمد أفكارنا المحورية الأساسية من «واقع» الأشياء؛ فليست الفكرة شيئا من الأشياء، وإنما تستمد الأفكار أساسا من فطرة الإنسان ذاتها، فإذا كنا نطالب لأنفسنا بالحرية، ثم بمزيد من الحرية، إلى غير نهاية معلومة، فذلك لأننا نريد أن نعيش على الفطرة التي ولدنا بها، وجاءت الحياة الاجتماعية فقيدتها؛ ومن هنا ترانا ونحن نسعى إلى الحفاظ على الحرية التي فطرنا عليها، نحاول في الوقت نفسه أن نبحث عن أقل درجة ممكنة لندخل المجتمع بقيوده، لكي نتمتع بأكبر قدر ممكن من الحرية، التي هي الأساس الفطري. وهكذا تأمل أية فكرة شئت، باحثا عن معنى «الصدق» فيها ماذا يكون، فأخالك منتهيا آخر الأمر إلى النتيجة التي أسلفتها لك، وهي أن الحق أو الباطل ليس هو مدار القبول أو الرفض لفكرة ما، بل المدار هو الملاءمة مع سائر ظروف الحياة أو عدم الملاءمة، مما ترضى عنه النفوس أو تسخط، ولهذا قد تجد فكرة ما مقبولة في شعب ما مرفوضة في شعب آخر. وحتى إذا كان هنالك اتفاق على «اسمها» فالاختلاف يجيء بعدئذ في فهم المراد بهذا الاسم في كل من الشعبين أو الجماعتين من الناس. إن فكرة الأخذ بالثأر، مثلا، يراها فريق من الشعب المصري أساسا للعدل ولا أساس سواه، في حين يراها فريق آخر من الشعب ذاته مرفوضة، ليترك أمر العدل إلى ساحات القضاء. ومهما يكن من أمر في هذا الصدد، فأقل ما يقال هنا هو أنه إذا اختلف رجلان حول «فكرة» ما، فلن يكون هنالك الفاصل الواضح الذي يفصل بين خطأ وصواب؛ ومن هنا كان سبيل النجاة من فوضى تضارب المعاني للفكرة الواحدة في الشعب الواحد، مرهونا - أولا - بأن يكون الناس على وعي بما تتضمنه الفكرة المعينة من عناصر المعنى، و- ثانيا - أن يكون الناس على قدرة تمكنهم من تصور المستقبل كيف تجيء صورته إذا ما فهمت فكرة ما - كالحرية والعدل مثلا - على هذا الوجه أو ذاك. ولما كانت كثرة المثقفين في أمتنا - ودع عنك من قل حظهم من الثقافة - لا هم يتمهلون إزاء أية فكرة مما يعنيهم أمرها، حتى يتبينوا عناصر معناها، ولا هم يصبرون حتى يتعقبوا جوانب المعنى المختلفة إلى ما تصير عليه حياة الناس في المستقبل، لو أخذنا بهذا المعنى أو ذاك، أقول إنه لما كانت الكثرة الغالبة منا لا تتمهل ولا تصبر حتى تحكم التصور قبل أن تتسرع بالقبول أو الرفض، أصبحت حياتنا الفكرية كالسفينة فقد ربانها، ففقدت وسيلة بلوغها مرفأ الأمان.
حياتنا الفكرية هي أضعف جزء في البنيان الثقافي الذي نحيا في غرفه وأبهائه، لكن الوهن إذا كانت «الفكرة» موطنه، تحتم أن تسري العلة في سائر الأجزاء، لماذا؟ لأننا وإن كان لا بد لنا من تقسيم الحياة أقساما تتوزع على الأفراد ليتخصص كل فرد فيما يلائمه، إلا أن مثل هذا التقسيم لا يعني أن الحياة الفعلية كما يمارسها الأحياء، مقسمة على هذا النحو بل هي كيان موحد، على غرار ما نرى في الكيان العضوي للكائن الحي؛ فهنالك - مثلا - في الفرد الإنسان دماغ، وقلب، ورئتان، ومعدة، وأطراف ... إلخ. كلها متشابك متآزر في حياة واحدة، ومع ذلك فهنالك من الأجزاء ما يؤثر في جميع الأجزاء الأخرى لو أصابه مرض، أكثر مما يؤثر جزء آخر؛ فإصابة المخ تشل بقية الأعضاء، وضعف القلب هو ضعف في وظائف أعضاء أخرى، في حين أن بتر ذراع أو ساق، قد لا يؤثر في المخ أو في القلب. وعلى هذا النحو يمكن أن يقال في حياة «الفكر» عند شعب معين، بالنسبة إلى حياة سائر الجوانب الثقافية عند ذلك الشعب؛ لأن «الفكرة» المعينة من الأفكار، هي في حقيقتها خريطة عقلية يسلك الإنسان على هداها، وذلك بالإضافة إلى احتوائها دائما على «قيمة» معينة؛ أي على معيار محدد يقاس به الصواب والخطأ في ذلك السلوك، ثم عن احتوائها كذلك عن «الغاية» التي من أجلها يسلك السالك في حياته العملية . ولو أن دورة الحياة الثقافية اكتملت حلقاتها لفرد من الأفراد، أو لشعب في مجموعه، لاكتملت حلقات ثلاث معا في سلسلة واحدة؛ فأولا: هناك «الفكرة» وهي نفسها التي يشار إليها في المجال الديني بلفظ «الكلمة» كلمة الله - سبحانه - ف «الكلمة» بهذا المعنى هي بدء الخلق. وتأتي الحلقة الثانية وهي أن تتجسد «الفكرة» المعينة في فرد يؤمن بها؛ إذ لو تركت الفكرة مسطورة أو منطوقة في ألفاظ دالة عليها، دون أن يتمثلها إنسان ما، لبقيت جزءا من عالم الضوء (وهي مسطورة) أو من عالم الصوت (وهي منطوقة) وكان يمكن للإنسان الذي يلقفها ويحملها ويؤمن بقوتها، أن يقف عند هذا الحد، فيظل الطريق ناقصا، وإنما يكتمل الطريق بتلك الفكرة، إذا أصر حاملها على أن ينشرها في الناس لتكون أساسا من الأسس التي تبنى عليها مناشط الحياة العملية، وبهذه الخطورة الأخيرة تتغير بالفكرة صورة الحياة. ويحضرنا في هذه المناسبة ما قاله أحد الصوفية تعليقا على عروج محمد عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وعودته بعد ذلك إلى حيث كان قبل المعراج، وكان تعليق ذلك الصوفي هو قوله ما معناه: لو أني كنت الذي صعد إلى السماء، لما رضيت بالعودة إلى حيث كنت من الأرض. ففي هذا التعليق من ذلك الصوفي بيان للفرق بين حالتين في حياة الناس الفكرية؛ إحداهما أن تكتمل المسيرة في ثلاث حلقاتها، وهي «الفكرة» وتجسدها في فرد يؤمن بها، ثم إصرار ذلك الفرد على نشرها في الناس حتى تسود حياتهم فتتغير بها صورة تلك الحياة. وأما الحالة الثانية فهي مسيرة منقوصة، تتألف من فكرة، ثم من فرد يتقبلها ويلم بها، ويقف عند هذا الحد لا يتقدم خطوة، فتموت الفكرة بموته.
وعلى ضوء هذا البيان لدور الفكرة في طريق الإصلاح والتغيير ترى خطورة أن يحتضن الناس أفكارا يكتنفها غموض، أو أفكارا لو انتقلت إلى دنيا السلوك، كان مؤداها أن تعود بالناس إلى الوراء، أو أفكارا سلمت من هذا كله لكنها حبست في صدور حامليها، لا ينشرونها فلا يغيرون بها شيئا مما ينبغي له أن يتغير لتصلح الحياة؛ ففي جميع هذه الحالات ندرك خطورة ألا تؤدي «الأفكار» دورها. ونحن إذ نقول إن أضعف جانب في بنيان حياتنا الثقافية إنما هو الجانب الفكري، قد قصدنا هذه الحالات جميعا؛ فأفكار غمضت في أذهان حامليها غموضا يضل عند السلوك العملي ولا يهدي، وأفكار أخرى إذا هي وجدت طريقها إلى عالم التطبيق والعمل، جذبت حاملها إلى نمط من الحياة يهوي به إلى مهاوي الهزيمة والضعف والفقر أمام أعدائه، وأفكار قد تصح في ذاتها، لكنها تبقى حبيسة الصدور عند أصحابها، ففيم العجب إذا رأينا الأعوام تدور علينا، فلا يتغير في موقفنا الإبداعي الإيجابي شيء كثير، حتى لو تغيرت من حياتنا الظاهرية صور كثيرة محاكاة للآخرين.
ومن أوجه الضعف في حياتنا الفكرية، ما قد أصيبت به من تفكك انفرطت به وحدة الأمة شعوبا، ووحدة الشعب أفرادا، ولو شاء لنا الحق سبحانه وتعالى وحدة قوية فعالة منتجة ذات رجحان بين أمم الأرض إذا ما أقيمت الموازين، لقيض للأمة العربية من رجال «الفكر» من يضيء بأفكاره طريق الحياة الجديدة، فسارت الأمة على هداه. وليس المهم هنا هو من أين جاءت الفكرة العظيمة إلى صاحبها: أهي انبثقت من صميم فطرته، أم هي جاءته وحيا من الماضي، أم وحيا مما طالعه من حياة أمم أخرى تعاصره؟ إن الذين يهمهم رد الأفكار القوية الهادية إلى مصادرها هم المؤرخون، أما من يريد للأفكار العظيمة أن تتحول منارات لهداية السالكين، فيهمه الضوء قبل أي شيء آخر، لينفسح الأمل في حركة نتقدم بها نحو الأقوى والأعلم والأغنى والأفضل، لكننا قلما نقع في تاريخنا الفكري الحديث على رائد فكري واحد كانت له القوة الجاذبة التي تتجمع الأمة العربية تحت لوائها؛ ومن هنا تفرقت بنا السبل مع مجموعة من أواسط الرواد؛ إذ احتشد وراء كل رائد من هؤلاء الأواسط في قدراتهم أتباع، فكان أن رأينا جماعات تنادي بالعودة إلى الذي سلف لنعتصم به من عالم متغير، وجماعات أخرى ذهبت كل منها مذهبا، نقلا عن مذاهب أقوام أخرى، قد تصلح لنا وقد لا تصلح، وجماعات ثالثة تركت نفسها للريح تتجه بها إلى حيث شاءت الريح.
ولو أن حياتنا الفكرية وجدت فكرة كبرى يحملها من آمن بها من العمالقة ذوي العزيمة الماضية لقامت تلك الفكرة في ضمائر عامة الناس أملا مكتوما، وفي ضمائر المبدعين على اختلاف ميادين الإبداع مصباحا هاديا يشير إلى الوجهة العامة التي يجب أن يتجه فيها إبداعهم من أدب وفن وفكر، بما ترسله تلك الينابيع من إشعاعات تنعكس في جوانب الحياة العملية؛ من سياسة، وتعليم، واقتصاد، وإصلاح اجتماعي وغير ذلك. على أننا وإن نكن قد حرمنا مثل تلك الوجهات القوية التي لا يستطيعها إلا العمالقة، فلم نحرم من فريق من النابهين الذين تضمنت أعمالهم الثقافية إشارات تشير إلى الاتجاه الصحيح الذي ينبغي لنا أن نسير فيه، وهو اتجاه يشبه شبها قريبا ذلك الاتجاه الذي اتجهت فيه الحركة الثقافية عند أسلافنا عندما بلغوا ذروتهم في القرن الرابع الهجري وامتداده في القرن الخامس (العاشر الميلادي وامتداده في الحادي عشر) مع فرق اقتضاه اختلاف العصرين؛ فقديما كان الاتجاه ينحو بالمبدعين نحو أن يستخرجوا صيغا جديدة تجمع بين الروح العربية الإسلامية الأصيلة من ناحية، وما قد جاءوا به من ثقافات أخرى، وبصفة خاصة ما قد جاءوا به من تراث اليونان القديمة فلسفة وعلما، وما قد جاءوا به من التراث الفارسي ومن الهند تصوفا، ومن مصر فلسفة صوفية بقيت من مدرسة الإسكندرية في عصرها الزاهر. واختصارا فقد كان اتجاه أسلافنا بحثا عن وقفة تضيف إلى دينهم فلسفة، لا بالمعنى الذي يجاور بين هذين الجانبين في عقل المثقف وقلبه، بل بالمعنى الذي يقرأ فيه أحد الجانبين بلغة الآخر. ومثل هذا الاتجاه هو نفسه الذي نستطيع استخلاصه مما فعله النابهون من أعلامنا المحدثين، لولا أن الجانبين اللذين أرادوا أن يجدلوهما معا في جديلة واحدة، كانا هما الدين من ناحية والعلم العصري من جهة ثانية، كما ترى - مثلا - عند الشيخ محمد عبده وهو يعرض الإسلام على نحو يبين به أن ليس في العلم ما يتعارض مع شيء في العقيدة الإسلامية. وكانت هذه الرؤية هي الغالبة - بصفة عامة - على أعلام نهضتنا الثقافية منذ الطهطاوي وحتى يومنا هذا، لكن لأن هؤلاء الأعلام أنفسهم لم يبلغ أحد منهم من شموخ القامة ما يستهوي الآخرين لأن يتبعوه، رأينا معارضات تتفرق بين الناس اتجاها ومذهبا؛ ومن ثم فقدنا التوحد الثقافي، واعتركنا بعضا مع بعض تحت أسماء مختلفة؛ فآنا جعلناها تقدمية ورجعية، وآنا جعلناها يمينا ويسارا، وآنا ثالثا جعلناها سلفية ومستقبلية، وهكذا.
ولم تكن تلك الانقسامات لتقف عند حدود الصفوة من المثقفين، وإلا لفقدت كثيرا من قيمتها العملية، بل الذي نراه هو أن كتلة الشعب في مجموعها، قد وقفت - من غير اختيار واع - مع أي فريق يقف مناهضا لتحديث الفكر، سواء أطلق عليه من معارضيه اسم «الرجعية» أو «السلفية» أو «اليمين»، فكانت خلاصة الموقف دائما هي أن موجات من التغير الفكري قد يهتز بها سطح المحيط مع حركات الرياح، وأما أغوار المحيط على عمقها واتساعها، فقد ظلت ثابتة أو كالثابتة، تساند جمود الفكر على صورته السلفية، أيا كان الاسم الذي يطلق على الناطقين دفاعا عن ذلك الجمود. وأما الدعوة إلى تحديث الفكر تحديثا يضع في الأدمغة أفكارا تلائم ظروف العصر مكان أفكار ذهب زمانها، فكانت دائما تقتصر على قلة يكتب بعضها ليقرأ لهم بعضها الآخر، وكأنهم جماعة تنتسب إلى ناد يجمعهم وراء أسوار تحجبهم عن كتلة الجمهور. ولهذه الظاهرة أثرها القوي في سيرتنا الثقافية؛ لأنها أوقفتنا أمام متناقضات تثير الحيرة، فإذا أنت زعمت للناس أننا على وجه الجملة لا نتغير من الناحية الثقافية، أجابك معترض يشير إلى جماعة من أفراد تجمعت في عواصمنا الكبرى ممن ارتفعوا بأنفسهم إلى رؤية ثقافية متطورة جديدة، وإذا أنت زعمت للناس أننا بخير، فينا من الأعلام في مجال الثقافة ما يقربنا من أي بلد متقدم، أجابك معترض يشير إلى كتلة الجمهور العريض بزعامة من يتزعمهم من القارئين الكاتبين. ويزيد الأمر في ظاهره تعقيدا على تعقيد، أن كتلة الجمهور على جمودها الثقافي، لم تتردد في أن تملأ القرى والكفور بأحدث الأجهزة العصرية منذ أول لحظة وجدت في أيديها المال الذي تنفقه على تلك الأجهزة، فإذا زعمت للناس بأننا في جمود فكري يميل بنا نحو التحجر إزاء عالم متغير متطور، أجابك المعترض إجابة لا يقتصر فيها على ذكر الصفوة المثقفة في المدن، بل يضيف إلى ذلك شاهدا آخر، هو ما تطور به الريفي حين زود داره بأجهزة حديثة.
لكن هذه الظواهر المتناقضة كلها إن هي إلا زبد يذهب جفاء، وأما ما يبقى أمام الرائي بعد ذلك في تركيبنا الثقافي فهو محيط واسع عميق من جمهور لم تتغير رؤيته، ولهذا الجمهور الثابت على رؤيته القديمة مرشدون ناطقون كاتبون. وأما البقية الضئيلة عددا، الضعيفة أثرا، فهم أولئك الذين ساروا بأنفسهم على نهج ما سار به السلف في عصر الازدهار الثقافي الذي أشرنا إليه، وهو النهج الذي يجمع إلى العقيدة الدينية رؤية ثقافية لا تتعارض معها، بل تندمج في إطارها اندماجا. ولقد كانت «الفلسفة» اليونانية هي العنصر الأساسي المضاف قديما، وهو ينبغي اليوم أن يكون علوم العصر، فإذا كان ابن رشد قد جعل عنوانا لأحد مؤلفاته مشيرا إلى الاتصال بين «الحكمة» (أي الفلسفة) و«الشريعة» وجب أن يكون العنوان الذي يهدينا اليوم، هو الاتصال بين «العلم الحديث» والشريعة.
ومع ذلك فإن تلك القلة الضئيلة عددا، الضعيفة أثرا، هي وحدها موضع الأمل في أن يبدل العربي برؤية خسر بها حاضره، أو كاد، رؤية ثقافية أخرى، تصون جوهر ماضيه وتفتح له آفاق الحياة القوية في مستقبل جديد.
مأزق حرج
من المشكلات الفكرية ما قد يعرض لك عبورا في لحظة من لحظات الحياة الجارية وكأنها جاءت مصادفة لتختفي مع ظروف حدوثها، ولكنك تراها وقد تشبثت برأسك لا تريد أن تنزاح عنه إلا أن تجد لها حلا فتستريح. ولو أنها مشكلة هامشية لا تضرب بجذورها في حياتنا إلى الصميم، لأمكن تجاهلها برغم حضورها، أما أن تنظر إليها فتجدها مما يقع في بنائنا الثقافي عند حجر الأساس، فها هنا يزداد أمرها تعقيدا؛ فلا هي تنزاح من تلقاء نفسها نسيا مع ما ينساه الإنسان من همومه مع مر الزمن، ولا أنت من جانبك تريد لها أن تنزاح قبل أن تحل عقدتها.
ومن أمثلة هذه المشكلات المحيرة، مشكلة كنا طرحناها عرضا - أو قل إنها طرحت نفسها في مجرى الحديث - وكنا ثلاثة؛ صديقين وأنا (والصديقان الآن في رحاب الله) وسوف أعرض على القارئ، لنحاول معا أن نجد منها مخرجا، وإن كنت على شك في أن يشارك قارئ اليوم في أمثال هذه القضايا الفكرية، التي ربما ظن أنها قضية لا تمس حياتنا العملية في كثير أو قليل، وتأخذه الدهشة للوهلة الأولى، حين أزعم له أنها تسري في تلك الحياة العملية سريان الدماء في أوعيتها من الكائن الحي؛ فلقد كان موضوع الحديث بيننا - أعني الصديقين وهذا الكاتب - هو البحث عن أعمق أساس يمكن أن نرد إليه اختلاف النظرة الأخلاقية بين العربي من جهة، وشعوب الغرب بصفة عامة من جهة أخرى. نعم إننا نحن وهم على حد سواء ندين بديانات هي نفسها الديانات هنا وهناك (وذلك على الأعم الأغلب) مما كان يمكن أن يؤدي إلى رؤية أخلاقية واحدة أو متقاربة، وأسس الفضائل والرذائل متشابهة في البشرية بأسرها. إذن فما الذي أحدث الاختلاف الظاهر بين الرؤيتين في آخر المطاف؟ أم أن الاختلاف - يا ترى ظاهرة سطحية، حتى إذا ما حفرنا التربة تحت الشجرتين، وجدناهما فرعين من أصل واحد؟
ذلك هو السؤال كما طرحناه على أنفسنا ذات يوم من أواخر سنوات الخمسينيات؛ فبعد أن تخبطنا في السير بأفكارنا، هنا مرة وهناك مرة، اقترح أحدنا، وكان دائما سريع الالتفات بفكره نحو «اللغة» ليجد فيها ما يفض معظم المشكلات الفكرية، اقترح أن ننظر إلى مفردات لغوية نراها أساسية بالنسبة إلى الوقفة الأخلاقية لنقارن مفرداتنا العربية بما يقابلها من مفرداتهم، لعلنا نقع على قبس يهدي، ثم أشار صاحبنا إلى كلمة «المثال» (أو «المثل الأعلى») في اللغة العربية، وما يقابلها في الإنجليزية والفرنسية معا، وقد يكون كذلك في لغات أوروبية أخرى؛ لأن ذلك المقابل يرتد إلى أصل يوناني قديم، وأعني بذلك المقابل كلمة «أيديال»؛ فما نسميه باللغة العربية «مثلا أعلى» (أو «مثالا») يسمونه هناك «أيديال». وما إن تقدم صاحبنا بهذا الاقتراح، حتى فتح الله علينا بشيء كثير مما نبحث عنه، فانظر - أولا - إلى الكلمة العربية «مثال» التي على أساسها نصف الشخص الأكمل، أو السلوك الأكمل، بأنه «مثالي» تجدها شديدة الصلة بالكلمة الدالة على الفرد العادي الذي لم يبلغ - بالضرورة - درجة الكمال في المجال الذي يكون هو موضوع الحديث، وأعني بها كلمة «مثل»؛ فليس بين «المثل» الواحد من الأمثلة الكثيرة في نوع ما، وبين «المثال» إلا حرف واحد، هو حرف الألف في كلمة مثال، لكن ذلك الحرف الواحد قد ميز «الأعلى» من كل ما دونه من «أمثلة»، فإذا قلنا عن طالب معين من طلاب الجامعة، إنه هو «مثال» الطالب الجامعي، كان معنى ذلك أنه قد بلغ أكمل درجات التفاوت، بالنسبة إلى جميع «الأمثلة» التي تقع عليها في مجموعة الطلاب، لكن كلمة «مثال» وإن تكن قد رفعت صاحبها إلى أكمل الدرجات فيما يتفاوت فيه طلبة الجامعة، فهي في الوقت نفسه لا تجعل من ذلك الطالب المثالي مخلوقا آخر ينتمي إلى غير أسرة البشر؛ أي إن من هو «أكمل» ومن هم دون ذلك مرتبة، يتدرجون جميعا في جماعة إنسانية واحدة، يتفاوت أفرادها في الدرجة، دون أن يختلفوا في النوع الإنساني الذي ينتمون إليه. وقل هذا نفسه أينما ميزت شيئا دون سائر الأمثلة من أقرانه، كأن تميز معزوفة موسيقية بدرجة الكمال التي بلغتها ولم يبلغها سواها، أو أن تميز جوادا دون سائر الجياد، أو كتابا في موضوع معين دون سائر الكتب في ذلك الموضوع، وهكذا، وما معنى ذلك؟ معناه أن نظرة العربي - استدلالا من لغته - حين يفاضل في مجال الأخلاق، أو في أي مجال آخر، فهو إنما يفاضل بين كائنات من كائنات العالم الواقعي الفعلية، فاضلا ومفضولا على حد سواء، فجميعهم على درجة ما من النقص وكل ما هنالك من فرق بين فاضل ومفضول، هو أن درجة النقص في أولهما أقل من درجة النقص في الثاني. ولعل مرد هذه النظرة العربية، هو أن يحتفظ بالكمال المطلق لله وحده سبحانه وتعالى.
ونترك هذه النظرية العربية مؤقتا، لنتجه بأنظارنا إلى نظرة أهل الغرب، مأخوذة من لغتهم؛ فقد أسلفنا بأن الكلمة المقابلة لل «مثال» عندنا، هي كلمة «أيديال» عندهم، وهي كلمة مشتقة اشتقاقا مباشرا من «أيديا» ومعناها «فكرة»، وأين تكون الأفكار؟ إنها لا تكون على الأرض كسائر الأجساد والأجسام، بل هي كائنات «عقلية» لا يحدها ما يحد الأشياء المادية من حدود المكان وحدود الزمان، والفكرة العقلية عن أي شيء مهما يكن موضوعه، هي دائما أقرب جدا إلى الفكرة الرياضية. ومعلوم أن الفكرة الرياضية لا تشير إلى مادة الأشياء، بل تشير إلى ما بين الأشياء من «علاقات»، فإذا قلت مثلا «خمسة» فأنت لا تشير بهذه الصورة الرياضية إلى مجموعة بذاتها من مجموعات الأشياء، وإنما تقدم بها «صورة» عددية تصلح لكل مجموعة من الأشياء توازيها في «العلاقات» التي تصور هيكلها البنائي، وقد تكون مجموعة الأشياء خمس برتقالات، أو خمسة كتب، أو خمسة رجال أو ما شئت؛ فكل المجموعات الخمسية متشابهة في صورة علاقاتها الداخلية بين أفرادها؛ أي إنها متشابهة كلها في «الصورة» برغم اختلاف مجموعات الأشياء المختلفة في مادة مضموناتها.
ومعذرة لهذا الإسهاب في شرح الفكرة الرياضية، لكنها ضرورة تحتمها الرغبة في أن نفهم الهيكل الذي تبنى عليه كل فكرة أيا ما كان مجالها؛ إذ هي دائما صورة مجردة، قوامها «علاقات» أطراف بعضها ببعض. ولا بد لي هنا أن أنبه القارئ بألا يخلط بين الفكرة عندما تكون مجردة، كفكرة «بيت» - مثلا - دون أن تشير بها إلى بيت واحد معين، وأن تستعيد بالذاكرة صورة بيتك الخاص، أو بيت بذاته أيا كان؛ فليست أمثال هذه الصورة الذهنية التي تتذكرها مما وقع لنا في حياتنا الفعلية، هو ما نقصد إليه هنا، وإنما قصدنا إلى الأفكار، التي تشير كل فكرة منها إلى نوع بأسره من الكائنات.
وعلى ضوء من هذا الشرح نعود إلى أهل الغرب حين يجعلون المثل الأعلى «فكرة» مجردة، ولا يجعلونه فردا معينا من مجموعة الأفراد، كما هي الحال بالنسبة إلى ما تعنيه كلمة «مثال» أو «مثل أعلى» في اللغة العربية. إننا حين نقول عن طالب معين إنه «مثال» الطالب، فنحن - كما أسلفنا - نقارن كائنا مجسدا بسائر أفراد نوعه أو جنسه. وأما أهل الغرب حين يقولون عن طالب معين إنه «أيديال» فهم - استدلالا من الأساس اللغوي للمعنى - يقارنونه بالفكرة العقلية المجردة لما يصف الكمال في الطالب، والفكرة العقلية المجردة - كما قلنا - هي أشبه شيء بالمدركات الرياضية، أو قل إنها تمثل «التعريف» النظري الذي يحدد به الأركان الجوهرية للشيء الذي أردنا تعريفه.
ولكن ما أهمية هذه التفرقة بين قوم يجعلون «المثل الأعلى» في مجال معين، فردا من الأفراد يتميز بالدرجة في سلم التفاوت، وبين قوم آخرين يجعلونه فكرة عقلية مجردة، يقاس إليها الأفراد بعدا وقربا؟ وجوابنا هو أن الفرق آخر الأمر كبير، حين يصبح الموقف علاقات اجتماعية بين الناس وهم يتفاعلون بعضهم مع بعض؛ ففي الحالة الأولى، اتي يكون «المثل الأعلى» فيها واقعا ماديا، لا يتهم أحد بشطط أو إسراف أو عنت، إذا طالب كل الناس فردا فردا أن يحيوا حياتهم على صورة مثلى؛ لأن ما قد تحقق في فرد واحد منهم، لا يصبح مستحيلا عليه أن يتحقق في سائر الأفراد، وهذا المطلب هو بالفعل مدار الحكم الخلقي على الناس من وجهة النظر العربية، لكن حقيقة الإنسان أضعف من أن تمكن جميع أفراد المجتمع من أن يبلغوا ذروة استطاع بلوغها فرد واحد متميز؛ ومن هنا ينشأ للمواطن العربي في حياته العملية، ذلك المأزق الحرج الذي أشرنا إليه في عنوان هذا الحديث؛ لأنه سيجد نفسه دائما أمام احتمالين؛ فإما هو قادر على تجسيد الذروة الخلقية في سلوكه، كما استطاع بلوغها مواطن مثالي معين. وإما يجد طبيعته أضعف من أن تسعفه في ذلك المسعى. وهنا يغلب عليه التستر على ضعفه ذاك، حتى لا يكون موضع ازدراء من مواطنيه، فيلجأ إلى ازدواجية مأمونة العواقب في حياة دنياه، وذلك بمعنى أن يتظاهر أمام الناس بما هو أفضل، مما لا يقع تحت المؤاخذة الخلقية، ويرجئ إشباع جوانب ضعفه إلى حين يحتمي وراء الجدران فلا تقع عليه الأبصار. وفي مثل هذه الظروف التي تهيئ الفرصة لانتشار الازدواجية الخلقية، يكون من المرجح أن يسود الناس عدم التسامح مع من لا يبرع في ممارسة تلك الازدواجية على نحو محكم، بحيث يجعل نفسه على مرأى من الناس ومسمع، وقتما ينهزم أمام نوازعه، فيبدو للناس على غير صورة الكمال الخلقي المنشود.
وأما في الحالة الثانية، التي هي حالة أهل الغرب حين يقيسون سلوك الناس إلى «فكرة» عقلية تصور ما ينبغي أن يكون عليه الأمر، من الناحية النظرية، فالمفهوم ضمنا في هذه الحالة، أن النزول بتلك الصورة العقلية المجردة إلى الأرض لتتجسد فعلا في مسالك الأفراد، هو أمر محال على البشر، ومع ذلك فهو أمر مرغوب فيه أن تقام أمام الناس صورة مثلى لما ينبغي أن يكون، ليحاول الإنسان ما استطاع أن يقترب من الهدف، وبقدر اقترابه يكون مقدار فضيلته، وهو موقف تنتج عنه نتيجتان اجتماعيتان؛ الأولى هي أن نسبية الحكم الخلقي أكثر حفزا للأفراد على محاولة الصعود نحو الأكمل، دون أن يصيبه إحباط عند الفشل. والثانية هي أن أفراد المجتمع يصبحون أكثر تسامحا بعضهم مع بعض في الأحكام الخلقية؛ لأن الأمر عندهم ليس هو إما الصواب كل الصواب وإما الخطأ، بل هو أن فعلا معينا أصوب من فعل آخر، وأن خطأ معينا أوغل في الخطيئة من خطأ آخر.
وخلاصة الفرق بيننا وبين أهل الغرب - فيما يبدو لنا - من حيث الرؤية الأخلاقية، هو أنه برغم اتفاقنا على إقامة تصور لمجموعة منسقة موحدة للقيم العليا المطلقة؛ أي التي تصل فيها كل قيمة من تلك القيم إلى ما لا نهاية له من الكمال، فصدق مطلق، وإرادة مطلقة، ورحمة مطلقة، وقدرة مطلقة، وعلم مطلق ... إلخ، كلها يجتمع معا في صورة موحدة، لتصبح أمامنا غاية الغايات، فنسعى إلى الارتفاع إليها بما نفكر وما نريد وما نسلك، دون أن نطمع في بلوغها، وإلا طمعنا في أن نبلغ مرتبة إلهية، وسبحان الله الذي لا إله إلا هو. أقول إننا في نظرتنا العربية، وأهل الغرب في نظرتهم، على اتفاق في الإيمان بوجود تلك القيم في لا نهائيتها، لكن أبناء الثقافة الغربية يقفون عند هذا الحد، ويجعلون تلك الصورة العليا غاية يقاس إليها الفعل الإنساني اقترابا منها أو ابتعادا عنها، فتكون الحالة الأولى توجها نحو الفضيلة يحمد عليه الإنسان، وتكون الحالة الثانية مجافاة للفضيلة يهبط بها الإنسان نحو الرذيلة. وقد أسلفنا لك القول بأن مثل هذا الموقف من شأنه أن يؤدي إلى شيء من المرونة في الأحكام الخلقية على الناس؛ لأن قياس عمل محدد معين إلى فكرة مجردة مطلقة لا يبين لنا الحدود واضحة وحاسمة وفاصلة.
ولا كذلك نظرة العربي؛ لأنه يضيف إلى إيمانه بتلك الصورة اللانهائية المطلقة، صورة مما يمكن أن يحياه الإنسان في حياته العملية، فتكون هي المعيار الذي يحاسب الفرد على أساسه فيما يفعل أو ما يمتنع عن فعله. ومن شاء أن يعرف - بالنسبة إلى المسلم - كيف يكون للإنسان في كل مواقف الحياة العملية «نموذج» يحب أن يسلك على غراره، فيقرأ كتاب «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي. إذن فهذه المجموعة الكبرى من نماذج السلوك الصحيح هي التي تقام معيارا للحكم على الأفعال أهي مقبولة أم مرفوضة مرذولة. ولا أظن أن تحليلنا لحياة أهل الغرب يمكن أن يؤدي بنا إلى نماذج حاسمة الحدود تفرض على الفرد من الناس ليحتذيها في سلوكه وإلا حكم عليه بالفساد والضلال. ولسنا هنا في مقام التقويم والمفاضلة، لنقول أي الرؤيتين في عالم الأخلاق أصوب من الأخرى، بل نحاول مجرد الوصف الموضوعي لما هنالك مما تختلف به نظرة هنا عن نظرة هناك.
ولو أن أمثال تلك «النماذج» السلوكية الحادة في معالمها وفواصلها قد نزل بها الوحي الديني بكل هذا التحديد الجازم، أو ورد عنها حديث شريف، لوجب حقا أن تكون ملزمة. أما إذا وجد بينها ما ليس ملزما للفرد المؤمن، كان من حقنا أن نسأل عن جدواها إذا كانت مجدية، أو عن ضررها إن كانت ضارة. ووجوه الضرر واضحة، وأهمها حرمان الفرد الإنساني من حرية صياغته لسلوكه، كي يكون بحق مسئولا أمام الله يوم الحساب؛ إذ لا فضل لإنسان يسلك على نموذج أقيم له، حتى لو كان السلوك بمقتضاه سلوكا فاضلا؛ فالفضل الأول هنا لمن أقام النموذج وأوصى بالتحرك على منواله.
وليست هذه الحرية الضائعة هي كل ما يؤخذ على تقييد الحياة الفردية بنماذج موضوعة لم يرد في أصول العقيدة ما يوجبها؛ فقد نضيف إلى الحرية المفقودة ما تؤدي إليه من تحطيم للشخصية. إن تلك النماذج الموضوعة لا تلبث أن تتجمد وتتحجر في صور يتناقلها جيل عن جيل، فتصبح معوقات للتغيير إذا ما استحدثت ظروف معاشية تقتضي ذلك التغيير، فضلا عما يمكن أن يحدث - بل وقد حدث بالفعل في حياتنا وحياة غيرنا - أن تصبح تلك النماذج الموضوعة مقررات دراسية لبعض الدارسين، فتكتسي عندئذ بغلالة «العلم» فتنال توقيرا ليس من حقها أن تناله؛ فنحن نعلم كم تضعف الحاسة النقدية عند الكثرة الغالبة من الناس، بل ومن الدارسين أنفسهم، حتى ليكفي أن ترد جملة معينة في كتاب يدرسه الدارسون في معاهد العلم، ليلقى في روع المتلقي أن الذي بين يديه «علم» لا شبهة فيه. وتغيب التفرقة بين ما هو علم صحيح، وبين ما هو تاريخ يروي لنا أقوالا وردت في كتاب أخرجه ذات يوم مجتهد له علينا فضل اجتهاده، دون أن يكون علينا وجوب الحكم بصوابه.
وهنا أريد الوقوف، مع القارئ لحظة يسيرة، أذكره فيها بالخطوات التي خطوناها فيما قدمناه، حتى لا تفلت منه معالم الطريق؛ فقد كان السؤال الذي طرحناه باحثين له عن جواب، هو عن أسس الاختلاف الذي نشعر بوجوده بين وجهة النظر العربية من جهة، ووجهة النظر في ثقافة الغرب من جهة أخرى، وذلك في مجال «الأخلاق»، فأين تكمن مواضع ذلك الاختلاف؟ وذكرت للقارئ أن أحدنا - نحن الأصدقاء الثلاثة الذين أداروا فيما بينهم هذا السؤال - أقول إن أحدنا وقد عرف بسرعة الرجوع إلى «اللغة» للاهتداء بمعاني مفرداتها في الموضوع الذي يحدث له أن يكون مجالا للبحث، وكثيرا جدا ما وجد أن تعقب تلك المفردات اللغوية إلى جذور معانيها يكشف عما يمكن أن يفسر المشكلة المطروحة، فاقترح على زميليه أن ينصب التحليل والمقارنة على ما يطلق عليه العربي اسم «المثال» (بمعنى المثل الأعلى) في مقابل ما يطلق عليه ربيب ثقافة الغرب اسم «أيديال»؛ فمجرد المقارنة بين أصول هاتين الكلمتين سيلقي الضوء ما يهدي؛ ف «المثال» عند العربي يشير إلى شيء واقعي يتصف بدرجة من الكمال أعلى مما نجده في الأمثلة الفردية التي تقع مع ذلك المثال في نوع واحد، والمادة اللغوية في «مثل» وكل ما يشتق منها، تشير إلى ما هو مجسد من الأشياء التي تقع بالفعل في دنيا الأحداث، وأما كلمة «أيديال» فمأخوذة من أصل معناه «فكرة». إذن فبينما يجعل العربي مرجعه في الحكم الخلقي على «نموذج» من نماذج الواقع الفعلي، يجعل ابن الغرب مرجعه فكرة مجردة قوامها جملة مبادئ نظرية. واستدللنا من هذا الفارق بينهما في مرجع الحكم، أن العربي أكثر تقيدا من زميله. على ألا ننسى أن العربي كزميله يؤمن بالصورة العقلية المؤلفة من مبادئ الكمال المطلق، لكنه يضيف إليها تلك النماذج من صور الحياة البشرية كما تقع. وأبدينا للقارئ ما نشعر به إزاء تلك النماذج الموضوعة، إذا لم تكن ملزمة بحكم ورودها في أصول العقيدة الدينية؛ أي عندما تكون صياغة بشرية، فعندئذ رأينا أنها قد تضيف قيودا على حرية الفرد في صياغة سلوكه بنفسه ليكون مسئولا، وأنها قد يتقادم عليها العهد فتكتسب في نفوس الناس قوة ملزمة دون أن يكون ذلك من حقها.
ثم نمضي - بعد هذه المراجعة - فنستأنف السير في حديثنا، فنقول: إن المخاطر التي تنجم للعربي في حياته، عما قد تقرر له بأنه «مثل عليا» دون أن يكون لتلك المثل العليا حق الإلزام، لكونها كانت في أصل نشأتها من صنع أفراد من رجال الفكر يتعرضون للخطأ كما يتعرضون للصواب، إنما هي مخاطر بعيدة الأثر، حتى لقد تنتهي بنا إلى شلل في جرأة التفكير وخفة الحركة، فيمضي موكب الحضارة قدما ونحن وقوف مسمرة أقدمنا إلى الأرض، مغلولة عقولنا إلى «مثل عليا» لا هي «مثل» ولا هي «عليا».
إلا أنه لمأزق حرج محير مربك خطير، ذلك الذي ينشأ الفتى العربي في حبائله، فلا يدري كيف يجد سبيله من تلك الحبائل ليخرج إلى ما قد خلق ليمرح فيه، من أرض فسيحة تحت قدميه، وسماء مفتوحة فوق رأسه. وبقولنا «الفتى العربي» نشير إلى أبناء هذا الوطن الصحراوي الفسيح، الممتد من الخليج إلى المحيط، عبر عصور التاريخ ومنذ فجر التاريخ. ولقد اختار التاريخ أرض مصر ليطلع فيها بفجره، وكان ذلك الفجر مقرونا في حياة الإنسانية بفجر آخر هو «فجر الضمير». ولا عجب أن جعل عالم المصريات الفذ، والمؤرخ العظيم «بريستد» عبارة «فجر الضمير» عنوانا على كتاب له في تاريخ البدايات الأولى للتاريخ المصري. وما يصدق على المصري هنا، يصدق كذلك على سائر أجزاء الوطن العربي بعد ذلك، وأعني ما قد أراده رب العالمين لابن هذا الإقليم المبارك، من أن يكون أول بشر يضع محكمته الأخلاقية في قلبه، فأينما كان وحيثما سار، كان ميزان الحكم الخلقي منصوبا بين جوانحه يميز به الخير من الشر، والهدى من الضلال، وإنه لضمير جعل مبدأه في السلوك أن يتفاعل الفرد مع سائر الأفراد على نحو يجاوز بالبصر حدود هذه الحياة الدنيا، أملا في أن يجيء ذلك السلوك مرضيا لمالك يوم الدين إذا قامت الساعة وجاء الحساب. إن «الفتى العربي» قد أريد له إذا ما ترك على سجية إقليمه - أرضا منبسطة إلى آفاق بعد آفاق وسماء طلقة حتى آخر أجواز الفضاء - أقول: إن ذلك الفتى العربي لو ترك لسجيته وسجية وطنه، لما عرف في حياته العملية إلا ضابطا واحدا، هو ما انضبط به بوحي من رب العالمين. وإنك لتسمع الفلاح المصري والعامل المصري، وهما في أبسط صورة لهما يرددان عبارة «إني أعامل ربي» كلما جرى بينه وبين مواطن تعامل في بيع أو شراء أو صناعة أو كيفما كان.
لكن هذه الصورة الفطرية البسيطة لم تترك على بساطة فطرتها، بل أضيفت إليها القيود قيدا فوق قيد؛ فهنالك حاكم وحكومة ظهرا في الساحة يتطلبان من الشعوب سيادة لهما على الناس، قبل أن يتعهدا لتلك الشعوب بخدمتها في أمانة وشرف. إذن فقد بات حتما على المواطن البسيط كلما أراد أن يميز خطأ الفعل من صوابه، أن يحسب حساب الحاكم والحكومة، إلى جانب ميزان الضمير. ولم يكن ذلك هو القيد الوحيد الذي غلت به الأرجل والأذرع كما غل اللسان، بل فرض على الفرد قيد آخر لعله أبشع وأقسى، وهو «الرأي العام» الذي ترسبت في خلايا جسمه الكبير - وعلى مدى الأعوام والقرون - رواسب مما بث في تلك الخلايا من مزاعم عن الحق والباطل، والصحيح والفاسد، حتى أصبح لذلك «الرأي العام» في كل شعب على حدة، وفي مجموع الأمة، مزاج خاص فيما يغضبه وما يرضيه. والويل لمن أقام ميزان ضميره ليكون فيصلا بين ما يقبل وما يرفض، من فكر أو اعتقاد أو سلوك، دون أن يبدأ بإحكام الرأي العام في كفة الميزان التي يراد لها الرجحان.
لم يعد الأمر - إذن - في حياتنا العملية مرهونا بضمير حر يوجه صاحبه نحو ما يقال أو ما يعمل، إرضاء لرب العالمين خلال إرضاء ذلك الضمير، بل هنالك حاكم وحكومة، وهنالك رأي عام ضاغط، فضلا عما هنالك في طبيعة لإنسان الحيوانية من غرائز، وانفعالات وعواطف، ورغبات وشهوات، كلها يلح على حاملها يريد إشباعا وإرضاء، فماذا تتوقع من الإنسان، الذي ألهمت نفسه فجورها كما ألهمت تقواها، إزاء الصراع العنيف الذي لا بد له أن يستعر في جوفه بين تلك العوامل الكثيرة المتعارضة؟ ماذا تتوقع منه إلا أن ينجو من الناس فرد بقوته وصلابته، وأن يسقط حوله تسعة وتسعون فردا خارت فيهم القوة ولانت الصلابة؟ وكيف يجيء ذلك السقوط؟ إنه قلما يجيء في شجاعة الصراحة والعلانية، وأما الأغلب الأعم فهو أن يجيء في جبن الخائف المتستر بضعفه وراء الجدران، فإذا كان له رأي يخالف ما يريده الحاكم والحكومة، وما ينصره الرأي العام، قاله لخلصائه همسا خلف أبواب مغلقة، وإذا كانت به رغبة تدفعه إليها غريزة أو عاطفة، سافر ليشبعها خارج الحدود، أو بحث عن حجب يتخفى في ظلماتها، والويل لمن لا يتقن هذه اللعبة الاجتماعية ويجيدها.
ولو اقتصرت تلك اللعبة الاجتماعية على حياة الناس الخاصة، لهان خطبها، ولكنها تتعدى هذا المجال الخاص إلى المجال الثقافي العام، فإذا كنت كاتبا، وجب أن تكتب مما في ذات نفسك شيئا وتخفي شيئا، وإذا ترجمت لحياة بطل من أبطالها، وجب أن تصوره ملكا من الملائكة المطهرين لا يعرف الضعف أو الخطأ إليه سبيلا؛ فكل ما فيه قوة على قوة، وصواب فوق صواب، بل إنك إذا ترجمت لحياة نفسك، أبى عليك الرأي العام إلا أن تعلن الحسنات وتخفي السيئات، حتى لو كانت لك الشجاعة النادرة التي تميل بك نحو تقديم صورتك على حقيقتها قوة وضعفا.
في مثل هذا المأزق ينشأ الفتى العربي، فلا يجد أمامه خيارا - في علاقاته مع الآخرين - إلا أن يفرض فيهم السوء إلى أن يثبت له عكس ذلك، فلا يأتمن أحد منا أحدا، ولا يصدق أحد منا أحدا، إلا بعد خبرة يطمئن بها على نفسه، فنكثر فينا الضمانات، وتتعقد العلاقات، وتزداد الخصومات، مع أننا إذا ما تركنا على سجايانا الفطرية، لبدأنا بالحب قبل الكراهية، وبالأمن قبل الخوف، وبالتعاون قبل التنافر، لكننا أضفنا إلى النقاء غبارا، وإلى الصفاء عكرا، فوقعت حياتنا في مأزق حرج مخيف.
إرادات مبعثرة
لم يكن هذا الكاتب في حياته العلمية والثقافية ميسرا كل اليسر، كلا، ولا كانت تلك الحياة عسيرة كل العسر، أما يسرها فقد جاءت من إرادته، وأما عسرها فمن إرادات الآخرين؛ فلقد استهدف منذ شبابه الباكر حياة «المعرفة» يحصلها علوما في معاهد التعليم، يجمعها فكرا وأدبا وفنا من مطالعات حرة لعمالقة الفكر والأدب والفن، عربا كانوا معاصرين أو قدماء، أم كانوا من أبناء الغرب، قديمه وحديثه على السواء. وكان مصدره في هذا القسم الثاني هو المكتبة الإنجليزية يأخذ منها ما هو إنجليزي أصيل، وما هو إنجليزي بالترجمة، وساعده في ذلك دراسته لهذه اللغة على نطاق واسع نسبيا منذ أولى درجات السلم التعليمي. وذلك - إذن - هو مصدر اليسر في سيرته الثقافية، وأما مصدر العسر فأمره عجب من عجب؛ إذ كان لهذا الكاتب في كل خطوة على طريق الحياة من يلقي عليه حجرا من حجارة الاستعلاء، أو الازدراء، أو الصمت القاتل، وكان هذا الصمت أهون الشر. نعم، لقد أنعم الله على هذا الكاتب بنعمتين لا يتقدران بأموال قارون؛ أولاهما ثبات على الهدف كائنة ما كانت العقبات والعثرات. وأما الثانية فهي درجة من الاكتفاء بذاته وبما بين يديه، فسواء أجاءه من الآخرين تصفيق الإعجاب، أم جاءه صفير السخرية؛ لأنه في كلتا الحالتين ماض في طريقه نحو غايته، شاكرا للمعجبين، وعاذرا للساخرين، وسواء عنده كذلك أكان الراتب النقدي عشرة أم كان عشرة آلاف؛ لأنه في كلتا الحالتين يكفيه الأقل، ويحمد الله على نعمته إذا قسم له ما هو أكثر.
جاءه شاب من طلابه له بعض الموهبة في دنيا القلم، وأخذ يشكو من إهمال الكبار في هذا الجيل للشباب، فسمعت في صدري شيئا يضحك وشيئا يبكي. وكان الذي أثار ضحكات الضاحك منهما، ما ظنه من حسن النوايا في أبناء الجيل الماضي؛ لأنه إذا كان هذا الكاتب في شبابه مقياسا للذي كان بين صغار وكبار، لكان هذا الشاب الشاكي على ضلال ليس بعده ضلال؛ إذ كان «الصغير» منا يتلقى لكمات الهوان تلطمه بالشمال وباليمين، فإذا هو تصدى لها بمثلها قضي عليه بالموت الذي لا قيامة بعده في دنيا القلم، وإذا هو أغضى صعبت عليه نفسه. ولم يكن أمام هذا الكاتب في شبابه إلا الطريق الثالث بين الطرفين، وهو الاعتصام بجدران بيته، يقرأ ما يقرؤه هناك، ويكتب ما يكتبه هناك، بحيث لا يكون بينه وبين الناس إلا المطبعة، تأخذ منه وتعطيهم. ولقد امتد به طريق الاعتزال - ما أمكنه - منذ ذلك الحين وحتى هذه الساعة التي يكتب فيها. وكلما تكاثر حوله لوم اللائمين، خرج من محرابه فإذا هو ملاق من الحجارة ما يذكره بشقاء الماضي، فيعود إلى مخبئه.
ذلك هو ما أضحك الضاحك في صدري عندما استمعت إلى شكوى الطالب الموهوب، والذي هو على عتبة الدخول إلى دنيا القلم. وأما الذي أبكى الباكي فهو هذه المأساة التي خيمت على حياتنا العلمية والثقافية لبضع عشرات من السنين، وما زالت تخيم، وهي أنه كلما صممت إرادة مريد منا على خدمة «المعرفة» مما هو جوهري في حركات «التنوير» تصدت لإرادته إرادات - من هذا وذاك - لتحطيم إرادته، فكلما ظهر عامل يعمل على خدمة العلم والثقافة، ظهر له ألف عامل يعملون على كسر قلمه وإخفات صوته. وإذا لم تخدعني الذاكرة، فأظن أن الدكتور طه حسين قال في مثل هذا الموقف المحزن هذه الجملة أو ما يقرب منها: «هنالك قوم لا يعملون، ويؤذيهم أن يعمل العاملون.»
لقد أوشك هذا القلم أن يجر صاحبه إلى حكايات وحكايات عن مواقف عاناها شابا وما زال يعانيها شيخا على عتبة الرحيل. وكلها مواقف يستحدثها من لا يعملون ويؤذيهم أن يعمل العاملون، لكن هذا الكاتب لن ينساق مع غواية قلمه، لينصرف إلى ما هو أهم وأنفع. وعند هذه النقلة طافت بخياله صورة رجل غريب نزل إلينا من كوكب المريخ، لا يدري من أمور حياتنا شيئا، لكنه ذكي نافذ البصيرة، وأخذ يراقب الناس في مناشطهم كل يوم، وإذا به يخرج آخر الأمر بحكم عما رآه، وهو: ليس الذي ينقص هؤلاء الناس هو الإرادة؛ فكثيرون منهم يحملون إرادات ماضية العزيمة، لكن الذي ينقصهم هو أن تتجه تلك الإرادة نحو غاية موحدة، فيكمل بعضها بعضا في بلوغها؛ فلست أرى في حياتهم إلا إرادات ينصب بعضها على بعض تحطيما وتهشيما، فأنتجت لهم المعركة موتا أكثر مما أنتجت حياة، فهمست لنفسي عندما رأيت هذه الصورة في خاطري، وسمعت حكم الزائر المريخي، قائلا: إنه إذا صدق هذا الحكم، كان الذي ينقصنا حقا هو «العقل» الذي يلجم الإرادة لتسديد خطاها - من جهة - ثم يعمل على تحقيق ما أرادته - من جهة أخرى.
وماذا يكون الإنسان إذا لم يكن جوهره مركبا قوامه عقل وإرادة، يختل العقل أو تضعف الإرادة، فيذهب الإنسان. وإنه لمما يستوقف النظر عند هذا الكاتب، أن من عني بالبحث عما يميز «الإنسان» دون سائر الكائنات، من كبار المفكرين كادوا يدورون حول أحد المحورين؛ فإما هو «العقل» عند فريق منهم، وإما هو «الإرادة» عند فريق آخر. على أن القائلين ب «العقل» لا ينفون الإرادة، بل يجعلونها في مرتبة التابع؛ فالعقل يدرك أين يكون الصواب، وعلى الإرادة التنفيذ. والعكس صحيح كذلك؛ أي إن القائلين ب «الإرادة» لا ينكرون على العقل وجوده، بل يجعلون له مرتبة التابع؛ فالإرادة تريد ما تريد أولا، وعلى العقل أن يبحث لها عن وسائل الوصول إلى تحقيق ما قد أرادته. وجدير بالذكر هنا أن هنالك إلى جانب هذين الفريقين فريقا يقول بأولوية «الوجدان»، لكن الأصح هو أن يدرج هذا الفريق الثالث ليكون فرعا من فروع القائلين ب «الإرادة»؛ إذ لا فرق يذكر بين أن تقول: «إني أريد كذا» وأن تقول عن الشيء الذي تريده: «إني أحب كذا - أو أرغب في كذا - أو أميل إلى كذا».
لكن ما يمكن اعتباره مذهبا ثالثا حقا، هو ما نستطيع رؤيته في موقف الفكر الإسلامي في ذلك؛ إذ يبدو لهذا الكاتب أنه فكر يجعل من العقل والإرادة صفتين متآزرتين في مركب واحد، بحيث إذا سئلنا: ما جوهر الإنسان؟ أجبنا: هو إرادة عاقلة، أو هو عقل مريد. فإذا لم أكن على صواب في هذا القصور عن روح الفكر الإسلامي، كان الرأي الأرجح عندئذ، من وجهة النظر الإسلامي، هو أولوية الإرادة على العقل؛ فالإرادة بمثابة من يأمر بإيجاد ما ليس له وجود راهن، ومهمة العقل هي أن يلتمس السبل التي تحقق لها ما أرادت.
وسواء أكانت هاتان الوظيفتان في تكوين الإنسان - وهما أن يريد وأن يعقل ما يريده - أقول إنه سواء أكانتا متعاقبتين في الأداء، أم كانتا مدمجتين معا في كل أداء، فهما بغير شك في صميم الصميم من جوهر الإنسان وحقيقته، وبهما يمكن أن يقاس الفرد - أو مجموعة الأفراد التي تكون شعبا - في مقدار نصيبه من إنسانية الإنسان. وكان يمكن أن نضيف إليهما خاصة الإيمان الديني، لكن هذا الإيمان متضمن فيما نسميه ب «الإرادة» إذا أخذنا المصطلح بمعناه الواسع، ويجب أن نفهمه بهذا المعنى؛ إذ هو في هذه الحالة يشمل الحالة الوجدانية التي يكون الإيمان الديني فرعا منها، ولا يكفي أن تستقل إحدى هاتين الوظيفتين دون الأخرى؛ لأن الفكرة العقلية في تجريدها الرياضي، التي لا تعرف طريقها إلى فعل إرادي يخرجها من حالة التصور إلى حالة الوجود، هي بمثابة المبصر الكسيح، يرى الطريق ولكنه لا يقوى على السير فيه ليحقق غايته، ومجرد «الإرادة» - من ناحية ثانية - التي تستطيع الفعل لكنها لا تدري كيف تفعله، هي بمثابة جسد قوي العضلات، ولكنه أعمى، إنه عندئذ يكون - كما يقول المثل - كالثور في مستودع الخزف، يدوس بحوافره على نفائس الخزف الثمين، وكأنه يدوس على حجارة. صاحب الأفكار المجردة التي لا تحمل في طيها طريقة تنفيذها هو كحامل المصابيح الوهاجة وهو مكفوف البصر في بيداء، فيضيع ضوء المصابيح هباء لا يهدي أحدا إلى سبيل. ومثله في الضياع سائر في تيه الفلاة والليل معتم، فلا يدري في أي اتجاه يسير؛ ففي الحالة الأولى نرى عقلا لا تسعفه إرادة، وفي الحالة الثانية نجد إرادة لا يهديها عقل.
ومن هذا الشرح التمهيدي ننتقل مع القارئ إلى دنيا الثقافة والمثقفين في العالم العربي منذ صحوته الأولى في القرن الماضي حتى اليوم، حاملين معنا مقياسنا الإنساني الذي أسلفناه؛ فقد ذكرنا أن الإنسان إنسان بقدر ما تحيا فيه وظيفتا «العقل» و«الإرادة» معا، متتابعين في الأداء أو مدمجتين. وإننا لنسأل أنفسنا جادين - ونحن في انتقالنا من التمهيد إلى التطبيق - ماذا عساه أن يحققه لنا من يزعم لنفسه، أو من نزعم له، أنه من المنتجين المبدعين في البنيان الثقافي الذي نعيش فيه حياتنا على مختلف وجوهها؟ نعم، إننا لنسأل أنفسنا جادين، حتى لا تبهر أبصارنا، أسماء لمعت في سمائنا، ورسخت في عقولنا وقلوبنا، دون أن نقف وقفة جادة لا هازلة ولا هي بلهاء، لنسأل أنفسنا: بأي مقياس يجب أن تقاس عظمة العظماء في هذا المجال؟ إننا نريد حقا أن نفخر ونفاخر بهم جميعا، لكننا في الوقت نفسه نريد لهذا الفخر أو المفاخرة أن يقام على وعي ناضج بحقائق الأمور، لا سيما ونحن في عصر كثرت فيه الأدوات الآلية الجبارة، التي أصبحت تصنع العظماء في مختلف الميادين بصياحها وجذبها للأنظار، حتى ولو كان صنعاؤها هؤلاء أقزاما في ميزان الحق والعدل، كما في مستطاع تلك الأجهزة الجبارة في يومنا هذا أن تطمس العظماء بالحق والعدل، وذلك بأن تسدل دونهم أستار الصمت، فلا تجعل لهم سبيلا إلى شاشاتها وأضوائها وألوانها وأصواتها؛ ومن أجل هذه الكوابيس الإلكترونية في عصرنا، التي أصبحت تحيي العظمة في قزم، وتميت العظمة في عملاق، نحن في حاجة إلى أن ننتقل إلى عالمنا الثقافي الحقيقي، لنحكم وفي أيدينا الميزان.
على أن هذا الكاتب يود بادئ ذي بدء، أن يضع بين يدي القارئ انطباعه العام عن الخطوط الأولية التي تقام عليها النهضة العربية الحديثة من ناحيتها الثقافية؛ فلو أن الأمور قد سارت بنا سيرها الطبيعي الذي ألفناه في تسلسل المراحل التاريخية، لرأينا مرحلة ينتج فيها أصحاب الفكر والأدب والفن أفكارهم وتصوراتهم عن الإنسان وحياته، ما هو واقع منها وما كان ينبغي له أن يقع. ويتلقى جمهور الثقافة على تفاوت درجاته تلك الأفكار والتصورات، ويتشربونها قطرة قطرة، حتى لنراها على مر الزمن قد تقطرت نزولا من الذروة إلى الجمهور العريض، ويساعدها على هذا الانتشار حركات النقد الفكري والأدبي والفني، فهذا النقد من شأنه أن يلقي الضوء على ذلك الناتج الثقافي الذي أنتجه المبدعون في مختلف الميادين، فيعين ذلك على فهم الرسالة الثقافية المبثوثة فيه، حتى إذا ما تحول عند عامة الناس إلى وعي بالأهداف الجديدة، نشأت لديهم «إرادة» التغيير، وها هنا تنتقل الريادة إلى قادة السياسة وأحزابها؛ فكل يتفق على الأهداف، لكنهم قد يختلفون في الوسائل المحققة لها. وهكذا تمضي عقود السنين بعد ذلك، إلى أن تتغير ظروف الحياة مرة أخرى، وتصبح الأهداف التي تحققت كلها أو بعضها، غير كافية للتجاوب مع الظروف الجديدة التي طرأت على مسرح التاريخ، فيفكر المفكرون فكرا جديدا، والفنانون أدبا وفنا يتناسب مع المرحلة الجديدة، وتدور الدورة مرة أخرى ويبدع الأدباء. على أن مبدعي الثقافة الجديدة فكرا وأدبا وفنا، على اختلاف ميادينهم التي يبدعون فيها، واختلاف وسائطهم ووسائلهم، فهذا وسيطه أنغام، وذلك وسيطه كلمات، وثالث وسيطه خطوط وألوان إذا ما وجدوا الناقد القادر، وجدناهم يتحدون في دعوة واحدة، هي التي تصبح أمام الجيل الناشئ هدفا جديدا لحياة جديدة، وذلك معناه - إذا تحقق لشعب معين أو أمة معينة - أن يجتمع ذلك الشعب أو هذه الأمة على «إرادة» واحدة، هي التي يقال عنها عندئذ إنها إرادة الشعب أو إرادة الأمة، التي يتولاها رجال السياسة موضوعا لهم، يتفقون على تفصيلاته أو يختلفون شيعا وأحزابا. ولولا توحد الأهداف في المرحلة المعينة من مراحل الزمن، وما يتبع ذلك التوحد من اجتماع على «إرادة» واحدة، قد تشذ عنها قلة من الأفراد، إلا أنها تسود الكثرة الغالبة. أقول إنه لولا هذا التمحور المذهبي والإرادي، لما نشأت للتاريخ «عصوره»؛ إذ ماذا يعني «العصر» التاريخي المعين، إلا أن تكون أكثرية الناس الغالبة قد «تجانست» على نحو ما، فأصبح تجانسها هذا دليلا على تميز عصرهم بمناشط وأهداف، لم تكن هي المناشط والأهداف التي سادت ما سبقها ولن تكون هي السائدة فيما سوف يأتي لاحقا لها.
والانطباع العام عند هذا الكاتب عن تاريخنا الثقافي الحديث هو أن صناع الثقافة العربية، فكرا وأدبا، وفنا، لم يتحدوا إلا لحظات قليلة، على محور موحد يستقطب مبدعاتهم، كل في ميدانه، وكل بوسيطه ووسائله، فلزم عن ذلك لزوما منطقيا وواقعيا في آن واحد، أن القطرات الثقافية التي تسللت إلى جمهورنا العريض، لم تكن شاملة ومتجانسة، بل تلقى كل جانب من جوانبه شيئا غير الذي تلقاه الجانب الآخر. وماذا تظنه ناتجا ينتج، بحكم هذه المقدمات، إلا أن يتشرب الجمهور وجهات للنظر متضاربة، وأن يتولد عن ذلك عدة «إرادات» متقاطعة متنافرة، وذلك ما قد شهدت به مواقف حياتنا الفعلية كما نحياها، اللهم إلا لحظات - كما أسلفت - تستقطب الإرادة الشعبية كلها عند محور واحد، وتلك اللحظات هي لحظات الثورات، وهي في مصر ثلاث؛ ثورة 1882م، وثورة 1919م، وثورة 1952م، وهي ثورات يكمل بعضها بعضا؛ الأولى ثورة عرابي التي أرادت لمصر أن تكون للمصريين. والثانية ثورة سعد زغلول التي أرادت للمحتل البريطاني أن يرحل ليظفر المصري بحقه السياسي. والثالثة ثورة الضباط الأحرار، بزعامة عبد الناصر، التي أرادت للمصري أن تمتد حقوقه بأن تجاوز حدود الحقوق السياسية لتشمل حقوقا اجتماعية كثيرة حرمت منها الكثرة الغالبة من أبناء الشعب. وكانت لهذه الثورات إشعاعاتها التي تأثرت بها الأمة العربية في جميع أقطارها.
وواضح أن اللحظة الثورية محال أن تتفجر من فراغ فكري، بل لا بد لها من مخاض فكري يسبقها بإرهاصاته، حتى إذا ما انتشرت موجاته في دوائر تتسع مع الأيام لتشمل آخر جمهور الشعب، انقدحت شرارة الثورة مؤيدة بشعبها. إذن تكون - تلك اللحظة - مزيجا من فكرة وإرادة تطبيقها. ولنتذكر ما أسلفناه من أن الفكرة النظرية وحدها بغير إرادة تجريها مجرى التاريخ في أحداث الحياة العملية، إنما هي فكرة كسيحة أعوزتها الأعضاء التي تحركها. والإرادة التي لا تسير في فعلها مستنيرة بفكرة وراءها ومعها، هي إرادة عمياء قد تهدم بفعلها ولا تبني. ومن ذا الذي يعد الفكرة النظرية وينضجها انتظارا لأصحاب الإرادة يتناولونها بالتنفيذ؟ إنهم هم مبدعو الثقافة وصناعها، فكرا وأدبا وفنا، شريطة أن يكون هذا النشاط العقلي والفني منطويا كله على هدف وطني واحد.
فإذا راجعنا لحظاتنا الثورية التي اجتمعت عندها إرادة الشعب وجدناها لا تلبث على هذا التوحد إلا قليلا، ثم يدب الخلاف، وإذا بالإرادة الواحدة قد تشققت إرادات، وإذا بالفكرة الواحدة قد تقسمت وجهات مختلفة للنظر عند تفسيرها. كانت فكرة «الحرية السياسية» وراء الثورة سنة 1919م، وكانت فكرة «الحرية الاجتماعية» وراء الثورة سنة 1952م، ولم تكن «فكرة» الحرية لتقوم وحدها بتحقيق هدفها إلا إذا تحولت وأصبحت «إرادة الحرية». وهكذا كان في كل من الثورتين، لكننا لم نلبث أن رأينا صورا مختلفة لتفسير «الحرية» وتطبيقها، وكان السجن، والقتل، والتعذيب، ومصادرة الأموال، وغير ذلك مما يجري مجراه، بين صور الفعل الإرادي الذي فرض فيه أنه يخرج فكرة الحرية من مجالها النظري عند مبدعي الثقافة إلى مجال يصنع التاريخ بأفعاله وأحداثه. وليس لهذه المقارنة من تعليل يفسرها، سوى أن الإرادة الواحدة الموحدة بين أفراد الشعب جميعا، قد تكسرت إرادات متنازعة مبعثرة، قد لا يكون وراء كل إرادة منها إلا فرد واحد برؤية شخصية جر وراءه أتباعا يبتغون المنافع.
وما يقال عن الشعب الواحد، من حيث تفكك الإرادة الواحدة المنصبة على تنفيذ فكرة واحدة مأخوذة بمعنى واحد، لتصبح إرادات كثيرة متعارضة متقاطعة، تحتفظ كلها من الفكرة الواحدة باسمها، ثم تسمي بهذا الاسم ما شاءت لها أهواؤها. أقول إن ما يصدق على الشعب الواحد في هذا الصدد يحدث شبيهه في الوطن العربي الكبير؛ فجماعات المبدعين للثقافة، فكرا وأدبا وفنا، متجاوبون بعضهم مع بعض على طول الوطن العربي وعرضه؛ فالمناخ الثقافي بينهم متجانس، لا فرق بين مشرق عربي ومغرب عربي، لكن أصحاب «الإرادة» إذا تناولوا الأدوات الفكرية، والوجدانية نقلا عن مبدعيها وصناعها، ربما اجتمعوا جميعا على رؤية واحدة لحظة أو لحظات، لكنهم ما لبثوا أن شققوا الإرادة الواحدة إرادات تتعارض، كل منها يفسر الأهداف العربية التي صاغها المثقفون فيما أبدعوه، كيفما تشاء ويهوى، مع احتفاظها ب «الأسماء» وكأنها لم تغير من الحقائق الموضوعية شيئا ما دامت لم تغير من أسمائها، فمن ذا الذي لا يرفع لواء «الحرية» و«الديمقراطية» و«الإيمان» و«العلم» إلخ؟ أما كيف تفهم هذه الأسماء وماذا ينطوي عليه كل اسم منه، فلا وزن له ولا خطر.
ولعل القارئ قد لحظ أن الكاتب أشار إلى مبدعي الثقافة في أقطار الوطن العربي بقوله إنهم «يتجاوبون» بعضهم مع بعض، ولم يقل إنهم «متحدون»، وذلك لأن حياتنا الثقافية، على أيدي من يصوغونها ويصنعونها، متفرقة بين وجهات نظر كثيرة، فلا يجمعها هدف واحد ولا وسيلة واحدة. وربما كان هذا التجزؤ في حياتنا الثقافية، هو الذي مهد السبيل أمام أصحاب الإرادة التنفيذية أن يتفرقوا بدورهم أهدافا ووسائل، وكل منهم يزعم لنفسه الحق كله والصواب كله . وليت من تناولوا منا تيارات الرأي بالتعليق والنقد، أو بالتأييد والرفض، قد اتفقوا فيما بينهم على تلك التيارات ما هي؟ ولو اتفقوا عند هذه المرحلة الأولى - على الأقل - لأمكن لأضواء التحليل والنقد والشرح لتلك التيارات، أن تنصب كلها في اتجاه واحد، فيسهل على المتتبع من جمهور القراء أو المستمعين أو المشاهدين أن يؤيدوا وأن يرفضوا عن فهم وبصيرة.
لكننا نختلف حتى عند هذه الخطوة الأولية، فمن هم حملة المشاعل الذين يقدمون الضوء لأصحاب الإرادة كي يسيروا على مداها؟ في رأي هذا الكاتب - وهو رأي عرضه في مناسبات كثيرة - أن حملة المشاعل هؤلاء ثلاث فئات متناقضة في أهدافها، وأساس التقسيم هنا هو موقف كل منها من ثقافة الغرب قديمه وحديثه ومعاصره؛ فهناك فئة (وهي أكثر الفئات الثلاث عددا) ترفض من حيث المبدأ أن تبني ثقافتها - وبالتالي أهدافها - على شيء منسوب للغرب لأن التراث العربي الإسلامي عند تلك الفئة فيه ما يكفي لإقامة الحياة العملية وتقويمها، أيا ما كانت تلك الحياة زمانا ومكانا. وفئة ثانية مضادة «وهي أقل الفئات الثلاث عددا» تريد الالتحام مع الغرب في ثقافته التحاما تاما، حتى لكأننا جزء منه أو هو جزء منا، وواضح أن هذه قليلة الأثر، في توجيهنا؛ لأن خطأها أوضح من أن يكون موضعا لجدال. وإن هذا الكاتب ليأسف على فترة لم تكن قصيرة من حياته الواعية، قضاها نصيرا لتلك الفئة، على ظن خاطئ منه بأن ما نجح في الغرب كل هذا النجاح الذي أضفى عليه ما أضفى من قوة وعلم وثراء، ينجح معنا إذا نحن اصطنعناه، لكنه خطأ في الرأي قد شاء الله لهذا الكاتب أن يراه فيهتدي. وأما الفئة الثالثة فقوامها أولئك الذين يرون الهداية في صيغة ثقافية جديدة تقام لنا، لتكون هي «الثقافة العربية» ثوابتها هي ثوابت «العروبة» من ناحية مقوماتها التي خلعت على العربي هويته، ومتغيراتها هي ما تغيرت به حضارة عصرنا عن حضارات سلفت.
لكن البلبلة الفكرية مكتوبة علينا، على أيدي القادرين وغير القادرين؛ إذ هنالك منا من يشيعون في الناس تقسيمات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان؛ فلا هي قائمة على منطق التقسيم الذي يشترط فيه وحدانية الأساس الذي أقيمت عليه القسمة حتى لا تتداخل الأقسام فتغمض الأفكار، ولا هي قائمة على فهم صحيح للمضمون الثقافي الذي يريدون تقسيمه وتصنيفه، فأي عجب أن نرى الفكرة العربية قد تشعبت إلى حد الغموض مع حسن النية ربما، وأن الإرادة العربية قد تهشمت إرادات مبعثرة بين أفراد، تهشما كان سوء النية - على أرجح الظن - مجدولا فيه مع حسنها، فاختلط في حياتنا حابل بنابل إلى أن يشاء رب العالمين لنا الهدى؟!
من إشعاعات التوحيد
1
أمة التوحيد لم تعرف في فترات طويلة من تاريخها كيف توحد كثرة شعوبها في هدف بعيد واحد، بل إن الوطن العربي من تلك الأمة لم يعرف سبيله إلى مثل هذا الالتقاء في ظل لواء واحد من هدف بعيد. والعجب هنا يكون أعجب؛ لأنه وطن تؤلفه لغة واحدة، ومن شأن اللغة الواحدة - حين تكون هي اللغة الأم - أن يتقارب أصحابها فكرا ووجدانا، ثم يزداد عجبنا عجبا، إذا علمنا أن الوطن العربي في هذه المرحلة الراهنة من تاريخه متآلف فعلا في فكره ووجدانه؛ فصاحب الفكرة منا قد ينشر في بلده المعين، وإذا بمواطنيه على امتداد الوطن العربي الكبير يتجاوبون غير عابئين بما أقيم من حواجز بين إقليم وإقليم، والشاعر منا يجيد الإبداع في مشرق فتتردد الأصداء في مشرق ومغرب على السواء، أو هو يجيد الإبداع في مغرب فتتردد أصداؤه في مغرب ومشرق معا، والموسيقار يعزف، والمغني يصدح بالغناء، فتصبح هذه الألحان والأنغام موضع الإعجاب عند العربي أينما كان موقعه. وهكذا قل في كل مبدعات الفكر والفن والأدب، تنتج هنا أو هناك من أطراف الوطن العربي الكبير فلا تلبث أن تكون ملكا لأبناء الأمة العربية كلها. وليس لذلك من معنى إلا أن يكون معناه هو أن ثمة وحدة عربية وثيقة العرى في جانب واسع من الحياة الثقافية. ومع ذلك فلا يسع الرائي من بعيد أو من قريب سوى أن يرى بين أجزاء الوطن العربي، بل وبين أجزاء الإقليم الواحد من أقاليمه الفرقة والخصومة والتنازع مما قد يصل بالناس هنا أو هناك حد القتال الحربي في أعنف صوره وأقساها، فمن أين جاء الخلاف والفكر بيننا موحد وهو في مستوياته العليا؟ من أين جاء الخلاف ووجداننا يلتقي ويتآخى في رحاب الأدب والفن؟ إنه ليسهل هنا على مجيب أن يجيب بقوله: إنها «السياسة» وحدها التي فرقت وأشعلت لهيب النار، لكن هذا الجواب السهل لا يقنعنا ولا يصرفنا عن معاودة السؤال عن علة الخلاف من أين جاءت؟ وكل ما في الأمر هو أن نعيد سؤالنا بذاته عن تلك «السياسة» فنقول من أين جاءها الخلاف بهذه الحدة كلها، وبهذا العمق كله، حتى لقد استطاعت أن تشعل بين الإخوة والأشقاء نيران الحروب؟ وأيا ما كان الجواب فنحن على حق حين نقول إن الوطن العربي من أمة التوحيد، لم يعرف كيف يوحد كثرة شعوبه في هدف واحد قريب أو بعيد.
إننا لا نريد بهذا أن نتجاهل ما لا بد من حدوثه بحكم طبائع الأشياء ذاتها. وابحث ما شئت في أي موجود في هذا الكون الفسيح، كبر ذلك الموجود أو صغر تجده يجمع في كيانه الموحد أجزاء يختلف بعضها عن بعض في طبيعتها وفي وظيفتها. وانظر إلى الذرة التي هي نهاية المطاف في تحليل العلم لمادة الكون تجدها مؤلفة (بمعنى التجمع والتآلف معا) من جزئيات متباينة فمنها كهرب موجب ومنها كهرب سالب، ومنها كهرب محايد، ومنها ما تبينوا فعله ولم يتبينوا طبيعته، لكن هذا التباين لا يمنع أن تكون الذرة الواحدة كائنا موحدا ثم انتقل من الطبيعة إلى الإنسان، لا من حيث هو جزء من الكون فيصدق عليه، ما يصدق على سائر الكائنات، بل انظر إليه من حيث هو مبدع لفكر وأدب وفن على نحو لا يشاركه فيه كائن آخر تجد في كل أثر من آثار إبداعه، شرطا أساسيا هو أن يجيء الأثر مؤلفا من «كثرة» شريطة أن تنخرط تلك الكثرة في «وحدة» تؤلف بينها لتجعل منها كيانا واحدا ، فالمعادلة الرياضية تحتوي على عدة رموز مختلفة، لكنها اتسقت جميعا في جسم رياضي واحد، والنظرية أو القانون من نظريات العلوم الطبيعية وقوانينها هي كذلك محتوية على عدة مفردات مختلفة، لكنها كذلك متسقة في جسم نظري واحد، ثم هي لا تكتفي بهذا الاتساق بين مفرداتها، بل تجاوزه لتحقق اتساقا آخر أوسع مجالا، وهو الاتساق بين الجانب النظري من ناحية وتطبيقه على وقائع الدنيا من جانب آخر، فعندئذ تصبح كل واقعة ممثلة لحدث مادي، وما قد بث فيه من قانون، فالتفاحة التي رآها نيوتن وهي تسقط من فرعها إلى الأرض هي تفاحة من جهة وهي من جهة أخرى مجسدة في سقوطها لقانون نظرية هو قانون الجاذبية. هذا في مجال «الفكر» الإنساني، فإذا تحولت بنظرك إلى ما يبدعه من أدب وفن رأيت مبدأ تآلف الكثرة في وحدة تضمها محققا على نحو أروع؛ فقصيدة الشعر ليست كومة من مفردات اللغة، بل هي نسق ينسق تلك المفردات على صورة فريدة، يتلقاها المتلقي كما يتلقى حقائق الحياة في شتى صورها، بمعنى أنه يرى بين يديه كثرة من أجزاء قد توحدت كلها في كيان موحد يستند كل جزء فيه إلى سائر الأجزاء، أو هكذا ينبغي للأمر أن يكون.
فلسنا نريد - إذن - أن نتجاهل وجوب أن تتكاثر الأجزاء في كل جانب من جوانب الحياة في الوطن العربي، لكننا كنا نتوقع لتلك الأجزاء أن تتآلف في وحدات متسقة، فالفرد الواحد إنما هو مع فرديته تلك سيرة تاريخية اشتملت على أحداث تعاقبت له في حياته في كثرة لا تقع تحت حصر. والشعب العربي الواحد مؤلف من ملايين الأفراد يتفاعلون بعضهم مع بعض في شتى صور الحياة في تباين شديد بين مختلف المواقف. وهكذا الحال في تفاعل الشعوب العربية بعضها مع بعض، لكن هذا الخضم الهائل من مفردات الأشخاص والأحداث لا يمنعها من أن تتوحد في حياة عربية متصلة الأجزاء، وأن الأجزاء في هذه الحالة ليتحقق لها النسق الذي يوحدها لو توحدت بحق الغاية التي يتغياها الأفراد كل في مجاله، فمن وحدة الغاية يتوحد المناخ الفكري العام، وعندئذ تختلف الاهتمامات الفردية ما أريد لها أن تختلف وتكثر الأنماط ما شاء أصحابها أن تكثر، لكنها جميعا تقع من الحياة العربية الموحدة موقع الوحدات المختلفة في بناء فني واحد.
كل هذا قد شهده التاريخ في حياة الأمم في الفترات التي استهدفت فيها الأمة المعينة بكل أفرادها هدفا واحدا، فأحاط بها مناخ فكري واحد، سواء أكان هذا المناخ مما نتفق معه أم لم يكن؛ فالعصور الوسطى في أوروبا والقرون الثلاثة التي امتدت عندنا نحن بين السادس عشر والتاسع عشر استهدفت أهدافا نرفضها نحن اليوم. وأما أوروبا إبان عصر العقل في القرن السابع عشر، وفي عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكذلك أهداف الفكر العربي في القرن العاشر الميلادي بصفة خاصة، فقد وحدتها كلها أهداف نرضاها ونتمناها. على أن الذي يشغلنا في هذا السياق من الحديث هو أن نبين في وضوح متى وكيف يتوحد الاتجاه الثقافي لجماعة من الناس في مرحلة معينة من تاريخها، وإذا كان مثل هذا التوحد ممكنا بالنسبة إلى أي شعب من الشعوب بل هو أمر قد وقع بالفعل كما أشرنا، فأجدر به أن يتحقق لأمة ركن الأساس في دينها هو «التوحيد» فالله عز وجل هو في عقيدتها واحد لا شريك له، وهو أحد صمد، وذلك واضح في أول ركن من أركان الإسلام الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا نبيه ورسوله. ولا يعقل أن يكون المقصود بشهادة المسلم على وحدانية الله هو أن تقتصر على شفاه تنطق بأحرف وكلمات، بل لا بد للمعنى الذي تحمله الألفاظ أن يفهم ويهضم حتى يتمكن منه العقل ويرسخ في القلب كأنه يساير نبضاته. ولسنا هنا نكتب ما لا نعنيه كما يكتب تلاميذنا «الإنشاء»؛ إذ يرصونها كلمات موجهة إلى أذن القارئ، وليس على هذا القارئ بعد سمعه أن يبحث عن معنى لما يقرؤه، كلا بل إننا نقول ما نقوله لنعنيه. وانظر في حياتك أنت أيها القارئ لترى الفرق واضحا بين حالتين؛ حالة أولى تجد فيها نفسك وقد آمنت بفكرة، فلم يعد في وسعك إلا أن تسلك على مقتضاها، كأن تكون والدا يؤمن بأن واجب الوالد نحو ولده هو أن يرعاه ما وسعته الرعاية، فيرى نفسه مدفوعا بدفعة تلقائية نحو أن يسلك بما تقتضيه فكرته التي آمن بها. وأما الحالة الثانية فهي تلك التي نراها اليوم واسعة الانتشار في حياتنا، وأعني أن يتظاهر الإنسان أمام الناس لفكرة هو لا يؤمن بها حقا، ولكنه يعلم أنها تعجب الناس، فإذا ما خلا لنفسه في حياته العملية، نهج في سلوكه نهجا آخر، كأن يرفع أمام الناس لواء «الاشتراكية» في وقت يعلم أن ذلك ما يرضي جمهور الناس، حتى إذا ما انفض السامر، يبحث لنفسه عن كل السبل التي يكدس بها المال والعقار والذهب وكل ذي قيمة يرفع بها رأسه، وأقصد رأسه هو ورأسماله معا، لماذا؟ لأنه لم يكن يؤمن حقا بما ادعاه.
ولا شك في أن إيمان المؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى هو من أنماط الحالة الأولى؛ فالمؤمن ينطق بالشهادة ويعنيها، ولكنه كثيرا ما يقف - برغم إيمانه - عند حدود النطق باللفظ دون أن يعنى العناية الكافية بتدبر مضمونه، ولو تدبره مليا لسرى في كيانه سريان شعور الوالد بوجوب رعايته لولده، فعمل على أن يتوحد هو بدوره ما مكنته طبيعة البشر أن يتوحد، وذلك لأن في طبيعة البشر مكونات كثيرة متعارضة، وهكذا أراد له خالقه أن يكون؛ لأن في ذلك ما يختبر إرادته ومدى تطلعه إلى التسامي بنفسه نحو ما يرضي الله جل وعلا؛ فقد ألهمت النفس البشرية أسباب فجورها كما ألهمت في الوقت نفسه أسباب تقواها، وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ولكنه كذلك وضع فيه ما يمكن أن يرتد به أسفل سافلين. ولو سار الإنسان بنفسه في طريق التهذيب الصحيح لعرف كيف ينسق كل مكوناته تلك تنسيقا يوحدها تحت هدف واحد، فتصبح له مصدر قوة ورفعة شأن؛ فليس بين مكونات الإنسان جانب خلق عبثا، ويمكن تلخيص تلك المكونات تحت ثلاثة رءوس؛ فهنالك الجوانب التي أريد بها أن تصون الحياة ذاتها وأن تبقي عليها كدوافع الغذاء ودوافع النسل، ومنها مجموعة ثانية هي في وظيفتها أشبه بقوة الكهرباء في إدارة العجلات، وأعني بها مجموعة الانفعالات وما يبنى عليها من عواطف، فالانفعالات كالخوف والغضب والعواطف كالحب والكراهية، ثم هنالك مجموعة ثالثة هي وسائل الإدراك التي زود بها الإنسان ليعلم بها ما يحيط به من موجودات ليتصرف فيها على نحو ينفعه ويضمن له حسن البقاء. تلك في اختصار هي مكونات الإنسان ومقوماته، وهي بطبيعتها متنافرة إلا إذا دربت على تناسق فيما بينها، فدوافع الطعام والجنس قد تذهب بصاحبها إلى حدود يعرف عنها العقل أنها حدود الهلاك، وانفعال الخوف أو الغضب وعاطفة الحب أو الكراهية قد تطغى إلى حد يشل قدرات الإنسان، لكنها جميعا مكونات مطلوبة. وقد أخطأ كثيرون في عهود من التاريخ فظنوا أن هناك من تلك العناصر ما يجب على الإنسان أن يقتلعه من كيانه اقتلاعا، فيزهد في هذا ويترفع عن ذاك، لكن الوقفة الإنسانية الأصح هي أن تستغل فطرة الإنسان بكل عناصرها، بحيث نبحث لها عن النقطة التي يبلغ التناسق عندها حده الأعلى وتلك هي النقطة التي «يتوحد» عندها الإنسان كيانا كل ما فيه يعمل على قوة البناء، فلا تترك العناصر المختلفة ليفتك بعضها ببعض. وكلنا يعلم كيف يمكن للحياة الإنسانية أن يتشقق بنيانها لما يدب بين جدرانها من صراع.
ولعل القارئ قد عرف كثيرا عن طائفة من أوجه القصور في عصرنا هذا، مما أحدث في النفس عند الفرد العادي تمزقا ويأسا وحقدا وتمردا وعنفا وفساد طوية وضمير، وكلها علل نتجت عن عدم التوازن بين مكونات الإنسان حتى طغى بعضها على بعض ففسد الجميع؛ فهنالك حياة صناعية ازدحمت فيها الآلات، وما تقتضيه من المشتغل بها من دقة شديدة ويقظة لا تسهو، دون أن يدبر لذلك العامل الساهر عليها ما يشبع جوانبه الأخرى بنسبة يتعادل بها الميزان. وهنالك الرغبة في القوة والثروة والتملك إلى حد الجشع مما قد يتيح النجاح لواحد والفشل لكثيرين، يصبح واجبهم هو خدمة ذلك الواحد الناجح ليزداد نجاحا، فتتراكم الملايين في جيب وتخلو من الملاليم ألوف الجيوب. وهكذا وهكذا مما يعرف كل منا شيئا منه فنتج التمزق وخيبة الرجاء. ولو عنيت التربية بأن ينشأ الفرد - كل فرد - على «وحدة» تتناغم فيها عناصر فطرته لبرئ عصرنا مما يشوبه لينعم الناس جميعا بحسنات عصرهم.
والمؤمن بعقيدة التوحيد هو أقرب الناس إلى أن يتوحد شخصه ليتسق فعله مع عقيدته. وما أكثر ما أشارت آيات الكتاب الكريم إلى وجوب الصلة بين إيمان المؤمن وعمله الصالح ليتوافق فيه باطن الإيمان مع ظاهر العمل! فإذا كان محور ذلك الإيمان هو التوحيد، وجب أن يظهر انعكاس ذلك المحور التوحيدي في شخص المؤمن وهو يعمل، وبهذا يجيء كل فعل وكأنه تعبير عن المصالحة بين عناصر الفطرة البشرية التي كان يمكن لها أن تتنافر وتتصارع، لو أنها تركت مطلقة لا يضبطها قيد ولا ينظمها مبدأ وقانون. وانظر مليا فيما تتضمنه «الشهادة» التي هي أول أركان الإسلام؛ فهي تتضمن أربع زوايا؛ فهنالك شاهد يشهد، وهنالك مشهود أمامه بتلك الشهادة، وهنالك مشهود له، ثم هناك الصفة التي يشهد على وجودها. وتأمل هذه الجوانب الأربعة جانبا بعد جانب تجدها جميعا مؤدية بقائلها ومعلنها إلى نتيجة محتومة، شريطة أن يكون قد نطق بالشهادة عن وعي كامل بما قد انطوت عليه؛ فهو - أولا - يستخدم في كلمة «أشهد» ضمير المتكلم المفرد؛ أي إنه يلتزم ما يشهد به التزاما هو مسئول عنه، من حيث هو فرد قائم بذاته حتى لو أنكره سائر أفراد البشر جميعا؛ فركن الأساس في بنية المسلم أن يكون على وعي بفرديته الفريدة المسئولة أمام خالقه عز وجل، ومثل هذه الوقفة لا تكتمل لها مقوماتها إلا إذا كان ذلك الفرد الفريد غير منقسم على نفسه. على أن معنى الشهادة يتضمن فيما يتضمنه أن هنالك من أراد الشاهد أن يعلن شهادته أمامه، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى أحد الطرفين أو إليهما معا؛ أولهما اعتراف بوجود أفراد المجتمع الآخرين وهو المجتمع الذي ينتمي إليه الشاهد، وثانيهما وجود «ضمير» كامن في فطرته، والشاهد يتعهد أمام ضميره بألا يتمرد على أوامره ونواهيه، وأمام ذلك الضمير قد التزم الشاهد بما التزم، ولماذا التزم؟ إنه التزم الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، فهل أراد بذلك الإيمان ألا يجاوز اللفظ تنطق به شفتاه؟ لو كان ذلك كذلك لتساوى مع الببغاء الذي يسمعه فيحاكي لفظه المنطوق، كلا، بل لا بد لجوهر المعنى أن يسري في كيانه فيتشكل ذلك الكيان - فيما يشعر وفيما يسلك - بحالة التوحد التي شهد بها لله تعالى، لكنه بشر إذا هو أراد لنفسه اقترابا من الكمال المنشود، ففيه من جوانب النقص ما يوقفه عما قد أراد عند حد محدود. وهكذا ترى أن من آمن بالتوحيد فإنما آمن بعقيدة تميل به نحو أن تتوحد ذاته بقدر ما يستطيعه بشر لنفسه، برغم ما قد أقيمت عليه فطرة البشر من عناصر قابلة بطبعها لأن ينازع بعضها بعضا.
وما يصدق في هذا الصدد على الفرد الواحد وهو في فردانيته يمتد مداه ليصدق على المجتمع الذي يكون ذلك الفرد عضوا فيه، وذلك إذا جاء جميع الأفراد على الصورة التربوية نفسها. وعندئذ تنضم شخصيات موحدة متكاملة بعضها إلى بعض، فينتج عن اجتماعها أمة موزونة النغم، مبرأة من النشاز. وأقوى ما يساعد الأمة الواحدة على إيجاد هذه الوحدة المتسقة المتناغمة بين أبنائها على اختلاف أعمالهم واهتماماتهم ومعارفهم، هو أن يكون لها هدف بعيد واحد تتجه نحوه. ولقد أوضح هذا الكاتب لقارئه في مناسبة أخرى كيف يمكن لميادين العلم المختلفة أن تتشابه في هدفها برغم اختلافها فيما تؤديه؛ فميادين الحياة الثقافية عند أمة معينة، وفي فترة معينة من تاريخها قد تنحو كلها نحو محور واحد تدور كلها حوله. وهنالك في تاريخ الناس عصور توحدت فيها ثقافتها بحيث رأيت الموسيقى والشعر وسائر ألوان الأدب والفن التشكيلي كالتصوير والنحت والفن التعبيري في المسرح وما يشبهه من سينما وغيرها والعمارة والنشاط العلمي وغيرها وغيرها من نظم التعليم والسياسة ونظم الحكم، كل هذه الفروع يحللها المحللون فيجدونها جميعا تنطوي على فكرة أساسية واحدة كالحرية أو التعقل أو العاطفة الوطنية وغير ذلك. وها هنا يبين النقاد القادرون على دقة التحليل، كيف تقول الموسيقى ما تقوله العمارة أو التصوير أو الشعر، فلو أن أمة التوحيد قد رسخت فيها هذه العقيدة حتى بلغت منها سويداء القلب ونخاع العظام لرأيت كل أوجه نشاطه دون أن تدري قد نطقت بلغة واحدة واستهدفت هدفا واحدا فتوحدت على النحو الذي أسلفناه وشرحناه.
ولا يقف أمر التوحد في حياة الناس عند حد الأفراد تتوحد شخصياتهم، وعند الحد الأوسع منه، الذي هو أن تتوحد الأمة التي تضم هؤلاء الأفراد، بل إن ذلك الميل نفسه لينعكس كذلك في ضروب النشاط التي ينشط بها الناس في مختلف ميادينهم، ويهمنا منها هنا مجال البحث العلمي؛ فنحن نعيش اليوم في عصر بلغ فيه التخصص العلمي حدا بعيدا، حتى لقد اضطر العلماء المتخصصون أن يقسموا العلم الواحد إلى عدة فروع، وأن يفتتوا كل فرع منها إلى فروع ثانوية؛ ومن هنا أصبح العالم المتخصص الواحد إذ هو يعمل في مجاله الخاص يكاد لا يدري شيئا مما شط به زملاؤه في سائر فروع علمه، وفي هذه الدقة ضمان لدقة النتائج العلمية، لكن فيها كذلك تمزيقا للعلم الواحد حتى يفقد هويته أو يكاد. ولم يكن علماء الماضي يتعرضون لهذا التمزق؛ لأن كل عالم منهم يتناول موضوع علمه من الألف إلى الياء، فيكون باحثا في «الكيمياء» وفي «النبات» وهكذا، فيلزم عن ذلك بقاء الموضوع الواحد موحدا، إلا أن هذا نفسه يقتضي أن يقف العلم عند أعماق قريبة الغور من حقيقة موضوعهم.
والعلم لا يقتصر على موضوع واحد، بل يقسم نفسه موضوعات موضوعات، بحسب ما يتصوره رجال العلم عن ميادين البحث الممكنة. إن حولهم كونا متنوع الظواهر فسيح الأبعاد، وهم يريدون البحث عن القوانين التي تنتظم بها كل ظاهرة على حدة، فيقسمون تلك الظواهر فيما بينهم أقساما كبرى، ثم يتناول العلماء داخل كل قسم كبير موضوعهم بالتقسيم فيما بينهم وهكذا. ولكي أضع بين يدي القارئ صورة تقريبية لعملية التقسيم هذه كيف انتهى بها الطريق إلى مجموعة محددة المعالم من علوم مختلفة، أقول إنهم بادئ ذي بدء قد فرقوا بين علوم «صورية» وعلوم أخرى مادية الموضوعات، فأما العلوم الصورية فهي مجالان يتصلان يصعب إيجاد الفاصل الحاسم بينهما، وهما «علم المنطق» و«علوم الرياضة»، وهما قسمان «صوريان» بمعنى أنهما يبحثان في «علاقات» دون أن يعلما شيئا عن «الأشياء» التي ترتبط بتلك العلاقات في دنيا الواقع الفعلي؛ ففي علم المنطق تقول - مثلا - إنه إذا كانت (أ) هي (ب) هي (ج)؛ إذن تكون (أ) هي (ج) دون أن يسأل عالم المنطق نفسه ما هي الأشياء المعنية التي ترمز إليها بهذه الرموز، وذلك لأن «الصورة» المذكورة تصدق على جميع الحالات بغير استثناء. وفي الرياضة نقول: إنه إذا كانت 2 + 3 = 5 وكانت 1 + 4 = 5؛ إذن 2 + 3 = 1 + 4، فهذان علمان صوريان يكونان أسرة من العلوم متميزة مما عداها. تأتي بعدها أسرة أخرى من نوع آخر، هي أسرة العلوم التي يختص كل منها بظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة لاستخراج قوانينها؛ فعدة فروع منها تكون علم الطبيعة، وعدة فروع أخرى تكون علم الكيمياء، وعدة فروع ثالثة تكون علوم الحياة من نبات وحيوان، وعدة فروع رابعة تكون العلوم الإنسانية.
إذن فنحن إذ ننظر إلى دنيا العلم، فإنما نواجه كثرة كثيرة من أقسام متباينة؛ فمن جهة نجد كل علم واحد على حدة ينقسم فروعا وفروعا للفروع، ومن جهة ثانية نجد ميادين العلوم الكبرى متعددة ومختلفة. وها هنا قد ترى من رجال العلم أنفسهم من لا يقلقه هذا «التعدد»، ويأخذه على أنه لازمة ضرورية من لوازم العلم. لكنك قد تجد كذلك من رجال العلم من لا تطمئن نفسه لهذا التجزؤ الذي إن صلح للفكر العلمي فهو لا يصلح للوحدة العقلية عند الإنسان؛ ومن ثم ينهض نفر من هؤلاء ليجعلوا همهم البحث في تلك الأقسام الكثيرة وفروعها الأكثر عما يوحدها، ولا تطمئن لهم نفس إلا إذا وقعوا على المبدأ الواحد الذي عنده تلتقي جميع تلك الأقسام والفروع. وهؤلاء العلماء الباحثون عن موضع التوحد بين ميادين البحث العلمي، هم الذين يطلق عليهم اسم «فلاسفة العلم». مع ملاحظة أن فيلسوف العلم في معظم الحالات هو نفسه الذي كان عالما متخصصا في أحد الأقسام أو في فرع واحد من فروع أحد الأقسام، وكل ما تميز به هو أنه قد أقلقته الكثرة فيما يعتقد أنه كون واحد موحد.
ومرة أخرى نقول إن من كانت عقيدته الدينية هي «التوحيد» وجد في نفسه دافعا أقوى مما يجد سواه من زملائه العلماء، نحو أن يبحث دائما عن الوحدة التي تؤلف بين الكثرة أيا كان الموضوع، فيبحث عن محور الوحدانية في الشخصية الإنسانية برغم اختلاف الجوانب الكثيرة في حياة الفرد الواحد، واختلاف العلوم الباحثة في تلك الجوانب، وكذلك يبحث عن محور الوحدانية في الكون مجتمعا كله في وجود واحد.
وفي مثل هذا النظر تتحقق «أسلمة» العلوم بمعناها الصحيح كما نراه؛ فليست «إسلامية» العلم المعين أو العلوم مجتمعة أن نبحث لكل علم معين كالطب أو غيره عن مصادر في القرآن الكريم، أو في الأحاديث النبوية الشريفة، بل إن إسلامية العلم هي في البحث عما يوحد قوانينه ومبادئه في أصل واحد، ثم أن نبحث في مختلف العلوم عن مبدأ واحد يوحدها، فإذا كشفنا عنه ولن يكشف عنه إلا رجال العلم الذي ألموا بقوانين العلم الواحد أو مجموعة العلوم إلماما يبين لهم موضع التجمع في أصل واحد. أقول إننا إذا انكشف لنا موضع التوحد أو قل مواضع التوحد التي نتدرج بها من الفرد الواحد أولا ثم العلم الواحد إلى أن تنتهي إلى توحد مجموعات العلوم في أساس واحد، جاءت عقيدتنا في التوحيد عميقة وقوية وناصعة.
لكن أمة التوحيد لم تعرف كيف توحد نفسها؛ فلا الفرد الواحد من أفرادها مستطيع أن يصل باطنه بظاهره حفاظا على وحدة شخصيته، ولا الشعب الواحد من شعوبها قادر على أن يجمع أبناءه تحت لواء واحد بالمعنى الصحيح الصادق لهذه الكلمات، ولا الأمة في مجموعها قد ضمت شعوبها تحت جناحيها كما تجمع الأم أبناءها. ولعل سرا من أسرار هذا التنافر المتعدد الدرجات هو أننا طالبنا أنفسنا بتحقيق المثل العليا في حياتنا العملية، واستحال علينا ذلك، ولا بد له أن يستحيل لضعف فطري في قدرات الإنسان، فقسم كل منا نفسه قسمين؛ يواجه الناس بقسم منهما فيسمعهم من اللفظ الأمثل ما يشتهون، حتى إذا ما توارى وراء الجدران استجاب لجوانب ضعفه آسفا أو غير آسف، ففقدنا بهذه الازدواجية شجاعة الصدق كما فقدنا الأمل في أن نحقق للشخصية العربية وحدتها وكيانها؛ لأن أول الطريق إلى بلوغ الهدف هو إدراك الحق وإعلانه فيعلم السائر في أي متجه يسير.
2
لا تقنط - يا ولدي - من رحمة الله، فإذا رأيتنا نتخبط بين الصواب والخطأ؛ فذلك هو الإنسان، لا يكون أبدا على صواب كل الصواب، كلا، ولا يكون أبدا على خطأ كل الخطأ. وحسبنا من نعمة الله علينا في هذا السبيل، أن من التزم منا النهج الصحيح، رجح عنده الصواب على الخطأ كلما امتدت به الأيام؛ ومن هنا جاءت حكمة الشيوخ؛ فخبرة الإنسان بحقائق العالم يصحح بعضها بعضا على مر الزمن، لكن لتلك الحكمة عند الشيخ ثمنها الباهظ؛ لأنها تجيء إليه مقرونة بالضعف فلا يقوى على خفة الحركة، وعندئذ يصبح وكأنه معرفة شلاء. وأما الشباب فإن يكن كثير الخطأ قليل الصواب، فهو بصوابه المحدود قادر على الحركة الساعية إلى العمل والتنفيذ، يصيب مرة ويخطئ مرتين، فينجز بقدر ما أصاب. وقديما قال الشاعر: «أواه لو عرف الشباب، وآه لو قدر المشيب.» نعم، فالشباب يقدر ولكنه تنقصه المعرفة، والشيخ يعرف ولكن تنقصه المقدرة، فما حيلتنا فيما أراد لنا الله؟ إنه لا حيلة لنا في ذلك إلا أن تتعاون شيخوخة وشبابا، وهكذا تسير الحياة دائما في خط صاعد. ولعل شيئا من هذا المعنى هو الذي يكمن في عقائد الإنسان الأول، حين كانت عقيدته هي أن الكون نور وظلمة يتصارعان، لكن النصر آخر الأمر للنور، أو أن الكون خير وشر يتنافسان، لكن الخير هو الغالب في آخر المطاف.
لا يا ولدي، لا تقنط من رحمة الله، إذا رأيتنا نتخبط بين الخطأ والصواب، وسأقص عليك لمحات من خبرتي في هذا الصدد عبر السنين ، مكتفيا في ذلك بنوع واحد من مزالق الإنسان نحو الخطأ، إلا إذا تولاه الله برحمته، وأعني ذلك النوع من الخطأ الذي يميل بالإنسان إذا ما عرف حقيقة جزئية من حقائق الوجود، وقف عندها، محدودا بحدودها، على ظن منه أنها هي الحق كل الحق، دون أن يسعفه التوفيق فيمد بصره ليجاوز حدودها، ولو فعل لرأى تلك الحقيقة الجزئية إنما هي جزء من كيان أكبر منها، يشتمل عليها وعلى أخوات لها كثيرات، وعندئذ - يا للعجب - تزداد حقيقته الجزئية الأولى سطوعا ونصوعا. إنها تزداد حقا على حق، ولا ينقص نصيبها القديم من الحق شيئا. وهكذا، فكلما اتسع الأفق في معرفتنا بالكائنات، ازدادت معرفتنا عمقا، ونتيجة لرؤيتنا للجزء الواحد وهو في جسمه الكبير.
تتغير نظرة القروي إلى قريته إذا عرف أين موقعها من إقليمها، وأين موقع الإقليم من رقعة الوطن، وأين تقع رقعة الوطن من كوكب الأرض. ومع هذا التدرج في اتساع الأفق تزداد معرفته بقريته دقة، وتتغير معرفة طبيب «القلب» كلما عرف الروابط التي تربط القلب بغيره من أعضاء الجسم كالرئتين والكبد وغيرهما. وانظر كم تغير من علوم الإنسان، بعد أن تغيرت فكرته عن كوكب الأرض؛ فبعد أن كان على ظن بأن كوكبه الأرضي ثابت في مكانه، لا يتحرك ولا يدور، وأن سائر أجرام السماء هي التي تدور حول الأرض، كأن الأرض هي المحور المركزي وبقية العالم لواحق وأتباع، عرف الإنسان أن الأرض كوكب كغيره من كواكب المجموعة الشمسية، يدور حول نفسه ويدور في الوقت نفسه حول الشمس، وبالدورة الأولى يحدث الليل والنهار، وبالدورة الثانية تتتابع الفصول الأربعة. وكل هذه الفروق بين النظرتين، نتجت من وضع الجزء في موضعه من الكل الذي يحتويه. وقارن بين من يتعامل مع الناس بمعرفة محدودة عن «العدد»؛ إذ هو لا يعرف عنه إلا بضعة أعداد قد لا تتعدى المائة أو المئات، دون أن يكون له تصور شامل لتسلسل الأعداد كيف يبدأ من الصفر فصاعدا إلى غير نهاية، أقول: قارن مثل هذا الرجل بمن اتسعت معرفته الرياضية بالعدد وغيره مما ينتج عنه. ولقد سقت هذا المثل إذ تذكرت قصة وردت عن أعرابي قديم، يحكى عنه أنه اشترى من سوق السلع المستعملة كيسا كبيرا مما تعبأ فيه الغلال أو ما يشبهها، وبعد أن مضى في سبيله، تذكر بائع الكيس أن به حليا من الذهب والأحجار الكريمة، فلحق بالأعرابي ورجاه أن يبيع له ما قد اشترى، وعرف الأعرابي بالكنز النفيس الذي احتواه الكيس، فقال: إني أبيعه بألف دينار. وتمت الصفقة، فعجب من الأعرابي رفيق له كان يصاحبه على الطريق، وسأله دهشا، كيف تطلب ألف دينار في مثل هذا الكنز النفيس؟ فأجابه الأعرابي: أهناك في العدد ما هو أكثر من ألف؟ والله لو علمت ذلك لطلبت أكثر. وهذا مثل آخر لمن يتقيد علمه في حدود ضيقة؛ لأنه لم يستطع أن يضع الجزء في سياقه الواسع الذي يحتويه، والأمثلة على ذلك لا تنتهي.
على أن ذلك المنزلق الفكري الذي يؤدي بالإنسان إلى خطأ، لا يقتصر على الريفي المحدود بحدود قريته، أو البدوي المحدود بحدود خبرته، بل قد يتعدى هؤلاء ليشمل من ظفروا من العلم بنصيب ارتفع بهم درجات، لكن التعصب أو ما لست أدري كيف أسميه، يعمي أبصارهم، حتى ليقفوا عند «الجزء» الذي يتعصبون له، بحيث يرون فيه الحقيقة المطلقة كلها. وما أكثر ما وقع كاتب هذه السطور في مثل هذا الخطأ الفكري العجيب! والمثل الذي أتخيره لأسوقه إلى القارئ في صدد ما نحن فيه، هو الموقف الفلسفي الذي اتخذه لنفسه «برتراند رسل» الذي هو بغير نزاع في ذروة الفكر الفلسفي المعاصر، وهي ذروة لا يشاركه فيها إلا أنداد قلائل؛ فعصرنا عصر «علم» في المقام الأول، وبرتراند رسل في طليعة من يفلسفون ذلك الجانب «العلمي» من جوانب عصرنا. ولكي أشرك القارئ معي في الرؤية، لا بد لي من تمهيد موجز وشارح؛ فقد عرف تاريخ الفلسفة من قبل ضربين من النظر إلى الكون من حيث «وحدته» أو «تعدده»؛ فهناك من رأوا توحدا للكون برغم كثرة ظواهره، بمعنى أن جميع الظواهر يمكن ردها إلى «خامة» واحدة (إذا جاز هذا التعبير) لولا أن هؤلاء ينقسمون بين أنفسهم طائفتين؛ إحداهما تجعل «الخامة» المشتركة «روحا» أو ما يندرج في سمائها، وأما الطائفة الأخرى فتجعلها «مادة » أو ما يندرج في طبيعتها. ويترتب على هذا الانقسام في النظر، أن نجد الطائفة الأولى تفهم جميع ظواهر الكون فهما يردها إلى أصل روحاني. كما نجد الطائفة الأخرى تردها إلى طبيعة مادية. ولعل أهم ما يهم الكثرة الغالبة من الناس في هذا الصدد هو «الإنسان» وكيف نفهمه؟ فالطائفة الأولى ترد كل تصرفات الإنسان وجميع حالاته الداخلية إلى جانب «الروح» منه. وأما الطائفة الثانية فلا ترى في الإنسان إلا «ظاهرة» طبيعية مادية، لا تختلف عن سائر الظواهر إلا في درجة التركيب، وهي درجة انتهت به إلى ما هو فيه من «وعي» و«عقل» وما إلى ذلك. إذن فهاتان شعبتان من أصحاب النظرة الموحدة لظواهر الكون بردها إلى أصل واحد. والشعبتان - كما ترى - يتفقان في وحدانية «الأصل»، لكنهما يختلفان في طبيعته. وإلى جانب هذا الرأي الموحد للكون، كان هنالك دائما فريق يرى أنه يتعذر عليهم تصور جانبي «الروح» من جهة و«المادة» من جهة ثانية. وقد تلاقيا معا آخر الأمر في «أصل» واحد؛ فلا الروح في رأيهم يمكن أن تكون مادة، ولا المادة يمكن أن تكون روحا؛ ولذلك اختاروا لأنفسهم موقفا «ثنائيا» يجعل كلا من الجانبين أصلا قائما بذاته. وتحت هذين المذهبين؛ مذهب التجانس في الكون برغم كثرته البادية في اختلاف ظواهره، ومذهب عدم التجانس الذي يقسم المضمون الكوني قسمين متضادين، هما الروح والمادة.
وعلى هذه الصورة جاء برتراند رسل في عصرنا هذا، وجاءت معه حركة النظر التحليلي الذي بلغ دقة رياضية لم يعرفها الإنسان من قبل. وهنا وجد الرجل بين يديه «أصولا» لا هي ترد إلى «واحد» ولا هي مما يكتفي بأصلين اثنين، بل هي تنوع متعدد الأصول، وحتى عندما أخذ هذا التعدد يضيق معه على مر الأعوام، حتى انتهى آخر الأمر إلى رد الكون كله إلى «أحداث» تتجمع هنا وتتفرق هناك، وما يسميه هنا بالأحداث هو ما يقع على حواس الإنسان من لمعات الضوء، ونبرات الصوت، ولمسات الجلد وهكذا، وهي فكرة تبلورت عنده (ومعه آخرون قليلون) انعكاسا للطبيعة النووية في العلم المعاصر. أقول إن برتراند رسل، حتى حين انتهى آخر الأمر إلى ما يشبه الأصل الواحد للكون، وهو «الأحداث» بالمعنى الذي يفهم به هذه الكلمة؛ فواضح أن وحدانية الأصل هنا تتجزأ في أنواع مختلفة، لم يتردد في أن يذهب إلى «تعددية» الكون، فلا هو واحد في خامته الأولية، ولا هو اثنان، بل هو «كثير».
واكتفى بهذا التمهيد الشارح برغم قصوره، لأقول إن كاتب هذه السطور يذكر جيدا ذلك العهد من أعوام حياته، الذي أحس فيه بالحيرة الفكرية التي جاهد ما استطاع ليجد لها مخرجا يحلها؛ فربما لم يجد برتراند رسل بين عقائده الأولية ما يبعث فيه القلق، وأما هذا الكاتب فعقيدته الدينية «توحيد» الخالق سبحانه وتعالى. على أنه - أعني هذا الكاتب - يتعذر عليه أن يتصور إيمانا بالتوحيد الإلهي، لا ينتهي بالمؤمن إلى رؤية توحد له الكون، وتوحد له كيانه البشري، وتوحد له كثيرا جدا مما قد تراه العين متكثرا؛ ولهذا فهو يحس قلقا شديدا إذا قيل له إن الكون طبيعته الأساسية كثرة يستحيل رد بعضها إلى بعض؛ ومن ثم لم يكف عن البحث، لعله يهتدي إلى تصور يزيل عنه الحيرة.
وإذا غضضنا أبصارنا عن برتراند وفلسفته التي وصفها هو نفسه بأنها «تعددية» وقلنا لأنفسنا هذا فيلسوف إنجليزي وما يراه، فما لنا نحن به وبما يراه أو لا يراه، كان علينا أن نتذكر أن العلم الطبيعي في حد ذاته، من حيث هو «علم» لم يفلسفه لنا أحد، وجدنا أن الموقف التعددي لا يزال قائما أمامنا وكأنه يتحدى؛ وذلك لأن ذلك «العلم» بشتى فروعه، لا يكون شيئا إذا لم يكن عمليات تحليلية إلى آخر المدى، فما يظهر لنا أنه موحد يجيء العلم فيحلله إلى عناصره؛ فلا «الماء» يظل ماء، ولا «الهواء» هواء، ولا «الشجرة» شجرة، ولا «العصفور» عصفورا؛ لأن كل هذه الكائنات مركبات من عناصر أولية، إذا تجمعت وتفاعلت نشأ الماء والهواء والشجرة والعصفور. وأما العناصر الأولية ذاتها فتبقى عناصر تستعصي على التحليل. إذن فهنالك عدة أوليات هي التي ينسج منها ما ينسج من أوليات، فما الذي يوحد لنا تلك العناصر في جذر أساسي واحد، يشبع فينا فطرة «التوحيد»؟
نعم «فطرة» التوحيد، نحن إذ نقول إن الإسلام دين «الفطرة» نعني بين ما نعنيه الاعتقاد بوحدانية الله عز وجل، وهو اعتقاد نزلت به الرسالة وحيا، ولكنه صادف فطرة تؤمن به فور الدعوة إليه، وهنا قد يقال: إن «التوحيد» هنا توحيد للخالق جل وعلا. فما لك تخلط الأمور وتنقل التوحيد إلى مقومات الكون ومكوناته ليصبح أمام العقل كونا موحدا متناغما متكاملا؟ والجواب هو أن الفطرة الإنسانية التي آمنت بإله واحد على سبيل الإيمان الديني، هي نفسها الفطرة التي تميل نحو أن يلتئم الكون كله في وحدة واحدة برغم كثرة عناصره وظواهره.
ويبدو أن إدراك الإنسان الفطري للكائنات من حوله، بل وإدراكه لذاته حين يتأملها من باطن، يرى كل شيء أول ما يراه على أنه موحد، حتى ليطلق عليه اسما واحدا ليميزه، فيرى الشجرة ويقول «شجرة» على أنها كائن واحد، فإذا ما نما إدراكه في مرحلة أخرى من مراحل عمره، حفزه دافع آخر من دوافعه الفطرية إلى أن يتناول بالتحليل ذلك الذي كان قد اعتبره كائنا واحدا. وها هنا تكون مرحلة «العلم» بالأشياء وحقائقها، فيتعقب الشجرة التي كان قد رآها، تحليلا لعناصرها، وطريقة نموها وإثمارها، وهكذا. وذلك هو ما يضطلع به علم النبات، حتى إذا ما أشبع في نفسه حاجتها إلى المعرفة، عاد سيرته الأولى، وجعل الشجرة في إدراكه وفي تعامله مع الناس، شجرة موحدة كما كانت أول مرة. ولك بعد ذلك أن تنظر إلى أمثلة توضح لك هذه الخطوات؛ إدراك للكل في جملته أولا، تحليله إلى مكوناته الجزئية ثانيا، العودة إلى إدراكه موحدا ثالثا. لكن هذه الخطوة الثالثة، وإن تكن قد أعادتنا إلى حيث كنا في الخطوة الأولى، إلا أنها في حقيقة أمرها تختلف عنها بما قد أضافته من علم تفصيلي بالشيء، بعد أن كنا نسميه، ونتعامل معه وبه ونحن على جهل بحقيقته.
خذ مثلا موقف الإنسان من اللغة التي يبدأ في تعلمها منذ طفولته الباكرة، فهو يبدأ بمرحلة يتكلم فيها ويسمع من يكلمه، فينطق بكتل صوتية ينطقها، وكتل صوتية يسمعها، دون أن يعلم أي شيء عن «المفردات» التي تجمعت وتكتلت في كيان صوتي واحد، ثم تجيء مرحلة التعلم، وها هنا تفك له الكتلة الصوتية، فإذا هي ألفاظ مستقلة كل لفظة منها عما عداها، وإذا باللفظة الواحدة تجمع من حروف، وهنا نقول عنه بلغتنا الدارجة إنه «فك الخط». وواضح أن معرفته بالمكونات التفصيلية في مرحلة التعلم والعلم، لا تمحو منه إدراكه للكل الصوتي الذي يكونه ليتكلم، والذي يسمعه حين يكلمه من يكلمه.
وإذا كان ذلك كذلك، إذن فقد انفتح أمامنا الباب الذي يخرجنا من الحيرة التي أحسست بها حيال الموقف الفلسفي التعددي عند برتراند رسل، بل ونحس بها جميعا إذا ما تأملنا العلم الطبيعي في تعدديته التي يؤدي إليها تحليل الأشياء إلى عناصرها، ما دامت للإنسان فطرته التي تنحو به نحو أن يجد في الكثرة رباطا يوحدها. والباب الذي انفتح فزالت الحيرة، هو أن العملية التحليلية للكائنات، إنما هي مرحلة وسطى على الطريق؛ فأول الطريق رؤية موحدة، وآخر الطريق رؤية موحدة، وبينهما مرحلة ألقت لنا الأضواء على المحتوى مفصلا، وبهذه الأضواء نكون قد انتقلنا في علاقاتنا بالكائنات إلى علم بها بعد جهل.
تقرأ القصيدة من الشعر، فتحس النشوة الفنية دون أن تسأل أول الأمر من أين جاءت؟ وتعود إلى القصيدة، معتمدا على نفسك إن كنت قادرا أو مستعينا بناقد قادر، فيحلل لك القصيدة حتى يردك إلى تفصيلات مكوناتها، فتعلم مصدر النشوة الفنية التي أحسستها. وربما عدت بعد هذا العلم لتقرأها في جملتها كما فعلت أول مرة، لكنك هذه المرة تلتقي بالكيان الموحد وأنت عليم بسر فحواه. ويصادفك بين الناس إنسان، فتحس منذ اللقاء الأول أن المودة بينكما سوف تمتد وتقوى لما لمسته فيه من خصال تقرب نفسك من نفسه، ثم تأخذ مع الأيام في معرفة شخصه مفصلا في مواقف وحالات وردود أفعال، فتعلم عنه ما لم تكن تعلمه عند اللقاء الأول، مما أحدث بينكما ذلك الود السريع. وهكذا الأمثلة تجيئك متتاليات، إذا أردتها؛ لتزداد يقينا بأسلوب الفطرة في إيمانها الصادق البريء أولا؛ فرغبتها - ثانيا - في تحليل وتبيين سر ما انطوى، لتعود إلى موضوع إيمانها عن علم يهدي ويهتدي.
كانت القرون الوسطى في أوروبا، عندما بدأت سحبها تنقشع شيئا فشيئا عن تباشير فجر جديد، قد شهدت بين ما شهدته من تلك الطلائع، رجلا يطلق في الناس صيحة لم يألفوها، قائلا: إنه لا بد من تبديل المرحلتين اللتين يسير عليهما المؤمنون. فبعد أن كانوا يؤمنون أولا بما قد آمنوا به، ثم يعلمون ثانيا حقائق ذلك الإيمان، يجب - في رأيه - أن تكون الخطوة الأولى للعلم بالحقائق، حتى إذا ما تبينها الناس آمنوا بها. وفي صورة مختصرة، بدل أن يكون ترتيب الخطوتين هو أنني أومن أولا ثم أعلم ثانيا، يجب أن يكون: إنني أعلم أولا ثم أؤمن بما تعلمته ثانيا. وكان صاحب هذه الصيحة هو «إبلار»، وغدت صيحته مدعاة إلى انقلاب، هو الانقلاب الذي يطلق عليه اسم النهضة، أو البعث. وقرأ كاتب هذه السطور عن ذلك الموقف الثقافي قراءة دارس، ولبث دهرا يناصر «إبلار» في دعوته؛ إذ كيف نترك الناس ليؤمنوا بما ليس يعلمون؟ ولكنه - أعني هذا الكاتب - تساءل في لحظة متأملة: أصحيح ما دعا إليه «إبلار» وما امتلأت به صفحات التاريخ الفكري من شروح تؤيده وتناصره؟ وإذا كان صحيحا، فعلى أي وجه يتحقق؟ أنقول للطفل وهو يشير إلى شجرة باسمها، كلا يا بني، لا تقل عنها إنها شجرة حتى تكبر وتعلم عن حقائقها ما عساك تعلمه؟ أنقول لقارئ قصيدة الشعر معجبا بما قرأ: كلا يا أخانا، أرجئ إعجابك هذا حتى تجد الناقد الذي يبصرك بتفصيلاتها، فتعلم عنها ما تعلمه، ثم يكون لك بعد ذلك حق في قبولها؟ أنقول لمن يحب: أمسك يا صاحبنا عن حبك حتى تلم بتفصيلات الحب ومن تحب؟ وأخيرا، أنقول لمن آمن بوحدانية الله فور سماعه لدعوة الوحي كلا، لا تؤمن حتى يفرغ علماء الدين من بحوثهم الفقهية في معنى التوحيد؟ الحق أن هذا الكاتب لم يعد يرى في دعوة «إبلار» ما كان يراه؛ لأنه لم يعد يعلم كيف يمكن - أساسا - لمثل تلك الدعوة أن تتحقق عند التطبيق، وانتهت به تأملاته - أعني هذا الكاتب - إلى أن موضع الخطأ عند «إيلار» ومؤيديه، هو أنه رآهما خطوتين؛ إيمانا وعلما، أو علما وإيمانا. وحقيقة الأمر هي أنها ثلاث خطوات؛ إيمان فعلم فإيمان مستنير بما علم.
خلاصة القول هي أننا إذا حللنا كائنا موحد الكيان إلى عناصره التي توحدت فيه، نخطئ إن قلنا إن حقيقته هي تلك العناصر، وذلك فهو متعدد وليس موحدا. والصواب هو أن نعود إليه بعد تحليله لنراه موحدا كما رأيناه بادئ ذي بدء، على أن نستحضر في أذهاننا أن الرؤية الثانية قد أضافت علما إلى الرؤية الأولى، وهذا هو بعينه ما يحدث لأي جزء حين ننسبه إلى الكل الذي يحتويه؛ فإن هذه الإضافة تزيدنا علما بذلك الجزء، لكن ذلك لا ينفي أن نتعامل معه جزءا كما كان؛ فالمواطن المفرد في أمته، جزء من أمته، ورؤيتنا له من حيث هو فرد ينتمي إلى مجموعة معينة، تضيف إليه بعدا جوهريا في شخصيته، ولكنها لا تلغي فرديته التي يستقل بها كيانا قائما برأسه. إننا نرى مدينة القاهرة على خريطة مصر، فنزداد علما بحقيقتها عما لو اقتصرنا على معرفتها من داخل شوارعها وميادينها؛ لأن موقعها من الخريطة يبين لنا علاقاتها المكانية بسائر أجزاء الوطن المصري، لكن ذلك لا يفقدها شيئا من حقيقتها مدينة مستقلة بكيانها، كالمفرد من مفردات اللغة، له وجوده المستقل في المعاجم، لكننا نكاد لا نعرفه على حقيقته من حيث معناه، إلا إذا أجريناه في سياق جملة مفيدة.
تحليل الأشياء والأفكار تحليلا يردها إلى مكوناتها البسيطة، ثم إعادة تركيب تلك المكونات في أذهاننا ليعود تصورنا للشيء أو للفكرة موحدة كما كانت، بعد أن ازددنا علما بها، مسألة ليس منها بد للفكر العلمي. ومع ذلك فقد كانت دائما موضع خلاف واختلاف بين فريقين من رجال الفكر، يختلفان نمطا ومزاجا؛ فهناك فريق يرى أن تحليل الحقيقة الموحدة يبطلها ويفسدها. كما أن هنالك فريقا آخر لا يرى شيئا من ذلك، بل إنه ليدرك ضرورة تحليل تلك الحقيقة الموحدة إلى أجزائها إذا أردنا معرفتها حق المعرفة، دون أن يترتب على ذلك إبطال لها أو إفساد لمعناها. من الفريق الأول المتصوفة والشعراء ومن لف لفهم، ومن الفريق الثاني رجال العلم. انظر إلى المتصوف وهو يجاهد في سبيل الوصول إلى الله عز وجل؛ تلمح فيه القلق لكونه جزءا معزولا عن الحقيقة الكبرى، وكأنه لا يجد في وجوده الفردي وجودا كاملا؛ إذ هو في ذلك الوجود الجزئي أشبه بورقة سقطت من فرعها، فلم يعد لها إلا أن تذبل وتذوي وتجف لتبددها الريح. وانظر إلى الشاعر في رؤيته لكائنات الطبيعة، يأخذه الفزع إذا تناول العلم كائنا منها بمبضع التشريح، وذلك لأن المتصوف والشاعر ومن إليهما، يحملون في صدورهم فطرة تكره التحليل، بل وتكره الحساب الذي يحرص على الدنانير والدراهم جمعا وطرحا وضربا وقسمة وكسورا، بل ويكره «الدقة» بكل أنواعها، يضيق صدرا إذا حسبت له الزمن بالدقيقة والثانية. ولست أملك في هذه المناسبة إلا أن أروي نادرة وقعت لي في خبرتي، وهي تشرح مثل هذا المزاج في واقعة وقعت؛ فقد دعيت مع أحد الزملاء ذات يوم لنؤدي إذاعة مشتركة، وكان زميلي ممن يكرهون التقيد بما يتقيد به الناس في حساب الوقت. ولما أراد أن يستطرد في حديثه المذاع استطرادا يتطلب بضع ساعات، قال له المذيع إنه مضطر أن ينحصر حديثنا كله في ساعة واحدة طولها ستون دقيقة، فهاج الزميل وماج، مستنكرا أن يخضع «الفكر» لقيود الزمن! إنه مزاج بشري يمقت دقة العلم.
والذي نريد لهذا الحديث أن يحمله إلى قارئه، هو أن يرى ضرورة الرؤية الموحدة لما هو واحد، جنبا إلى جنب مع ضرورة أن نجزئ ذلك الموحد إلى عناصره لنفهمه، هما عمليتان تكمل إحداهما الأخرى في النظرة المتكاملة. وابدأ بشخصك ثم اصعد بفكرك درجة درجة؛ فأنت كما ترى نفسك فرد متفرد، لا تشك في ذلك حتى لو أنكرته عليك الدنيا بأسرها، لكنك في الوقت نفسه جزء من أسرة، وأسرتك جزء من مجموعة الناس، لا ينبغي لفرديتك أن تذوب في أي من هذه الجماعات التي أنت جزء منها؛ لأنك مسئول بفردك أمام الله يوم الحساب، كلا ولا هو مستطاع لك في الوقت نفسه أن تنعزل جزءا مستقلا بذاته، وكأنه قلامة ظفر لم تعد تتغذى ولا تنمو، ثم انظر حولك، فأنى وجهت البصر، رأيت الحقيقة نفسها التي رأيتها في شخصك؛ أفرادا في جماعات، والجماعات أجزاء من جماعات أشمل، فانفراد الفرد في عزلة مطلقة يقتله، وذوبان الفرد في غيره ذوبانا مطلقا يفنيه، فلا بد له من اتصال وانفصال معا، كالنقطة في الخط، والخلية في الجسم الحي، وكالجملة في الصفحة، والصفحة في الكتاب.
ليس فيما ذكرناه شيء من فكرة «التوحيد» بمعناها الديني، لكنها إشعاعات من تلك الفكرة الجليلة رأيناها في الإنسان وحياته.
جمود الفكر ما معناه؟
وقفت طويلا طويلا عند قول الله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها ؛ إذ قلت لنفسي: ما الذي تعلمه آدم عليه السلام حين تعلم الأسماء؟ إن أول ما يرد على الخاطر جوابا عن هذا السؤال، هو أنه لقن بالوحي بأن هذا الحيوان كبش، وذلك قط، وأن هذا النبات شجرة وذلك عشب وهلم جرا، فمن المفروض المعلوم أن الحيوان والنبات كائنات وجدت قبل أن ينزل آدم عليه السلام إلى الأرض لتبدأ بنزوله أسرة البشر. لكن هذا المعنى المباشر لل «أسماء» التي تعلمها آدم عليه السلام أضيق جدا مما يمكن أن يكون قد تعلمه بالفعل؛ لأن كل اسم من الأسماء في هذه الحالة لم يكن ليزيد عن كونه مشيرا إلى فرد واحد من أفراد نوعه؛ فاسم «كبش» عند تعلمه لأول مرة، يشير إلى «هذا» الكبش الذي أمام المتعلم، واسم «شجرة» يشير إلى «هذه» الشجرة التي يراها بين يديه؟ فماذا لو تحرك الكبش وغاب عن البصر، وماذا لو تحرك المتعلم من مكانه فرأى شجرة غير الشجرة الأولى، أو رأى كبشا آخر غير الكبش الذي غاب؟ إذن فلا بد أن تكون النقطة الأولى التي نلحظها هنا، هي أن «الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام هي أسماء «الأنواع» ولا يقتصر الاسم منها على فرد واحد من أفراد نوعه».
لكن هذه النقطة الأولى - التي قد تبدو يسيرة هينة عند إدراكها - ستدخلنا في عالم فسيح الأرجاء من الفكر، وعن «الفكر» وطبيعته. قد يريد القارئ أن يعلم بأن شطرا كبيرا مما سنذكره فيما يلي عن العالم الفكري الغني، الذي ستكون بوابة الدخول إلى رحابه، وهي تلك النقطة اليسيرة الهينة التي ذكرناها، أقول إن القارئ قد يريد أن يعلم بأن شطرا كبيرا من هذا العالم الفسيح الذي نحن الآن بصدد الدخول فيه، هو من نتاج هذا العصر، ولا أظن أن شيئا منه قد عرفه الآباء الأولون، إلا أنه مع حداثة ظهوره يغوص بنا إلى أعماق بعيدة، تترتب كلها على أن يكون كل اسم من الأسماء التي تعلمها أبو البشر، دال على «نوع» بأسره وليس هو بالاسم الذي يطلق على فرد واحد معين، كاسم «آدم» واسم «حواء» - مثلا - لأن الاسم في هذه الحالة الأخيرة يسمي صاحبه دون غيره من أفراد نوعه.
وقبل أن ننتقل إلى تفصيلات ما نريد أن نعرضه في هذا الحديث، يحسن أن نضيف نقطتين إلى التمهيد الذي أسلفناه؛ الأولى هي أن «الأسماء» التي علمها الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام قد تعني (كما ذكر ابن جني في كتابه «الخصائص») أن الخالق جلت قدرته، قد أمد آدم بجهاز اللغة، وهو جهاز يتميز به دون سائر الكائنات جميعا؛ فليس المقصود - إذن - هو أن الله عز وجل قد علم آدم قائمة معينة من أسماء الأشياء، بل المقصود هو أن جعل له بين قدراته أن ينطق بأصوات مصوغة على نحو يمكنها من أن تكون وسيطا رمزيا يتفاهم فيه الفرد من الناس مع غيره من الأفراد، وذلك حينما تأخذ الأسرة «البشرية» في التكاثر، وإننا لنرى في مثل هذا الفهم للآية الكريمة
وعلم آدم الأسماء كلها
أي إنه وهبه القدرة على إنشاء لغة للتفاهم، فهما يحل لنا مشكلات كثيرة نتعرض لها إذا نحن أخذنا تعلم «الأسماء» على أنه يعني الإيحاء إلى آدم - وبنيه من بعده - باسم معين بكل شيء معين من الأشياء التي يصادفها الإنسان في حياته الدنيا؛ فأولا: لو كانت أسماء الأشياء وحيا من الله سبحانه وتعالى يوجه به الإنسان في تسمية الأشياء بأسمائها (وهو ما عبر عنه القدماء بقولهم إن اللغة «توقيف») لأشكل علينا - أولا - تعدد اللغات؛ فاللغات كثيرة، ولكل لغة منها قاموسها الخاص فيما اختارته للأشياء من أسماء، ثم أشكل علينا - ثانيا - ما قد يستحدث في حياة الإنسان من أشياء لم تكن قد ظهرت في حياته من قبل، وتحتاج إلى أن يخصص لها الإنسان أسماءها لتجري بين الناس في لغة التفاهم، ولأشكل علينا - ثالثا - أن «الأسماء» وحدها لا تكفي لإيجاد لغة بين الناس؛ لأن اللغة لا بد لها أن تربط الأسماء بعضها ببعض بأفعال وحروف، وإلا لما استطاع الإنسان - بالأسماء وحدها - أن يكون «فكرة» واحدة عن أي شيء، ينقلها إلى من يحيون معه من بني الإنسان؛ إذ الحد الأدنى لإقامة «فكرة» هو طرفان موصولان أحدهما بالآخر وصلا يجعل منهما مركبا ذهنيا، كأن تقول «الشمس مشرقة» أو «الشجرة بلا ثمر» أو أي جملة شئت تركيبها لتنقل بها «فكرة» إلى من تحادثه.
تلك - إذن - إحدى النقطتين اللتين أردنا إضافتهما إلى التمهيد، قبل البدء في تفصيل ما أردنا عرضه. وأما النقطة الثانية فهي أن تعلم آدم عليه السلام للأسماء كلها وحيا من الخالق عز وجل، فضلا عن أنه قد يشير إلى استعداده الفطري لتعلم «اللغة»، وهو استعداد ينفرد به دون سائر الخلق أجمعين، فهو كذلك قد يشير على ما هو أوسع نطاقا من اللغة، وأعني استعداد الإنسان الفطري لاستخدام «الرمز» - لغة وغير لغة بمعنى أن تصطلح مجموعة من الناس على أي شيء يختارونه - صوتا كان أو شيئا مجسدا كائنا ما كان ليرمزوا به إلى معنى يريدونه؟ أو بعبارة أخرى أن يصطلح الناس على رمز معين ينوب فيما بينهم عن شيء غير موجود بين أيديهم وعلى موقع من مواقع حواسهم. وما كلمات اللغة إلا مجموعة من رموز - منطوقة أو مكتوبة - ترسم في ذهن المتلقي تصورا لما ليس في نطاق معرفته المباشرة بحواسه، فهي ترسم له تصورات عما حدث في «الماضي» مع أن الماضي قد دثره الزمن، أو تصورات عن المستقبل، مع أن المستقبل لم يولد بعد، أو تصورات عن البعيد الذي لا يدركه بصر ولا سمع، أو تصورات عن مواقف وأشياء متخيلة ولا وجود لها في دنيا الواقع لا ماضيا، ولا حاضرا، ولا مستقبلا. ولقد جاء هذا الاستعداد الفطري عند الإنسان ابتداء من آدم إلى البشر، مميزا للإنسان، بل لعله أهم ما تميز به الإنسان عن سائر خلق الله على الإطلاق؛ لأننا إذا قلنا إنه يتميز ب «العقل» فالعقل مظهره هو أن تجري معقولاته في عبارات واستدلالات، تقوم كلها على رموز «رموز لغوية ورموز رياضية ...» وإذا قلنا عن الإنسان إن أهم ما يميزه قدرته على «الخيال»؛ فالتخيل لا يتم له وجود اجتماعي إلا بأن يرسم في كلمات، وهكذا. واختصارا فإن قدرة الإنسان على استخدام «الرمز» الدال على غائب، قد مكنه من تحطيم القيود التي يفرضها التقيد بنقطة معينة من «المكان» أو بلحظة معينة من «الزمان»، فإذا كان النبات والحيوان كله مرتبط في مدركاته بمكانه المحدود وبزمانه المحدود؛ فالإنسان وحده هو الذي يطير بخياله فوق حواجز المكان والزمان، إلى ما أراد الطيران إليه مما لم يقع عليه سمع ولا بصر. وتلك القدرة التي أرادها الله سبحانه وتعالى بدأت برموز «الأسماء» التي تلقاها آدم عليه السلام وحيا من ربه، أيا كانت الطريقة التي نفهم بها معنى الآية الكريمة:
وعلم آدم الأسماء كلها .
والآن فلننتقل بعد هذا التمهيد إلى ما نريد عرضه على القارئ. تحليلا لما نعنيه ب «جمود الفكر»، وما يؤدي إلى حدوثه، فلقد أسلفنا لك فيما ذكرناه، أننا لو استبعدنا مؤقتا تلك الأسماء التي يسمي كل واحد منها كائنا واحدا محددا ، من أفراد الناس أو من مفردات الأشياء، كأن نقول «حافظ إبراهيم» أو «نهر النيل»؛ فبالاسم الأول نشير إلى إنسان بعينه، وبالاسم الثاني نشير إلى نهر بعينه، فكل مفردات اللغة بعد ذلك «التجرد» من انحباسها في فرد معين محدد معلوم المكان والزمان، لتصبح دالة على «تصور ذهني» نطلقه أينما وجدنا الكائن الذي تنطبق عليه تلك الصورة الذهنية، وفي أي وقت وجدناه، فإذا كان الاسم الذي بين أيدينا هو «خشب» لم يكن هذا الاسم في حقيقة أمره مشيرا إلى شيء مفرد موجود هنا أو هناك، بل كان في حقيقته تكثيفا لجملة كاملة مضمونها مجموعة الصفات والخصائص، التي إذا وجدناها متمثلة في كائن بعينه مما نصادفه في حياتنا العملية، قلنا عن ذلك الكائن إنه «خشب». وقد لا يصادف أحدنا قط في حياته شيئا يتجمع فيه تلك الصفات والخصائص، فعندئذ يظل التصور الذهني في هذه الحالة معلقا لم يجد له في دنيا الأشياء ما يجسد معناه. ورجائي من القارئ ألا يتعجل القراءة عند هذه الفقرة التي أسلفناها؛ لأن مضمون معناها ركيزة بالغة الأهمية في إمساكنا بمحور خطير من المحاور التي تدلنا على طبيعة الإنسان المتميزة؛ ولهذا أكرر القول بأن مفردات اللغة التي نظن أنها «أسماء» لأشياء، هي في الحقيقة صور مكثفة ل «جمل» كل جملة منها مركبة من عدة أطراف، أو قل هي تصورات ترتسم في الأذهان، كل تصور منها فيه صورة مركبة من عناصر عدة يجتمع بعضها إلى بعض ليدل على ما عسانا واجدوه في شيء معين، فنعلم أن هذا الشيء تنطبق عليه تلك الصورة الذهنية، وقد نجد أو لا نجد ذلك الشيء في مجرى حياتنا العملية، لكن ذلك لا ينقص شيئا من قيام الصورة المتخيلة المعلقة في أذهاننا.
وما معنى ذلك، وما الذي يهمنا منه؟ معناه أن الله سبحانه وتعالى، حين وهب آدم عليه السلام - ووهب بنيه من بعده - القدرة على استخدام «الأسماء» (أي اللغة) في تمييزه للأشياء بعضها من بعض، كان بذلك قد وهبه قدرة عظيمة متضمنة في عملية التسمية هذه ، وهي القدرة على «التجريد»؛ أي القدرة على مجاوزة الفرد الواحد المتعين، بأن يستخلص من ذلك الفرد صفاته وخصائصه الأساسية؛ ليركبها معا في صورة ذهنية متخيلة، هي التي يحتفظ بها لتكون أداته في تمييز الأشياء التي قد يستخدمها بعد ذلك في حياته العملية؛ فالانتقال من الموقف الفرد المتعين، إلى صورة ذهنية عن مميزاته من الخصائص والصفات، هو انتقال من المحدود إلى اللامحدود؛ لأن الأول مقيد بزمانه ومكانه، وأما الثاني فيجاوز حدود المكان والزمان، فماذا لو أصر إنسان على أن يقيد اسما بمسماه الفرد الذي رآه أول مرة، كأن أعلم طفلا بأن كلمة «قلم» تطلق على هذا الشيء الذي تراه في يدي، فعاش الطفل حياته والكلمة لا تعني إلا ذلك القلم الذي كان رآه في يد معلمه؟ بعبارة أخرى: ماذا لو عجز ذلك الطفل عن عملية «التجريد» التي تنقل اسم «قلم» - من قلم واحد مفرد معين - إلى أي قلم يصادفه بعد ذلك مجسدا للصورة الذهنية التي يحملها في رأسه؟ ألا تراه بهذا العجز يخرج من نوع الإنسان ليندرج مع الحيوان الأعجم في طريقة إدراكه التي يظل بها حبيس لحظته من الزمان وموضعه من المكان؟ إن الله سبحانه قد علم آدم الأسماء كلها، فعلمه - بذلك نفسه - كيف يتجرد من قيود مكانه وزمانه؛ لأنه لولا «الأسماء» لظل الكبش هو فقط الكبش الأول الذي رآه، ولكانت الشجرة هي فقط الشجرة الأولى التي كانت في موقع بصره عندما سمع اسم «شجرة» لأول مرة.
نقلة الإدراك من انحصار «الاسم» في جزئية واحدة، إلى امتداده عبر حواجز المكان والزمان ليسمي مسماه أينما كان وحيثما كان، هي نقلة الإنسان من المحدود إلى اللامحدود، من التقيد إلى التحرر، من انكباب الحواس على الواقع الأرضي إلى ارتفاع العقل والخيال معا إلى آفاق بعد آفاق، من الزوال والفناء إلى البقاء والخلود، لماذا؟ لأن الجزئي الواحد الذي يقع عليه البصر، أو يتلقاه السمع، لا يلبث أن يزول مع زوال لحظته، أما الفكرة المجردة التي نستخلصها منه، فهي كائن عقلي لا مكان له ولا زمان. إنها تشبه القانون العلمي - كقانون الجاذبية مثلا - في قابلية العمل كلما وردت ظروف انطباقها واستخدامها. وهذا الفرق ذاته الذي نراه بين تقيد الإنسان بالجزئي العابر، وبين إنسان يستخلص من الجزئي «فكرته» النظرية لتبقى للإنسانية كلها ذخرا ما بقي على الأرض إنسان، هو كذلك فرق نراه بين رجلين؛ أحدهما تلقى ما خلفه لنا آباؤنا من كتب، فحفظ مكنونها، ووقف عند كلماتها وحروفها، لا يريد - بل ربما لا يستطيع - أن يتزحزح عنها قدر أنملة؛ فذلك هو علمه ومداه، كلما أثيرت أمامه مشكلة أفرزتها الحياة للناس، تتحداهم لاجتيازها، بحث صاحبنا في محفوظه عن جملة أو فقرة تتلاءم مع طبيعة المشكلة الناشئة وراح يعيد على أسماع الناس محفوظه، وانصرف إلى داره مستريح البال مطمئن الضمير، مع أنه قد ترك الناس على حالهم؛ فالمشكلة هي المشكلة كما كانت، لم يغير منها شيئا أن أسمعهم الحافظ جملة أو فقرة مما كان حفظه من إرث الآباء. وأما الرجل الثاني فهو «يدرس» إرث الآباء مع ما يدرسه، لا ل «يحفظ» أسطره وكلماته وكفى، بل ليستخلص من تلك الأسطر والكلمات صورها «المجردة»؛ أي ليستخلص منها ما يشبه القوانين العلمية، التي تصبح في أيدي الدارسين أدوات فكرية نظرية تطبق حيث تنطبق، فلم يعد المعول على «مضمون» النص القديم في جزئيته، بل يصبح المعول على الإطار النظري الذي كمن ذلك المضمون الجزئي بين ركائزه. إن الفرق بين هذين الرجلين، هو نفسه الفرق الذي رأيناه بين من تعلم اسم «الكبش» أو «الشجرة»، مشيرين له إلى كبش واحد معين - أو إلى شجرة واحدة معينة - فحبس نفسه في الجزئي الواحد الذي رآه، برغم سرعة زوال ذلك الجزئي وفنائه، بل إن من أعجب العجب في حياتنا الثقافية العربية الحاضرة، أنه بات نوعا من العجز والقصور أن يلوذ مفكر إلى الأفكار المجردة، يستخلصها من الوقائع الجزئية العابرة، فترى «المثقفين» منا اليوم يعيبون عليه مثل هذا التجرد؛ لأنهم يريدونه معهم في سجن الجزئية الواحدة، ويغيظهم أن يحطم جدران الواقع الجزئي ليعلو، وهو إذ يعلو، فإنما يفعل ذلك، ليضع نفسه في موقع يمكنه من رؤية الواقع من خارجه، فتجيء رؤيته أدق وأوضح ممن يراه من داخله؛ ولذلك تراه أقدر من سواه على معرفة مواضع الصواب من مواضع الخطأ في ذلك الواقع الجزئي المتعين المحدود.
وها هنا نضع أصابعنا على حقيقة «الجمود الفكري» ومعناه؛ فهو - أساسا - وقوف عند الواقع الجزئي، عجزا عن استخلاص ما يمكن استخلاصه من صور نظرية تصلح أن تنتقل لتطبيق، على واقع جزئي آخر، اختلف مادة عن سابقة، واتفق صورة. وهذا الذي نقوله هو بعض ما يقصده القائلون بأن إدراكنا ل «روح» النص أهم من إدراكنا ل «حروفه».
وتشاء سخرية التاريخ أن نجد سجناء النصوص فيمن يقتفون تراث آبائنا العرب الأولين، لقد جاءوا ليكونوا على النقيض تماما من هؤلاء الآباء؛ لأن الفكر العربي وهو في عز مجده إبان القرون الأولى من تاريخه الإسلامي، إذا وصف على سبيل الاختصار بصفة أساسية واحدة، من ناحية شكله المنطقي لا من ناحية مضمونه، لقيل عنه (في رأي هذا الكاتب) إنه فكر يرتكز على الواقع الجزئي ليقفز منه إلى ما وراءه من صور مجردة. ولا عجب أن برع العرب في علوم الرياضة، براعة جعلتهم يبتكرون علم الجبر، ابتكارا بعد أن لم يكن، ويبتكرون فكرة «الصفر» كذلك لأول مرة في تاريخ العلم. وأما «الصفر» فسل عنه علماء الرياضة ليبينوا لك كم كان ارتفاع القفزة التي قفزتها فكرة «العدد» بفضل هذا الابتكار الرياضي العجيب؛ فقد كان الناس قبله مضطرين أن يجعلوا لكل عدد في سلسلة الأعداد رسما خاصا به. وانظر كيف تتعقد رسوم الأرقام إذا جعلنا لكل عدد رسمه الخاص، فجاء العربي وطار على جناح «التجديد» الذي تميز به فإذا به يعود إلى الناس قائلا إنه تكفينا الأرقام التسعة الأولى فقط، ذا نحن استخدمنا فكرة «الصفر». وأما علم الجبر - وما تزال اللغات الأوروبية تحتفظ له باسمه العربي - فهو معجزة أخرى من معجزات التجريد العقلي. ولكي أوضح لك ذلك، أسوق لك هذا المثل البسيط: قارن بين هذه الخطوات الثلاث الآتية، في وصف حقيقة واحدة، ففي الخطوة الأولى يرى الرائي رجلين وثلاثة رجال، فيقول إن مجموع القسمين هو خمسة رجال، وفي الخطوة الثانية يجيء علم الحساب فيقول 2 + 3 = 5 وبقوله هذا يكون قد أزاح عن نفسه قيدا يضطره إلى الاقتصار على «الرجال»؛ لأن الصيغة الحسابية قد مكنتنا من أن يتسع مجال التطبيق ليشمل أي مجموعتين، تكون إحداهما ثنائية الأعضاء، والأخرى ثلاثية الأعضاء؛ فأيا ما كانت طبائع المفردات، إذا ما ضممنا المجموعة الثنائية إلى المجموعة الثلاثية، كان حاصل الجمع مجموعة خماسية من نوع المفردات التي تكون موضع النظر. وعند هذه الصيغة الحسابية وقف التاريخ العلمي إلى أن جاء العربي بقدرته على «التجريد» فابتكر «علم الجبر» الذي به تستطيع أن تعلو درجة في سماء التجريد على علم الحساب، بأن تحل محل الأعداد رموزا من أحرف الألف باء، فتقول في هذه الحالة التي نحن بصددها: س + ص = م، وهنا تبلغ أقصى درجات الحرية الفكرية؛ لأنك لم تعد مقيدا بصنف «الرجال» كصاحب المرحلة الأولى، ولا مقيدا بصنف الأعداد كصاحب المرحلة الثانية، بل أصبحت أمام رموز تتيح لك أن تملأ الخانات بحرية أوسع؛ فحتى إذا فرضنا أن حاصل الجمع مطلوب له أن يكون «خمسة» لتسهل مقارنة هذه المرحلة الجديدة بالمرحلتين السابقتين، فنستطيع أن نتحرك في افتراضات أكثر عددا؛ لأن «الخمسة» يمكن تحقيقها بالحالات الآتية: (صفر + 5 = 5) و(1 + 4 = 5) و(2 + 3 = 5) و(3 + 2 = 5) و(4 + 1 = 5) و(5 + صفر = 5).
ودقق النظر في الإنتاج الفكري عند العربي الأول، تجد النزعة إلى التجديد متمثلة في كل ميادين الإبداع، حتى في الأدب والفن اللذين يتميزان ب «التفريد»؛ فالعربي في أدبه يكثف خبراته تكثيفا ليضع أغزر موقف خبري في أقصر عبارة ممكنة؛ ومن هنا كثرت الأقوال الحكمية فيما كتبوه نثرا أو نظموه شعرا. وأما صفة «التفرد» التي هي من أخص خصائص الأدب والفن، فتتحقق عنده أولا بطبيعة الخبرة التي يعرضها؛ لأنها خبرة انتزعها من تجارب حياته، وثانيا في طريقة سبكها. ولك أن تقارن بين أديب اليوم الذي تأثر بآداب الغرب (ولا عيب في ذلك، بل هو حسنة نحسبها للأديب المعاصر) أن تقارنه بأديب الأمس؛ فالشاعر اليوم يضع لنا تجربته في صورة تحفظ لها فردية صاحبها، ولا تكاد تقع على سطر واحد في القصيدة يحمل المتلقي على «حفظه» لما فيه من «حكمة » يصح له أن يسترشد بها في حياته، أو أديب النثر المعاصر قد تحول بقوته الإبداعية إلى «الرواية» و«القصة» و«المسرحية» وكلها قائم على «شخصيات» ترسم في فردياتها وتمايزها. وأما أديب الأمس - شاعرا وناثرا - فليس موضوعه «أفرادا» إلا في القليل النادر، بل هو يستهدف أن يصل إلى جوهر العبقرية في اللغة ذاتها، وذلك من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع، فهدفه حكمة الحياة وقيمها، وهو يصور هذه القيم إيجابا بالمدح - وسلبا بالهجاء. واختصارا فإنه إذا كان الأديب العصري ينشد «المثل» ليعرضه على الناس، فقد كان سلفه العربي ينشد «المثال».
الفكرة المجردة تبقى مع الزمن، وإنها مع الأيام لتنمو وتغزر تفصيلاتها، وأما أمثلتها الجزئية المجسدة في أحداث التاريخ فتزول وتختفي. خذ فكرة «الحرية» - مثلا - فهي على أرض الواقع التاريخي متمثلة في أفراد يحيونها مجزأة في صور مختلفة؛ فقد تتمثل في سياسي يسعى إلى حرية الإنسان في التعبير عما يراه صوابا، بما في ذلك حق الأغلبية في أن يكون قرارها حاسما، كلما كانت هناك هيئة عامة تريد أن تصل إلى قرار في موضوع معروض للنظر؛ فلكل عضو حق التصريح برأيه، وإذا اختلفت الآراء كان رأي الأغلبية نافذا. لكن فكرة الحرية قد تتمثل أيضا في شاعر يتمرد على الصور التقليدية للشعر، ويريد أنه يختط لنفسه خطا جديدا، أو تتمثل فكرة الحرية في رجل من رجال الاقتصاد يريد للتجارة أن تنساب في قنواتها تصديرا واستيرادا دون أن تتدخل فيها الدول بقوانينها. وهكذا تتعدد «الأمثلة» الجزئية التي تقع بالفعل في حياة الناس الجارية. لكنها إذا وقفت عند هذا المستوى الواقعي المحدود بحدوده، لظلت الفكرة على مضمون واحد وتعريف واحد آلاف السنين، لكنها لحسن الحظ لا تقف عند هذا الحد بل يتناولها المفكرون على مستوى التجريد، فيتصورون لها آفاقا أوسع، فأوسع، فأوسع، وبهذا تنمو على مر الزمن وتزداد عمقا؛ فقد كان إنسان العصر الحجري «حرا» بمعنى من المعاني، وجاءت مراحل الحضارة بعد ذلك حضارة بعد حضارة، ومع كل مرحلة - بوجه عام - يزداد الإنسان طموحا نحو معنى جديد يضاف إلى معانيها. ومع هذا التدريج الصاعد يبقى «اسم» الحرية كما هو مع تغير مسماه نماء واتساعا، وما كان ليحدث هذا، لو حبس الإنسان نفسه منذ أول مرحلة من مراحل حياته، في مسمى محدد بجزئيته وزمانه ومكانه، لكنه «التجريد» بصعوده فوق الواقع العابر، يدرك جوهر الفكرة دون تفصيلاتها، فيزداد قدرة على توليد المعاني من ذلك المنجم الذي لا ينفد. وانظر على هذا الضوء، إلى من يهز لك كتفيه ساخرا، إذا ما قلت له إن عصرنا قد فهم الحرية الإنسانية على صورة أوسع، فيجيبك الساخر بأن سلفنا سبق عصرك هذا إلى الحرية، فأنت من معارضك عندئذ أمام رجل جمد تعريف الحرية عند عصر من عصورها، مما يوضح لك ما أردناه من تحديد لمعنى الجمود الفكري.
وأحسب أن لو عاد آباء عرب من آبائنا، ذوي العزيمة التي اخترقوا بها الآفاق، وسمعوا من أبنائهم ما يخونون به الأمانة العربية من حيث أرادوا تمجيدها لصموا آذانهم في عتاب وتأديب، ليوقظوهم من غفوة توهموها صحوة، فأوشك أن يفلت منهم القديم والجديد معا.
فكر على فكر
1
لا أذكر كم مرة عرضتها بين يدي القارئ، كلا، ولا أدري كم بلغ ذلك الذي عرضته من مسامع القارئين، ودع عنك أن يكون قد انتقل عندهم من الآذان ليصل إلى القلوب والعقول، فيثمر ما أردنا له أن يثمره من تغير، ولكني على يقين من أني ذكرتها أكثر من مرة واحدة. إذن فلتكن هذه هي المرة الثالثة؛ فللصورة التي عرضتها أهمية في ذاتها، ثم هي على صلة وثيقة بما أعتزم عرضه في هذا الحديث، وأعني بها صورة العلاقة بين الحياة الفعلية كما يعيشها الناس في البيت والمسجد والشارع والمزرعة والمصنع والديوان، وبين ما يبدعه المبدعون مما نطلق عليه اسم «الثقافة»، يبدعونه أنغاما وألوانا وكلمات وصخورا تنحت وتقام منها العمائر. ولست أظن أن ثمة ألفاظا كثيرة مما تجري به الأقلام، تنافس لفظة «ثقافة» في كثرة جريانها. ومع ذلك فلست أظن أن واحدة من تلك الألفاظ المكرورة، تصاب بغموض معناها بمثل ما تصاب لفظة «ثقافة».
ومن هنا كثر المتحدثون عنها بالشفاه أو بالأقلام، كل منهم يتحدث وكأن ما يقدمه هو اليقين الذي يقطع الشكوك ويوضح الغموض. إلا أنك إذا تدبرت كثيرا مما يقال عنها، أخذك العجب، بل وأعجب العجب، من ذلك أني سمعت أستاذا ضخما بلغ من ضخامته أن أصبح ذات يوم صاحب حل وعقد في رفعة منصبه، سمعته يحدد معنى الثقافة بأنها صور الحياة كما يحياها الناس بالفعل، ماذا يأكلون وكيف يأكلون؟ ماذا يلبسون ومتى يلبسون؟ بماذا يدينون وكيف يعبدون؟ على أية صورة تقام الأسرة كيف يزرعون وكيف يتاجرون وماذا يصنعون؟ وهكذا يتسع القول في «ثقافتهم» أو يضيق، ما ضاقت طرائق العيش فيهم أو اتسعت! ولو وقف الأستاذ الضخم صاحب المنصب الرفيع عند هذا الحد من القول، لقلنا إنه لا بد يعلم بقية الصورة، ولكنه يسكت عن ذكرها، لكنه أضاف إلى قوله المذكور سخرية ساخرة ممن يظنون أن اسم «الثقافة» يسمى بين ما يسميه «الفن» و«الأدب» وما يجري مجراهما. وها هنا ندت مني شهقة، ثم أسرعت فكتمت الدهشة في صدري؛ إذ ماذا أقول وماذا أعيد؟
وكانت الصورة القلمية التي عرضتها بين يدي القارئ أكثر من مرة، ترسم على وجه الدقة والوضوح، العلاقة الضرورية والحتمية، التي تربط جوانب الحياة العملية كما يحياها الناس بالفعل، من جهة؛ فليس الأمر في «الثقافة» ومعناها، هو أنها إما أن تكون هي نفسها أوضاع الحياة المعاشة، وإما أن تكون ما يقام على تلك الحياة الفعلية من مبدعات؛ فحقيقة الأمر في ذلك هي أننا أمام جسم حي في ناحية، وعدة مرايا حوله تعكس صورته، كل مرآة منها لها طريقتها في عرض الصورة. ومن حق أي إنسان أن يحيا حياته العملية مكتفيا بها فيقف عند حدودها، وعندئذ فلا «علم» لديه ولا «فكرة» ولا «فن» ولا «أدب»؛ وبالتالي فهو يحيا حياته دون أن يكون على وعي بقيمتها نقصا أو كمالا، بل إن الكثرة الغالبة من جمهور شعبنا هي من هذا القبيل.
لكن هنالك أفرادا من الشعب، قد أتاحت لهم ظروفهم الدراسية أن يقرءوا عن تلك الحياة العملية كما يحيونها، دراسات «علمية» (تنبه - أرجوك - إلى كلمة «علمية») تحلل تلك الحياة، وتصنفها، لتصف أسسها، ونظمها، وصفا «علميا» إحصائيا دقيقا، وعندئذ تندرج أمثال هذه الدراسة تحت ما يسمونه أنثروبولوجيا إذا كانت الدراسة قد انصبت - بصفة خاصة - على الحياة البدائية في الجماعات المتخلفة، أو تندرج تحت علم الاجتماع إذا اتجهت العناية نحو حياة الإنسان في جماعة، أيا كان مكانها وزمانها. ويبدو أن الأستاذ الضخم الذي أشرنا إليه، كان قد ظفر بشيء من دراسة الحياة الاجتماعية في إحدى صورتيها، فظن أن ما ظفر به هو نهاية الطريق في تصوير الحياة كما هي جارية، أو كما جرت في جماعة معينة ذات يوم.
غير أن الطريق في وصف الحياة الإنسانية لا ينتهي عند محطة الوصول الذي نزل عندها صاحبنا من القطار؛ إذ تبقى بقية ذات وزن وقيمة، حرم منها صاحبنا فظنها معدومة. ولو أن حظه قد أتاح له البقاء في القطار مدة أطول، لشهد آفاقا تتسع أمام عينيه وعلى مسمع من أذنيه، وهي آفاق المبدعات الثقافية، التي تقف من الحياة الفعلية موقف المرايا، فإذا كان صاحبنا لم ينعم إلا بمرآة البحث العلمي، في علم الأنثروبولوجيا، أو في علم الاجتماع بصفة عامة، فليعلم أن هنالك ضروبا عديدة أخرى من تصوير تلك الحياة الاجتماعية نفسها، ولكن بوسائل مختلفة، تصورها الموسيقى بلغة الألحان، ويصورها فن التصوير بلغة الخطوط والألوان، ويصورها الشعر بلغة الكلمات، وتصورها المسرحية والرواية بلغة الحكاية التي تعرض أفرادا يتفاعلون في مواقف معينة تفاعلا يبرز الحقائق الخافية من طبيعة الإنسان، وهكذا، فإذا سئلنا بعد هذا الشرح: ماذا تعني «الثقافة»؟ كان جوابنا هو أنها وهي مجسدة تأتي في صورة ما يحياه الناس بالفعل من نظم وعقائد وطرائق عيش، أما وهي في تصوير يعكسها، لا كما تبدو للأعين فعلا بفعل وحرفا بحرف، بل يعكسها في صور يبدعها الخيال إبداعا، لكنه إبداع يجلو حقيقة لبها وجوهرها، مما يخفي على العين المجردة عند من يحيونها. وإن المتلقي لتلك المبدعات ليبلغ منها مداها، إذا هو غاص في أعماقها ليخرج الدرة الخبيئة في تلك الأعماق، والأغلب ألا يستطيع ذلك إلا متلق قادر على حسن الفهم لما تلقاه. ومثل هذا المتلقي القادر، إذا عرض على بقية الناس تعليقاته المضيئة الشارحة، كان هو «الناقد».
وليس «الفكر» في متفاوت درجاته، إلا مرآة من تلك المرايا العاكسة للحياة الجارية، لا بمجرد وصفها وصفا دقيقا محسوبا مصنفا؛ فذلك هو مهمة «العلم» الذي هو ضرب واحد من ضروب «الفكر» ولكنه يعكس الحياة ب «نقدها». ولقد كان «هيجل» على حق، عندما قال عن «الفلسفة» إنها هي صورة الحياة بلغة «الأفكار المجردة» التي لا تشع ضوءا على وقائع الحياة كما تعاش، إنما هي لغو لا نفع فيه.
ونظرة متمهلة فاحصة للحياة الثقافية التي نتنفس أجواءها في الوطن العربي طولا وعرضا، قمينة أن تنتهي بنا إلى نتيجة مرجحة الصواب، وهي أن مرآة «الفكر» هي أضعف المرايا الثقافية تجلية لحياتنا العملية، مع أننا لو كنا بحاجة إلى مرآة واحدة قبل سواها، لتهدينا إلى صورة من الحياة أقوى وأضوأ وأشد جذبا لنا من التخلف الحضاري الذي أصابنا في هذا العصر، بعد أن كنا بناة الحضارة وروادها في العصور السابقة، لكانت تلك المرآة الواحدة التي تسبق سواها هي مرآة «الفكر»، لماذا؟ لأن سائر المرايا الثقافية من فن وأدب مدارها آخر الأمر هو الجانب الوجداني من الإنسان، فإذا كان الإنسان مرتكزا على دعامتين، هما «العقل» و«الوجدان» فإن الجانب الوجداني في حياتنا قد أغناه الدين بما يكفيه ليكون قوة دافعة. وأما ركيزة «العقل» التي تتجلى أساسا في «العلم» وفي «الفكر» فهو الذي نفتقر إليه افتقارا وصل بنا إلى حد الخطورة. ولا نقول شيئا هنا عن «العلم» في حياتنا الحاضرة؛ لأن ما بين أيدينا منه بضاعة مستعارة ممن أبدعوها في الغرب. وكل فضلنا في مجاله - وهو فضل ليس بالقليل - هو أننا قد عرفنا كيف ننقل عن سوانا، وما الذي ننقله، وبأي الوسائل ننشره في معاهد التعليم. وما دام لا اختلاف عليه سواء أكان الدارس عربيا أو غير عربي، فالذي فاتنا منه هو المشاركة في ابتكاره. وأما الوجه الثاني من «العقل»، المتمثل فيما نسميه «فكرا» فهو متصل إلى حد ما بصورة الحياة الإقليمية، بحيث يجوز لنا أن نفرق بين الفكر الأمريكي - مثلا - عن الفكر الروسي، وذلك لأن العملية الفكرية كثيرا ما تنحصر في تجريد المبدأ العام من المفردات الجزئية التي تجري بها الحياة في تيارها اليومي، خذ فكرة «الجمال» مثلا.
قد يستخلص العربي فكرة عن الجمال تختلف عما يستخلصه الفرنسي أو الهندي؛ لأن المفردات التي توصف بالجمال عند كل منهما ليست متطابقة. ومثل هذا الاختلاف الإقليمي نراه في ميادين الحياة الإنسانية بصفة عامة، بينما الحقائق «العلمية» مأخوذة من ظواهر الطبيعة، وحتى لو استخرجنا حقائق «علمية» عن الإنسان؛ فإن ذلك يقتضي أن ننظر إلى الإنسان من حيث هو «ظاهرة» كسائر ظواهر الطبيعة، ولا كذلك ما قد أسميناه «فكرا»؛ فهو وإن يكن مستندا إلى منطق العقل، شأنه في ذلك شأن «العلم»، إلا أن مفرداته الجزئية التي تنصب عليها العملية العقلية تختلف من إقليم إلى إقليم إذا اختلفت بينهما الحياة الثقافية. خذ مجال «السياسة» - مثلا - وانظر إلى ما ينشأ عنه من «فكر» سياسي تجد ذلك الفكر قد اختلف في بلد عنه في بلد آخر، وإلا فلماذا حدث ذلك الاختلاف الحاد في مجال الفكر السياسي، بين شرق أوروبا وغربها؟ أو بين ما يسمى بالعالم الثالث مأخوذا في جملته وبين الغرب مأخوذا كذلك في جملته؟ إن الجذور الثقافية العميقة في حياة البلد المعين، لا يسهل اقتلاعها من صدور الناس، مهما أشعت فيهم من أسماء المذاهب السياسية؛ ولهذا فمحال أن يكون معنى «الحرية» أو «الديمقراطية» أو «الحياة النيابية» أو غيرها من «الأفكار» السياسية، متطابقا في فهمه وفي تطبيقه في البلاد ذات الثقافات المختلفة، برغم استخدامها للمصطلح السياسي نفسه؛ ففي بلد «حر» ديمقراطي «نيابي» في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، قد تجد ضروبا من الاعتقال والحبس والتعذيب والحرمان لأفراد اختلفوا مع اتجاه الحاكم، في حين أن شيئا من هذا كله لا يسمع عنه في فرنسا أو في إنجلترا أو غيرهما من بلاد الغرب التي توصف أيضا بالحرية والديمقراطية والحياة النيابية، فالمصطلح السياسي واحد في الحالتين، ولكن شتان بين معنى ومعنى، وبين تطبيق وتطبيق.
شيء كهذا هو ما نعنيه بالحياة «الفكرية»، وهي الحياة التي نقول عنها إنها أضعف الجوانب الثقافية جميعا في الوطن العربي؛ فقد يكون لدينا الموسيقار الكبير، أو الشاعر المرموق، أو كاتب الرواية أو المسرحية، وقد يكون لدينا الفنان التشكيلي الذي نفاخر به، أو الفنان التعبيري (في عالم التمثيل) ممن يستطيع الظهور بين أقرانه في أي بلد آخر، لكننا يندر جدا أن نجد رجل الفكر على درجة نباهي بها الآخرين؛ ومن ثم كان سبيلنا في هذا المجال، هو نفسه سبيلنا في مجال العلم، وهو سبيل النقل والمحاكاة لما أنتجه المبدعون من رجال الغرب، مع الفارق الهام الذي أشرنا إليه بين حالتي النقل في مجال العلم والنقل في مجال الفكر، وهو أن «العلم» مشترك بين أهل الأرض جميعا، لا فرق بين أن يلبس ثيابا أوروبية أو آسيوية أو أفريقية، وأما الفكر بالمعنى الذي حددناه له، فقد تختلف طبيعته من بلد إلى بلد، لاختلاف التربة الثقافية فيهما.
وهكذا ترانا في حياتنا الفكرية كالغرباء في بلد مجهول، يسيرون في طرقاته ولا يدرون من أين يسيرون ولا إلى أين، وذلك لأننا استوردنا الثياب الفكرية «الجاهزة» وأردنا أن نقحمها إقحاما على أجسادنا، فقلما نفلح وكثر ما نخيب. لكن ذلك لا يعني ألا نكون على صلة دائمة ومباشرة بما تستحدثه الحضارة الجديدة وثقافتها المتولدة عنها، من أفكار جديدة، هي في حقيقة أمرها بمثابة برامج مكثفة للعمل بأسلوب معين، فذلك هو المعنى الحقيقي لما نطلق عليه اسم «الفكرة»؛ فالحرية فكرة، والعدالة فكرة، والمساواة فكرة، والتعاون فكرة، وتعليم المرأة فكرة، والنظام النيابي فكرة، وهكذا كل فكرة من هذه الأفكار، هي اسم يلخص مجموعة كبيرة من تفصيل التطبيق والتنفيذ، إلا أن كل فكرة منها كذلك هي من مرونة المعنى بحيث لا تزيد على كونها إطارا يحدد مجال الحديث دون أن يحدد تفصيلات معناه تحديدا يحصره في صورة واحدة، كأنها قالب من حديد. ولعل القارئ يذكر عندما أخذنا بالاشتراكية مبدأ لحياتنا السياسية والاقتصادية، كم تعرضنا لضرورة تغيير ما يفهم من هذا الاسم، وأخذنا نوسع من نطاق القطاع العام آنا ونضيق منه أحيانا، ثم حين استتبع هذا المبدأ الاشتراكي وجوب مشاركة الجمهور العامل مشاركة مباشرة في دخول المجلس النيابي، وفي المشاركة في مجالس الإدارة أينما وجدت، واشترطنا أن يكون للفلاحين والعمال نصف المقاعد على الأقل في كل هيئة من تلك الهيئات النيابية والإدارية التي في أيديها صنع القرار، اضطررنا إلى «تعريف» الفلاح والعامل، ثم أخذنا نغير من هذا التعريف كلما ألزمتنا الظروف بإعادة النظر فيه، فما معنى ذلك؟ معناه أن مفهوم «الاشتراكية» ومفهوم «النظام النيابي» وأمثالهما، وإن تكن كلها مبادئ مقبولة، إلا أنها بحكم طبيعتها المنطقية مرنة الحدود، تتسع وتضيق داخل الإطار الواحد. وهكذا تكون الحال في موقفنا من الأفكار المأخوذة ممن هم بناة العصر الجديد، وبهذا التكيف نعاصر زماننا ونصون كياننا في وقت واحد.
وقد كان ينبغي لرجال الفكر منا أن يكون هذا هو أهم ما يصبون عليه قدراتهم العقلية، ولو فعلوا لكان الطريق أمامنا أكثر وضوحا، لكنهم لم يفعلوا منه إلا أقل من القليل، إذن فما الذي فعلوه؟ لست أريد أن أحدد أسماء رجال بذواتهم، ولا أن أسمي أعمالا فكرية بعينها تمت على أيديهم، ليراجع القارئ معي طبيعة الكثرة الغالبة مما أنتجوه، سواء في ذلك أبناء الجيل الماضي أو أبناء هذا الجيل، كلا، لا أريد ذلك حتى لا تشوب حديثي ذرة من إساءة وتجريح؛ لأن الهدف الذي نعمل على تحقيقه جميعا إنما هو إعداد الوسائل الثقافية الفعالة التي من شأنها أن تحقق لأمتنا العربية بأسرها وقفة جديدة، فيها القوة التي تصون كرامتها أمام ضمائرها أولا، وفيها الحرص على أن نكون جديرين بأسلافنا ثانيا، ثم فيها ما يرغم العالم على احترامنا ثالثا.
ومراجعة نزيهة لما أنتجه رجال الفكر منا (ولا أدرج الأدب والفن في معنى كلمة «فكر» في هذا السياق)، تبين لنا حقيقة موضوعية لا جدال فيها، وهي أن معظم جهدهم المبذول قد انصب إما على عرض لمختارات من تراثنا حينا، أو عرض مختارات من إنتاج العقل الغربي قديمه وحديثه، وقد يكون هذا العرض في كلتا الحالتين مصحوبا بنقد وتعليق؛ فمن أعلام الجيل الماضي من كاد فكره كله ينحصر في أن يعرض على الناس كيف ينبغي للحرية السياسية أن تكون، بحيث لم يخرج في ذلك على حدود ما يقال عن الحرية السياسية في بعض أقطار الغرب، دون أن يتبع ذلك تحليلات دقيقة توضح مدى صلاحية المفهوم الغربي بتفصيلاته للجسم الثقافي القائم في حياتنا. ولا يجوز لنا في هذا الصدد أن نخلط بين نقطتين؛ الأولى هي تقدير الجهد الذي أطلعنا على فكرة الحرية السياسية عند من سبقونا إليها، والثانية هي جهد آخر كان الخير في أن يبذل، وهو تكييف الصورة الغربية لواقعنا الثقافي من جهة، وتكييف واقعنا الثقافي لقبول فكرة الحرية السياسية من جهة أخرى. وقد حقق مفكرونا الشطر الأول، ولم يحققوا الشطر الثاني، فنتج عن ذلك أننا نفتقر حتى اليوم إلى مفهوم للحرية السياسية، لا يحرمنا من ذلك الحق الأساسي من حقوق الإنسان، ولا يكون - في الوقت نفسه - قلقا في مناخنا الثقافي. وإذا نحن لم نحقق لأنفسنا هذا الوضع المطمئن، كان كلامنا عن الحرية السياسية في معظمه حبرا على ورق.
ومن أعلام الفكر في الجيل الماضي من جاء إنتاجه «العظيم» - فليس فينا من ينكر عظمته في ذاته - منصبا في شطر منه على نقد أدبي لبعض شعراء العرب نقدا «عظيما»، وفي شطر آخر منه منصبا على تاريخ يعرض طائفة من أئمة المسلمين وأبطالهم، مما يقدم للقارئ غذاء تاريخيا «عظيما». ومن حقنا أن نسأل: أين في هذين الشطرين ما يرشد المواطن المثقف في مشكلات حياته الفكرية بمعناها الحي الذي يسير معنا في الطرقات على قدمين، أين في هذين الشطرين ما يهدي المواطن المثقف إلى وقفة يطمئن إليها في مشكلة العلاقة بين الوالد والولد، في عصر أصبح الولد فيه أوسع علما من الوالد؟ أو في مشكلة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في عصر أصبح المحكوم فيه هو الذي يختار حاكمه، ومن حقه أن يعزل من اختاره، إذا لم يكن موفيا بالغرض الذي من أجله اختير، وهي عندنا «مشكلة» نحسها أكثر جدا مما يحسها أولئك الذين عنهم أخذنا نظام الحكم الحديث؛ لأن في ثقافتنا ما يوجب على «الصغير» ضروبا معينة من السلوك تجاه «الكبير»، وقد أدخلنا في معنى «الكبر» أن يكون حاكما وفي معنى «الصغر» أن يكون محكوما، فكيف نشكل وقفة الصغير من كبير اختاره ذلك الصغير ليحكم، وأصبح عليه أن يراجعه بحكم أن ذلك حقه السياسي، ولكن عليه في الوقت نفسه ألا يراجعه بحكم أن ذلك من صلب تقاليدنا في التعامل. وعلى غرار هذين المثلين تستطيع أن تستطرد في الأمثلة المنزوعة من حياتنا كما هي معاشة على أرض الواقع، لكنها تحتاج إلى إعادة نظر لا يستطيعها إلا رجل «الفكر» بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة.
وأما الجيل الراهن فرجال «الفكر» فيه ذوو قامات قصيرة وقدرات متواضعة، يصعب على المتعقب أن يجد لمعظمهم «فكرة» واحدة يعرف بها وتعرف به؛ لأنهم على الأعم الأغلب عارضو ثياب لا هم ناسجوها، ولا هم بائعوها، ولا هم لابسوها؛ فواضح وضوح الشمس في السماء الصافية، أنه لا رجال الفكر في الجيل الماضي، ولا رجال الفكر في هذا الجيل، قد اضطلعوا بالتصدي لمشكلات حياتنا الحقيقية على المستوى النظري (وذلك هو المستوى الذي خصص له). ألم نقل فيما أسلفناه إن الإبداع الفكري هو مرآة من مرايا الإبداع الثقافي التي كان ينبغي أن نجد صورة حياتنا الفعلية منعكسة عليها، لنراها رؤية العين، لا من حيث هي التفصيلات الظاهرة التي نراها في البيت والدكان والمصنع، بل نرى التروس الخفية التي تدور في الظلام فتحرك الناس ليحركوا مسالكهم على النحو الذي نراه في البيت والدكان والمصنع. ولست أظن أن مثل هذه المرآة الفكرية بين سائر المرايا الثقافية قد تمثلت بصورة قوية في أحد من أعلام الجيلين. وما قد تعثر عليه في هذا السبيل إما أن يكون نتفا مجزأة لا تغني ولا تشبع ، وإما أن تكون على صورة السرد الصحفي لحياة الناس، مع عجز عن الصعود من مستوى الواقع المجسد إلى مستوى التنظير؛ فالواقع المجسد حالات متغيرة في يومها عن أمسها، وأما التنظير إذا استطعناه، فهو يضع بين أيدينا ما هو ثابت وراء ذلك المتغير. وهذه التفرقة هي نفسها ما يبين لنا أين تكون الصلة بين رجل «الفكر» من جهة، ومشكلات الحياة الواقعة من جهة أخرى.
فلعلك ترى معي، بالوضوح الذي أرى به كيف أن معظم قيادتنا الفكرية في الجيلين، قد صبوا الجزء الأكبر من طاقتهم العقلية على فكر سواهم. إذن فنحن أمام «فكر على فكر» ولسنا أمام فكر على مشكلات حية (ومرة ثانية أكرر بأنني أخرج من مجال حديثنا مبدعي الأدب الخالص، والفن الخالص). ولا فرق في هذا السياق بين أن يكون الفكر الذي يصب عليه مفكرنا طاقته، فكرا مأخوذا من ماضينا، أو أن يكون مأخوذا من حاضر الغرب أو ماضيه؛ ففي كلتا الحالتين هو «فكر على فكر». ويعن لي في هذه المناسبة أن أجري مقارنة سريعة بين ما نحن فيه، وما قد رواه التاريخ عن الفكر العربي في قرونه الأربعة الأولى بعد الإسلام؛ فهنالك نجد صنفين من المفكرين؛ صنف منهما حقق النموذج الذي نتمناه، وهو أن يصب الفكر على مشكلات حية لتنظيرها، والصنف الآخر كان شبيها بنا اليوم، في أن جاء جهدهم الفكري مصبوبا على فكر سواهم، فمن الصنف الأول كان علماء اللغة كالخليل وسيبويه، وكان فقهاء الدين والمفسرون وعلماء الحديث، وكان علماء الكلام (بحثوا في بعض المعاني التي وردت في القرآن الكريم، بحثا فيه طابع الفكر الفلسفي)، وكان نقاد الأدب - والشعر بصفة خاصة - فهؤلاء جميعا قد سلطوا قدراتهم التحليلية على موضوعات من صميم الحياة العربية الإسلامية إذ ذاك؛ لأن القرآن الكريم كان محور الانتباه، وبعد أن أخذه المؤمنون مأخذ الإيمان وحده لفترة من الزمن، أرادوا أن يتعمقوه فهما وإدراكا لرسالته، فكان أن درسوا اللغة وأبعادها من أجل ذلك، وكان أن بذلوا الجهد في استخلاص أحكامه، وكان أن وقفوا عند معان أساسية وردت فيه ليزدادوا لها إدراكا، وكان أن عادوا إلى الشعر الجاهلي ليأخذوا منه شواهد لغتهم وخصائصها، فنشأت حركة قوية تتناول النقد الأدبي من مختلف أطرافه. إذن فهؤلاء جميعا قد أسقطوا فكرا على حياة عربية إسلامية ومقوماتها. وأما الصنف الثاني من هؤلاء السلف، فخير من يمثله هم الفلاسفة؛ الكندي، والفارابي، وابن سينا في المشرق العربي، وابن رشد في المغرب العربي. وهؤلاء جميعا قد صبوا «فكرا على فكر»؛ لأن الجزء الأكبر فيما صنعوه وخلفوه، هو عرضهم لفلسفة نقلت عن اليونان، فأرادوا دراسة محتواها، وفهم ذلك المحتوى، وما يتفق منه مع عقيدة المسلم وما لا يتفق، فمهما بلغوا فيما عرضوه من قدرة، فهم ممن سلطوا طاقتهم الفكرية على فكر سواهم؛ ولذلك كان توجيههم لتيار الفكر العربي الإسلامي، أقل أثرا وأقل ظهورا ممن صبوا فكرهم على مقومات حياتهم، من فقه ودراسة للغة، وتفسير وتحليل للنص القرآني الكريم.
وليس فينا اليوم من رجال الصنف الأول أكثر من أشباه باهتة. وأما الكثرة الغالبة اليوم فتندرج في الصنف الثاني، فتركنا حياتنا تتعثر في مشكلاتها الفكرية على غير هدى، ومع ذلك فقد خفيت عن أعيننا هذه الصورة على حقيقتها، في ضجة الطبول التي تصم الآذان، والتي أرادت لنا أن ننظر إلى عظماء أعلامنا في عالم الفكر - وإنهم في الحق لأعلام، وإنهم لعظماء - أرادوا لنا أن ننظر إليهم بعين واحدة، هي العين التي ترى الفكر مصبوبا على فكر الآخرين، فتحسبه فكرا قد اكتملت قوائمه. ولو نظرنا بالعين الثانية، لانكشف لنا جانب النقص وربما أكملناه؛ فليس مما يخدم العزة الوطنية أن نخدع أنفسنا عن الحق، والحق هو أن معظم رجال الفكر في القرن العشرين، قد طاروا بنا في سماء الحياة الثقافية بجناح واحد، وتركوا الجناح الآخر مهيضا.
2 - ما الذي ينقص الأمة العربية؟ (سألت نفسي). - ينقصها أن تكون أمة، وأن تكون عربية (هكذا جاءني الجواب). - ومتى تكون وكيف؟ - جواب ذلك طويل ولكنه قريب المنال، فأما عن «الأمة» متى تكون كذلك، فلا يلزمنا للرد الواضح إلا أن نتلفت حولنا لنتعقب أمما كثيرة حديثة النشأة، ولكنها على حداثتها بلغت من القوة ما بلغت؛ فربما أعانتنا حداثة نشأتها على رؤية العوامل التي تسارع بمجموعة الأفراد إلى التماسك في إطار اجتماعي واحد، وكأن حداثة نشأتها هذه ستجعلها بمثابة مخبار معملي من مخابير العلماء، يضعون فيه المادة المراد فحصها، ثم يرقبونها ليروا كيف تتغير وتتطور وتكتسب خصائص جديدة بتفاعل عناصرها، فعنصر هنا يندمج مع عنصر هناك فيتحدان وكأنهما خلقا ليكون منهما كائن عضوي واحد، وعنصر هناك يتعارض مع عنصر هنا، فيفتت أحدهما الآخر أو يذيبه. وهكذا ننظر إلى الأمم حديثة التكوين فيسهل علينا رؤية نمائها أو فنائها، مما قد تتعذر رؤيته في الأمم ذوات التاريخ الطويل، التي تعاورتها فترات للصعود وفترات للهبوط على مدى آلاف السنين.
ففي القرون الثلاثة الأخيرة، نشأت وتطورت، ونمت الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلنده. وبالرغم من أن كل واحدة منها قد بدأت طريقها من الصفر، اللهم إلا ما حمله أفرادها في عقولهم وقلوبهم من ثقافات بلادهم الأصلية التي هاجروا منها إلى وطنهم الجديد. وبالرغم كذلك من تعدد العناصر التي جاءت إليها من أقطار مختلفة فحملت معها - بالتالي - ثقافات مختلفة، إلا أنها قد استطاعت في هذه الفترة القصيرة أن تصنع من أنفسها أمما متكاملة الكيان، فإذا سألنا: وكيف استطاعت؟ جاءنا الجواب مسرعا، وهو أن اتجه الجهد كله نحو تجميع الأفراد في كل أمة حول ثقافة متجانسة، ويضاف إلى هذا العنصر الجوهري، عنصر لا بد من قيامه لتسهيل عملية التوحيد الثقافي، وهو أن يجد الأفراد في ظروف حياتهم ما يعمل على نمائهم وازدهارهم؛ فنماء الفرد هو أقوى حافز له على الانتماء.
ولا يكفي - بالطبع - أن نشير إلى الوحدة الثقافية، من حيث هي العامل الجوهري في تماسك الأمة على الصورة العضوية التي تجعل منها أمة بالمعنى الصحيح، بل لا بد لنا من توضيح هذا العنصر المؤثر وتحليله، كما يحلل الكيماوي المادة إلى عناصرها الأساسية ليقول لنا - مثلا - إن الماء بكل ما تراه فيه من اتصال قطراته بعضها مع بعض وتجانس تلك القطرات حتى لتقع عيناك على كتلة الماء في البحر أو في النهر أو في كوب الماء تشرب ماءه. إنك لا ترى إلا سائلا سيالا تتعذر التفرقة فيه بين قطرة وقطرة، ومع ذلك يقول لنا الكيماوي بل إنه مؤلف من عنصرين مختلفين بنسبة معينة بينهما، تألفا دمجهما دمجا على نحو ما ترى، وهكذا الحال بالنسبة إلى ملايين الأفراد الذين هاجروا إلى تلك الأمم حديثة التكوين؛ فقد انقدحت لهم في حياتهم الجديدة شرارة صهرتهم في أمة واحدة على نحو ما انقدحت شرارة الكيمياوي في معمله فاندمجت ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين وتكونت من انصهارهما قطرة الماء. وأما الشرارة التي أحدثت الانصهار من مختلف الأفراد في أمة من الأمم الجديدة، فقد كانت - كما أسلفنا - «الوحدة الثقافية» وما أساسها؟ إن أساسها في تلك الأمم المستحدثة هو «القوة» يحققونها بالعلم والعمل، ليقهروا بهما الطبيعة أرضا، وبحرا، وهواء في جو السماء، وما بعد الغلاف الجوي إذا استطاعوا، وواحدية الهدف تستتبع حتما واحدية الاتجاه الذي تتجه فيه ضروب النشاط المختلفة؛ ومن هنا تنشأ الوحدة الثقافية التي أشرنا إليها. إن «العقل» يشهد و«التاريخ» يشهد معه مدى ما تؤثر به واحدية الهدف في وحدة الأمة وسرعة نمائها وازدياد قوتها وسلطانها. وللقوة ضروب وللسلطان دروب؛ فالقوة تكون في العلم وفي الثروة وفي الحرب، وفي استثمار البيئة استثمارا يخرج كنوزها نباتا وحيوانا ومعادن تجتمع كلها في اقتصاد قوي. وأما دروب السلطان فقد تنوعت مع الزمن ثلاثة أنواع اختلفت باختلاف المراحل الحضارية في حياة الإنسان؛ فبدأ الإنسان بأن بحث صاحب السلطة عن قوته في إخضاع بني وطنه واستعبادهم لصالح نفسه، وبهذا كانت الحرية عندئذ لفرد واحد، وإرادة واحدة، وعلى الجميع أن ينشطوا كل في طريقه، لكي يحققوا لذلك الفرد الواحد ما أراد. وتقدم الزمن وسلك الباحث عن السلطة دربا جديدا، فإذا كانوا بنو قومه قد استطاعوا أن يظفروا لأنفسهم بالحرية داخل أرضهم، فلماذا لا يتجهون جميعا حاكما ومحكوما نحو أقوام أخرى خارج حدود بلادهم ما زالوا يزحفون على طين الأرض ، لا يعرفون لأنفسهم قدرا ولا كرامة، وهناك يحقق الباحثون عن قوة السلطان ما يشتهون، فسكان الأرض المغزوة رقيقهم يفلحون لتثمر الأرض للسادة الحاكمين، ثم انتقل الزمن ببني آدم إلى مرحلة جديدة حين استعصى على أولئك الباحثين عن قوة السلطان، أن يطيلوا بقاءهم في أرض الرقيق، وذلك لأن رقيق الأمس قد صحوا من الغيبوبة وطالبوا بالتحرر، وأظفروا به ثم لم يعرفوا بعد التحرر كيف يصبحون «أحرارا»؛ وذلك لأن «الحرية» بمعناها الصحيح الواسع، هي الفهم بأسرار الطبيعة لقهرها فتزيد من قوة القاهر سلطانا على سلطان، وذلك هو عصرنا هذا كما تستطيع أن تراه إذا أرسلت البصر نافذا به إلى قلبه ونواته.
فالبشر في عصرنا مجموعتان؛ مجموعة وجهت عقولها إلى «الطبيعة» لتعرف سر الكهرباء والمغناطيس والجاذبية، ولتعرف كل ما استطاعت معرفته عن الضوء والصوت والهواء، وغير ذلك مما بلغ مسامعنا وما لم يبلغ. وأما المجموعة الثانية من البشر فقد «تحررت» حقا ممن كانوا حتى الأمس القريب غزاتها والممسكين بزمامها، لكنهم بعد أن أزيحت عنهم الأغلال والقيود، وحكموا أنفسهم بأنفسهم لم يعرفوا ماذا يفعلون، ولم يجدوا أمامهم إلا أن يمدوا أيديهم إلى أولئك الغزاة الذين أمسكوا ذات يوم برقابهم، يطلبون منهم فتاتا من موائدهم العلمية ليقتات عليها أبناء الذين «تحرروا» ويشترون منهم صنائعهم التي صنعوها هناك بعلومهم، ومع كل صناعة يجيء خبير منهم إما ليقيم، وإما ليعلم أهل البلد الذي اشترى الناتج الصناعي كيف يدار، فالأحرار حقا هم أصحاب العلم وما ترتب عليه، وأما «المتحررون» فما زالوا يمدون أذرع الحاجة والعوز، لا حول لهم إلا ما يتصدقون به عليهم ولا قوة لهم إلا بما يتلقونه من غزاة الأمس من سلاح الحرب وآلة السلم.
فأين نجد العلة؟ لماذا يظل أقوياء الأمس هم أقوياء اليوم، برغم ما تحرر به ضعيف الأمس، ولم يستطع بتحرره أن يبلغ من القوة ما أراد؟ إن علة ذلك مطروحة أمام أبصارنا إذا أردنا رؤيتها رأيناها، وخلاصتها هي أن علماءهم هناك ورجال الفكر منهم يصبون الجزء الأكبر من طاقتهم العقلية على «الأشياء » فيعرفونها، وهم بالمعرفة المكسوبة يملكون زمامها. وأما علماؤنا ورجال الفكر منا، فيتجهون بجهدهم نحو «أقوال» كتبها أصحابها، فعالمنا هو من درس ذلك المكتوب، ومفكرنا هو من وجه فكره نحو فكر سواه، سواء أكان ذلك السوى من السالفين أم كان من المحدثين أو المعاصرين.
فالأمر - إذن - هو - في المقام الأول - أمر تربية وتعليم يعملان على توجيه الناشئ، نحو «الشيء» بالإضافة إلى توجيهه نحو «الكتاب»؛ فبالاتجاه الأول يعتاد الكشف عن المعرفة كشفا جديدا أصيلا، وبالاتجاه الثاني يحصل على نتائج كشف عنها الآخرون. ولعل مثل هذا القلق الثقافي الذي نحس به اليوم في أنفسنا، حين نرانا أتباعا يرتدون ثياب الأحرار، هو الذي أحس به في زمانه شاعر الهند العظيم «طاغور» لكنه لم يقف عند قلقه يجتر الحسرة والأسف، بل أنشأ في بلده مدرسة على الصورة التي تخيلها وتمناها. وما زالت تجربته تلك في «سانتفاكتين» موضع تعليق من رجال الفكر التربوي في الغرب؛ فهي مدرسة بغير جدران؛ إذ تقع على أرض مكشوفة تحفها غابة وتحيط بها أنواع النبات والحيوان، وأقيمت في ركن منها مساكن بسيطة للدارسين، فماذا يدرس الدارسون؟ إنه لا «فصول» ولا «دروس» ولا أجراس تدق للحضور والانصراف؛ فكل دارس له أن يختار مما حوله حجرا، أو شجرا، أو طيرا، أو ما اختار من صنوف الحيوان، وعليه أن يقدم ما قد «كشف» عنه من حقائق حول ما اختاره. كان طاغور مؤمنا أشد الإيمان، بأن التعليم «فاعلية» داخلية تنشط بها طبيعة المتعلم، وليس التعلم آذانا تصغي إلى ملقن يسمونه معلما. وإن مثل هذه الطبيعة في الإنسان، هي التي تشيع فيه الفرحة إذا ما صنع لنفسه شيئا بالمقارنة مع حالته إذا تلقى هذا الشيء مصنوعا جاهزا. ويحكي طاغور في كتاب له (بالإنجليزية) يفصل فيه القول عن خبرة حياته، فيقول إن أحد الأثرياء في بلده عاد من رحلة له إلى أوروبا بلعبة فاخرة لولده الصغير، وكانت فيما أذكر سيارة أو طيارة تسير بقوة ذاتية، وتصادف أن خرج الطفل بلعبته الفاخرة هذه إلى الطريق العام أمام منزله فرأى على مقربة منه أطفالا شغلوا أنفسهم ب «صنع» طيارة من ورق، واقترب منهم فأغراه ما يصنعون وترك لعبته الجاهزة على جانب الطريق، ليشاركهم فيما ينشئون، وكان لكل من الأطفال دور يؤديه، فهذا يقص الورق، وهذا يعد الأعواد التي يقام منها هيكل الطائرة، وثالث يجهز الخيط الذي سيربط فيها من طرف ليمسكوا هم بالطرف الآخر عندما تعلو طائرتهم في الجو. وهكذا حتى فرغ الصانعون من صنعهم، ودفعوا بالطيارة في الهواء، وإذا هي تعلو وتعلو، فيمدون لها الخيط بمقدار ما تعلو، فلا تسل عن الفرحة الغامرة المموجة بالزهو بما حققوه بصنعهم، فأين ذلك كله - عند الطفل الغني - من حالته الأولى عندما كان يلعب بما تلقاه جاهزا صنعه آخرون؟
شيء كهذا يمكن أن يقال عن الحياة الفكرية؛ فليست الصلاحية مرهونة بالمصدر الذي نستمد منه الفكرة: نجعل الموروث العربي مصدرنا أم نجعل الغرب هو ذلك المصدر؟ ثم معترك حول أشباح في الظلام، بل تتوقف الصلاحية على مدى اتصال الفكرة المعينة بالمشكلة الحقيقية المراد حلها؛ فما يحل لنا إشكالنا هو الفكر الصحيح سواء اكان مما ورثناه عن أسلافنا أم كان مستعارا من الآخرين، فإذا كانت المشكلة المعروضة اقتصادية، كأن نبحث عن الطريقة التي تؤدي بنا إلى أوفر إنتاج ممكن، وجب أن تنصب الطاقة العقلية على جوهر مشكلتنا ذاتها، وليس أن نفتح دفاترنا أو دفاتر الأخرين بحثا في صفحاتها عما نتوقع منه الحل. إن الرجوع إلى هذه الدفاتر إنما يجيء على سبيل الاستضاءة بما سبقنا الآخرون إليه، لنجري معه شيئا من المقارنة الضابطة الهادية، لكن المعول الأساسي يكون على معطيات واقعنا نحن لا واقع سوانا في ماضينا أو في ماضي الغرباء وحاضرهم. ما الذي ألزمنا - مثلا - بأن نقيد أنفسنا بادئ ذي بدء بقسمة مجال النشاط الاقتصادي إلى عام وخاص، ثم نظل ندور وندور حول النسبة بينهما اتساعا وضيقا كم تكون؟ وإننا لنسأل مخلصين: أكنا نستعرض واقع حياتنا حقا حين أعطينا كل هذا الوزن الراجح لما نسميه بالقطاع العام، أم كنا ننقل من الدفاتر وأي دفاتر ؟ لقد كانت في هذه الحالة دفاتر الغرباء من ذوي المذاهب، ثم ما هو إلا أن أحطنا فكرة «القطاع العام» بما يشبه القداسة حتى لا يمسها أحد بسوء، فهل حللنا أخلاقنا الاجتماعية تحليلا كافيا، فوجدنا أننا أشد إخلاصا في أداء واجبنا حين تكون «الدولة» هي صاحبة العمل؟ إن طريق الفكر السديد يقتضي ألا يقام قانون ما في جماعة معينة إلا إذا كانت ضرورة حياتها تمليه، وحتى القوانين القضائية حين يصوغها مشرعون مختصون، لا تستمد قوة الفعل في ساحات المحاكم إلا إذا بنيت على ظروف اجتماعية سبقتها، وأفرزت سبلا أمام الناس في حياتهم الفعلية يلتمسونها لتنحل العقد التي استعصت عليهم، وهنا يأتي المشرع فيتقن الصياغة لما كان الناس قد لجئوا إليه بالفعل، فتصبح تلك الصياغة هي «القانون» الذي يقاس إليه في المحاكم. وهكذا يكون الحال - أو يجب أن تكون - في كل «فكر» سليم منتج، وبعبارة أخرى، وهي العبارة التي كررناها فيما أسلفنا، نقول إن المفكر الأصيل يوجه فكره نحو «الشيء» أي نحو «الموضوع» قبل أن يوجهه نحو فكر جاءه من سواه فيصبح فكرا على فكر. إن هذا الكاتب كثيرا ما تساءل بينه وبين نفسه مرة، وبينه وبين قارئه مرة: ما الذي أبطأ النهضة العربية، بحيث انقضى ما يقرب من قرنين كاملين منذ بدأت بوادرها، دون أن تبلغ ما بلغته شعوب أخرى في أقل من نصف هذه السنين؟ وهنا قد نسمع صوتا من ذوي اللجاجة الجوفاء يصيح في وجوهنا متحديا: ماذا تعنيه بكلمة «نهضة» هذه التي زعمت أنها بدأت منذ مائتي عام ولم تبلغ مداها؟ أهي التحضر بحضارة الغرب؟ إن كان هذا عندك هكذا، فاذهب إلى حيث شئت ولسنا معك. ولأصحاب هذا الصوت الصارخ نقول: فلتكن «النهضة» هي الصحوة التي تؤدي بنا إلى «القوة» بعد ضعف أصابنا، والقوة لا يفهم لها معنى إلا بالقياس إلى ما يستطيعه المنافسون، فإذا كنت سريع الجري بالنسبة إلى زيد، ودخلت سباقا مع خالد فظفر هو بالسبق كان عليك - إذا أردت محاذاته أو التغلب عليه - أن تزيد من قدرتك. والقوة التي نبتغيها متعددة الفروع فهي في العلم، وفي الإنتاج وفي إرهاف الذوق وفي القتال، وفي سرعة الأداء، وفي كل ما تراه سبيلا إلى إنسان حفزت قدراته الفطرية المكنونة إلى حدها الأقصى. وأحسب أن هذا الفهم لمعنى «النهوض» لا يجد اعتراضا إلا عند من جرؤ فقال إنه يؤثر الجهل على العلم، والمرض على العافية، والقعود الكسيح على خفة الحركة.
فإذا زعمنا أن النهضة العربية قد سارت بخطوات بطيئة انتهت بها إلى موضع متخلف في مضمار الحياة العصرية، وأردنا إقامة الدليل على صدق ما زعمناه؛ فما علينا إلا أن نفصل فروع «القوة» تفصيلا يمكننا من مقارنة أنفسنا بغيرنا في كل فرع، وعندئذ ترى الحق أبلج واضحا ويتخرس الصوت المحتج في جهالة. لننصرف إلى السؤال التالي بجدية لمن أراد لأمته الرفعة والتفوق، والسؤال هو: على من تقع التبعة في تغيير هذا الركود؟ والجواب السريع هو أن التبعة واقعة على مبدعي الثقافة فنا وأدبا وفكرا، والفكر هو الذي قصدنا إليه في هذا الحديث دون الفن الخالص والأدب الخالص؛ فلهذين حديث مختلف. ومن هذا الجواب نخطو إلى سؤال آخر هو: وماذا يصنع «الفكر» أولا، ثم ماذا تريد له أن يصنع ثانيا؟
أما عن «الفكر» وطبيعته، فقد أفضنا القول في تحديد معناه، بالقياس إلى جناحين آخرين من أجنحة «الثقافة» بمعنى من معانيها؛ فجناح منها هو الإبداع الفني والأدبي، وهو إبداع يقوم فيه الخيال بدور كبير، ويتضح مادته من المضمون الخبري (من «خبرة» المبدع) وهو مضمون ذاتي يختص بصاحبه، شاركه فيه الآخرون أم لم يشاركوه. وأما الجناح الثاني فهو جناح المعرفة العلمية التي يتعلق مضمونها بالأشياء الخارجية كما هي واقعة تراها أبصار المشاهدين على السواء، وبين هذين الجناحين تقع مدينة «الفكر» الذي هو مجموعة معان لا هي من قبيل ما يبدعه الخيال في الفن والأدب، ولا هي من قبيل العلم الذي نهج بناءه الدقة والتعميم والتجريد، ويبلغ في ذلك أقصى مداه إذا استطاع أن يسوق بضاعته في صيغ رياضية بحت، حتى لا يكون فيها أثر لخيال المبدعين في مجالي الفن والأدب. أقول إن عالم «الفكر» يقع بين هذين الجناحين، بمعانيه التي لا هي من هذا الجناح ولا من ذاك، إلا أنها هي هي التي تغذي الجناحين معا بقيم تنضبط بها الخطى. ومن أمثلة المعاني التي يتألف منها هذا العالم الغريب - عالم «الأفكار» - الحرية، والتعاون، والصدق، والحب، والخير، والسعادة، والإيمان، وغيرها مما يجري مجراها. ولقد تعمدت أن أجعل «الإيمان» آخر الحلقات التي ذكرتها لأردفه بإشارة إلى «الدين» ودوره في البناء الثقافي كله؛ فمن أهم ما يؤديه أنه هو الذي يجيء للإنسان بكثير جدا من القيم التي هي في حقيقة أمرها بمثابة الجوهر من مضمون الفكرة، إذا استحقت أن تكون بين أفراد الأسرة، أسرة المعاني التي تمد الجناحين الآخرين بضوابط السير، ولا أقول إنها تمدها بالمضمون ذاته؛ فرجال العلم - مثلا - مطالبون بأمانة البحث، والذي يطالبهم بصفة الأمانة هذه، هو فكرة استمدت غذاءها من الدين. وكذلك يقال عن رجال الفن والأدب عندما يطالبون بالصدق فيما يبدعون.
تلك - إذن - هي طبيعة «الفكر»، أما ما نريد من المفكرين أن يؤدوه حتى تنطلق النهضة العربية وثبا وثبا بعد ركود وقعود فهو - على سبيل الإيجاز - أن يرسموا الأهداف ليهتدي بها السائرون، كل منهم في ميدانه، لكن الغاية واحدة للجميع، فماذا تكون تلك الغاية المنشودة؟ هذه واحدة من مهام الفكر ورجاله، وهي المستوى الأعلى. وأما الثانية من تلك المهام وهي المستوى الأدنى، فهي أن يرصدوا مشكلاتنا القائمة على أرضنا بالفعل، ليعالجوها بقدراتهم العقلية ابتغاء الوصول إلى حلولها؛ فالمدار هو المشكلة المعينة وحلها، وليس المدار مذهبا نضعه في المقدمة ليكون لنا بمثابة محطة القيام للمسافر؛ فالمذهب الجدير منا بالتأييد هو الذي نجده في الحلول النافعة، وهذه الحقول تأتي بالنسبة إلى العملية الفكرية آخر الطريق وليس أوله. وأما بالنسبة إلى من يحيا حياة العمل والتنفيذ؛ فهي الركيزة الأولى التي يرتكز عليها في رسم الطريق.
المناخ الفكري الذي يخيم على الأمة العربية اليوم، والذي لا حيلة للناس إلا أن يتنفسوه بخيره وبشره، إنما هو صنيعة من نسجوه خيطا خيطا بما كتبوه أو أذاعوه، وبين هؤلاء النساجين، بل وفي طليعتهم رجال «الفكر» فحتى مبدعي الفن والأدب فينا يستقون بعض الوحي مما يتنفسونه في جو ثقافي يحيون بين خيوطه، فتعالوا نتعقب معا أولئك الذين أخذوا خلال ما يقرب من قرنين يصبون في مسامعنا فكرهم قطرة قطرة، حتى إذا ما صحونا إلى حالة الوعي، وجدنا أوعيتنا قد امتلأت بما قطروه، وإذا بالكثرة منا قد استمدت منه الغذاء الذي لا يجدون لأنفسهم غذاء سواه، ثم إذا بهذا الغذاء يتحول عندهم إلى ما يشبه العقيدة التي يجاهدون في سبيل بقائها، وإنك لتراهم يربطونها بالهوية العربية، وبالروح الوطنية، بل وبالعقيدة الدينية أحيانا، حتى تكتسب حصانة تحميها من نقد النقاد أو عدوان المعتدين، مع أنها في أصل نشأتها، قطرات من مداد أفرغتها أقلام الكاتبين على ورق، أو موجات صوت أرسلها المذيعون من بوق المذياع. نعم، تعالوا معا نراجع معظم ما قرأناه وسمعناه، لنرى طبيعته على حقيقتها. وإننا لواجدوها - على أرجح الظن - فكرا يدور حول فكر سبق به غيرنا إلى عرضه. وإننا لسعداء إذا وجدنا الكاتب منا قد جاء في مرحلة أولى بعد مرحلة الفكر الأصيل؛ وذلك لأننا قد نجد المفكر منا يعلق بفكره على تعليق كان هو بدوره تعليقا على تعليق.
وربما سمعنا صوتا صارخا باللجاجة - مرة أخرى - يتحدانا قائلا: وما العيب في قول يشرح قولا، وفي فكر يعلق على فكر؟ فنجيب بقولنا: إنه لم يكن ليصيبنا من ذلك أذى، بل ربما كان أمرا مطلوبا ونافعا، على شريط ألا يكون نشاطنا الفكري الوحيد، أو أن يكون نشاطنا الغالب الذي منه تنشأ عقول وتتكون مذاهب؛ لأن ثمة طريقا آخر للفكر يجب أن تكون له في حياتنا أولوية، بل أن تكون له «أعلوية» - إذا صحت هذه الكلمة - على ما عداه وأعني به ذلك الفكر المبدع الأصيل غير المسبوق، والذي من شأنه أن ينبع من واقع حياتنا التي نحياها حتى لو اضطررنا إلى مراجعة أفكار الآخرين.
وبعد هذا، فلأبين للسائل المتحدي، وجها من وجوه النكبة الفكرية التي ننكب بها، إذا ما أنفقنا معظم طاقتنا الفكرية على فكر الآخرين وشرحه، بدل أن نتجه بمعظم جهودنا العقلية نحو نشاط عقلي أصيل يقيم لنا مناخا ثقافيا جديدا يتلاءم مع ما تتطلبه ضرورات حياة جديدة نحياها؛ فالقاصرون المقتصرون بفكرهم على فكر آخر - قديم أو حديث، موروث أو منقول عن آخرين - يقدمون لنا الأذى من وجهين؛ أولهما أنه لا جدي فيما يقدمونه؛ لأنه على أحسن الفروض يعرض علينا تحليلا جديدا لصورة فكرية كان أبدعها مبدعها لظروف أحاطت به، وقد لا تكون محيطة بنا. وأرجو ألا يفهم من ذلك بأن مثل ذلك العمل الفكري مرفوض من أساسه إذ هو مطلوب ونافع شريطة أن يؤخذ في حدوده، وهو أنه أقرب إلى «التاريخ» يقدم إلينا مادة الفكر عند سابقين أو لاحقين. وقد يختلط علينا الأمر، فنظنه فكرا يصلح لمعالجة شئون حياتنا الواقعة جملة بجملة وحرفا بحرف، هذه واحدة. والأخرى هي أن المفكر على هذا النحو المعلق والشارح لفكر الآخرين، إذا ما وصل إلى نتائج انتزعها مما يعلق عليه ويشرحه، قد يوهمنا بصدق نتائجه صدقا موضوعيا تطبيقيا، ما دامت هي صادقة في استدلالها من أصولها التي استنبطت منها، وليس كل قارئ قد اكتسب القدرة على التفرقة بين الحالتين، مما يترتب عليه موقف فكري شبيه بما نحن فيه اليوم وهو أن تشيع فينا أفكار لها صدق الاستدلال من أصولها، فنظن أنها كذلك صادقة صدق التطبيق على الواقع الجديد.
إنه إذا كانت النهضة العربية قد أبطأت الخطى فلم تلحق بالركب إبداعا وكشفا وريادة وتغييرا لوجه الأرض، فإن لذلك أسبابه، وسبب من هذه الأسباب أن رجال الفكر من الأمة العربية قد اتجهوا بمعظم طاقاتهم نحو فكر قد فرغ منه أصحابه، فقنعوا به موضوعا لفكرهم ووقفوا هم وأوقفوا أمتهم معهم عند مواضع أقدامهم وكانوا بموقفهم هذا من الأتباع.
3
سألت خيالي: هلا بحثت لي عن صورة أصور بها للناس حياتنا الفكرية على حقيقتها العارية؟ إني أريدها صورة واضحة الدلالة بحيث تقترب من أفهام المثقفين على اختلاف درجاتهم؛ ففي جماعة المثقفين صحاح، وأنصاف، وأرباع. فأجابني الخيال بأن رسم لي دكانا يعرض الملابس الجاهزة صنوفا وأشكالا؛ فهنالك قطع الثياب العربية من كل طراز ولكل الأحجام، ومعها قطع الثياب الغربية كذلك على اختلاف ألوانها وأشكالها وأحجامها، وفي صحن الدكان زحام شديد، لا هو بالكثيف الذي يوصف بأن ليس فيه موضع لقدم تضاف إلى أقدام الحاضرين، ولا هو بالخفيف الذي يبدي أرض المكان وكأنها خالية، وتنظر في الصورة فترى الزبائن وقد انصرف كل فرد منهم إلى نفسه يقيس على بدنه هذه القطعة أو تلك من الثياب المعروضة، غير عابئ بما يفعله سواه.
شكرت الخيال على سرعة استجابته، وهنأته على دقة صنعته. والحق أن الصورة التي قدمها قد جاءت من إحكام الدلالة، بحيث تصلح لرسام الكاريكاتير؛ فهي تكشف عن تفصيلات المعنى المطلوب لكل ذي عين تبصر، وتنطق بأبعاد ذلك المعنى لكل ذي أذن تسمع؛ إذ المعنى وأبعاده، هو ما أجملناه في الحديثين السابقين، وخلاصته - كما هو ظاهر في العنوان - أن رجال الفكر من الأمة العربية يغلب عليهم أن يبحثوا عند الأخرين عن أفكار جاهزة، فينتقي كل منهم ما يناسب قده الفكري فيرتديه، ثم هم بعد ذلك ينقسمون جماعات؛ فمنهم من يستريح في ردائه فلا يحاول حذفا منه أو إضافة إليه، وهو مع ذلك يمشي بين الناس «مفكرا» أو «مثقفا» رفيع الفكر غزير الثقافة، ومنهم من يأخذه القلق، شعورا منه بأنه إنما يرتدي ثوبا لم يغزل هو خيوطه، ولم ينسج هو قماشته، كلا، ولا هو الذي صنعه ثوبا، إنما هو اشتراه شراء، وارتداه ارتداء. نعم يأخذه القلق أن تكون هذه هي حاله، فيبحث لنفسه عن مواضع في الثوب تحتمل التعديل والتحوير، فيفعل ذلك إشباعا لرغبته الظامئة في أن تدرجه الأيام مع المبدعين. وأقصى ما يذهب إليه ذلك القلق المبدع، هو أن ينبش في الرداء الذي اشتراه نبشا، لعله واجد فيه موضعا فاتته دقة الحياكة فانحلت خيوطه، فيصلح منه فساده ليباهي بما صنع ويفاخر.
إننا نقسم أنفسنا بين مذاهب الفكر في شتى ميادينه؛ فهذا ميدان للفكر السياسي ، وذلك ميدان للفكر الاقتصادي، وثالث للفكر الفلسفي، وهكذا. واسأل كيف انقسمنا مذاهب في تلك الميادين تضحك ملء شدقيك؛ فها هو ذا دكان الأفكار الجاهزة مرة أخرى ندخله ليبتاع كل ما يروق له من مذهب، ثم نخرج فإذا بنا قد انقسمنا في مجال السياسة يمينا ويسارا، وفي مجال الاقتصاد انغلاقا وانفتاحا، وفي مجال الفلسفة مثاليين وتجريبيين ووجوديين وجدليين، وكل ما وجدناه من بضاعة معروضة. إننا لا نبدأ بالمشكلة التي تتعقد بها حياتنا الفعلية فنبحث عن الفكرة التي تحلها، بل يبدأ كل منا بالفكرة التي اجتلبها ليبحث لها في حياتنا عن مشكلة، وقد لا يجد فيظل المسكين قائما بفكرته قاعدا بفكرته، حالما بفكرته يقظا بفكرته، لا يجد لها متنفسا فيما تضطرب به حياتنا العملية من مشكلات.
إنه ليسير كل اليسر أن تنقل عن سواك قولا يحمل فكرة، ثم تجعل مشغلتك أن تنظر في القول المنقول لتنسل منه فروعا تبشر الناس بها إذا كنت مؤيدا للفكرة المنقولة، أو لتنسل منها فروعا تفزع بها الناس إذا اخترت لنفسك أن تعارض تلك الفكرة المنقولة. نعم هو يسير كل اليسر أن تبني كلاما من عندك على كلام استعرته من صاحبه، لكنه عسير كل العسر أن تواجه مشكلة في دنيا الواقع المحسوس لتجد لها حلا تبتكره من ذهنك ابتكارا. وإنني لأرجو من القارئ أن يتمهل في قراءته عند هذا الموضع من الحديث؛ لأنه إذا ما أمسك بالفرق الذي أشير إليه بين الحالتين، كان - فيما أعتقد - قد أمسك بعلة العلل في قصورنا الفكري، وسأضرب لكل حالة من الحالتين مثلا يوضحها؛ ففي الحالة الأولى - وهي حالة الفكر المنقول - نسوق هذا المثل: الصراع بين طبقات المجتمع ينشأ من الفوارق الاقتصادية بين الناس، وتذويب تلك الفوارق قمين أن يزيل الصعاب، فها هنا يستطيع المؤيد أن يخرج من هذا الكلام كلاما ينادي به أن لا بد من أن يكون زارع الأرض هو مالكها، أو ما يقربه من أن يكون مالكها، وبهذا ينتفي الفارق بين مالك وأجير؛ لأن الطرفين قد تلاقيا في رجل واحد، وكذلك إذا جعلنا عامل المصنع عضوا في إدارته، زال الفاصل بين رأس المال والصانع، وهكذا. كما يستطيع المعارض لذلك القول أن يستخرج منه ما ينقضه، كأن يقول - مثلا - إن الفوارق بين الناس لا تجعل منهم «فئات» تختلف فيما بينها دون أن يؤدي ذلك الاختلاف إلى أعلى وأدنى، ويترتب على ذلك أن نجعل لكل ما يحسنه؛ فالإدارة لمن يجيدها، والعمل لمن يتقنه. ولسنا هنا نريد أن ننتمي إلى التخريج الأول، ولا إلى التخريج الثاني، وكل ما نريده هو أن نوضح للقارئ كيف يسهل عليه أن يخرج كلاما من كلام، ما دام الأمر لم ينبع من أرض الواقع الذي نكابده. وأنتقل بعد ذلك إلى مثل نسوقه للحالة الثانية، وأعني الحالة التي نواجه فيها واقعنا نحو الذي نريد أن نغيره، ونبحث له عن فكرة نغيره بها. وليكن المثل الذي نختاره هو التوسع في الأرض المزروعة، وهو ما يقتضي البحث عن طريقة تزرع بها الصحراء؛ فها هنا تجد الموقف الفكري قد اختلف في طبيعته من وجهين؛ أولهما أنه لا يتصدى للتفكير إلا أصحاب الاختصاص العلمي. وثانيهما أن مجال التطبيق يفصل لنا بين فكرة صائبة وأخرى مخطئة. في الحالة الأولى ينفتح مجال القول لمن يعلم ومن يجهل على حد سواء، ويمكن لاختلاف الرأي أن يظل قائما إلى الأبد دون أن يجد أحد الفريقين ما يحسم به صواب رأيه وخطأ رأي خصومه. وأما في الحالة الثانية فالأغلب أن ينتهي الموقف العلمي إلى رأي واحد، ثم تنحصر المشكلة في طريقة التنفيذ، وليس في المراوحة بين رأي أخطأ ورأي أصاب.
وقد يقال لي هنا: إنك قد جئت لنا بمثلين لا ينتميان إلى بحر فكري واحد، ولذلك لم يعد يجوز أن تقارن بينهما على نحو ما فعلت الآن؛ فقد كان المثل الأول الخاص بالصراع الطبقي وما ينتج عنه من النوع الذي يدركه رجال الفكر بالبصيرة الاجتماعية، وهو نوع قد تجد من الناس من يملك بصيرة تدرك حقائقه، في حين لا يملك آخرون مثل تلك البصيرة، فلا يدركون من تلك الحقائق شيئا؛ ومن ثم يقع بين الفريقين اختلاف في الرأي، اختلاف لا سبيل إلى حسمه. وأما المثل الثاني الخاص بالصحراء وزرعها، فالفصل فيه بين خطأ وصواب، مرجعه إلى التطبيق العملي؛ ولذلك فهو أدخل في باب العلوم الزراعية التي هي فرع من العلوم الطبيعية. أقول إنه ربما أقيم هذا الاعتراض على المثلين اللذين قدمتهما لأوضح بهما الفرق بين حالتين من حالات «الفكر»، فيحسن بنا - إذن - أن نسوق مثلين آخرين يقعان معا في بحر فكري واحد لتسهل المقارنة. وليكن المثل الأول الذي نوضح به الحالة الأولى، هو أن يبدأ المفكر الإصلاحي عمليته الفكرية من الفكرة القائلة بوجوب طلب العلم من المهد إلى اللحد، وهو قول قديم فيه كثير جدا من الصواب في توجيه الإنسان في مجال التعليم، وله في الفكر التربوي المعاصر قرين يشبهه كل الشبه إذ يقول علماء التربية اليوم بوجوب التعليم الذي يدوم مع المتعلم طول حياته، بعد أن كان الظن هو أن تنتهي العملية التعليمية بانتهاء الأشواط الدراسية في المعاهد أو الجامعات. ولنجعل مثلنا الثاني الذي نوضح به الحالة الفكرية الثانية هو أن يطلب من وزير التعليم إعادة النظر في نظم التعليم القائمة لإصلاحها؛ بحيث تخرج للأمة مواطنين في مقدورهم دفع الوطن إلى الأمام دفعة حضارية يلحق بها عصره وما يقتضيه.
فانظر مليا إلى هذين المثلين المتقاربين في الهدف، ولكنهما يختلفان اختلافا بعيدا في منطق التفكير الذي يتطلبه كل منهما، وهو الاختلاف الذي أسلفت لك عنه القول بأنك إذا أمسكت به، فقد أمسكت بخصيصة قد تكون هي المسئولة عن قدر كبير من وجوه التخلف في الفكر العربي المعاصر، فأما المثل الذي ضربناه للحالة الأولى، فالفكر فيه يبدأ من «مبدأ» يفترض فيه الصواب، بحيث يكون مفهوما للمتكلم والسامع معا. إنه ليس موضوعا للبحث والمناقشة والقبول والرفض، وإنما هو «مبدأ» يبدأ منه التفكير ثم يسير سيره المنهجي نحو ما قد يتكشف له من نتائج تنبثق له من ينبوع ذلك «المبدأ» الذي اتفقنا بادئ ذي بدء أنه مأخوذ مأخذ التسليم، ولكن ما هو السير المنهجي الذي أشرنا إليه، والذي ينظم للعملية الفكرية خطواتها في مثل هذه الحالة؟ إنه منهج التوليد، توليد المعاني بعضها من بعض، أو هو - منهج الاستنباط - الذي يعتصر «المبدأ» السالف اعتصارا ليستخرج منه ما أمكن استخراجه من عصير. وما دام «المبدأ» نفسه مقطوعا بصوابه، فكل نتيجة تعتصر منه تصبح بدورها مثله مقطوعا بصوابها، كأن يقول المفكر لنفسه: إنه ما دام «المبدأ» هو «اطلب العلم من المهد إلى اللحد»، إذن ما يعد علما هو كلام موجود بالفعل هنا أو هناك، في هذا الكتاب أو ذاك، أو هو شيء محفوظ في الذاكرات، ويجب البحث عن حفظته أينما كانوا ل «نطلب» ما عندهم منه، وهو سعي لا ينقطع من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت؛ فالطفل منذ ولادته يبدأ في تجميع المعلومات ممن حوله، ليعلم كيف يتكلم، وماذا يأكل، وعلى أي نحو تكون ثيابه. ويكبر قليلا قليلا منتهيا من مرحلة عمرية وبادئا مرحلة عمرية أخرى، فلا يكف في كل مرحلة عن «الطلب» باحثا عن المعلومات المطلوبة في مظانها. وهي - كما ترى - سيرة يعتمد فيها الأصغر سنا والأقل خبرة، على من هو أكبر سنا وأكثر خبرة؛ ومن هنا تنبع أخلاقيات ضرورية تقنن للصغار كيف يسلكون إزاء الكبار ... إلخ؛ فنحن أمام بناء فكري لا إبداع فيه، ولا جديد فيه؛ لأن الطاقة الفكرية كلها منصبة على «مبدأ» مسلم بصوابه منذ البداية، وعليها أن تستخرج من البئر ماءها، ما وسع دلاءها أن تخرج من ذلك الماء الكامن في مخبئه.
وننتقل إلى المثل الثاني الذي يوضح الحالة الثانية، وهي أن يهم وزير التعليم مع من يعاونه، بإصلاح النظام التعليمي بحيث يخرج لنا شبابا من طراز جديد مرغوب فيه، فها هنا تتغير أمام المفكر نقطة البدء عما كانت عليه في الحالة السابقة، كما تتغير خطوات السير؛ فلسنا هنا أمام «مبدأ » موروث، قبلناه قبول التسليم، بل نحن أمام وضع معين لنظام تعليمي معين، يراد إعادة النظر فيه، لنبقي على ما نبقي منه، ونغير منه ما لا بد له أن يتغير ونحذف منه ما يرى وجوب حذفه، ونضيف إليه ما نرى ضرورة إضافته؛ أي إنه ليس في الوضع التعليمي القائم ما نسلم له مقدما بضرورة البقاء، كلا، ولا فيه ما نسلم مقدما بضرورة إلغائه؛ فالبدء مختلف - كما ترى - عن البدء الذي رأيناه في الحالة الأولى. ودقق النظر في جوهر الاختلاف بين الموقفين، تجد أنه بينما كان ما نبدأ به في الحالة الأولى هو قول ورثناه، نرى أن ما نبدأ به في الحالة الثانية هو صورة للمواطن الجديد كما نريد له أن يكون فيما يستقبل من السنين. وهكذا كان «الماضي» هو ينبوع المعرفة في الحالة الأولى، وأصبح ينبوعها في الحالة الثانية مستقبلا لم يولد بعد ونريد أن نمهد لولادته، ويكون ذلك التمهيد بتحليل الوضع التعليمي الراهن، تحليلا نقارن به العناصر القائمة عنصرا عنصرا، بالهدف المنشود، الذي هو المواطن في صورته الجديدة التي نسعى إلى إيجادها بعد أن لم تكن موجودة، وبهذا التحليل والمقارنة نعلم ماذا نحذف، وماذا نضيف؟
إنهما وقفتان مختلفتان اختلافا بعيدا، ولم نقصد بالأمثلة السابقة إلا توضيحا بسيطا ميسرا لما تختلف به حياة علمية نحياها بالفعل، عن حياة علمية من طراز آخر نود لو عرفنا كيف ننشئها لنحياها؛ فليس الأمر مقصورا على أننا نغترف من تراثنا أفكارا مبدئية نأخذها مأخذ التسليم، ثم نحصر نشاطنا الفكري على توليد مضامينها، بل إننا لنوسع في هذا المدى، لنبلغ به حدوده القصوى، وذلك بأن ننقل عن العصر الجديد أفكاره، كذلك لتكون هي المادة التي تدرس في معاهدنا وجامعاتنا، ولا ضير في ذلك؛ لأن «العلوم» كلها تقريبا هي اليوم من صنع غيرنا، ولا خيار لنا في أمرها إلا أن ننقلها إلى طلابنا، لكن الضير كل الضير يكمن في أن ننهج نحوها نفس النهج الذي نلتزمه في مجال الفكر الموروث، وأعني أن نقف من المنقول الفكري موقف التسليم؛ ولذلك جاءت العملية التعليمية كلها على أيدينا وكأنها عملية تحفيظ وحفظ لمسلمات لا مجال فيها للمراجعة والسؤال.
وقد تقول: وماذا تريدنا أن نصنع بحقيقة علمية ثبت صوابها نظرا وتطبيقا، إلا أن نعرفها؟ إنه إذا جاز لمجادل أن يجادل في مجالات الآراء والظنون، فلا محل للمجادلة في علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء وما إليها. قد تقول هذا على سبيل الاعتراض لكنك بهذا القول لم تذكر من حقيقة الموقف التعليمي إلا نصفها؛ فالعملية التعليمية «مادة» و«طريقة»، فأما المادة العلمية ذاتها، في علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها من علوم، لا مجادلة فيما صح منها كما قلت، ويبقى بعد ذلك السؤال المهم، وهو: كيف يوصل المعلم إلى المتعلم تلك الحقائق العلمية التي ثبت صوابها نظرا وتطبيقا؟ ولا فرق في هذا السؤال المهم بين مرحلة ومرحلة من مراحل التعليم، من المدرسة الابتدائية إلى كليات الجامعة. أما ما نحن صانعوه اليوم، فهو أن نقدم إلى الطالب نصوصا تحمل المواد العلمية المطلوب دراستها، على اعتقاد راسخ عند المعلم والمتعلم معا، بأن المطلوب هو الإلمام بما قد حملته تلك النصوص، ومضمار التفاوت بين طالب وطالب، بل بين أستاذ وطالب، ينحصر في «كم» حفظ الدارس من ذلك المحتوى؟ والأكثر حفظا هو الأعلى درجة في سلم العلماء.
ذلك هو ما نحو صانعوه الآن، أما الذي كان ينبغي لنا أن نصنعه، فهو أن يتلقى الدارس الحقيقة العلمية المعنية مقرونة بطريقة اكتشافها، وبمقدار ما استطعناه في هذا السبيل. يتخرج الدارس وقد أضاف إلى المادة العلمية طرائق الوصول إليها، ومن شأن ذلك أن يخرج الدارس ومعه منهج العلماء، ليس فقط فيما قد تلقاه من حقائق العلم، بل فيما عساه ينشأ من مواقف يستشكل علينا حلها. ولعل هذا الفارق الجوهري بين دارس يحفظ مادته العلمية، ودارس آخر ألم بالمنهج الذي يؤدي إلى كشف تلك المادة العلمية، هو الذي يفسر لنا ظاهرة شائعة بيننا شيوعا جعلها تبدو لنا وكأنها جزء لا يتجزأ من طبائع الأمور، وهي أن تفاجئنا مشكلات يعجز عن حلها علماؤنا، فنستوفد لحلها «خبراء أجانب» وتسأل: أين تلقى هؤلاء «الخبراء الأجانب» تعليمهم، بحيث أصبح في مستطاعهم ما ليس في مستطاع علمائنا؟ ويجيئك الجواب الذي تعلم منه أن ما درسوه في مادة العلم هو نفسه ما درسه علماؤنا، فتسأل من جديد: ومن أين إذن جاء الفرق، الذي جعلهم يفرزون «الخبراء الأجانب» الذين يقدرون على ما قد عجز عنه علماؤنا؟ ولا جواب على سؤالك هذه المرة، سوى أن علماءنا «حفظوا» مادة علمية، فذهبوا معها في دنيا التطبيق إلى مداها، لكنهم لم يزودوا بالطريقة التي يلجئون إليها إذا ما أشكل عليهم أمر لا وجود له فيما حفظوه. وها هنا نجيء ب «الخبير الأجنبي» الذي أضاف إلى مادته العلمية طريقة الكشف عنها، فإذا ما استحدثت في مجاله العلمي أشكال لم ترد في المادة المحفوظة توسل إلى حلها بوسائل البحث العلمي.
ألم أقل لك إنه مثل واحد من حياتنا الفكرية يكفيك - إذا أطلت تدبره - لتقع على علة أولى بين علل أخرى، تفسر لك جانبا من التخلف العلمي الذي يصيب حياتنا في الوطن العربي. وتلك العلة الأولى هي أننا نصب طاقتنا الفكرية على فكر آخرين، وقلما نصب تلك الطاقة على «موضوع» بكر لم يسبقنا إلى بحثه أحد، وذلك لأننا - كما أسلفت القول مرارا - ندرب تدريبا جيدا على تناول النصوص العلمية التي تركها لنا سوانا، ولا فرق هنا بين أن يكون ذلك «السوى» من آبائنا نحن في ماضيهم المبدع، أو أن يكون من الغرباء؛ ففي كلتا الحالتين تئول إلينا نصوص، ندرسها أو ندرس ملخصاتها، وعلى أحسن الفروض نحاول استنباط ما يمكن استنباطه منها، لكن ذلك كله شيء، والتدرب على قراءة كتاب الطبيعة كما تتبدى في ظواهرها شيء آخر.
خشوعنا لما هو «مكتوب» آيا كان كاتبه، وأيا كان موضوعه، ومن أي عصر جاء، هو ظاهرة تلفت النظر، وقد استوقفت بالفعل أنظار غيرنا ممن يتابعون العربي في حياته الفكرية. وذهب بعض هؤلاء إلى حد الغلو في تعليلاته لهذا التوقير الذي يبلغ منا إلى حد الخشية الخاشعة أمام ما نصادفه مكتوبا، لا سيما إذا كان ذلك مما ينتمي إلى الماضي بسبب من الأسباب، فقال أحد المعلقين من أهل الغرب إن سر ذلك ربما يرجع إلى أن هذه المنطقة الجغرافية الشرق أوسطية، هي التي اخترعت أحرف الهجاء في الكتابة، فكان لها عند أهل المنطقة ما يشبه التقديس، فلما انتقلت فكرة الكتابة باستخدام الحروف ومركباتها من هذه المنطقة إلى اليونان الأقدمين، نظروا إليها نظرتهم إلى سلعة نافعة استوردوها من أصحابها ومبدعيها، فلم يشعروا إزاءها برهبة تمنعهم من الجرأة عليها تحليلا وتركيبا ورفضا وقبولا. هكذا قرأ هذا الكاتب لما كتبه أحد المعلقين من أهل الغرب على موقفنا نحن - أصحاب الاختراع - مما اخترعناه. وإن هذا الكاتب ليذكر جيدا كم أخذه الغيظ مما قرأ، متهما صاحب التعليق بالانحراف العقلي انحرافا مبعثه التعصب ولا شيء غير التعصب الذميم؛ فحتى حين يكون لنا الفضل على مستقبل الفكر الإنساني كله، باختراعنا لهذه الوسيلة العبقرية، التي تجعل الكتابة من بضعة حروف تفك وتركب، فتسع مركباتها اللامتناهية فكر الإنسان إلى يوم الدين، أقول إنه حتى ونحن نبتكر للدنيا هذه الوسيلة العبقرية يجيء مثل هذا المنحرف المتعصب فيبحث فيها عن ثغرة تشين أصحابها. كان هذا ما قاله هذا الكاتب قولة غاضب حين قرأ التعليل المذكور لرهبة العربي مما هو «مكتوب»، وها هو ذا الكاتب نفسه يجد الظاهرة تعترضه في مجرى تفكيره فيطلب لها التعليل، وإذا كان لا يزال على رفضه الغاضب لما قدمه من تعليل ذلك الرجل المنحرف المتعصب، فماذا إذن يراه الآن تعليلا يرضيه؟ إنها حقيقة لا أظنها منكورة من أحد، وأعني ما قد أسلفناه من أن العربي في يومنا هذا، حتى وهو في أعلى درجات القدرة الفكرية، لا يعرف أين يصب طاقته العقلية إلا أن يتجه بها نحو ما يتلقاه من أقوال الآخرين، وهؤلاء الآخرون يكونون مرة من أسلافنا نحن حين نقرأ شيئا مما خلفوه، ويكونون مرة أخرى من أبناء الغرب فيما ننقله عنهم مترجما؛ فهو في كلتا الحالتين يقف أمام «الفكرة» - جاءته من أولئك أم من هؤلاء - وكأنه قد وقف في محراب للصلاة، ولا يجد عنده من سبيل سوى أن يتجه بقوة فكره ليصبها على الفكرة المنقولة؛ أي إن أقصى ما عنده هو أن يسوق قولا يعلق به على قول جاءه من سواه. ولا ينفي هذا النوع الغريب من الشلل الفكري، أن يجعل المفكر العربي قوله نقدا يظهر به عيوب القول المنقول؛ لأنه سواء قبل أم رفض هذا الذي بين يديه، فهو على أي الحالتين تابع جعل وجوده الفكري مرهونا بوجود من سبقه إلى فكرة قدمها إليه، فكأنه قدم الغذاء الذي لولاه لهلك صاحبنا جوعا بكل ما حباه الله به من مواهب النقد والتحليل.
وإذا لم يكن موقفنا إزاء ما يجيء إلينا من فكر منقول عن ماضينا نحن مرة، أو عن ماضي الغرب وحاضره معا مرة أخرى، ضربا من الشلل العقلي الذي يصيبنا ونحن أمام نص مكتوب، فبماذا نصفه ونسميه؟ إن ما يظنه هذا الكاتب تعليلا مقبولا لهذه الظاهرة التي هي أن فكرنا منصب أغلبه على فكر جاءنا من سوانا، وقلما ينصب على موضوع خارجي بصورة مباشرة؛ كأن يتجه نحو ظاهر طبيعية يفسرها بقوانينها، أو نحو موقف اجتماعي أشكل علينا ونلتمس منه مخرجا، أقول إن الظن الذي يغلب على هذا الكاتب، هو أن موقفنا هذا في التوجه بفكرنا إلى فكر ابتدعه سوانا، إنما جاء نتيجة طبيعية لمنهج «الحفظ» الذي انتهجناه في حياتنا العقلية كلها، منذ أسدل التاريخ ستارا كثيفا على إبداعنا الفكري، وكان ذلك مع الفتح العثماني لبلادنا في أوائل القرن السادس عشر الميلادي؛ فمنذ ذلك الحين انطفأت فينا جذوة الإبداع فانقلبت الحركة العلمية بين أيدينا لتنحصر في تقليب ما قد مضى مما تركه السلف، نتناوله حفظا لنصوصه، أو حفظا لملخصاته، أو حفظا لشروحه. وامتد هذا الاجترار الفكري ثلاثة قرون، فلما جاءت أوروبا إلينا بعلمها الجديد في أول القرن التاسع عشر، واضطررنا إلى فتح مدارس ومعاهد ثم جامعات آخر الأمر؛ لتدريس هذا العلم الغربي الجديد، انتهجنا نحو هذا العلم الوافد، المنهج نفسه الذي كنا عندئذ نعالج به تراث أسلافنا، وأعني منهج «الحفظ»؛ فماذا يصنع الموهوب منا في حالة كهذه، سوى أن يتجه بمواهبه العقلية نحو ما ألقي إليه من السلف أو من أبناء العلم الجديد على حد سواء ، فيدير فكره حول فكرهم؟ وهكذا مضينا لا حيلة لنا في عالم التفكير إلا أن نعلق فكرا على فكر.
حياة قلقة
العصر كله متميز بموجة غمرته بالقلق، لا يقتصر فيه القلق على ذلك الحد الذي لا حياة لإنسان بدونه، بل جاوزه حتى أصبح علامة لا يخطئها بصر، وليس بأي منا حاجة إلى أن يقرأ عن قلق العصر في صحيفة أو كتاب، بل تكفيه حياته هو مرجعا كلما أصبح به صباح أو أمسى مساء؛ لأنه يحس في كل لحظة وكأنه مقبل على مجهول: ترى ماذا تخبئ له اللحظة الآتية، ويقرأ الصحيفة اليومية أو يستمع إلى مذياع أو تلفاز، ليعرف أخبار الدنيا، وإذا بمعظم أخبارها، في كل نشرة إخبارية يقرؤها أو يستمع إليها، قتل، وخطف، وتعذيب، وتدمير، وأغرب ما تراه في هذا كله، هو أن أفظع الجرائم تقترف محتمية بأشرف القيم، وأن الكثرة الغالبة من الضحايا هم الأبرياء، الكل في قلق تتمزق منه الأعصاب، وعلته في أغلب الظن هي أنه عصر جاء ليكون حلقة وصل بين حضارتين؛ حضارة منهما بلغت ختامها بحربين عالميتين، في أولاهما (1914-1918م) ارتجت الجدران، وفي ثانيتهما (1939-1945م) انهار البناء؛ فبعد أن كان الناس يحيون على قوانين وقواعد ونظم ثبتت ثباتا جعل كل فرد قادرا على أن يعرف في يومه كيف يكون غده، بحيث يعد له العدة وهو على ما يقرب من اليقين، بأن ما يتوقع حدوثه في غده سيراه محققا رؤية العين حين يحل موعده، لكن هذا الثبات كان يخفي وراءه ما يخفيه من ظلم الظالمين؛ فقد كاد العالم عندئذ ينقسم قسمين، أحدهما يمسك بالرقاب، يستغل الضعيف ويستذله، والآخر يختنق.
كان مسرح الأحداث في القرن الماضي يشهد النقيض؛ فهو عصر استعمار الأقوياء للضعفاء، ولكنه كان في الوقت نفسه عصر الأفكار الجديدة التي بذرت بذورها، لا لتنمو وتورق فور غرسها، بل لتنضج وتثمر بعد حين؛ فقد كان القرن الماضي هو العصر الذي تحولت في أوائله الرؤية، من سكونية يرونها في الكون، بمعنى أنه لا زيادة في الكون ولا نقصان، وكل ما في الأمر حركة تنقل ذرات المادة من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا بقانون محكم محسوب، حتى لقد غلبت الفكرة بأن اللحظة الحاضرة يمكن لصاحب العلم أن يستدل منها كل الماضي كيف كان، وكل ما هو آت كيف يكون، فتغيرت الرؤية من تلك السكونية إلى دينامية حركية يرونها في الكون؛ فهو كون ينمو ويمتد، ثم هو كون يبدع فيه جديد كل لحظة. وإذا رمزنا للرؤية السكونية السابقة، والنظرة الدينامية السكونية السابقة، والنظرة الدينامية اللاحقة، برمزين يوضحان الفرق بينهما، قلنا إن الأولى أشبه بآلة تضبط الوقت في دقة لا تخل، وليس فيها إلا قطع من مادة أحكم تركيبها، بحيث تؤدي ما تؤديه كما ينتظر لها أن تؤديه، فلا زيادة ولا نقصان ولا انحراف عن الطريق المرسوم. وأما الرؤية الثانية فيمكن الرمز لها بشجرة تنمو. إن عالم النبات بكل علمه لا يستطيع أن يتنبأ لها على وجه الدقة كيف تنمو: كم عدد الفروع وكم عدد الأوراق، وبأية صورة تتعرج الفروع، أو تستقيم، وبأية طريقة تتعرق كل ورقة بخطوطها؟ كان الكون في الرؤية الأولى مواتا إلا من أحياء هذا الكوكب الأرضي، فأصبح الكون حيا بما ينمو ويتسع، وبما يبدع فيه كل لحظة من جديد.
أحدثت هذه الرؤية الجديدة التي استهل بها القرن الماضي حياته، رجة في عالم الفكر كله، فتغيرت وجهات النظر، فأخذت فكرة «التطور» تسود وتتنوع، فتغير بها منهج النظر إلى الكائنات؛ فما دام التطور - وليس الثبات - هو الأساس، إذن فجوهر أي شيء هو تاريخه؛ فالتغير معناه أن يكون الكائن المعين - كل كائن وأي كائن - سيرة تمتد على فترة من الزمن. وإذا رصدنا مراحل تلك السيرة لحظة لحظة، كنا أمام ما يشبه الرواية؛ فالذي نراه من شجرة، أو من نهر، أو من عصفور، أو من إنسان، إنما هو إحدى لحظات وجوده، وهي لحظة تختلف عما سبقتها وعما سوف تسبقها.
وإذا كانت سنة الكون وكائناته حركة ونموا وسيرة، فهل يعقل أن يظل الشعب الحاكم حاكما والشعب المحكوم محكوما؟! إذن لا بد من ثورة أو ثورات تتفجر لتمحو الثبات الذي كان، ولتعمل على إيجاد ما يتغير به وجه الحياة، وكان لا بد لهذا التغير الجارف من حروب تدك الحصون القائمة، فكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية، وما قام بينهما وبعدهما من ثورات إقليمية هنا وهناك.
وفي سنوات قلائل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945م) أخذت الأقطار الواقعة تحت حكم الرجل الأبيض تستقل قطرا بعد قطر. وقامت هيئة الأمم المتحدة على زعم بأن متفرقا من الأمم قد اتحد، فلم تمض بعد ذلك إلا سنوات ثلاث، حتى أعلن ميثاق حقوق الإنسان، فأخذت التغيرات الكبرى في بنيان الحياة الإنسانية تتسع أبعادا وتعمق أغوارا؛ لأنها تغيرات سارت في خطوط أفقية تشمل كرة الأرض بأسرها، ولا يقتصر التغير الواحد منها على بلد بعينه يضرب بجذوره في أرضه حتى لا تنتقل عدواه إلى جيرانه؛ فهنالك التغير في مكانة «العامل» الذي استهدف أن تكون للعمال كلمة أعلى صوتا، وأجر أكثر، ورتبة اجتماعية أعلى، وامتدت الحركة لتوحد بين العامل والعامل عبر الحواجز القومية، إذ أصبحت القربى بين العاملين بسواعدهم وأيديهم أوثق آصرة من الصلة التي تربط العامل ومواطنيه في البلد الواحد. وهنالك التغير في عالم المرأة، وقد امتد هو الآخر في أبعاد أفقية جعلت للمرأة في جميع أنحاء العالم حركة واحدة؛ لأن حقوقها الضائعة تكاد تكون مشتركة، لا يختلف فيها بلد عن بلد إلا في القشور دون اللباب، واللباب هو أن تعد المرأة «إنسانا» له كل حقوق الإنسان التي أعلن ميثاقها في أواخر سنة 1948م؛ إذ ما جدواها إذا قيل لها - مثلا - إن لها مثل الرجل حقا في الحرية والمساواة، ثم لا تكاد تسمع عن هذه الحقوق عند عتبة الدار حتى تصطدم داخل الدار بمن يسلبها باليسار ما كانت أخذته باليمن منذ قليل؟! وذلك لأنها تنظر فإذا هي لم تزل مرهونة بكلمة مجنونة ينطق بها زوج في لحظة غاضبة، فتجد نفسها معلقة في الهواء. تغيرات أخرى كبيرة وواسعة شملت الطفل وحقوقه، والمسن وحقوقه، والمريض أو المعوق وحقوقه، وهكذا وهكذا.
وربما كان ما هو أعمق من تلك التغيرات جميعا، وهو التغير الجذري الذي تغيرت به وجهة النظر إلى «الثقافة» ومعاييرها؛ فبعد أن كانت وجهة النظر خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن - وأعني فترة الثبات التي أشرت إليها - هي أن للثقافة معيارا واحدا، وهو ثقافة الغرب، أو ثقافة الرجل الأبيض، بمعنى أن درجة التقدم أو التأخر في الحياة الثقافية للفرد الواحد، أو لشعب من الشعوب، تقاس بمقدار قربها أو بعدها من ثقافة الرجل الأبيض، ثم انقلب الميزان بعد استقلال الشعوب فيما أصبح «تقريبا» يسمى بالعالم الثالث؛ إذ أعقب ذلك الاستقلال السياسي نتيجة طبيعية، هي أن تستقل الثقافات بموازينها الإقليمية، دون الحاجة إلى ميزان الرجل الأبيض وثقافته؛ فلكل شعب حياته، وتاريخه، وعقائده، وتقاليده، ونظمه الاجتماعية، وماذا تكون ثقافته - إذن - إلا أن تكون تعبيرا عن هذا كله؟ ماذا يقول الشاعر إذا لم ينبض قلبه مع إيقاع الحياة التي يحياها هو وذووه؟ وعلى أي الصور تجيء شخصيات الرواية والمسرحية إذا لم تكن مستمدة من الخبرة الحية للأديب وهو في خضم الحياة الجارية مع بني أمته؟
هي إذن كما ترى، تغيرات واسعة وعميقة جاءت كلها إشعاعا من تلك الفكرة العظيمة الخصبة التي ولدت في أوائل القرن الماضي لتغير وجهة النظر إلى الكون وإلى الحياة من أساسها؛ فبعد أن كانت القاعدة المرجعية لما هو صواب في أي شيء، هي أصل ثابت يجري على سنن معلومة ومحسوبة، أصبح أساس الحكم شيئا آخر، هو مدى حيوية الاعتمال الداخلي الذي يضطرم في كيان الكائن المعين، أو الجماعة المعينة، فيغيرها بما تستطيع به أن تنمو وأن تبدع ما هو جديد، وأن تشكل بيئتها لصالحها، ولا تقف موقفا سلبيا تتلقى فيه المؤثرات الخارجية لتتولى تشكيلها.
لكن هذه التغيرات الكبرى لا تبلغ غاياتها بين يوم وليلة، إنها بمثابة خلق جديد لمجتمع جديد. ويزيد الأمر عسرا، أن الأمر ليس موكولا كله لرغبة الإنسان؛ فلا يكفي أن يقول الإنسان لنفسه: أريد كذا. فإذا الشيء المراد قد تحقق؛ لأن لكل رغبة أعداءها، فإذا كان العمال قد تحركوا واتحدوا عبر الحواجز القومية ، ليجعلوا للمهارات الحرفية والفنية مكانتها التي تستحقها، فهنالك أصحاب الأموال ومعهم أصحاب المهن كالأطباء والمهندسين ورجال القانون ورجال التعليم ومن جرى معهم هذا المجرى، يتمنون أن تظل لهم امتيازاتهم الاجتماعية القديمة. وإذا كانت المرأة قد أخذتها الصحوة أخيرا وبدأت تشعر بوجودها إنسانا كامل الحقوق، بالمعنى الصحيح الذي يتناول الجوهر، وليس بقشور شكلية ثانوية لا تنفع ولا تشفع، فهنالك الرجل الزوج الذي يحلم بأن يكون كسلفه سيدا وحوله الجواري، ثم إذا كانت الشعوب المحكومة قد استقلت، فهنالك حكامها الأقدمون تشتد قبضهم على سلطانهم القديم، ففعلوا ما فعله الذئب في حكايات الأطفال، قالت لهم أمهم قبل خروجها سعيا وراء القوت: لا تفتحوا باب الدار لأحد سواي. فجاء إليهم الذئب مرتديا ثيابا كثياب الأم وقرع الباب. وهكذا فعل الحكام الأقدمون للشعوب التي ظفرت باستقلالها. وكيف يتم لهم استقلال والعلم ليس علمهم، والصناعة ليست صناعتهم؟ فهم - إذن - ما يزالون أتباعا في صورة جديدة، ما ينالون من العلم وثمراته إلا ما يتصدق به عليهم حكامهم الأقدمون أنفسهم!
ولك أن تضيف إلى ذلك كله، أنه إذا كان المستعمر الخارجي قد حمل عصاه على كتفه ورحل، فقد حل محله - تقريبا - مستعمر داخلي يحمل القوة المغناطيسية التي تجذب كنوز البلد إلى خزائنه بقدرة قادر، ويبقى جمهور الشعب على حاله يعمل ليملأ خزائن آخرين، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء الآخرين من مواطنيهم - بعد أن كانوا من الغرباء - ما قاله شاعر عربي قديم: «إذا كنت مأكولا فكن أنت آكلي!»
هذه الارتجاجات كلها قد زعزعت هياكل الحياة الثابتة التي كانت، تمهيدا لوضع ثابت جديد يأتي، ولكنه لم يتكامل بناؤه بعد، فأدى ذلك إلى قلق في حياة الناس أصولا وفروعا، لا يكاد يتاح لأحد منهم أن يعلم في يقين أو ما يقرب من اليقين، ماذا يكون مصيره ومصير بيته غدا أو بعد غد؟ ولقد رأيت شبابنا قد انحرف عن جادة الطريق بصورة ملحوظة، بحيث أصبح كثيرون منهم - برغم شبابهم - ينبشون الماضي ليجدوا فيه ركنا آمنا يعتصمون به، وبحيث إذا وجدوا كتابا لكاتب قديم، وقدم إليهم كاتب من معاصريهم ومواطنيهم كتابا ينقض ما قاله المؤلف القديم، ففي حالة واحدة - ربما - من كل مائة حالة يتجه شبابنا بثقته إلى من يعاصره من مواطنيه؛ لأن القديم عنده أصدق رأيا، وأكثر إيمانا، وأشد إخلاصا، فكيف نتوقع لشباب وقف مثل هذه الوقفة الرافضة أن يهم ببناء حاضرنا، فضلا عن أن يمهد لمستقبل مأمول؟!
الحياة التي يحياها أبناء هذا العصر مضطربة قلقة؛ لأنه عصر جاء - كما قلت - همزة وصل بين حضارتين؛ حضارة كانت وأخرى سوف تكون، وكأنما عصرنا ليس مقصودا لذاته بقدر ما هو نهايات لماض مضى وآت في طريقه إلى الظهور، وداخل هذا القلق العصري العام، يضيف العالم العربي قلقا خاصا به، فقد زرع شيء في أرضه اسمه إسرائيل، فاستقطب جزء كبير من حيوية الجسم العربي لتنصرف إلى الدخيل المشتول في أرض غير أرضه، حتى أصبحنا أمام مصير مجهول. ولم نجد من المأزق مخرجا أيسر من أن تتجه أعضاء الجسم العربي ليعترك بعضها مع بعض، بل وليقتل بعضها بعضا، فالكبد يقتل القلب ويريد مع ذلك أن يعيش، أو القلب يقاوم الرئتين ويحسب أنه سيبقى بعد ذلك مع الأحياء. وكانت المحصلة الأخيرة لهذا الاضطراب العام والخاص، أن وجدنا أنفسنا أمام ازدواجية خلقية منقطعة النظير، تضطرنا المؤثرات الخارجية والغرائز والعواطف الداخلية معا إلى ممارسة الحياة على نحو يحقق لنا النجاح أو ما يبدو وكأنه نجاح، ولكننا في الوقت نفسه ننظر إلى موقعنا من التاريخ، فنرى أن الشقة قد اتسعت بين ما نحياه بالفعل من جهة، وما كان ينبغي لنا أن نحياه من جهة أخرى، فنلجأ إلى الازدواجية التي أشرت إليها، وهي أن أظهر أمام الناس وكأنني على ميراثي الثقافي القيمي الذي به كنت ما كنته على امتداد التاريخ، وأما وراء الأستار وخلف الجدران، فحياتي هي حياتي التي أساير بها الأيام في تقلباتها.
فارق بعيد بين المظهر والحقيقة في حياتنا، بين الظاهر والباطن، بين المعلن والمستور، أدى بنا إلى نرجسية من نوع عجيب، ننظر إلى صورة وجوهنا منعكسة على سطح الماء - كما حدث في أسطورة النرجسية - فنقع في حبها حبا أين منه حب قيس وليلى، فنشيد بأنفسنا لأنفسنا، ونكون نحن المتكلم ونحن السامع، ونكتب في غرامنا بأنفسنا قصائد الغزل لنقرأ نحن ما كتبناه، وكأن كاتما للصوت يحول دون أن يبلغ صوت القراءة إلى آذان الآخرين. وإذا قلنا إنه قد أصبح لنا من أجل هذا رأي في أنفسنا وللدنيا رأي آخر، لهان الأمر؛ لأنه لا يضيرنا أن تذهب الظنون بهؤلاء الغرباء كما ذهبت. لكن موضع العجب هو أننا نحن أنفسنا إذ نقرأ قصائد الغزل التي نظمناها في حب أنفسنا، نرفع صوت القراءة لعلنا نصدق أنفسنا. ومع كل هذا الجهد يبقى شيء في نفس يعقوب لا يريد أن يصدق ما يسمعه!
حياة قلقة هي التي يحياها العصر كله، ثم يضيف كل بلد إلى دواعي القلق العام المشترك، عوامل إقليمية خاصة تزيد حياته قلقا يدبر له هذا الجانب الحيوي المفقود، ووجدناه أميا لم يظفر بحقه من التعليم، فقلنا إنه لا بد للتعليم منذ الآن أن يكون حقا للجميع يشبه حقهم في الماء والهواء ... إلى آخر ما كان الجمهور قد حرم منه وأردنا له أن ينعم بحقه فيه؛ لأن «العدل» الاجتماعي يوجب علينا ذلك، لكننا من ناحية أخرى وجدنا أن الناتج الاقتصادي كله لا يكفي لسد هذه الحاجة، فما بالك وشرط الاقتصاد الناجح هو أن يخصص جزءا من الناتج ليضاف إلى تمويل عملية الإنتاج، لنضمن زيادة ما ننتجه زيادة تتناسب مع زيادة السكان من جهة، وتحقق ظروفا أنسب للتنمية الاقتصادية بنسبة معقولة. وهكذا أوجب علينا تحقيق «العدل» الاجتماعي، وما لا تساعد عليه الكفاية الإنتاجية؛ فوقعت حياتنا في تناقض لا أدري كيف السبيل إلى الخلاص منه. وليست هذه المشكلة خاصة بنا، بل ولا هي خاصة بالعالم الثالث؛ إذ رأينا بلادا في العالم الأول تستبد بها نقابات العمال؛ بحيث تطالب بأجور وبأوقات فراغ، لا تتناسب مع الإنتاج. ومعنى ذلك قريب جدا من معنى الانتحار؛ ومن هنا نشأت مقولة «المعادلة» الصعبة التي أريد بها في الأساس وجوب إيجاد النقطة التي يتحقق بها أكبر قدر من العدل الاجتماعي مع أكبر قدر من التنمية الاقتصادية، بمعنى أن يحول جزء من ناتج هذا العام ليضاف إلى تمويل النشاط الإنتاجي في العام الذي يليه. و«الصعوبة» المشار إليها في هذا التعادل، ناشئة من أن تحقيق العدل الاجتماعي تحقيقا جزئيا، كاف وحده لابتلاع الناتج كله ويطلب المزيد، فكأننا نطالب بشيء كالمستحيل، حين على قلق، فقد ضاع الشعور بالأمن في كل أرجاء العالم. ومع ضياع الأمن قل العفاء على طمأنينة النفس، وحوصر الفرد من الناس في ظروف علمية وصناعية جديدة، فقد معها فرديته الحقيقية برغم ما تؤكد له الحياة السياسية أنه حر. وأين هي الحرية في حياة تشكلها وسائل الإعلام التي تعطي المتلقي ما تعطيه، دون أن تكون له حيلة في الرد والمناقشة والرفض؟ إنها عملية «غسيل» لمخ المتلقي توجهه على نحو يتوهم معه أنه هو الذي يوجه نفسه، وكأننا أمام صورة كالتي صور بها «اسبينوزا» وهم الإنسان حين يظن أنه حر الإرادة فيما يدع وفيما يختار؛ إذ قال اسبينوزرا في ذلك إن الحجر تلقيه، فيرتفع في الهواء ويقطع شوطه ثم يقع على الأرض عند النقطة التي كان يمكن للعلم أن يحسبها مقدما فيحددها تحديدا دقيقا. أما الحجر نفسه فلو أنه منح حياة كحياتنا لتوهم أنه قد قام برحلة في الهواء اختارها لنفسه ورسمها، ووصل إلى مستقره من الأرض وفقا لخطته التي رسمها! وهكذا حياة الفرد في عصرنا وكيف حوصرت بأجهزة علمية تتركه شبه مرغم على الطريق الذي يسير فيه!
وجاءت دول العالم الثالث التي نحن منها، فوضعتها الظروف التاريخية في مأزق فوق المآزق التي تشارك بها الآخرين، خلاصته أننا حين تولينا شئون أنفسنا - بأنفسنا كسائر البلاد التي اكتسبت حريتها ممن اغتصبها - وجدنا جمهورنا العريض محروما من حقوقه في نواح كثيرة ، وكان علينا أن نرد له شيئا من تلك الحقوق الضائعة؛ لم يكن ينعم بالحد الأدنى من طعام ومسكن وثياب، فقلنا إنه لا بد أن نطالب بعدل اجتماعي وبتنمية اقتصادية لا بد منها في وقت واحد.
عندما تستقر أوضاع الحياة على قواعد معروفة ومتعارف عليها، وذلك في فترات تستتب فيها صور الحياة الحضارية ولو إلى حد معلوم؛ عندئذ تقل المشكلات التي تستعصي على الحل أو بعبارة أخرى تقل الأسئلة التي يبحث لها المسئولون عن جواب فلا يجدونه، وذلك لأن معظم المواقف قد رسمت لها حلولها فسارت الأمور سيرا أشبه بالسلوك الغريزي في جماعات النمل والنحل. أما والعالم الآن - كما ذكرنا - يجتاز مرحلة انتقالية بين حضارتين، فكثيرة جدا هي الأسئلة التي تنشأ عن مواقف وأزمات، فلا يجد لها المتخصصون حلولا يمكن أن يستقر الناس عليها؛ فما قد تبدو عليه الصلاحية اليوم، يغلب أن تتبدى نواقصه غدا فيتغير، لا عن قصور في العلم أو في دراسة المشكلات، بل إنها هي طبيعة الظروف الراهنة تقضي بذلك لسرعة التغير في مجرى الحياة العملية، الشأن في هذا كالشأن في أسرة أرادت الانتقال من مسكنها إلى مسكن جديد، وأخذت في نقل أثاثها وأشيائها، فنقلت منه جزءا وبقي جزء؛ فلا المسكن القديم بات صالحا، ولا المسكن الجديد تم إعداده، أو قل إن شأن المرحلة القلقة التي يجتازها العالم الآن، كشأن الغلام في مرحلة المراهقة؛ فلا هو قد اكتمل نضجه شابا عرف طريقه فيعامل معاملة الرجال، ولا هو في مرحلة الطفولة الصريحة فيعامل معاملة الأطفال.
تلك هي حالة العصر الذي كتب علينا أن نعيش فيه، كلنا يريد أن تدور عجلة الزمن لتنتقل الدنيا في أمان إلى الوضع الحضاري الجديد، لكننا نختلف في الأسلوب؛ فالشيوخ ومن يشبهونهم في الأناة والتدبر، يريدون للنقلة أن تندرج خطوة خطوة فلا يرتج البناء، وأما الشباب ومن هم في حكمهم، فيريدون دفع العجلة في سرعة أكبر مما تحتمل، فيلجأ كثيرون منهم إلى العنف والانحراف. إن هذا الكاتب لا يسيء الظن بهؤلاء الشباب من حيث الرغبة في الإسراع بحركة التغيير، لكنه في الوقت نفسه يرى أنهم يخطئون الوسيلة الصحيحة؛ لأن التضحية بالأبرياء على هذا النطاق الواسع، بل إن التضحية ببريء واحد تقتله غدرا وأنت تعلم أنه بريء، يستحيل أن يعود على الناس بالخير، وإلا لجاز أن تغرس بذور العلقم المر وتتوقع أن ينبت لك منها أطيب الثمار!
قلقة هي الحياة في عصرنا، لكن هنالك فرقا جوهريا بين قلق الراشدين وقلق المراهقين؛ فهنالك من الشعوب من استطاعوا أن يتصوروا الهدف في شيء من الوضوح، فعرفوا كيف يسيرون بسفائنهم لتخترق الموج المضطرب ولتنجو من العاصفة، إنهم على كثير من إدراك ما وراء هذه المرحلة الانتقالية، فيعرفون كيف يدبرون أمورهم لتتجه خطوات سيرهم نحو ما يرجحون له أن يكون هو لب الحضارة وأساسها في القرن الحادي والعشرين، وربما وجدوا ذلك يسيرا عليهم لأنهم هم صناع العلوم في يومنا هذا، وهم الذين يمسكون بزمام السير في شتى نواحي الحياة، من فنون، ونظم؛ ولذلك يسهل عليهم أن يتصوروا على أي صورة يجيء ما سوف يجيء في الحضارة الجديدة. إننا نسمع عن المفاتيح الأساسية التي بدأت تفتح مغاليق المستقبل المجهول، مثل الكمبيوتر وأشعة الليزر والقوة النووية، فهم الذين يملكون في أيديهم تلك المفاتيح، وهم على شيء من المعرفة الصحيحة كيف يطورونها فتنكشف صفحة الحياة الجديدة المرتقبة.
فهل يسع هذا الكاتب العربي وأمثاله، إلا أن يدير بصره نحو وطنه وأمته، ليرى صورة الحياة الثقافية القائمة، ليعلم إلى أي حد نحن على علم بحقائق الطريق الذي يسير فيه التاريخ؟ إننا على أحسن الفروض نتابع الغرب وهو يقلب صفحات الحياة المتغيرة في عصرنا، وكلما فتح منها صفحة جديدة، تمكن نفر منا من المشاركة في قراءتها، وإذا هم هناك قد أوقفوا الحركة عند صفحة بعينها أوقفنا نحن الحركة عندنا، وليس في وسعنا شيء غير ذلك؛ لأنهم يبدءون ونحن التابعون. وخلاصة ذلك أن غدنا نحن مجهول لنا، ومن أين لنا استباقه بمعرفة ونحن في حركة التاريخ الحاضرة لا نسمع صوت أقدامها فننتظر لعلنا نسمع صداها؟!
وإذا كان قلق الحياة في زماننا قد نشأ أساسا من فجوة وقعت بين حاضر واقع ومستقبل منتظر الوقوع؛ إذ لو كنا في عصر استقرت فيه قوائم حضارته، لتشابه غدنا ويومنا. إذن فقد كان المأمول من رواد حياتنا الثقافية أن ينفذوا بمبدعاتهم سحب الحاضر ليطلعوا الناس على قبسات من مستقبل محتمل الحدوث، لكن مثل هذا النفاذ بالبصائر خلال الحاضر استطلاعا للمجهول، كان يتطلب منا أن نكون على بينة بما يحدث في يومنا، من وثبات في ميدان العلم، إلى تيارات خافية في دنيا السياسة والنظم الاجتماعية؛ لأنك لا تستطيع أن تستدل من الواقع إلا إذا كنت على علم بهذا الواقع، وأعني العلم الذي ينتج عن ممارسة ومكابدة، وليس العلم الذي نتناقله خطفا عن إشاعة يذيعها زيد فيتلقفها عمرو، ولا عمرو عرف سر الأمور ولا زيد كان على علم صحيح به.
فإذا كانت أقطار العالم كله تحيا اليوم حياة قلقة فرضتها طبيعة المرحلة التاريخية التي نجتازها، فإن هنالك فرقا بين قلق يعرف أصحابه ولو على سبيل الاحتمال كيف السبيل إلى اختراقه وصولا إلى ما وراءه؛ إذ هو على بعض العلم بذلك الماوراء، وبين قلق آخر يسير أصحابه وكأنهم في جب معتم لا يعلمون إلى أين هم سائرون.
وهل تسألني: وماذا تريد منا أن نصنعه؟ إن الذي أريده ولو على سبيل التمني والرجاء، هو أن ينتقل رواد الثقافة فينا من موقف المتفرج إلى موقف اللاعب.
العربي اليوم غامت رؤيته
سؤال تلقيته على امتداد السنين. لا أقول مرة أو عشر مرات أو مائة، بل تلقيته مئات المرات، هل للعربي فلسفة؟ وإذا كانت فما هي؟ ولو كان السؤال آتيا ممن لا يعرف عن الفلسفة رأسا ولا ذنب، لهان الأمر؛ لأننا عندئذ نحيل جهله بالموقف العربي في هذا الشأن إلى جهله بعالم الفكر الفلسفي في جملته، دون أن تأخذنا الدهشة من سؤاله، ولكنه كثيرا ما أتانا السؤال من دارسيها، مما يدل على أن الأمر كان لا بد له من وقفة دراسية فيها الدقة والشمول، لكننا لم نفعل كأنما الأمر أهون من أن يثير اهتمام الدارسين، ولكن من أين تجيء إليه أهميته؟ هكذا قد سأل سائل فنجيب قائلين:
الفكر الفلسفي في جوهره إنما هو «تأصيل» ظواهر الحياة السابحة على السطح المنظور لنردها إلى عمق نجد فيه «الينبوع» الخفي، الذي فيه انبثقت تلك الظواهر التي رأيناها على سطح الحياة اليومية متفرقة وكأن الظاهرة الواحدة منها لا شأن لها بأخواتها. أما وقد كشفنا - بالفكر الفلسفي - أساسها الواحد المشترك الذي أقيمت عليه جوانب حياتنا المختلفة جميعا، كما تتفرع فروع الشجرة من جذعها، فعندئذ تتبلور الرؤية وتتضح؛ لأننا على الأغلب واقعون على صفة مشتركة تصف جميع ظواهر حياتنا، فنرى بأعيننا أين تقع بين أفراد الأمة الواحدة روابط الرحم كما نرى كذلك المميز الأساسي الذي يميز أمة من سائر الأمم في لفتاتها وحركاتها وسكناتها.
على أن الأمة الواحدة وإن تكن وحدانيتها تلك ظاهرة - على الأرجح - في طريقة تفكيرها على امتداد تاريخها، إلا أن هذا التاريخ الواحد نفسه، مع محافظته على الأساس الواحد، قد يتشكل بألوان متباينة مع تباين الظروف في كل عصر على حدة، هذا من جهة الأمة الواحدة المعينة، ومن جهة أخرى بالنسبة إلى مجموعة الأمم التي تتعاصر معا في ظروف عصرها؛ فإنك لا بد واجد بينها في كل عصر على حدة، وبرغم اختلافاتها النوعية، عنصرا مشتركا يلفها جميعا في مناخ متشابه ما دامت تعايش عصرها، ولم تتخلف عنه مرتدة إلى ماضيها. ونضرب لك مثلا يوضح لك هذا القول (عصرنا القائم)، فانظر إلى كل أمة ممن يشاركون في بنائه، تجد لها في أعماق حياتها قاعا من خطها التقليدي الثابت، مع اشتراكها مع غيرها فوق ذلك الخط الثابت في مناخ فكري متجانس، هو المناخ الذي تتميز به حضارة هذا العصر القائم، فلئن كانت الولايات المتحدة الأمريكية، وإنجلترا، وفرنسا، والروسيا، واليابان - مثلا - مشتركة كلها فيما يقتضيه مناخ هذا العصر بعلمه وصناعته من صفات لا مفر من التكيف لها إذا أراد الإنسان أن يتحقق النجاح الذي يرجوه؛ فكل واحدة منها تعود بعد ذلك فتلوذ بحبلها الممتد مع تاريخها لتعتصم به فتأمن من الزلل؛ فالولايات المتحدة الأمريكية «براجماتية» الطابع، بمعنى أنها تميل إلى الحكم على الفكرة المعينة بنتائجها لا بأصول نشأتها. والإنجليزي واقعي؛ فالنظرة في حكمه على الأفكار للتمييز فيها بين ما أصاب وما أخطأ، بمعنى أنه يبحث للفكرة عن مصادرها الحسية التي عنها تولدت الفكرة، فإذا وجد لها سندا تدركه الحواس كانت مقبولة، وإذا لم يجد قال: إنه لا حس هنا وإذن فلا معنى. إذ «الحس» والمعنى عنده شيء واحد، ويشير إليهما باسم واحد في لغته. والفرنسي على خلاف الإنجليزي لا يطمئن للفكرة إلا إذا تعقب نسبها إلى منابتها في منطق العقل الخالص، مما قد يترتب عليه أن يكتفي الإنجليزي لقول الفكرة بأن تكون «مرجحة» الصواب، وأما الفرنسي فتطمئن نفسه إذا وجد «اليقين»؛ فمجرد الترجيح هو من شأن الحواس في طريقة إدراكها، وأما اليقين فلا يتحقق إلا إذا أقيمت على الفكرة براهينها المستندة إلى العقل ومنطقه في استدلال تلك الفكرة من سابقة لها مؤكدة الصواب. والياباني فوق مشاركته لقادة العلم والصناعة في عصرنا بكل ما يقتضيه ذلك من خصائص يرتد إلى سند من تقاليده الثقافية يستريح له، وهو سند تغلب عليه نزعة الذوق الفني والانتماء الأسري الدافئ. وأما الروسي، فقد عرفناه حتى أوائل هذا القرن ريفي النظرة تحكمه أقلية أرستقراطية على رأسها قيصر، فلما ثار ثورته سنة 1917م ليدخل القرن العشرين، أخذ منه العلم والصناعة فساير بهما سائر أقطار الغرب وأزاح عن صدره عبء الأرستقراطية وحكم قيصر، إلا أنه لم يرتد إلى مناخه الريفي الذي كان، أو قل إنه وسع من قاعدة الروابط الأسرية التي عرفتها الحياة الروسية، كما عرفتها كل أرض تغلب عليها الزراعة والقرى، بحيث أراد أن يجعل الأمة كلها أسرة واحدة ترتبط بما يشبه الروابط الأسرية القديمة نفسها مع اختلاف الأسماء، لكنه يبدو أنه أسرف في هذا التحوير حتى خرجت حياته عن عرفها السابق، فأنتج ذلك ما أنتجه. وها نحن أولا نرى الروسي اليوم يعيد النظر. وهذا القول الذي نقوله عن الروسيا، يصدق مثله على الصين.
فماذا عن العربي كما نراه اليوم - وكما رأيناه في أمسه؟ لعلك تذكر شيئا مما كنا قد تذاكرناه معا في حديثنا عن «العروبة» وخصائصها، وهي خصائص تميز المنطقة الشرق أوسطية بأسرها منذ أقدم التاريخ، سواء استخدمت لها كلمة «عروبة» أم لم تستخدم؛ فاسم «العروبة» أحدث من النمط الثقافي ذي الخصائص التي أشرنا إليها وحددناها في مجالات التدين والفن والأخلاق، وأسس النظام الاجتماعي، واللغة من حيث طرق اشتقاق مفرداتها وتركيب تلك المفردات في جمل.
وغير ذلك من الأصول التي تبنى عليها الثقافات؛ فقد كان بين ما ذكرناه عن النمط الثقافي الذي تحيا في إطاره هذه المنطقة الجغرافية كلها، أن مفتاح هذا النمط مستمد من خصائص الصحراء في لا نهائيتها التي تبدو للبصر وتحسها البصيرة. ومع تلك اللانهائية يضاف الثبات وعدم التغير إلا في أضيق الحدود؛ فالشمس ساطعة لا يحجبها سحاب، والسماء زرقاء، حتى إذا ما نشر الليل سواده لمعت النجوم واضحة بسامرها المقيم ويهتدي بها المسافر.
وأما معالم الأرض فيومها يشبه أمسها؛ السهل هو السهل والنجد هو النجد والكثيب هو الكثيب. ومن هذه اللانهائية الثابتة استمد ساكن الصحراء مفتاح هيكله الثقافي في أصوله ودعائمه.
فلا غرابة أن يكون الإيمان الديني في هذا النمط الثقافي أصل الأصول وركيزة الركائز منذ فتح له التاريخ صفحاته، وعلى امتداد العصور بعد ذلك؛ وذلك لأن التأثر بلانهائية الكون وثباته، استنادا إلى رؤية العين، وإدراك البصيرة، يهيئ النفس للإيمان بالله الخالق الواحد الأحد الصمد، إذا ما نزل الوحي بهذه العقيدة على نبي أو رسول؛ فلم يكن غريبا أن مثل هذا الوحي لم ينزل على أنبياء ورسل إلا في هذه المنطقة، فكان للدين الذي أوحي به خصائص تميزه عما بشر به أصحاب الديانات الأخرى في سائر أنحاء الأرض. والذي يهمنا من هذه الحقيقة في سياق حديثنا هذا هو أن أصبح مرجع العربي - أو قل ساكن هذا الإقليم الصحراوي الممتد من المحيط غربا إلى الخليج شرقا - هو ما أوحي به إلى أنبيائه ورسله، مما يحقق له ما كانت فطرته قد انفعلت به، من لانهائية الحقيقة وثباتها.
فقد يجد العربي أن إدراكه لما حوله تتفاوت درجاته من حيث اليقين؛ فليس ما يعلمه عن طريق الرواية ناقلا عن ناقل، مساويا في درجة التيقن من صوابه لما يعلمه عن طريق الحس المباشر بإحدى الحواس من سمع أو بصر أو أية حاسة أخرى، وليس هذا الذي أدركه بالحواس مساويا في درجة التيقن من صوابه لما يدركه بالعقل استدلالا منطقيا سليما؛ فنحن حين نعلم أن زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، لا نقنع بصحة ذلك اعتمادا على مثل نرسمه على ورقة أمامنا ونقيس زواياه بمقياس تراه العين، وإنما نلجأ في ذلك إلى إقامة البرهان «العقلي» على صحة هذه الحقيقة الرياضية عن المثلث وزواياه. وهنا قد يميل النمط الثقافي العام السائد في أمة معينة بأصحابه إلى الوقوف عند ما قد أثبته العقل بالدليل البرهاني، فلا يتساءلون بعد هذه النهاية في درجات اليقين - قائلين - لأنفسهم: وماذا فوق ذلك من درجات؟ ولكننا قد نجد كذلك نمطا ثقافيا آخر، يسود أمة أخرى، يميل بأصحابه نحو ذلك التساؤل، ومن هذا القبيل نمط الثقافة العربية - وأعني الشرق أوسطية - فرجل كالإمام الغزالي، عندما أخذ (في كتابه «المنقذ من الضلال») يفصل القول في درجات الإدراك من حيث صحة ذلك الإدراك عندما وصل به التصاعد إلى درجة الإدراك «العقلي» لم يجده كافيا لليقين، مما اضطره إلى افتراض درجة أعلى، عندها تتم طمأنينة القلب بأن ما أثبته العقل هو صحيح، وكانت تلك الدرجة الأعلى عنده هي - كما عبر هو عنها - «نور يقذفه الله في القلب»، وهي درجة تدخل بالإنسان في دائرة الإدراك الصوفي.
وعند هذا المنعطف من سياق الحديث، نقف وقفة قصيرة نؤكد فيها سمة من أبرز ما يميز النمط العربي في رؤيته الثقافية العامة من سمات، وهي قدرته على الجمع بنظرة واحدة بين الجانبين؛ العلمي والصوفي، فإذا استعرضنا الأنماط الثقافية الكبرى التي عرفها التاريخ (قد تكون ظروف عصرنا قد أزالت كثيرا من الفواصل بين تلك الأنماط) وجدنا ثقافة الشرق الأقصى تجنح بميولها نحو الرؤية الصوفية لما يدركونه من الأشياء والمواقف، والرؤية الصوفية هي إدراك مباشر بالبصيرة، أو بالقلب، كما نقول أحيانا؛ أي إنها «تتذوق» الحقيقة ولا تحتاج في إثباته إلى أدلة العقل؛ ومن ثم تضخم دور «الفن» في حياتهم، وكادت «الخبرة» الذاتية أن تكون هي السند القوي الذي يركن إليه أئمة العقيدة فيهم. وأما أوروبا فقد غلب عليها نمط «العقل» في تدليله وتحليله، كما هو واضح في التراث اليوناني. وبين هذين الطرفين قام نمط ثقافي ثالث، هو النمط العربي، الذي دمج دمجا فريدا بين حياة العقل وحياة القلب، بحيث ترى «العالم» وكأنه يتحرك مع خطوات عقله على خلفية مؤمنة، كما ترى «المتدين» يتحرك مع نبضات إيمانه وكأنه يبطن خلفية عقلية.
وعلى مثل هذا الدمج بين الجانبين قام البنيان الثقافي وما يصاحبه حتما من «رؤية» عامة إلى الحياة الإنسانية وأوضاعها. وإذا لخصنا الإطار الهيكلي الذي تستند إليه هذه الرؤية قلنا إنه مؤلف من «نص» مسلم بصوابه - ثم عملية عقلية منطقية تستنبط من هذا النص نتائجه وأحكامه، فإذا وقف الدارس عند «النص» كن بمثابة من اكتفى بما يطمئن له القلب، وإذا انتقل من النص إلى ما يلزم عنه، كان بمثابة من أضاف عقلا إلى قلب، فاكتمل على يديه الإطار. ولست أريد هنا أن أقصر «النص» على النصوص الدينية وحدها، بل أوسع المعنى ليشمل أي شيء آخر مما وجدناه بين أيدينا من أقوال القدماء أو المحدثين؛ فالذي يهمنا الآن هو تصوير اللفتة الثقافية التي تتميز بها الوقفة العربية.
فلما عاشت الدنيا بشرقها وبغربها عصرا - أو عصورا - تعتمد فيها من الناحية الثقافية على «نصوص» وما يستخرج منها، كان للأمة العربية السبق والريادة؛ لأنها وجدت نفسها في ظروف تتلاءم مع فطرتها الأولى. وقد بينا لك - فيما ذكرناه - أن تلك الفطرة الأولى قد انبثقت من لانهائية الصحراء وثباتها - والصحراء هي البيت العربي الكبير - فأصبح النموذج المتبقي هو أن يضع العربي بين يديه، بادئ ذي بدء - حقيقة كبرى تكون منه في موضع التسليم - ثم يجيء بعد ذلك إعماله لعقله فيما قد وضعه بين يديه. ولعلنا نجد الشبه قريبا بين هذه الوقفة الإدراكية عنده، وبين النظم الاجتماعية التي اختارها لحياته، وهي نظم - كالأسرة أو القبيلة - يشتد فيها التماسك بين أفرادها، حتى ليتطلب الأمر عادة أن يوكل الأمر إلى رب الأسرة وحده، أو إلى شيخ القبيلة دون أن يكون للفرد الواحد حق المراجعة فيما قضى به صاحب الأمر؛ فرأس النظام هنا يقابل الحقيقة الكبرى التي توضع موضع التسليم في الحياة الفكرية، ومسالك الأفراد حين يوجهها رئيس الجماعة تشبه النتائج التي تلزم بالضرورة عن المقدمة الكبرى في عالم التفكير.
وإني لأخشى في هذه المناسبة أن يختلط الأمر على قارئ دارس، فيسأل: ألم يكن الفكر اليوناني القديم قائما - عند كل مفكر على حدة - على «مبدأ» عام يعطيه المفكر مكان الصدارة من بنائه الفكري، ليقيس إليه الفروع صوابا وخطأ؟ فلماذا لم تحدث - تلك المبادئ هناك تشكيلا اجتماعيا - أو نظريا - مثل ما أحدثته ما أسميته بالحقيقة الكبرى في الموقف العربي؟ والإجابة على ذلك هي أن «المبدأ» هناك كان من اختيار صاحبه بحيث جاز لأي مفكر آخر أن ينصرف عنه ليتخذ لنفسه مبدأ آخر. وأما الحقيقة الكبرى، في النمط العربي، فقد جاءت إلى الإنسان معطاة من طبيعة المكان أولا، ومؤيدة بالوحي الديني ثانيا، فلا اختلاف عليها بين مفكر ومفكر.
ولو بقي العربي ملتزما بما أثرت به طبيعة المكان وما أيده وحي الأديان لأضاف في حياته الفكرية إلى «النص» المكتوب، متخذا إياه نقطة ابتداء لعملياته العقلية، نقطة ابتداء أخرى تسير مع النص المكتوب مسايرة التوائم، وأعني بها كتاب «الكون» في ظواهره وأحداثه. وإذن تكون «القراءة» التي أمرت بها الآيات القرآنية الكريمة، والتي كانت أول ما نزل به جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام، أقول إن القراءة تصبح قراءتين؛ قراءة «الكلمة» وقراءة «المخلوق»، فأما الأولى فطريقها - كما ذكرنا - هو أن نضع «النص» المكتوب في موضع الصدارة ثم نستولد مضمونه وفحواه. وأما الثانية فطريقها أن نسلط النظر على ظواهر الطبيعة كما تقع على البصر والسمع، محاولين استخراج قانونها الذي تسير بمقتضاه. ولقد كانت هذه القراءة الثانية متروكة - أو تكاد - في كل ما سبق به التاريخ قديمه ووسيطه، وكان مقسوما لغيرنا أن يلتفت إليها منذ أربعة قرون، فيقفز بتلك اللفتة قفزة جاوز بها عنان السماء (والعنان هو السحاب). ووقف العربي عند قراءة واحدة تنصب على الكلمة المكتوبة المقروءة، وهو المجال الفكري الذي بلغ فيه مكان الريادة حين لم تكن قد أضافت إليه مصدرا آخر. ولو سار العربي فيما أمره دينه أن يسير فيه لأمكن أن تستمر له ريادته. على أنه لا يجوز لنا أن نسهو في هذه المناسبة عن الإشارة إلى فرق هام بين العربي القديم إبان مجده الإبداعي في القرون الأولى من تاريخه الإسلامي وبين العربي الجديد الذي كتب عليه أن يعايش حضارة علمية لا يشارك في بنائها ويستهلك إنتاجها. وذلك الفرق الذي نقصد إليه هو أن العربي القديم؛ وإن يكن ظهوره في التاريخ قد سبق ظهور العلوم الطبيعية ظهورا يجعل لها السيادة في التوجه الحضاري؛ إلا أن هنالك من ميادين البحث العلمي التي جال فيها العقل العربي عند آبائنا الأولين، ما يقتضي من المعالم وقفة شبيهة جد الشبه بوقفة العالم الباحث في ظواهر الطبيعة، برغم أن مادة تلك الميادين مؤلفة من كلمات وليست مؤلفة من «أشياء»؛ فعلماء «اللغة» - مثلا - إذ يصبون طاقتهم الفعلية على المادة اللغوية ليستخرجوا، ما كمن فيها من قوانين يشبهون عالم الطبيعة وهو يصب طاقته العلمية على ظاهرة من ظواهر الطبيعة كالضوء أو تكوين الجسم وطرق علاجه إذا مرض وهكذا؛ لأن «اللغة» حين تؤخذ مأخذ التحليل والتعليل واستخراج القواعد، فهي إنما تؤخذ مأخذ أية ظاهرة أخرى من ظواهر الدنيا. إذن فأمرها في هذه الحالة يكون شبيها بأمر «المقدمات» التي يضعها باحث بين يديه لينحصر كل جهده العلمي بعد ذلك في توليد النتائج التي تترتب على تلك المقدمات. ومعنى ذلك هو أنه يمكن القول عن العربي الأول، أنه كان ينهج النهجين معا، لكل نهج منهما ميادينه؛ منهج توليد النتائج من مقدمات تؤخذ مأخذ التسليم. ومنهج تناول موضوع شيء خارجي تناولا مباشرا، كما يتناول علماء الطبيعة ظواهر الطبيعة في بحوثهم العلمية، إلا أن منهج التوليد كان - بطبيعة الحال - أكثر شيوعا.
وعلى ضوء هذا الذي أسلفناه، فلننظر إلى العربي في موقفه الراهن لنرى كم وضحت رؤيته وكم غامت؟ مع التذكر بأن «رؤية» الإنسان في موقفه من الحياة يتوافر لها وضوحها إذا كان على وعي شديد بتفصيلات «الهدف» الذي يسعى إلى بلوغه سعيا يلائم إطاره الثقافي الذي يصون به هويته التاريخية. وانظر إلى مختلف الشعوب الغربية التي تقوم مجتمعة بإقامة البنيان الحضاري في عصرنا تجد لكل شعب منها ما ينفرد به تحقيقا لهويته، برغم اشتراكهم جميعا في إقامة البنيان، مما يوضح لنا فكرة «الرؤية الثقافية» التي لا غناء عنها إذا أراد الإنسان أن يتحضر وأن يصون كرامة نفسه في آن معا.
وأول ما نلحظه عن العربي في هذا العصر أمران؛ الأمر الأول هو أنه يأخذ من حضارة العصر - ولا يعطيها - كأنه سقط من حساب البناة المبدعين. والأمر الثاني هو أنه لم يعد على بينة من حقيقة الجوهر الذي يجعل من العربي عربيا، وفي هذه الغيبوبة فقد الحس الذي يميز به ما يأخذ وما يدع بحيث تبقى له عروبته غير مشوبة بشائبة تطمس معالمها فتعمرها في غمرة النكرة المجهول! فأما عن الأمر الأول وهو أنه قد أصبح يأخذ من حضارة عصره ولا يعطيها وهو موقف سلبي نقفه للمرة الأولى في تاريخنا. وإذا أقول ذلك فإنما أضع في اعتباري الوطن العربي في شموله؛ لأن أجزاءه قد تفاوتت جزءا عن جزء في نصيبها من الإبداع الحضاري كلما نشأت على وجه الأرض حضارة جديدة، فإذا خصصت القول هنا لأجعل مصر مداره، ازددت يقينا بصدق ما أقوله، وهو أنها للمرة الأولى في تاريخها، ظهرت فيها للناس حضارة، فرضيت لنفسها ألا تكون في صفوفها الأولى. ولقد كان لكل حضارة من كبريات الحضارات التي أقامها الإنسان، مدار خاص ومذاق متميز؛ فبعد أن انفردت مصر وحدها - أو كادت - بالإبداع الحضاري الكبير الخالد لعدة آلاف من السنين، أخذت ألوان حضارية أخرى تتوالى في الظهور. وإن القارئ ليظلم نفسه ويشوه التاريخ، إذا مر مرور الكرام (كما يقولون) على عبارة «عدة آلاف من السنين»؛ لأنه إن فعل كان كمن يسوي بين جبل الهملايا في شموخه الجبار وكومة من رمال لا ترتفع عن قامة فرد واحد من الناس؛ فلعدة آلاف من السنين «وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي» (كما قال حافظ إبراهيم). أقول إنه بعد ذلك الإبداع الفني الجبار، ظهرت حضارة اليونان ولمعت ثقافة أثينا، لكنها في ذلك أخذت بعض مددها من مصر، ثم لم تكد تمتد بضع مئات من السنين (ولا نقول «آلاف» السنين كما قلنا عن مصر) حتى خبا مصباحها لتسرع مصر عندئذ إلى حمل الشعلة الجديدة، فتقيم في الإسكندرية بديلا للمصباح الخابي منارة من العلم والفلسفة وغيرهما من فروع الثقافة. وجاءت حضارة الرومان، فما هي إلا أن وجدت من الإسكندرية ندا عنيدا لروما. وفي غضون العهد الروماني ظهرت المسيحية، فاضطلعت مصر بدورها العظيم بدءا من احتماء العائلة المقدسة بحماها، ومرورا باحتضان العقيدة الجديدة ورعايتها في وجه الوثنية الرومانية. وكانت مصر هي أول من أقام الأديرة في التاريخ المسيحي، ومن الإسكندرية عبرت الديانة إلى روما ثم أفرزت مصر الكنيسة القبطية. وظهر الإسلام فآمنت مصر بالإسلام دينا، وبالعروبة لغة، وما كانت لتفعل هذا بتلك السرعة وذلك الشمول لولا أن لديها من ثقافتها ما يتقبل الدين الجديد واللغة الجديدة في يسر شديد. وما إن أسلمت مصر، وجرى لسانها بالعربية حتى صارت في بناء الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية رائدة.
هكذا تتابعت الحضارات والثقافات، فكان العربي فيها جميعا مبدعا أصيلا أو آخذا من إبداع غيره ليعطيه كما أخذ، إلا هذه الحضارة العلمية الأخيرة؛ فقد اختار لنفسه فيها موقف من يأخذ ولا يعطي، فهل وجد في جوهر عروبته ما يرفض «العلم» الطبيعي الذي هو من حضارة عصرنا عمودها الفقري؟ لماذا يميل عامة جمهورنا إلى السخرية بقدرة العقل الإنساني، وما ينتج عنه من علوم تبحث في «مادة» الكون لتستخرج قوانينها، تلك القوانين التي على أساسها قامت مخترعات لم تكن في مستطاع الخيال أن يتصور قيامها؟ نعم، إن لنا مدارس ومعاهد وجامعات أصبحت تعد بالآلاف لا بالمئات، وفي كل قاعة من قاعاتها يرن صوت العلم الجديد، لكننا نتلقى هذا كله بغير إيمان، فنخرج منه بلمسة من أطراف الأصابع؛ فقد نستخدمه وسيلة لكسب العيش، ولكننا سرعان ما نرتد إلى موقف الرفض الذي يقفه سواء الجمهور بتوجيه ممن يملكون أدوات التوجيه، فلا غرابة أن نبقى في عصرنا غرباء نقطف منه ثماره التي أنبتها بناة العصر، ثم نتنكر له؛ ومن ثم كان الأخذ ولم يكن العطاء.
ذلك عن الأمر الأول. وأما الأمر الثاني الذي هو بمثابة التعليل الذي يفسر لنا الأمر الأول، فهو ما نلحظه من غيبوبة العربي عن حقيقة جوهره، ولو وعاها لاهتدى.
فلئن كان الطابع السائد في حياة الأمريكي هو أن يبحث عن الفكرة التي تلد النتائج العاملة على استثمار الطبيعة وظواهرها، والطابع السائد في حياة الإنجليزي أن يجعل مداره هو حواسه في الحكم على المواقف العملية بالصواب أو بالخطأ، موحدا في ذلك بين الحواس والعقل، بمعنى أن ما تدركه الحواس هو المادة الخامة التي تصنع فيها مدركات العقل. والمدرك العقلي لا يقبل إلا إذا شهدت الحواس على صوابه. والطابع العام في حياة الفرنسي هو العودة بالفكرة المراد الحكم عليها إلى أصولها العقلية التي نبتت منها. والطابع العام في حياة الروسي والصيني هو أن تؤخذ الفكرة التي يصلح بها المجموع بغض النظر عما يصيب الأفراد من نفع أو ضرر. والطابع العام في حياة الياباني هو محاولة الجمع بين المستوى الذي يصلح به المجموع والمستوى الذي يشيع الخصوصية للفرد في أسرته وهكذا (وهذه الأحكام العامة كلها إنما سيقت على سبيل التقريب لا على سبيل الدقة). أقول إنه إذا أمكن العثور في حياة تلك الأمم على طابع عام يميز كل أمة منها بما تختص به حتى لو شاركت سائر الأمم في التيار العصري الشامل، فقد كان الأولى أن نجد للأمة العربية في حاضرها ذلك الطابع العام الذي يميزها لأنها أعمق من معظم الأمثلة التي ذكرناها ضربا بجذورها إلى ماض بعيد.
ولقد ذكرنا لك فيما أسلفناه أن العربي بحكم محيطه الصحراوي الكبير أقرب إلى أن يتشرب رؤية تجعل سندها ذلك المطلق اللامتناهي بما له من ثبات ودوام، وجاءت إليه ديانات تتسق مع تلك الرؤية الفطرية، فاكتمل له من خبرته بأرضه ومن وحي السماء ينزل على رسله وأنبيائه الميزان الذي يفرق به بين من انحرف عن جادة الطريق ومن اهتدى إلى سواء السبيل، فمن وقف في نظرته عند الجزئي المفرد الزائل فقد انحرف، ومن جاوز الجزئي المحدود العابر إلى اللانهائي اللامحدود الخالد فقد اهتدى. وهو ميزان - كما ترى - واضح المعالم يتناول أول ما يتناول حياة الإنسان في مسالكها متى يصح السلوك ومتى يفسد؟ ومن هنا كانت الصور الحضارية كلها التي نبتت على الأرض العربية، تعنى في المقام الأول بالأخلاق قبل عنايتها بالمزروع والمصنوع. إنها لم تكن تقيس قيمة الإنسان بوفرة إنتاجه ولا بكثرة ماله ولا بشدة نشاطه وسرعة خطواته، بل كانت تقيسها - قبل أن تنظر في هذه الأمور كلها - إلى سلوكه هل يؤدي أو لا يؤدي إلى حسن العلاقة بربه وبضميره الخلقي وبالآخرين من أفراد الناس. إننا إذ نقول ذلك على سبيل المقارنة بين الغربي وغيره في رؤيته وموازينه، فإنما نقوله على سبيل التغليب، وإلا فلكل أمة نصيبها من جوانب الحياة، ثم يبقى السؤال عن الأولوية لأي جانب تكون عند هذه الأمة أو تلك. ونظرة فاحصة إلى العربي اليوم وكيف ينظر، كفيلة بأن تبين كيف تمزقت رؤيته شدا وجذبا بين أقطاب متضاربة، حتى لتجد فينا من يحيا حياته برؤية غربية خالصة، كما ترى إلى جواره من يحيا حياته على صور السلف البعيد، وكأن الزمن قد جمد والحياة لم تتغير. وبين هذين الطرفين النقيضين تجد كل الدرجات المتفاوتة في اغترافها من هذا الإناء أو ذاك. ويبدو أن العلة الأولى في هذا التمزق هي أن أبوابنا فتحت فجأة في أوائل القرن الماضي على حضارة الغرب الحديث؛ فبعد أن تدرج ذلك الغرب في تحديث حضارته على أسس جديدة غير التي كانت في العصور الوسطى، وصل إلى نقطة متقدمة من الشوط. وهنا وقعت المواجهة والمفاجأة كما يصطدم القطار السريع بعارض على قضبانه، فيتحطم العارض ولا يمس القطار بأذى، فهكذا تناثرنا أمام صدمة الحضارة الغربية جماعات جماعات، فلما أفقنا من الواقعة أخذت كل جماعة منها تشدد قبضتها على ما وجدت نفسها فيه، تدافع عنه وكأنه الحق كله والباطل هو سواه.
وقد كان يمكن للأمة العربية أن تأخذ الثقافة الجديدة التي أفرزتها حضارة العصر في الغرب، لتبحث لها عن مكان يلائمها في الإطار العربي، ولم يكن ذلك ليستحيل عليها؛ لأن «العلم» هو محور الغرب الحديث، ولم يكن النظر العلمي قط غريبا على هذه الأمة منذ ظهورها على مسرح التاريخ؛ فمنذ وعت وأخذت تتفهم ما حولها، وجدت بين يديها «الحقيقة» الكبرى ماثلة أمام عينيها في الآفاق ونابضة مع دقات قلبها في العقيدة الدينية، وما كان عليها إلا أن تحسن استنتاج الحقائق الفرعية من تلك الحقيقة الأولى، وفي مثل هذا الاستنتاج يولد «العلم». وإذا كان الغرب الحديث قد أقام حضارته الجديدة على علم من نوع آخر غير العلم الذي يتمثل في استنتاج النتائج «اللفظية» من مقدماتها «اللفظية» أيضا، ومدار هذا النوع الآخر هو استقراء «الأشياء» أو ظواهر الطبيعة، فقد كان في حياة العربي العلمية جوانب كثيرة تدل أقوى دلالة على بشائر وبوادر لمثل هذا النوع من النظر، أقول إنه كان يمكن للأمة العربية أن تهضم فكر الغرب الحديث هضما يزيدها صحة ولا يصيبها الأذى، لكنها لم تفعل حتى ألزمتها الحاجة إلى علم الغرب وصناعته فاشترتهما بالمال حينا، وبحريتها حينا.
فبأي رؤية تنظر الأمة العربية اليوم؟ لقد غامت رؤيتها وتعذر الجواب.
صورة الإنسان
كان ذلك على وجه التحديد، يوما في أواخر سنة 1950م، عندما جلست على مائدة الغداء في فندق بالقاهرة. واستأذن شاب إنجليزي في نحو الثلاثين من عمره، في أن يشاركني بالجلوس إلى المائدة، ثم ما هو إلا أن تبادلنا أطراف الحديث، فعرفت أنه أديب يكتب الرواية والمقالة، يحاضر في الأدب الإنجليزي بجامعة بغداد، وجاء إلى القاهرة ليقضي إجازة عيد الميلاد، وليجمع مادة يستعين بها في الرواية التي يكتبها، معتزما أن يجعل مصر عنصرا أساسيا من عناصرها. ولم تكن جلسة الغداء قد انتهت حين سمعنا من مائدة بجوارنا صوتا مشحونا بانفعال المسيطر الآمر، يتوجه به نحو عامل يخدم في غرفة الطعام. ولم ندر ما الذي فعله العامل أو قاله، مما استثار في «الزبون» المتجبر المتكبر جبروته وكبرياءه، إلا أن العبارات التي وجهها إلى العامل دلت على أن ذلك العامل قد استباح لنفسه تقريب المسافة الاجتماعية بينه وبين «الزبون»، فخاطبه بضمير المخاطب المفرد، بدل ضمير الجمع علامة على الاحترام الواجب؛ فربما أشار إلى معطف موضوع على مقعد قريب، سائلا: أهذا معطفك؟ ومثل هذه الصيغة في الحديث لم تكن تجوز بين خفيض ورفيع من درجات الحياة.
بل إنه لم يكن يجوز من الخفيض أن يخاطبه بلغة الخطاب المباشر بأية صورة جاءت، وإنما الخطاب في هذه الحالة يجب أن يوجه إلى حلقة وسطى بين الطرفين كالسعادة، أو الحضرة، أو الجناب، أو أي شيء من هذا القبيل، فكان على العامل أن يسأل قائلا: هل هذا معطف سعادتكم، أو معطف حضرتكم، أو معطف جنابكم؟ أو ما يؤدي هذا المعنى الدال على وجود فاصل يفصل الطرفين حتى لا تجيء المخاطبة نقطة التقاء بين الرفيع والخفيض من أبناء الوطن الواحد.
فلما ذهبت الصرخة وأصداؤها، وهدأت قاعة الطعام مرة أخرى إلا من طقطقة الأطباق والملاعق والشكوك والسكاكين، سألني الأديب الإنجليزي: ما الذي حدث بين الرجلين؟ قلت له إن خلاصة ما حدث هو أن العامل تحدث إلى الزبون بلغة توحي بأنهما «رجلان». فنظر إلي الإنجليزي نظرة الدهشة قائلا: وكم هما إذن؟ أليسا رجلين؟ قلت له: نعم، إنما كذلك في دنيا الأبدان، أما في عالم الحساب الاجتماعي، فأحدهما - وهو العامل - صفر، والآخر لست أدري كم يساوي لأني لا أعرفه؛ فربما كان بحكم بمنزلته الاجتماعية مساويا لألف رجل أو ألفين أو عدة آلاف. وأحس الإنجليزي بالطبع نبرة السخرية الحزينة في إجابتي، فصمت قليلا وسألني: متى وكيف في رأيك تحدث ثورة لتغيير هذه الأوضاع؟ فأجبته بقولي: أما «متى» فلا علم لي بغيب، وأما «كيف» فلا كيف في الموقف إلا كيف واحد هو أن يقوم الجيش بالثورة نيابة عن الشعب؛ لأن ما سوى الجيش من فئات، فيهم القلق الثائر وليس لديهم أدوات التنفيذ؛ فجماعات الطلاب - مثلا - لا تملك غير الحناجر للهتاف، وجماعات العمال لا تملك إلا الإضراب عن العمل، مما يضر أكثر مما ينفع.
وفرغنا من الغداء وافترقنا، كل في سبيله، لكنني لم أنس الصرخة المدوية التي صرخ بها ذلك المتجبر المتكبر في وجه العامل لغير ما سبب يجيزه إنصاف. وكان أول ما دار في خاطري تعليقا على ذلك الذي حدث، عبارة همست بها لنفسي قائلا: نعم إن ذلك العامل صفر اجتماعي يأيها المتجبر المتكبر، لكنه صفر نفيس. وأعجبتني هذه العبارة التي همست بها لنفسي، ولم أخلع ملابسي لأرتدي ثياب البيت، إلا بعد أن جلست إلى مكتبي وفرغت من مقال جعلت عنوانه «الصفر النفيس» ودفعت به إلى مجلة للنشر، وهو مثبت في كتاب يضمه مع طائفة أخرى من مقالات كنت أكتبها يومئذ بأنفاس من لهب. وأذكر أن كان بين ما قلته في ذلك المقال موجها حديثي إلى ذلك المتغطرس المجهول، إن ذلك الصفر البشري الذي نراه على نحو ما تراه، إنما هو اليوم صفر لأنه يقف على يسار العدد، ومن ذا يدريك كم يساوي هذا الصفر نفسه عندما يحدث ما يحدث فينتقل من يسار العدد إلى يمينه؟ إنه عندئذ قد يساوي ألفا، أو عشر آلاف أو ما مكنته طاقته أن يكون.
ذكرت تلك الذكرى للحظة عشتها ذات يوم من شهر ديسمبر سنة 1950م، ذكرتها الآن حين هممت أن أكتب عن صور الإنسان بصفة عامة ما مقوماتها، وصورة الإنسان العربي بصفة خاصة ماذا حققت من المثل الأعلى، وماذا فاتها أن تحققه في المرحلة الحاضرة من تاريخها؟ إذن فسؤالنا الأول هو عن الصور المثلى، ما هي ليقاس عليها؟ لقد كان لرجال الفكر في هذا المجال اجتهادات بدأت لكيلا تنتهي، وعلينا نحن أن نستعرض ونقارن ونختار. وأول صورة مما يستحق الذكر، هي الصورة التي قدمها الفيلسوف اليوناني القديم - أفلاطون - إذ كان في سبيله إلى تحديد «العدل» تحديدا واضحا ، لكي يجعل منه الأساس الذي تقام عليه الدولة المثلى، واستطردت لمحاورة حول معنى «العدل» استطرادا مستفيضا يستعرض مختلف المعاني التي يمكن أن يفهم «العدل» على أساسها، حتى انتهى به الأمر إلى ضرورة تحليل النفس الإنسانية إلى عناصرها؛ ففي هذه التجزئة ما يوضح الصورة، فوجد هو ومحاوروه من تلاميذه أن النفس مؤلفة من عناصر ثلاثة، لكل منها صفة إذا توافرت، كانت له بمثابة «الفضيلة» الخاصة به. وتلك العناصر الثلاثة هي «العقل» وفضيلته «الحكمة»، و«القلب» وعواطفه وفضيلته «الشجاعة»، و«البطن» وشهواته وفضيلته «العفة»، فإذا اجتمعت تلك الفضائل الثلاث معا تحقق بذلك العدل؛ أي إن العدل محصلة مجموعة فضائل وليس شيئا قائما بذاته. ونفهم ذلك الرأي فهما أوضح، حين ننتقل بالحديث من الفرد البشري الواحد، إلى المجتمع وما يقع فيه من تفاعل بين أفراده، فها هنا نقول إن المجتمع يصبح مجتمعا عادلا، إذا «تعادلت» فيه القوى الثلاث؛ فهنالك عالم الحاجات الطبيعية الغريزية، وهنالك العواطف وانفعالاتها، وكل من هاتين القوتين تدفع وتندفع ولا تتزن وتتعادل إلا إذا جاءت قوة العقل فأمسكت لهما الزمام بحكمتها، لتترك لكل منها حرية الحركة في حدود لا تطغى ولا تجاوز المعقول. وقد ترك لنا أفلاطون صورة تصور ما أراده، عربة يجرها جوادان يمسك بلجامهما سائق مدرب، أما الجوادان فهما دوافع العاطفة ودفعات الشهوة، وأما السائق فهو العقل يلجم الجوادين بحكمة تضبط لهما إيقاع الحركة.
تلك - إذن - هي إحدى الصور، أو قل أحد التصورات التي صور بها الإنسان، لا لنقف أمامها نتلقاها في سلبية وسكون، بل لنستدل منها - إذا قبلناها - ما يترتب عليها من حقوق للإنسان ومن واجبات عليه. وظهر الإسلام حين ظهر لتتفرع عنه حركة ثقافية بلغت أوجها بعد أربعة قرون من ظهوره، وكان بين رجالها عندئذ «مسكويه» الذي كتب عن فلسفة «الأخلاق » كتابة ربما تفرد بها دون معاصريه. وكان مما لفت النظر عند كاتب هذه السطور، أن يجد «مسكويه» قد أخذ بالصورة الأفلاطونية المثلثة العناصر، وتساءل هذا الكاتب يومئذ: ألم يكن الأجدر بمسكويه أن يضيف إلى العناصر الثلاثة عنصرا رابعا لتلتئم الصورة مع الثقافة الإسلامية الجديدة، ألا وهو عنصر «الدين»؟ نعم، قد يكون «مسكويه» قد ذكر بين تفصيلات الحياة الخلقية عددا من أخلاقيات الإسلام، إلا أن الصورة العامة عنده بقيت عربة تجرها عواطف وشهوات ويلجمهما سائق العقل بحكمته.
فإذا فرضنا أن «مسكويه» أراد إضافة جانب «الدين» مع احتفاظه بصورة العربة ذات الجوادين والسائق، فأين يكون موضعه ليأخذ مكانه الصحيح من الحياة الأخلاقية؟ هكذا سأل هذا الكاتب نفسه، فكتب مذكراته التي علق بها على كتاب «الأخلاق» لمسكويه وأجاب بما معناه، إن الدين يوضع في مكانه الملائم إذا وضع في الإنسان الممسك باللجام ليكون ذلك الإنسان رمزا يرمز إلى هداية الدين وتخطيط العقل معا وفي آن واحد. أليس الإنسان السائق لحياته في مسالك الأرض بين سائر الناس ومختلف الكائنات يريد لحياته «عدلا» أو قل «تعادلا» واتزانا يمسك بالعناصر جميعا لتتعاون كلها، فتصيح وهي متعاونة أقوى مما تكون وهي فرادى متنازعة؟ فمن أين يأتي الإنسان السائق بالمعايير التي ترسم له الحدود الفاصلة بين خطأ وصواب، أو بين حرام وحلال؟ نعم إن الصورة الأفلاطونية قد ذكرت صفة واحدة لكل من العناصر؛ فللعاطفة شجاعة، وللشهوة عفة، وللعقل الممسك بزمامها حكمة يهتدي بها، لكن هذه الصفات ينقصها التحليل والتفصيل، فما هي فروع القيم التي تحكم العاطفة، وما هي فروعها التي تحكم الشهوة؟ ها هنا نجد تفصيلات المعايير المطلوبة في «الدين» نزلت على الناس وحيا لتضع لهم الحدود والمعايير. ولنتذكر أن «العدل» اسم من أسماء الله الحسنى، يتضمن معناه إيجاد التوازن بين أطراف الخلق جميعا، كما يتضمن وجوب التعادل في النفس الإنسانية التي «سواها» سبحانه وتعالى «فألهمها فجورها وتقواها». وإذا نحن أردنا أن نضع ذلك المتغطرس الذي صادفناه متجبرا متكبرا في طغيان، في صورة العربة ذات الجوادين والسائق بعد تعديلها، لرأيناه يحيا حياته مع الجوادين وينقصه الدين والعقل معا، اللذان بهما تتحقق صورة الإنسان.
إنه إذا كان السائق في صورة العربة التي أسلفناها، يمثل من الإنسان جانبه الراشد المرشد، بما انطوى عليه من «دين » يفصل الضوابط و«عقل» يشرف على خطوات التنفيذ، فمن هذه البداية تتفرع لنا فروع إذا ضممناها بعضها إلى بعض، اقتربنا من صورة الإنسان، كما يراد للإنسان أن يكون. وأول ما نلقي عليه الضوء في هذا الصدد هو إننا إذا جعلنا سندنا المزدوج هو الدين والعقل؛ فكأننا قلنا إنه «الإرادة» أولا و«العلم» الصحيح ثانيا؛ فبغير إرادة الإنسان تصبح مجموعة المعايير الخلقية التي يفرضها الدين مجرد قائمة من أسماء يحفظها من يحفظها ليكرها اللسان كرا كما يكر التلميذ قطعة من المحفوظات عن غير فهم لمعاني كلماتها، لكنها الإرادة هي التي تنقل تلك المعاير الخلقية من دائرة المحفوظ إلى دائرة السلوك الفعلي مع الناس والأشياء، فإذا كان المعيار - مثلا - هو أفعل ما أقوله، وأقول ما أفعله، بحيث يتطابق القول مع العمل نقلتني الإرادة بهذا المعيار إلى تطبيقه الفعلي بكل ما يحتاج إليه ذلك التطبيق من أمانة وشجاعة لأن التباين بين القول والعمل جبن وخيانة؛ فهو جبن لأنه لا يقوى على مواجهة الناس بحقيقة ما استتر، وهو خيانة لأنه يضلل الآخرين.
ذلك هو جانب «الإرادة» المتضمن في العقيدة. وأما جانب «العلم» الصحيح بحقائق الأمور فهو ما يؤدي إليه جانب «العقل» من سائق العربة. ولا يمل هذا الكاتب كلما وردت كلمة «عقل» أن يذكر قارئه بمعناها الصحيح، الذي هو نمط إدراكي تتم به حركة انتقالية من شواهد معلومة إلى ما ينتج عنها مما كان مجهولا؛ أي إن «العقل» حركة استدلالية دائما. وما ليس كذلك من أنماط الإدراك الأخرى، فلكل نمط منها اسمه الخاص، فإذا كان عند سائق العربة (الذي هو جانب الرشاد من الإنسان) قد فرضت عليه معايير معينة لتطبيقها في سلوكه، وإذا كان لا بد له من «إرادة» تنقله من دنيا «المبادئ» الخلقية إلى عالم الأشياء حيث يكون التطبيق العملي، فكيف يتاح له أن يخطو خطوة واحدة في عالم الأشياء إلا إذا عرف ما استطاع معرفته عن تلك الأشياء وطبائعها، فهذا قمح، وذلك ماء، وهكذا؟ وكلما كان العلم بحقائق الأشياء صحيحا، كان الترجيح أقوى بأن الإنسان سيخطو بمعاييره الخلقية في دنيا الأشياء خطوات آمنة من الزلل.
وعلى أساس هذا الشرح لجانبي الإرادة والعلم الصحيح، تنبثق للإنسان حقوق يجب ألا ينازعه فيها أحد؛ فهي حقوق نابعة له من صميم فطرته التي فطره عليها خالقه سبحانه وتعالى؛ فمن وجوب «الإرادة» في الحياة الإنسانية الكاملة، يتولد حق «الحرية»؛ لأن الإرادة جوهرها «اختيار» يكون الإنسان الذي يختار لنفسه هذا الفعل دون ذاك مسئولا عن اختياره أمام ربه يوم الحساب، ثم يزداد حق الإنسان في الحرية شدة ورسوخا، عندما نجد أنه نتيجة تلزم عن جانب «العقل» وما يؤدي إليه من علم بالأشياء علما صحيحا، فإذا قامت بينات معينة أمام «العقل»، فكيف يحجر عليه في استدلال ما يمكن استدلاله من تلك البينات. على أن حق «الحرية» إذ ينبع للإنسان من كونه إنسانا ذا إرادة تختار، وذا عقل يستدل، لا تحدها حدود إلا إذا اصطدمت بحريات الآخرين. وهنا يجب البحث عن نقطة التوازن، أو التعادل؛ أي النقطة التي تحقق «العدل» بين أعضاء المجتمع الواحد. وهذه الوقفة التي يقفها مجتمع حين يعادل بين حريات أعضاءه معادلة لا تجيء معها حرية مطلقة لزيد على حساب حرية مقيدة لعمرو، إنما هو موقف ما كان لينشأ ما لم يسبقه اعتراف ضمني بحق أساسي آخر من حقوق الإنسان ألا وهو حق «المساواة» في الفرص المتاحة برغم تفاوت القدرات.
الحرية، والعدل، والمساواة، وغيرها من حقوق الإنسان التي تقتضيها فطرته ذاتها، ولا ترتهن بمنحة يأذن بها حاكم أو لا يأذن، هي من أهم المقومات التي تبنى عليها صورة الإنسان. وفي هذه المقومات تختلف العصور، كما تختلف الشعوب داخل العصر الواحد. إلا أن هذه الأسماء التي نطلقها على تلك الحقوق كثيرا ما تؤخذ لمسا بأطراف الأصابع، وكأنه يكفينا أن تكون مذكورة في معاجم اللغة، أو مخزونة في الذاكرة ليجري بها اللسان عند الطلب، وليست هي بمثابة خرائط ترسم للناس صورة الحياة العملية، فجدير بنا - إذن - أن نقف وقفات قصارا عند بعضها، ندقق النظر في مضامينها لنرى كيف ينبغي لتلك الأسماء أن تؤخذ. ولنبدأ بالحرية التي تجري على ألسنتنا وأقلامنا جريان الماء على الجبل، ومع ذلك فإن هذا الكاتب يزعم أن ما قد تسلل من معانيها إلى حياتنا العملية هو أقل من القليل. أول تلك المعاني هو أن لا حرية لجاهل في الميدان، الذي هو جاهل بحقائقه، ولا يكون الإنسان حرا إلا فيما قد عرفه، وتتفاوت درجات الحرية بتفاوت تلك المعرفة نوعا ومقدارا، فإذا أدخلنا في غرفة الآلات الإلكترونية رجلا لا علم له بشيء منها، لم يكن له وهو فيها حرية بالمعنى الذي يجعله قادرا على التصرف فيما حوله. وإذا نحن وسعنا دائرة هذا المثل ليشمل العصر الإلكتروني الذي دخلته الحضارة منذ قريب، كان من حقنا أن نقول - بصفة عامة - إن عددا كبيرا من شعوب العالم الثالث مفقود الحرية بالنسبة إلى هذا العصر، حتى وإن استورد شيئا من تلك الأجهزة، ولم يكن لدى أبنائه خبرة تكفي لاستيعابها. وإذا وسعنا توسعة أخرى لمفهوم «الحرية» من هذا الجانب، قلنا إنه لا حرية لم لا يعلم. إننا نقنع عادة من مفهوم «الحرية» بالمعنى الجزئي الذي نقصد إليه ونحن في مجال السياسة، حيث نطالب بحق الفرد الراشد في انتخاب نوابه، وحق صاحب الرأي في أن يعبر عن رأيه حتى ولو كان مضادا لرأي الحاكم والحكومة، وذلك لأن هذا الجانب السياسي من مضمون «الحرية» سهل التناول. لكن الحياة أعقد جدا من أن تكون كلها سياسة، ومن أن يكون المطلوب هو حق الانتخاب وحق إبداء الرأي حتى ولو كان هذا الرأي لا يؤثر في مجرى الأحداث، هذا كله مهم ومطلوب، لكن هنالك أيضا ما هو مهم ومطلوب، وذلك أن يطمح الإنسان في التحرر من قيود الكون وقوانينه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فكيف نزيح عن كواهلنا عوائق المسافات وحرارة الجو وبرودته، وجدب الأرض لقلة الماء، وكمون المواد الضرورية في جوف الأرض؟ كيف نستغل أشعة الشمس وقوة الريح وموج البحر؟ كيف نغوص إلى قاع المحيط تمهيدا لمعرفته واستجلاب كنوزه؟ كيف نقهر عائق الزمن؛ فأنواع الغذاء يفسدها الزمن، وأنواع المحصول الزراعي مرهون بمواسمه في أوقات معينة، فكيف أتغلب على هذه الحوائل، ليكون النبات واللحوم والخضر والفاكهة وغيرها موجودة في كل مكان من العالم، وعلى مدار السنة بأربعة فصولها؟ إنه بالعلم وحده تتحطم هذه القيود، ويتحرر الإنسان. وهكذا تتسع آفاق الحرية لمن يعلم، وقد يتصدق بشيء من ثمرات حريته تلك لمن وقف أمام الطبيعة أصم وأبكم وأعمى حتى حرم الحرية بأعلى معانيها وهو لا يدري.
ذلك - إذن - جانب له خطره في إدراكنا للحرية ومعناها، لكنه يفلت منا فلا نراه. وجانب آخر لعله أعمق أثرا وأجل خطرا في تكوين الرؤية الصحيحة للحرية ومعناها، وهو خاص بحرية العقل فيما هو يفكر عندما يعترضه ما يستحق التفكير، وشرح ذلك هو أن من ضرورات التفكير العقلي أن يكون هنالك أمامه عتبة يقفز منها إلى ما يمكنه الكشف عنه من الحقائق؛ فالعقل ضرب من الفعالية لا يتحرك من فراغ وإلى فراغ، بل لا بد له من محطة قيام يبدأ منها رحلته، وهي عادة تؤخذ من معلومات سابقة ثبتت صحتها، فإذا لم يكن ذلك، افترضها المفكر افتراضا يسوقه على سبيل الاقتراح الذي يمكن أن ينطوي على حل المشكلة التي هو بصدد حلها، إلى هنا ولا اعتراض من أحد على هذا الإجراء المنهجي، المحتوم. وعلى سبيل التوضيح المبسط أفرض أن المشكلة المعروضة على العقل لحلها هي مشكلة التعليم الجامعي وطريقة الارتفاع بمستواه، فهنالك يبحث المفكر عن محطة القيام لعقله، فإما يلجأ إلى قراءة عما صنعته بلاد أخرى في مشكلة كهذه، أو ما قاله مفكرون آخرون - حديثا وقديما - عن مثل هذه المشكلة، ويقتنع بصحة ما صنعه أو ما اقترحه آخرون، فوضع أقوالهم نقطة بدء له، ليستدل منها ما نحن صانعوه في جامعاتنا بناء على ذلك، آخذين في اعتبارنا اختلاف ظروفنا عن ظروفهم، وإما ألا يجد المفكر شيئا يقتنع بصحته مما قاله، أو صنعه الآخرون، فيقدم هو لنفسه فكرة على سبيل الاقتراح، ثم يستخرج من نتائجها ليرى ماذا تكون الخطوات العملية عند التنفيذ.
تلك هي طريقة العقل في سيره إزاء المشكلات التي يجعلها موضعا لتفكيره، إلا أن هذه الطريقة نفسها كثيرا جدا ما تؤدي بالإنسان إلى موقف عجيب من الجمود الفكري، وذلك حين يظن أن ما قد جعلناه فيما سبق محطة قيام في بعض عملياته الفكرية، إنما هو من قبيل الحقائق الثابتة التي لا يجرؤ عقل على التنكر له وتغييره، ناسيا أو متناسيا أن تلك البدايات المنهجية هي دائما مقبولة على سبيل الافتراض، وتبقى ما بقيت نتائجها قادرة على حل المشكلات المراد حلها، أما إذا ما تبين ذات يوم أنها لم تعد صالحة لمواقف جديدة استحدثتها ظروف جديدة، فلا مناص عندئذ من أن نستبدل فروضا غيرها يستند إليها العقل في منهج سيره، وفي هذا التغيير تكمن «حرية» من أعظم ضروب الحرية التي لم يظفر بها الإنسان من قبل بكل القوة التي ظفر بها في العصر الراهن. ولا عجب إن رأينا العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية جميعا، قد غيرت أسسها عندما استدارت أواخر القرن التاسع عشر لتدخل في القرن العشرين؛ فالعلوم الرياضية بينت أن الفروض التي تقام عليها، هي فروض يمكن تبديلها بغيرها، بحيث يمكن للأنساق الرياضية أن تتعدد بتعدد فروضها. ولم يعد الأمر كما ظن الأسبقون على طول التاريخ، أن ينظر إلى فروض البنى الرياضية على أنها في ذاتها حقائق كونية ثابتة. وكذلك العلوم الطبيعية ومعها العلوم الاجتماعية، أدركت أنها أمام وجود لا يتصف بالثبات، بل هو في كل ظاهرة من ظواهر وجود دائب التغير؛ ومن ثم لم يعد في حدود الممكن إلا أن تصاغ القوانين العلمية مؤسسة على مبدأ إحصائي يعتمد على المتوسطات، فإذا كان العقل قد اكتسب هذه الحرية الجديدة في عصرنا، أعني حرية أن يغير في المبادئ الأولية التي كانت تبنى عليها العلوم، ولم تكن قط عرضة للتبديل والتعديل، فماذا نقول في مشكلات الحياة الجارية، إذا ما أردنا أن نتصدى لحلها، فهل يعقل أن نتحرج في تغيير المبادئ التي كان يظن بها الثبات فنبقيها متورطين في قبولها، لكي تفيدنا في مجال الحلول التي نسعى إلى الوصول إليها؟ انظر إلى أوجه مختلفة من حياتنا العملية، تجدنا مقيدين بقيود نظن أنها في قوتها وثباتها أصلب من الحديد، فلا نغير منها شيئا، ثم نعاني المر من صعاب تترتب عليها؛ فللأحزان عندنا مراسم، وللأفراح مراسم وللزواج مراسم، وللمواسم والأعياد مراسم، وكل هذه المراسم قد أصبحت كالثوب الذي قصر وضاق على صاحبه، الذي طالت قامته وضخم حجمه، وترانا كمن ألقى في الماء رجلا وأوصاه ألا يبتل بالماء؛ إذ على هذا النحو نتصدى لكثير من مشكلاتنا الاجتماعية نريد إصلاحها مع الحفاظ على مراسم يفترض لها الثبات، وبهذا نحرم عقولنا من ركن هام من أركان حريتها.
ثم أرادت لنا الأقدار أن يقذف بين أيدينا بنوع جديد من الأدوات التي كان يمكن لها أن تكون وسائل لمزيد من الحرية، فإذا هي تنقلب لتصبح وسائل لعبودية من نوع جديد، وربما كانت هذه المفارقة شاملة للعالم كله بدرجات متفاوتة، وأعني بتلك الأدوات وسائل الإعلام الجديدة؛ المذياع، والتلفاز، بصفة خاصة؛ فقد كان يمكن لهما أن يكون وسيلتين لتربية المواطن بكل درجاته، تربية يتسع بها أفقه بالمعرفة، فيكون أقدر على الحكم الصحيح، وأقرب إلى التسامح كلما وجد من يخالفه في الرأي، ووجهة النظر؛ لأن هذا التسامح نتيجة مباشرة لاتساع المعرفة والمقارنة بين المختلفات وهكذا. لكن خاب الرجاء في كثير مما رجوناه من هذا الوسائل الإعلامية الجديدة، بسبب يأتي قبل غيره من الأسباب، وهو وضع هذه الوسائل تحت سلطة الحكومة، فيبث فيها صاحب السلطة ما يسيطر به على الجمهور المتلقي. ولا غرابة أن نجد كلما نشبت ثورة في بلد، أو قام انقلاب في صورة الحكم، أسرع زعماء الثورة أو الانقلاب إلى الاستيلاء على مراكز الإعلام المسموع والمرئي، وبهذا الاستيلاء يكونون قد حققوا ثلاثة أرباع النجاح؛ لأن الاستيلاء على تلك الوسائل معناه الاستيلاء على عقول المشاهدين أو السامعين. ويزيد الطين بلة في هذا المضمار، أن أصبحت تلك الوسائل من أقوى ما يستخدمه المستعمرون من وسائل، ليتملكوا العقل والخيال، فيسهل اصطياد الفريسة. وكبار المستعمرين هم أنفسهم كبار الأثرياء؛ ولذلك يمكنهم تقوية موجاتهم الإذاعية بما لا يستطيع أن تقاومه الضحية بجهودها الضعيفة المحدودة. وتكون الخلاصة تشويها في صورة الإنسان يشل قدراته الناقدة، بالوسائل نفسها التي كان الرجاء أن تؤدي بنا إلى صورة أعلى وأفضل. ذلك كله، ولدينا ما يضاف إليه، يقال عن حق «الحرية» الذي أسلفنا لك القول بأنه حق ينبثق مباشرة من كون الإنسان ذا إرادة شاءها له من خلقه وسواه وعدله. لكننا أسلفنا لك كذلك بأن حرية الإنسان مشروطة بحريات الأفراد الأخرين؛ ومن هنا ينشأ لنا حق آخر يغيره تشوه صورة الإنسان، وهو حق «العدل» الذي يعادل بين حريات الأفراد حتى لا يطغى أحد على أحد. ولا تحسبن أن مثل تلك المعادلة تتحقق للناس بين يوم وليلة؛ فالتاريخ يشهد كم انقضى من قرون كانت الحرية لرجل واحد في المجتمع، هو الملك، أو شيخ القبيلة، أو كائنا ما كان «الرأس» الذي يتحكم في البدن، ثم تقدم الإنسان خطوة لتكون الحرية حقا لفئة كبيرة من الشعب، ولا بأس عندها في بقاء فئة أخرى تظل عبيدا لها. ومرت قرون مرة أخرى قبل أن يطلع على الإنسان فجر يوم جديد، تكون فيه الحرية - من الوجهة النظرية - حقا للجميع، وأما من الوجهة العملية، فقوي يطغى على ضعيف، ويكون له بذلك الطغيان حرية أكثر مما يبقى منها للضعيف، وها هنا يزداد العبء على من يضطلعون بإقامة العدل.
والحديث لا ينتهي، إذا كان موضوعه «صورة الإنسان» كيف هي، وكيف كان ينبغي لها أن تكون.
الثقافة العربية إلى أين؟
كالسائر نحو هدفه البعيد، أضناه السير، فوقف يتلفت وراءه، ليرى كم قطع من الطريق وكم بقي، كهذا السائر المكدود الحائر كنت، حين سألني من سألني قائلا: ماذا تتوقع لمستقبل الثقافة العربية؟ وذلك أني وقفت أمام السؤال لأنظر ورائي، كي أتثبت قبل أن أجيب ، أين نحن الآن؟ وكيف كنا؟ لعلي بذلك أهتدي إلى إجابة مرجحة الصواب، عما نتوقعه للثقافة العربية في مقبل الأيام، قريبها وبعيدها، لكنني ما كدت أحاول استرجاع الذي كان، حتى تساءلت: وما الذي تعنيه بالذي كان ؟ أهو ما قد مضى من هذا القرن العشرين؟ أم هو ما قبل ذلك، قافلا بخطاك خطوة وراء خطوة حتى تبلغ الأوائل الغامضة، التي بدأ عندها الشيء الذي نسميه بالثقافة العربية؟
ومع كلمات هذا السؤال، حين ألقيته على نفسي، وجدت ذاكرتي تنتقل بي عبر مراحل التاريخ في خطف سريع، فلمحت على بعد تشابها يلفت النظر، بين قديم وحديث، من حيث تتابع المراحل، مع بعد بعيد بين الحالتين، من حيث قوة الصحة وضعف المرض، فأخذتني فرحة من وجد الطريق الموصل إلى إحابة مقنعة عن سؤال السائل: كيف ترى مستقبل الثقافة العربية؟
فلقد ارتسم أمام مخيلتي خطان متوازيان، كان أحدهما مقسما سبعة أقسام، وأما الثاني فقد بدأ في مسايرته المتوازية مع الخط الأول، عند المرحلة الثالثة، وكأنه أخذ المرحلتين أخذ المحاماة الباردة، لا أخذ المكابدة والمعاناة والمعايشة الدافئة. نعم لقد ارتسم ذلك الخطان المتوازيان في مخيلتي، فكنت كمن ينظر إلى خريطة واضحة المعالم أشد ما يكون الوضوح، خريطة تصور مسار الثقافة العربية قديما وحديثا، تصويرا يكاد ينطق لي بالإجابة عن السؤال المذكور: ماذا ترى في مستقبل الثقافة العربية؟
كان الخط الأول من الخطين المتوازيين، هو خط القديم الذي جعلته يبدأ من القرن الأول الهجري، ويمتد إلى القرن العاشر الهجري (من السابع الميلادي إلى السادس عشر) فكان أول قسم من أقسامه خلال القرن الأول الهجري، بمثابة عين «الموضوع»، الذي سيصبح المدار الرئيسي لما يسمى بعد ذلك باسم «الثقافة العربية»، وبهذا كان القسم الأول من خط السير، أقرب إلى أن يكون «حياة» تنبض، منه إلى أن يكون تنظيرا بالفكرة، وصياغة للمبادئ والقوانين والقواعد؛ ومن ثم كان الأجمل بنا أن ننظر إلى تلك المرحلة الأولى من مراحل السير، نظرتنا إلى أساس البناء، الذي لا يعد طابقا من طوابق ذلك البناء، ومع ذلك فهو الشرط المسبق، الذي بغيره لا يكون بناء ولا تكون طوابق.
والقسم الثاني من الخط الأول، هو القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) ومعه جاء التفكير والتنظير، فكأنما قال العربي المسلم لنفسه: إن موضوعي هو كتاب الله وسنة رسوله، فلا بد لي من العلم بهما علما يوثق به، ولكن كيف لي أن أبلغ ذلك العلم الثابت، قبل أن أكون على دراية تامة باللغة العربية، وهي لغة الكتاب الكريم والحديث الشريف؟ فلأن تكون لغة بعينها هي اللغة التي نتحدث بها ونكتبها وننظمها شعرا وأدبا، فهذا شيء، وإما أن تكون على «علم» بتلك اللغة (وأرجو أن تقف لحظة عند كلمة «علم»)، فذلك شيء آخر. وإذن فنجمع أدوات البحث العلمي، بكل ما يقتضيه من جمع المادة اللغوية نفسها، في مفرداتها، وفي تراكيبها، وفي قواعد نحوها وصرفها، وفي جمع الشواهد التي نستند إليها في كل ما ينتهي بنا البحث العلمي إليه من مبادئ وقوانين وقواعد؛ فذلك كله شرط أساسي لمن يريد أن يفهم حق الفهم كتاب الله وسنة رسوله؛ ومن هنا قامت علوم اللغة قياما كان وحده كفيلا بأن يرفع الثقافة العربية إلى أعلى عليين، وهي بعد في أول خطوة على الطريق، ومع علم اللغة جاءت علوم الفقه بأحكام الدين، فما دامت اللغة العربية قد أسلمت مفاتيحها إلى علمائها، فقد كان أول ما استخدمت فيه تلك المفاتيح هو أن يستخلص الفقهاء أحكام الشريعة.
فلماء جاء القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) كان ذلك هو القسم الثالث على خط السير في الثقافة العربية؛ فها هنا كان العربي المسلم قد رسخت قدماه في بيته - لغة ودينا - ففتح نوافذ البيت، ليرسل منها بصره إلى حيث يستطيع ذلك البصر أن يمتد. ولقد استطاع أن يمتد إلى كل ما كانت الدنيا قد عرفته من قبل، وأخذ العربي ينقل إلى بيته كل ما استطابه من علوم الأوائل ومعارفهم. وقد ينفعنا في هذا الموضع من حديثنا، أن نميز بين نوعين مختلفين في ذلك المنقول، وذلك لأن أحد النوعين سيكون عند العرب مادة ثقافية للصفوة دون الجمهور العريض، وأما النوع الثاني وحده فهو الذي سيتسع مداه ما اتسعت دائرة الجمهور، وأعني بأول النوعين ما ترجم عن اليونان من فلسفة وعلم، كما أعني بالنوع الثاني شيئا أقرب إلى ما نسميه اليوم بلغة عصرنا «علوما إنسانية» إذ كان قوامه تصوفا وأدبا وفنا، نقل عن الهند وفارس ومصر.
فلما جاء القرن الرابع الهجري، وامتداده في القرن الخامس، كنا من خط السير الثقافي عند قسمه الرابع، وفيه انصهرت كل المواد الثقافية السابقة في بوتقة واحدة، وأصبحنا أمام نضج بلغت به الثقافة العربية ذروتها؛ ففيها من الفلاسفة الفارابي وابن سينا وفيها من الشعراء المتنبي وأبو العلاء، وفيها من المفكرين التوحيدي وإخوان الصفا، وفيها من نقاد الأدب عبد القادر الجرجاني، وفيها مما لا يتسع المقام الضيق لذكر شيء فيه. وحسبنا - فيما له صلة بموضوع حديثنا هذا - أن نعلم أن تلك المرحلة من مراحل السيرة الثقافية، كانت مرحلة النضج.
وماذا بعد أن نضجت الثمرة، وبلغت كمالها؟ كانت الخطوة التالية - وهي القسم الخامس في خط السير - هي مرحلة راجع فيها المثقف العربي نفسه، وكأنه وقف ليتساءل: ترى هل بعدت بي الشقة عن جادة الطريق؟ ترى هل ذهبت بي الروافد الثقافية الوافدة إلي من خارج الحدود، إلى أبعد مما كان ينبغي لي أن أبعد به عن خطي الأصيل؟ ثم ما هو أضل سبيلا: هل تكون الفلسفة التي أخذتها عن اليونان، وعن أرسطو على وجه التحديد، كما تمثلت تلك الفلسفة في ابن سينا، هل تكون تلك الفلسفة حاوية لما يتناقض مع دين الإسلام؟ أسئلة كهذه تشكك بها المتشككون في قيمة ما جاء به الناقلون من خارج الحدود، وكان فارس هذه الحركة، هو الإمام أبو حامد الغزالي، في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) في كتابه «تهافت الفلاسفة».
ولم تكن حركة الرفض لتمضي دون أن يتصدى لها من يردها، فما مضت بعد حركة الغزالي الرافضة بضع عشرات من سنين، لم تبلغ أن يكتمل بها قرن من زمان، حتى أجاب المغرب العربي في الأندلس - متمثلا في الفيلسوف ابن رشد - على المشرق العربي في محاولات رفضه للعناصر الدخيلة في الثقافة العربية. وكان العنوان الذي اختاره ابن رشد لكتابه الذي رد فيه على ثورة الغزالي، واضح الدلالة؛ إذ أسمى كتابه «تهافت التهافت »؛ أي إن ما هو متهافت بتناقضاته، ليس فلسفة أرسطو كما مثلها ابن سينا، بل هو ما جاء به الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة». ولم أدع هذه الفرصة تفلت من يدي قبل أن أشد انتباه القارئ إلى نقطتين هامتين لنا الآن؛ أولاهما ذلك التجاوب الحي في حياة الثقافة العربية حينئذ؛ فمفكر عربي في هذا الطرف من الأمة العربية، يرد على مفكر عربي في ذلك الطرف من الأمة العربية. وبمثل هذا التجاوب والتجاذب والمحاورة واللقاء، كانت هنالك «ثقافة عربية» يتدفق ماؤها في نهر قوي التيار، موصول الاتجاه، فقارن ذلك بما نحن فيه اليوم من تجرؤ وتفكك في حياتنا الفكرية والأدبية وغير ذلك من جوانب، حتى لكأن كل واحد منا جزيرة قائمة وحدها في محيط واسع، فإذا صرخ صرخاته كان سعيد الحظ لو سمع صداها مرتدا من سفوح الجبال، وأما زملاؤه البشر، فقد سد كل منهم إحدى أذنيه بالطين، وسد الأخرى بالعجين، فلا يسمع حتى صرخات نفسه إذا صرخ؛ ولذلك جاز سؤال السائلين: أحقا هنالك ما يصح تسميته بالأمة العربية من ناحية الفكر والأدب وغيرهما من عناصر الحياة الثقافية، تلك واحدة. وأما الأخرى فهي أن من رفض ثقافات الغرباء ومن تقبلها كان كلاهما يصدر في رفضه أو في قبوله عن بحر من العلم بتلك الثقافات التي يرفضها أو يقبلها؛ فالغزالي حين قدم رفضه للفلسفة الأرسطية، قدمه على علم تفصيلي كامل بما يرفضه، وكذلك قل في ابن رشد حين أجاب، فقارن هذا بما نحن فيه اليوم؛ إذ يجرؤ الرافض والعامل معا، على رفض ما لا يعرف عنه شيئا، أو قبول ما لا يعرف عنه شيئا؛ لأننا قد أصبحنا في شغل عن تحصيل المعرفة، والذي يشغلنا هو لا شيء!
ونعود إلى ما لنا فيه، فلقد سرنا مع الثقافة العربية في عهدها القديم ورأيناها بعد انطلاقها من الإيمان بالدين الجديد، تدخل مرحلة التعبئة العلمية استعدادا لفهم ذلك الدين فهما صحيحا، ثم انتقلت - بعد أن اطمأنت منها النفس - إلى الأخذ عن الجيران ما كانوا يملكونه من ثقافات ، وبعدئذ مزجوا الأصيل بالوافد فحصلوا بذلك على ثمرة ناضجة من إبداعهم. وهنا فزع الفازعون من أن يكون العربي قد ضل السبيل في ثقافته، لكن سرعان ما نهض من استطاع أن يعيد الطمأنينة إلى النفوس. ونضيف الآن إلى هذه المراحل الست التي ذكرناها، مرحلة سابعة هي صحوة أخيرة جاءت بعد ذلك الأخذ والرد. ويكفي أن نذكر عملاقا كابن خلدون ممثلا لتلك الصحوة الأخيرة، التي بها ختم عهد قوي مبدع شديد الوعي بذاته وبما يحيط به.
فماذا بعد ذلك؟
كنا عندئذ قد قطعنا من شوط الثقافة العربية - بعد ظهور الإسلام - تسعة قرون، وكانت قد بقيت، بدءا من لحظة التوهج الأخيرة إلى وقتنا هذا، نحو خمسة قرون. وإني لأزعم أن ثقافتنا العربية - خلال تلك القرون الخمسة - قد جاءت على نمط شديد الشبه في تعاقب مراحله، بالنمط الذي سارت عليه القرون العشرة الأولى، بفارق هام بين الحالتين؛ ففي القديم كان السائد هو صحة الأقوياء، وفي الحديث بات السائد هو مرض الضعفاء، في القديم كان الأخذ عن الآخرين، أخذا يشبه التغذي بالغذاء الذي يزيد الدماء الفتية الشابة فتوة وشبابا، وفي الحديث أصبح الأخذ عن الآخرين أخذا يشبه حقن الكسيح بأمصال لعله يستقيم على قدميه.
فالقرون الثلاثة الأولى من الحقبة الحديثة، وأعني: الفترة الممتدة بين أوائل العاشر الهجري والثالث عشر (وهي المقابلة لما بين أوائل السادس عشر وأوائل التاسع عشر بالتاريخ الميلادي) يمكن النظر إليها على أنها مرحلة قامت بالدور الذي قام به القرن الثاني الهجري، وذلك من حيث هي فترة حاول فيها العربي المسلم أن يتمكن بالدراسة من أصول لغته وأصول عقيدته، على ألا ننسى الفرق بين الحالتين، فشتان بين عالم ينتج العلم إنتاجا مما يشبه العدم، وتلميذ يتناول بالدرس والحفظ والشرح ذلك الإنتاج، فإذا كان القرن الثاني الهجري قد شهد علماء اللغة ينشئون لأول مرة شيئا اسمه علوم اللغة، وشهد فقهاء الدين ينتجون لأول مرة شيئا اسمه علوم الدين، فقد جاءت فترة القرون الثلاثة الأولى من تاريخنا الحديث، لتتعلم علم هؤلاء، وتحاول استيعابه وفهمه وتطبيقه ما كانت لتطبيقه وسيلة.
على أننا نود هنا أن نلحظ شيئا هاما في المقارنة بين فترة القديم المبدع وفترة الحديث الحاكي، وهو أن القديم سار شوطه الثقافي «صعودا» خطوة بعد خطوة، فكانت الخطوة التالية تضيف جديدا إلى ما جاءت به الخطوة السابقة، وأما في الحديث، فقد سارت أمورنا خطوطا تتوازى من أول الطريق إلى آخر الطريق، وكل الاختلاف بعد ذلك هو تفاوت الخط الواحد - قوة وضعفا - بحسب الظروف التاريخية الطارئة حينا بعد حين، فإذا كنا قد جعلنا القرون الثلاثة الأولى في مرحلة الحديث من تاريخنا الثقافي، فلم نقصد بذلك أن طابعها المميز قد انتهى بانتهائها، بل ظل ذلك الطابع قائما فينا إلى يوم الناس هذا، وما هو ذلك الطابع المميز؟ هو أن نقف عند حد الحفظ ومحاولة الفهم والشرح والتطبيق لما أبدعه الآباء الأولون.
وجاء القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) لينقلنا إلى مناخ ثقافي جديد، هو المناخ الذي أصبح فيه للعلم الطبيعي الجديد وجود بيننا، وهو كذلك المناخ الذي أخذ النتاج الفكري في الغرب يتسلل إلينا عن طريق الترجمة. إذن فلقد دخلنا فيما يشبه القرن الثالث الهجري، الذي قلنا فيه إنه فتح النوافذ لتدخل ثقافات الآخرين إلى الساحة العربية. ومرة أخرى ننبه حتى لا ننسى الفارق بين «الروح» السائدة في عملية النقل عن الآخرين في الحالة الأولى، والروح التي سادت تلك العملية نفسها في الحالة الثانية؛ فلقد كنا في الحالة الأولى ننقل لنكون سادة على ما نقلناه، بمعنى ألا ننظر إلى المنقول نظرة الفقير إلى ما ينعم به الأغنياء، بل كنا ننظر إليه نظرة القوي يضيف باختياره قوة إلى قوته، وأما في الحالة الثانية فقد أخذنا ننقل عن الآخرين نقل المعوز عمن عنده القوت.
وفي هذه الخطوة الثانية - شأنها في ذلك شأن ما كان في الخطوة التي سبقتها - جاء الموقف الذي اتخذناه، لا ليزول عند الانتقال بثقافتنا إلى الخطوة الثالثة، بل إنه جاء ليبقى خطا ممتدا مع سائر الخطوط في حياتنا الثقافية إلى يومنا هذا. وإنه لمما يستوقف النظر حقا، عند المقابلة بين تاريخنا الثقافي الحديث، وتاريخنا الثقافي القديم، أنه كما حدث في حقبة القديم أن أخذ «العرب» من المسلمين يحيون التراث الأدبي العربي الذي ورثوه عن العصر الجاهلي، اعتزازا منهم بالثقافة العربية الأصيلة، وبصفة خاصة في الشعر، وذلك في مواجهة «الموالي» - أي جماعة الفرس من المسلمين - الذين أثاروا روح التفاخر بماضيهم الثقافي (وهو ما يسمى في التاريخ ب «الشعوبية»). أقول إنه كما حدث في الماضي من إحياء للثقافة العربية الأصيلة ردا على من كانوا من غير الأرومة العربية يفاخرون بتراثهم، كذلك حدث هذا الإحياء للتراث العربي القديم، مع بدء حركة الترجمة عن الغرب الحديث، وكان ذلك في مدرسة الألسن، برئاسة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، في ثلاثينيات القرن الماضي. وإنما أريد بإحياء التراث العربي أن يوازن ثقافة الغرب المنقولة إلينا بالترجمة.
إذن فهذان خطان في حياتنا الثقافية الحديثة، قد أخذا يسيران متوازيين منذ أوائل القرن الماضي؛ خط يحيي التراث للانتفاع به - أو لكي يقاس فيه - وخط ثان ينقل علوم الغرب وفكر الغرب. وهما الخطان اللذان شطرا حياتنا التعليمية شطرين؛ فشطر منهما يقصر دروسه على ميراثنا من الآباء الأولين، وأما الشطر الثاني فيكاد بدوره يقصر دروسه على المنقول من علوم الغرب وفكره. على أن بين هذين الشطرين نقطة التقاء هي غاية في الأهمية والخطورة، وتلك هي أن الدارس في أي من الشطرين ليس عليه إلا أن يحفظ ويفهم ويشرح ويطبق في الميدان الذي درس فيه؛ فدارس منقولات الغرب يحفظها تماما كما يحفظ دارس التراث ما يقدم إليه من بقايا تاريخه القديم، فلا فرق بين حفظ هنا وحفظ هناك إلا في مادة المحفوظ، فلا أهل التراث أبدعوا كما أبدع آباؤهم الذين خلفوا لهم ما خلفوه، ولا أهل المنقول عن الغرب أبدعوا وأضافوا الجديد كما يفعل من نقلوا عنهم ما نقلوه.
ومع ذلك فقد انتقلت حياتنا الثقافية الحديثة إلى خطوتها الثالثة التي تقابل الخطوة المشابهة لها في تاريخ القدماء، وأعني بها خطوة «النضج» الذي تكاملت به الثمرة بعد مزج الوافد والأصيل في كيان ثقافي واحد، وهو النضج الذي وصفنا به حياة الأولين خلال القرن الرابع الهجري مع امتداد له في القرن الخامس (العاشر والحادي عشر بالتاريخ الميلادي). وأما في حياتنا الحديثة فمرحلة النضج الذي نشأ من مزج الثقافتين؛ الموروثة والمنقولة، فهي على وجه التحديد في عشرينيات هذا القرن مع امتداد في ثلاثينياته؛ فها هنا نجد أعلاما في شتى الميادين، كان أهم ما يميزهم الجمع الواعي بين الثقافتين؛ الموروثة والمنقولة، جمعا أتاح لهم أن تنقدح في أذهانهم وفي وجدانهم - نتيجة لتفاعل الثقافتين - شرارة الإبداع؛ فلأول مرة في تاريخ الثقافة العربية، ظهرت الرواية (قبل العشرينيات بقليل) وظهرت مسرحية الشعر، ومسرحية النثر، ولأول مرة في تاريخ الثقافة العربية في عصرها الحديث، ظهرت الفنون التشكيلية من تصوير ونحت، ولأول مرة سارت حركة النقد في اتجاهها الجديد، ودع عنك تلك الشعلة الملتهبة التي ظهر نورها في عشرينيات القرن وثلاثينياته من صراخ ينادي بحقوق الإنسان في الحرية، وفي العدالة وفي الفردية.
ولكننا نحذر مرة ثالثة من أن نسوي من حيث المضمون الثقافي، بين مرحلة النضج عند السلف ومرحلة النضج الحديثة التي أشرنا إليها، وإلا فأين فينا من هو أبو العلاء المعري؟ وأين فينا من هو ابن سينا؟ فالتشابه الذي نشير إليه بين القديم والحديث إنما هو تشابه لا يعدو الشكل الظاهري في تتابع الحلقات من السلسلة الواحدة.
كنا - إذن - إلى خاتمة الأربعينيات من هذا القرن، فيما جعلناه مرحلة النضج الثقافي، الذي عرف كيف يجمع تراثا عربيا إلى جديد آت من الغرب، وهو الشبيه المقابل لما حدث في القرن الرابع الهجري ممتدا إلى القرن الخامس، وهنا بالنسبة إلى تاريخنا الحديث. نشبت الحرب العالمية الثانية، فخرجنا منها كما خرج العالم بأسره، والروح تنتفض فزعا، وتلتهب رغبة في أن يتغير مجرى التاريخ. وكان من أهم جوانب التغير المطلوب في شتى الأقطار التي كانت حتى ذلك الحين ترزح تحت نير التسلط الغربي بأسمائه المختلفة، من حكم فعلي يسيطر به الاستعمار الغربي على هذا البلد أو ذاك، وإلى احتلال، إلى انتداب ، وما شئت من أسماء أخرى، تختلف لغة وتجتمع كلها عند معنى واحد، وهو أن يكون للغرب الأوروبي والأمريكي سيطرة على سائر أقطار الدنيا إلا قليلا منها، فكانت الرغبة حامية في نفوس الأقطار المغلوبة على أمرها، في أن تتحرر وتستقل وتصبح دولا ذوات سيادة، وهذا بالفعل ما أخذ يتحقق بسرعة غريبة. وجاء ذلك التحرر للشعوب في الوقت نفسه الذي اتجهت فيه القلوب والأنظار نحو أن ترتبط أمم الأرض في هيئة متحدة، تتولى حل مشكلاتها بطريق غير طريق الحرب؛ ومن ثم سارت تلك الأمم في ازدواجية تلفت النظر؛ فكل أمة منها ترسل وفودها إلى هيئة الأمم المتحدة وكأنها متحدة حقا، لكن كل أمة منها - في الوقت نفسه - تعمل جهدها على أن تعلن قوميتها الخاصة المتميزة لغة، وثقافة، وثيابا، وكل شيء؛ فبمقدار ما تجمعت الشعوب، عادت وتفرقت حرصا من كل شعب على سلامة هويته.
ولم تشذ عن ذلك الاتجاه العام، الأمة العربية بكل شعوبها، فبدأت موجة ثقافية - أو قل إنها قويت واشتد دفعها - وهي الموجة الرافضة لثقافة الغرب، والرافعة لواء ثقافة قومية خالصة، ولكن من أين يبدأ العمل على تنفيذ هذه الرغبة؟ يبدأ بإحياء الدين في قلوب الناس، وفي عقولهم، وفي سلوكهم، وفي اعتزازهم بأنفسهم. ومع الدين يجيء إحياء اللغة العربية كما عرفها الآباء الأولون، وتجيء كذلك تقاليد الماضي، والإشادة بأبطال الماضي، إلى آخر هذا الاتجاه القومي. وبالبداهة تتجمع جماهير الشعوب وراء دعوة كهذه؛ إذ هي - على الأقل - تساير ما قد ألفوه وعرفوه. وهكذا جاءت مرحلة الرفض التي تقابلها قديما وقفة الغزالي وابن تيمية ومن ذهب معهما في هذا الاتجاه.
لكننا قد أسلفنا القول بالنسبة إلى مرحلة الرفض في تاريخنا الماضي، بأنه من الطبيعي أن ينهض من يقاومها، وتكون هذه المقاومة عن طريق أضواء تصب على الثقافة الأجنبية المرفوضة؛ لبيان وجهة النظر الأخرى، التي ترى الصحة والصواب في تقبل الغذاء الفكري من أي صوب جاء. وأخيرا يصحو من غفل وسها، فتكون يقظة، وهذا بعينه ما حدث في تاريخنا الحديث؛ إذ ما هي إلا أن ارتفعت أصوات تصحيح الخطأ. على أن ذلك لم يفلح حتى اليوم - واليوم هو أواخر الثمانينيات - لم يفلح في أن تعتدل كفتا الميزان.
ومع ذلك؛ فمن ذا الذي يتعقب المسيرة الثقافية العربية، ولا يتوقع في رجحان شديد، أن يتحقق في مستقبل قريب اعتدال الكفتين في إطار ثقافي موحد جديد؟
صورة مصغرة
1
أما العربي المشار إليه في هذا العنوان، فهو هذا الكاتب الذي تلاحقت الأعوام على طريق عمره عقودا عقودا، ولم يكد العقد الثاني منها ينتصف، عندما أخذت مراهقة حياته تتحول إلى شباب، حتى بدأت رحلته الجادة على أرض فرشت بأشواك وحصوات، لا تخلص يمنى قدميه من شوكة تثقبها إلا لتقع اليسرى على حصاة ترميها، لكن الطريق بكل ما ملأها من الشوك والحصى، تكشفت مع نضج الشباب وصلابة إرادته ووضوح هدفه، عن حياة اختارت لنفسها أن تكون حياة علم وتعليم، وثقافة وتثقيف، وقراءة وكتابة، منذ بواكير العشرينيات من عمرها، وإلى هذه اللحظة التي يمسك صاحبها بالقلم ليكتب ما يلخص به للقارئ ما كان قدمه إليه في ستة وعشرين حديثا، صممت خطتها قبل أن تبدأ، لتصور وقفة صاحبها بين محصول ضخم من خبرة عقلية وعاطفية، جاءته من ينابيع الثقافتين؛ العربية والغربية. وقد مضى عليه حتى اليوم ثلاثون عاما امتدت به من سنة 1960م إلى الآن، وهو يلتمس لنفسه طريقا يطمئن إليها نفسه وعقله معا، تمكنه من رؤية موحدة ينسج خيوطها من واقع خبرته الحية في دنيا العلم والثقافة، لا يبالي من أي الثقافتين جاءت خيوطها، شريطة أن يجد نفسه آخر الأمر، أمام رقعة أحكم نسجها بحيث شملت بين لحمتها وسداها، خيوطا تقوي في كيانه عناصر هويته مصريا عربيا، وخيوطا أخرى تجعل من ذلك الكيان البشري إنسانا أصلح ما يكون الإنسان في مشاركته الإيجابية لأداء دوره في حياة عصره الذي خلق ليعيش فيه.
وكان هذا الكاتب قد خلص لنفسه إلى مثل هذه الرؤية الموحدة الواحدة، التي يجد أنه بها هو المصري العربي الإنسان الذي يأخذ من عصره ويعطيه. نعم، إنها رؤية عرفنا أشباهها في أعلام حياتنا الثقافية الحديثة، منذ رفاعة الطهطاوي حتى طه حسين، إلا أنه يبلغ من جحود لنعمة الله عليه، مبلغ الجحود الذي يتجاهله به كثيرون إذا تناسى ما قد أداه في سبيل التعبير عن تلك الرؤية، تعبيرا جاء في دقة تحليله، وفي سعة فيضه، وفي درجة شموله لأركان الحياة، على صورة لم تسبقها صورة أخرى تنافسها؛ فمنذ أصدر سنة 1970م كتابه في «تجديد الفكر العربي»، وإلى هذه المجموعة الأخيرة من أحاديث «عربي بين ثقافتين» أخرجت له المطبعة أكثر من عشرين كتابا، تدور كلها حول هذا الموضوع الواحد، وهو البحث عن عناصر الرؤية الجديدة وكيف تنسج، ولن يغير جحود الجاحدين من حقيقة الأمر شيئا. ولعلي لا أجاوز حدود المصلحة العامة من أجل منفعة شخصية، إذا ذكرت للقارئ نبأ قد يكون له مغزاه، وهو أن هذا الكاتب قد حدث له أن كتب وهو في أمريكا أستاذا زائرا خلال العام الجامعي 1953-1954م، عما وجده - ولم يكن يعلم بوجوده - هناك من نظام يتيح للمقالات التي يكتبها كبار الكتاب أن تنشر في عدة صحف تصدر في عدة ولايات في آن واحد، وعندئذ تمنى هذا الكاتب أن يرى نظاما كهذا في الوطن العربي، فتصدر مقالة يكتبها طه حسين أو العقاد في صحف القاهرة وسائر العواصم العربية في صباح واحد، والعكس صحيح بالطبع، وهو أن تصدر في صحف القاهرة مقالة الكاتب الكبير في أي من العواصم العربية، في وقت واحد مع صدورها في صحيفة بلده. كان هذا ما تمناه هذا الكاتب منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما، ولم يكن يدري وقتئذ أن الزمان سيمضي به نحو أربعة عقود، ليرى أن ما قد تمناه في ذلك اليوم البعيد لكبار الكتاب في الوطن العربي قد تحقق في شخصه هو، وكأنه حلم الأمس تفسره أحداث اليوم؛ فمقالته في صحيفة الأهرام بالقاهرة تنشر - باتفاق مع الأهرام - في صحف أربعة أقطار عربية في صباح ظهورها بالقاهرة. ولم يكن للكاتب بشخصه أي جهد، يبذله في تحقيق ذلك؛ فلم يخط خطوة واحدة ليسعى، ولم يتحدث مع إنسان واحد بكلمة واحدة ليقترح، بل لعله سمع بالنبأ بعد أن وقع الحدث. وإنها لسعادة ليس له سعادة بعدها أو قبلها، أن يرى أقطار وطنه العربي قد أرادت أن تقرأ كلمته ساعة ظهورها. وكم كان يتمنى ألا يمتري لسانه في هذه الحالة من الرضى عن النفس بقطرات من حنظل النكران والجحود، ينثرها هنا قلم أو يدل عليها صمت أبكم!
كانت سلسلة الأحاديث الأخيرة التي قدمها «عربي بين ثقافتين» مؤلفة من ست وعشرين حلقة، تعاونت كلها على رسم «رؤية» واحدة تصور وجهة النظر التي يرى الكاتب بها كيف يمكن للعربي أن يحيا عربيا معاصرا لزمنه، أو قل مشاركا في بناء عصره. وقد شملت هذه الوجهة من النظر تسع زوايا، تفرقت في حلقات السلسلة على نحو ربما لم يكن القارئ من تعقب الروابط التي جعلت من الأحاديث فكرة واحدة، وفيما يلي صورة مصغرة تجمع للقارئ ما قد تفرق وتناثر. (1)
كانت النقطة الأولى فيما أدرنا حوله الحديث، وهو حديث هدفه أن يستطلع صورة الصيغة المقبولة لحياة العربي الجديد، إذا أريد لتلك الحياة أن تحقق للعربي هويته العربية، وأن ترهف قدراته - في الوقت نفسه - تجاه العصر وحضارته، على أن يندمج الجانبان في شخصية منسقة متكاملة، هي شخصية العربي الجديد، أقول إن النقطة الأولى في هذا السبيل، كانت عن «المبادئ» وطريقة النظر إليها؛ فأحق شيء بالبحث، عندما يكون الهدف هو الكشف عن طبيعة الحياة الثقافية من أي جانب من جوانبها، أو من مجموعة تلك الجوانب متكاملة بعضها مع بعض في كيان واحد، هو أن نبحث وراء التفصيلات الكثيرة الطافية على سطح الحياة العملية الجارية كما هي مرئية مسموعة، عن «المبدأ» الذي يضم جميع تلك التفصيلات في كيان منضبط بقواعد وقوانين، وذلك لأن الوقوف عند تلك التفصيلات، قد يمكن الباحث من الوصول إلى ضرب من المعرفة يشبه ما يسمى بالتاريخ الطبيعي لظاهرة معينة من حياة النبات والحيوان، بمعنى أن يقتصر الباحث على تنظيم الشواهد والمشاهدات، وتبويبها، وتنسيقها في صورة تروي كيف ينمو الكائن الموضوع تحت البحث، وكيف يتكاثر وكيف يثمر، وكيف يدير حياة نفسه وقاية من الأخطار، وجمعا للغذاء وهكذا. لكن مثل هذا التاريخ الطبيعي لموضوع البحث، برغم تقديمه صورة متماسكة الأطراف، تعين على معرفة موضوع البحث، فهو لا يقدم الأساس، أو العلة الأولى، التي «تفسر» تلك الحياة، وتعلل وجودها وطريقة سيرها، فإذا أردنا - إذن - أن «نفهم» الثقافة العربية من جهة، وثقافة الغرب في عصره الراهن من جهة أخرى فهما يساعدنا على أن نتبين إمكان اللقاء أو استحالته، كان علينا أن ننفذ بالبصائر خلال تفصيلات الحياة الثقافية هنا وهناك، لعلنا نكشف عن «المبادئ» الأولى التي أنبتت تلك الفروع الكثيرة البادية للعين في حياة الناس الظاهرة، وأن نكشف كذلك عن نظرة الإنسان إلى تلك المبادئ، من حيث ثباتها أو قابليتها للتغير.
وفي سبيل كشفنا عن هذه الحقائق، رسمنا بادئ ذي بدء صورة هيكلية للسلوك البشري، كما يراها علماء علم النفس المعاصرون، فاكتفينا من ذلك بعرض الوحدات البسيطة التي ينحل إليها سلوك الإنسان بكل مركباته ومقوماته، فإذا بالوحدة البسيطة الواحدة تتألف من ثلاث حلقات؛ الأولى هي «المثير» أي العامل الإدراكي الذي يتلقاه الإنسان من محيطه، كأن يسمع صوتا، أو يرى ضوءا، أو يشهد حشرة ... إلخ. والحلقة الثانية هي طريقته الداخلية في مواجهة هذا الذي رآه - أو سمعه - وتلك الطريقة هي محصلة تربيته. ومع اختلاف العوامل التربوية في البيت والشارع والمدرسة ... إلخ، يختلف أسلوب التلقي قبولا أو رفضا أو حيادا. والحلقة الثالثة هي النمط السلوكي الذي يرد الفعل ردا يجعل ذلك السلوك متوائما مع المثير الخارجي وما أحدثه في النفس من حالة الرضى أو الفزع.
وعلى أساس هذه الخريطة للوحدات الهيكلية في السلوك البشري، رأينا أن مكمن السر في خصوصية الوقفة الثقافية عند الفرد الواحد، أو عند شعب في مجموعه هو في الحلقة الوسطى؛ فالفردان من ثقافتين مختلفتين، قد يشتركان في مثير واحد كأن يفاجئهما معا حيوان مفترس، فتجيء الحلقة الوسطى التي تختلف في أحدهما عنها في الآخر، فتحمل أولهما على الفرار التماسا للسلامة، وتحمل الثاني على محاولة اصطياد الحيوان طمعا في فرائه الثمين. وقريب من هذا المثل، ما يحدث في دنيا السياسة، فيعتدي مستعمر على إقليم معين ابتغاء سلبه لخيراته، وها هنا قد تحمل الحلقة الوسطى أهل إقليم معتدى عليه، تحمله على أن ينكمش أمام المعتدي حفظا للأرواح، في حين تدفع الحلقة الوسطى عند شعب آخر على مخاطر المقاومة حتى ولو فني أفراد الشعب جميعا. ونستطيع أن نستطرد في ضرب الأمثلة حتى تشمل الحياة الثقافية في جميع ميادينها؛ السياسية وعلاقة الحكومة بالشعب، الفن وما هو مقبول منه وما هو مرفوض، معاملة الحيوان الأليف والنظرة إلى الموت، الاهتمام بالطبيعة في مختلف ظواهرها ... إلخ ... إلخ، فحاصل الجمع لصور السلوك تجاه هذا كله، هو «ثقافة» الشعب من جانبها الفعلي، الذي يعود بدوره فينعكس في ثقافة المبدعين من ذلك الشعب أنغاما وشعرا، ورواية وحكمة وتصويرا وغير ذلك من صور الإبداع.
وإن مضمونات الحلقة الوسطى هذه، لا تأتي من فراغ، بل هي - كما أسلفنا - وليد التربية والنشأة. وهذه بدورها لم تولد من لا شيء، بل استحدثتها «مبادئ» غرست في ضمير الإنسان غرسا نتيجة لمجموعة الأوامر والنواهي.
وعند هذه «المبادئ» نقف وقفة قصيرة فنسأل: أيجوز للإنسان - فردا أو شعبا - أن يغير من تلك المبادئ وفق ما يقتضيه ازدهار الحياة العملية؟ وعن هذا السؤال يجيئنا جوابان؛ فللعربي في جملته جواب بالنفي القاطع؛ لأن تلك المبادئ إنما هي محاور الحياة كلها، وهي ليست من صنع جيل واحد أو جيلين، بل هي مسيطرة من أول يوم في تاريخ الشعب، ثم هي ليست من صنع أحد من الناس، بل هي أوامر ونواه جاءت للناس وحيا عن طريق الأنبياء والرسل. وأما جواب إنسان الغرب في عصره هذا - لم يكن كذلك دائما - فهو أن مبادئ الحياة متساوية في موقعها مع مبادئ البحث العلمي ؛ فكما يبدأ البحث العلمي في ظاهرة معينة بافتراض ما يفسر تلك الظاهرة ويستخرج قانونها، فإذا أفلحت نتائج ذلك البدء الافتراضي، كان بها، وإلا فلا حرج في أن نستبدل به بدءا آخر لعله يعين على نتائج أفضل وأقرب إلى الصواب، فكذلك يكون الأمر في نقاط البدء عند مواجهتنا لمواقف الحياة العملية (وما «المبادئ» إلا نقاط بدء) بمعنى أننا إذا توارثنا مبدأ في الحياة وتبين لنا نجاحه فيما أردنا أن ننجح فيه، كان بها. وإلا فلا حرج في أن نستبدل به مبدأ آخر.
هاتان هما الوقفتان؛ وقفة العربي المتوارثة، ووقفة إنسان الغرب في هذا العصر. والرأي المقترح من هذا الكاتب إزاء هذا الاختلاف، مؤسس على أن موضوع الاختلاف الحقيقي بين الطرفين، هو أنه بينما يجعل العربي مبادئه ضمن اختصاص الحلقة الوسطى من البناء الهيكلي للسلوك - كما سبق أن عرضنا - نجد إنسان الغرب يضع مبادئه ضمن محتوى الحلقة الأولى؛ أي أن العربي يجعل مبادئه جزءا من ضميره، في حين يجعل إنسان الغرب مبادئه جزءا من مدركاته للمثيرات التي يتلقاها من محيطه. وإذا كان هذا هكذا فلنتناول بالفحص الدقيق تلك المبادئ التي وضعها العربي موضع تقديس، لموقعها من حياته الوجدانية، لعلنا واجدون أن ما يصدق على بعض تلك المبادئ لا يصدق على بعضها الآخر؛ فليس من شك أن فيها ما قد ورد أمرا أو نهيا في العقيدة الدينية، وفي هذه الحالة وجب أن تبقى حيث هي، جزءا من الضمير لا يقبل التغيير. لكن قد يكون هناك مبادئ أخرى، لم تكن وحيا من الوحي، بل أنشأتها الحياة العملية في عصر معين، وعندئذ يجوز لعصر آخر أن يزحزحها من موضعها في الحلقة الثانية؛ لتحال إلى متغيرات الحلقة الأولى. وأمثلة ذلك كثيرة في علاقاتنا الاجتماعية بين حكومة وأفراد، بين أفراد وظواهر الطبيعة، بين نظم التعليم، ونظم الحكم النيابي، ونظم الزراعة والصناعة والتجارة. ومن ذلك كله ننتهي إلى النتيجة الآتية، وهي أن الفجوة القائمة اليوم بين العربي وعصره، من الناحية الثقافية والحضارية، تضيق - بدرجة ملحوظة - إذا أخرجنا المبادئ التي لا علاقة لها بعقيدة دينية، والتي أثبتت التجارب بأنها عوامل ضعف وليست عوامل قوة إذا أخرجناها من دائرة الضمير الوجداني ومكوناته، لتصبح جزءا من متغيرات الإدراك، ليكون من حقنا أن نغير فيها ونبدل بغير حرج ولا تأنيب ، ما دامت قوة الحياة العملية تقتضي ذلك التغيير والتبديل. (2)
إذا كان مرادنا صيغة ثقافية للعربي الجديد، تجمع له هويته التاريخية التي ميزته عربيا ذا نمط فكري ووجداني وسلوكي معين، إلى قدرة تضاف إلى ذلك كله للمشاركة في عصره مشاركة إيجابية، يأخذ بها من عصره ويعطيه؛ بحيث يندمج التاريخي المأثور مع الحديث المكتسب دمجا عضويا لا تكلف فيه ولا تصنع. أقول: إنه إذا كان ذلك هو مرادنا في مجال الثقافة القومية، فربما أعاننا على سداد التفكير ووضوحه، أن نرسم لأنفسنا صورة عن العربي في هويته التاريخية أولا، ثم نعقب عليها بصورة أخرى نبرز فيها تلك العناصر الأساسية التي جعلت العصر الحاضر هو ما هو. وبعدئذ ننظر كيف نضع العربي التاريخي في عصره، فنرى ماذا يحذف منه وماذا يضاف.
ولقد عرضنا في أحاديثنا بشيء من التفصيل العناصر الأساسية التي أقامت للعربي التاريخي بنيته الثقافية على مدى تاريخه. وهي بنية شاركت فيها الرقعة الصحراوية كلها، من المحيط الأطلنطي إلى الخليج العربي. ولم يمنع هذه المشاركة الشاملة أن يكون الامتداد الصحراوي المذكور مخضرا بالزرع في الواحات ووديان الأنهار. اللهم إلا أن نجد في الوديان بصفة خاصة - وفي مقدمتها وادي النيل - مزيجا أخلاقيا مركبا من مؤثرات الحياة الزراعية المستقرة ومؤثرات الحياة البدوية المترحلة. ومن هذا التجانس - الغالب بين أبناء البيت الصحراوي العظيم - أرسي أول عماد من عمد الرؤية الثقافية في أرجاء هذا الامتداد المترامي. وكان ذلك العماد القوي المتين وليد الطبيعة الصحراوية من جهة، والوحي الديني عن طريق الرسل والأنبياء - حيثما ظهروا - من جهة أخرى؛ فبحكم الأثر الذي تخلفه الصحراء في نفس ساكنها، يغلب على هذا الساكن، وقد رآه محوطا بأبعاد من أرض وسماء يسودها ثبات نسبي في المعالم المادية - وفي حالات الجو. ومع الثبات النسبي فيما يشاهده ساكن الصحراء وما يحسه، جاء انطلاق البصر إلى ما ليس له نهاية إلا الآفاق تظهر بعدها آفاق، أينما توجه البصر؟ ومن هنا كان الأرجح أن تنطبع نفس الصحراوي بحالة تؤهله لتقبل اللانهائية في الوجود مكانا وزمانا، مقرونة بفكرة الديمومة الخالدة لذلك اللامتناهي، ثم جاءت ديانات اختلفت مصادرها على امتداد التاريخ، إلا أنها اتفقت جميعا في عنصر جوهري مهم، وهو الحياة الآخرة بعد هذه الحياة الدنيا، ثم أن تقام الموازين يوم الحساب، لينال الإنسان، ما هو خليق بما قد عمل في حياته بمقدار ما يرجح به ميزانه أو يخف.
ومن هذا الأساس الجوهري غرست في نفس الصحراوي - أينما كان موطنه من أطراف هذا الوعاء الصحراوي الواسع الأرجاء - طريقة للتفكير، تبدأ بطرح حقيقة مجردة عامة، ثم تجيء بعد ذلك استدلالات استنباطية تتولد منطقيا من تلك الحقيقة المبدئية المطروحة. وجدير بنا في هذا الموضع أن نستبق الإجابة عن سؤال قد يلقيه على نفسه سائل فيقول: ولكن أليس ابتداء العملية الفكرية مما هو مجرد وعام، نزولا إلى ما يتولد عنه من نتائج تستنبط منه هو أيضا ما تميز به الفكر اليوناني القديم، الذي شق للثقافة في الغرب طريقا غير طريقنا؟ والإجابة هي نعم ولا، أما نعم فهي لأن ذلك بالفعل ما قد غلب على الفكر اليوناني، وعلى أساسه أقيم المنطق الأرسطي لهم ولنا ولكل آناء الزمان. وأما «لا» فلأن ثمة فرقا بين أسلافنا واليونان في ذلك، وهو أن الحقيقة العامة المجردة التي يطرحها اليوناني يستدل منها، هي من عنده هو، لا يلوم غيره بها، وبذلك قد تختلف من مفكر إلى مفكر آخر، وبالتالي تختلف النتائج. وأما عند أسلافنا في أقطار البيت الصحراوي العظيم، وعلى تعاقب الحضارات، فقد كانت الحقيقة الأولية المطروحة في تجريدها وشمولها، مأخوذة - على الأغلب - عن عقيدة جاء بها وحي، أو فرضت على الناس لتكون موضع إيمانهم الديني، أو منقولة عن سلف أحاطهم القدم بشيء من التقديس لا يدع للمحدثين فرصة الشك في صوابه.
وكان ميلنا نحو الفكر المجرد، الثابت ثباتا نسبيا على مر الزمن، متفقا مع عقيدتنا الراسخة في حياة آخرة وفي يوم للحساب (والحديث هنا منصرف إلى المنطقة الشرق أوسطية، منذ الحضارة المصرية القديمة فآتيا مع عصور التاريخ)؛ ومن ثم أمكن لتلك الوجهة من النظر أن تكون هي أعمق الينابيع إيحاء للفنان، وللأديب وغيرهما من مبدعي الثقافة بشتى أشكالها؛ فالفنان أقرب إلى استلهام الحقيقة المجردة في دوامها ولامحدوديتها، منه إلى استلهام الحقائق الجزئية العابرة، يصدق هذا في التصوير وفي الشعر وفي صور الإبداع الأخرى، فإذا رسم المصور المصري القديم، اكتفى بالخطوط الإطارية للجسم الذي يصوره. وإذا رسم الفنان العربي فيما بعد، فهو قد تبلغ به نزعته نحو التجريد حد الأشكال الهندسية يؤلف منها زخارفه، والأشكال الهندسية هي غاية ما يصل إليه التجريد. ودقق النظر في الذوق العربي الأصيل في الإبداع الأدبي، تجد الجرس في نبرة اللفظ، والإيقاع في توازن النغمات، تصادف الإعجاب الفوري عند السامع، إعجابا قد لا ينتظر صاحبه ليرى إن كانت تلك الألفاظ المنغومة قد حملت معنى أم جاءت خاوية. وإذا كانت موسيقية اللفظ، مفردا ومركبا، هي أساسا وهدفا عند الأديب العربي، كان معنى ذلك أن مبدأ «التجريد» غالب عليه فكرا وفنا وأدبا.
وغلبة التجريد على الرؤية العربية، قد تتحقق في مواضعها الصحيحة، فتعلو درجة الإبداع، وقد يساء استخدامها فتهبط تلك الدرجة إلى ركاكة وخواء. وانظر إلى العربي حين يوفق في تكثيف خبرته بالحياة في أقوال حكمية قوية السبك، حسنة الإيقاع، سهلة الحفظ، عميقة المعنى، أو تكثيف خبرته في شعر محكم لا ترد فيه لفظة واحدة لغير هدف في البناء الشعري. ولعل هذه الرغبة الفطرية عند العربي في الإيجاز المكثف، الذي يسهل حمله في الذاكرة وهو يجوب الصحراء على ظهر بعيره، تكون مميزا عاما يميز اللغة العربية من حيث هي لغة بالقياس إلى اللغات الأخرى؛ إذ هي تعرف كيف تطوي مجموعات مفرداتها عناقيد عناقيد، تحت أصول «ثلاثية» (على الأغلب) لكل أصل ثلاثي منها أسرته اللفظية الكبيرة التي تنبثق من أرومته، كما تنتمي شجرة الأنساب الضخمة إلى جد واحد، أو كما تتبع القبيلة شيخها.
نحن - إذن - مع ثقافة العربي (مع توسع في معنى كلمة «عربي» ليشمل الرقعة الصحراوية من خليجها إلى محيطها، ويشمل الثقافات الشرق أوسطية من قديمها إلى حديثها، لما فيها من تجانس في الأصول ، برغم ما يتعرض له هذا التعميم الواسع لكثرة الاستثناء واحتمال الخطأ).
أقول: إننا - إذن - مع ثقافة العربي في رؤية جمعت على نحو فريد، شيئا من خصائص الوجدان الذاتي في انطباعاته وميوله؛ إذ العربي كما عرضناه، يجد طمأنينة نفسه وهو في مجال التفكير العقلي، إذا رأى نفسه أمام نص يتمتع بصدق مقبول، لما يستند إليه من أسناد موثقة، فيتناول هو هذا النص بتحليلات تخرج عناصره المكنونة في بنيته اللغوية، إلى علانية النتائج ليراها كل ذي بصر. وإننا لواجدون في هذه الوقفة الاستنباطية، التي تبدأ بما يضمن ثبات الصدق من أقوال مأثورة لتنتهي إلى ما يثبت صدقه بالتبعية الاستدلالية. أقول: إننا لواجدون في هذه الوقفة ما يشبع خصوصية الذات عند اختيار المقدمات المسلم بصدقها، وما يشيع - في الوقت نفسه - موضوعية العقل في النتائج التي تم توليدها من مقدماتها بمنطق علمي سليم. وفي هذا الالتقاء في الموقف الفكري الواحد، لما هو ذاتي وما هو موضوعي في آن معا، أميز ما يميز الثقافة العربية، فلا النزعة الذاتية استوعبتها، ولا استطاعت الموضوعية أن تنفرد بالسيادة، وهو التقاء يتحقق على نحو ما في الفن العربي وفي الأدب العربي؛ ففي الفن يرسم الفنان ما يرسمه في أطر رياضية، هندسية التكوين، وفي الأدب يحرص الشاعر أو الناثر إذا أراد نثرا أدبيا تصب العبارات في قوالب هندسية كذلك، ثم تضاف موسيقية النغم، وفي هذا وذاك، محاولة - غير مقصودة ربما - لأن يكون للذاتية نصيبها في نفس الوضع الذي يكون للموضوعية فيه مكانها، فإذا كان تاريخ الثقافات القديمة قد أوشك أن يفصل الموضوعية العلمية ليجعلها نصيب اليوناني القديم، عن الذاتية الصوفية والفنية ليجعلها نصيب الشرق الأقصى، فقد جاءت الثقافة العربية لتستعصي على هذا التقسيم، لكونها موضوعية ذاتية معا في كل موقف (وهذا تعميم يقبل استثناءات). ولم يكن غريبا - إذن - أن يقبل العربي فلسفة اليونان وعلمها إلى آخر مدى، وأن يقبل تصوف الهندي والفارسي إلى آخر أعماقه (وكانت فارس من الناحية الثقافية أقرب إلى الشرق الأقصى). على أن العربي لم يعزل موضوعية العلم في فرد، وذاتية المتصوف أو الفنان في فرد آخر، بل كانت عبقريته في جمعهما معا في الموقف الواحد، كما أسلفنا.
وعلى هذا الأساس نخطئ إذا حسبنا العربي في ثقافته «شرقا» كما نخطئ كذلك إذا حسبناه «غربا»؛ لأنه شرق غرب معا، على نحو ربما انفرد به دون غيره. وهنا يجيء سؤال يطرح نفسه، قائلا: وماذا ينقص العربي - إذن - مما يحول بينه وبين أن يشارك في حضارة عصرنا، التي هي حضارة أساسها العلم الطبيعي بصفة خاصة، وإذا كان العربي مفطورا على موضوعية العلم، فهو مؤهل لعصره، ثم يزيد على عصره بالجانب الذاتي في رؤيته، فأين تكمن الحوائل التي حجبته عن عصره، أو حجبت عصره عنه؟
وهو سؤال تجيء الإجابة عليه فيما نعرضه عن خصائص هذا العصر في حديثنا التالي.
2 (3)
ذكرنا فيما سبق نقطتين من نقاط تسع، نرسم بها صورة مصغرة لأحاديث «عربي بين ثقافتين»، كانت أولاهما توضيحا لوجه الاختلاف بين العربي في نظرته إلى شئون حياته، من جهة، وإنسان الغرب في عصره القائم، وذلك فيما يختص ب «المبادئ». وعرضنا وجهة نظرنا في طريقة دمج وجهتي النظر في كيان ثالث، يصون للعربي هويته، ويتيح له في الوقت نفسه قدرة على مواجهة عصره بما يتفق مع ظروف الحياة التي استحدثت فيه. وكانت النقطة الثانية فيما أسلفنا ذكره، خاصة بتحليل الشخصية العربية الأصيلة، تحليلا يبين بعض ملامحها الأساسية التي لا بد لنا من الحفاظ عليها حفاظا لا يترك فرصة أمام قوة العصر لتمحو شيئا منها. ولقد رسمنا هذه الصورة لشخصية العربي، لنرى كيف تستطيع الحياة في عصر الناس هذا، وأن تشارك في بنائه، دون التفريط في شيء من معالمها، فكان من الضرورة أن نتبع تلك الصورة بصورة أخرى نصور بها هذا العصر ببيان ملامحه الكبرى، وهذا هو سبيلنا الآن في هذه النقطة الثالثة.
وإن الصورة المطلوبة لتشتد وضوحا وإيضاحا، إذا قلنا عن تاريخ الغرب الحديث كله، وهو تاريخ يمتد نحو خمسة قرون (من أول القرن السادس عشر إلى آخر القرن العشرين)، إنه قد تميز مما سبقه إبان ما يسمى في التاريخ الأوروبي بالقرون الوسطى بإضافة العلوم الطبيعية ومناهجها إلى دنيا العلم، كما عرفها أهل تلك العصور الوسطى، وما سبقها من عصور قديمة؛ إذ كانت الوقفة العلمية خلال ذلك الدهر الطويل - الذي لبث نحو خمسين قرنا - تقتصر نظرتها العلمية على توليد النتائج من معرفة سابقة تؤخذ مأخذ التسليم. وكان العلم الرياضي في ذروة ذلك النوع التوليدي من ضروب العلم؛ إذ تبنى الرياضة - كما هو معلوم - على مسلمات تؤخذ بغير برهان، لكي تنحصر العملية العلمية بعد ذلك في استخراج ما يترتب على تلك المسلمات. وأما ما هو خاص بالكون وظواهره وقوانينه فقلما حاول العلم اقتحامه، اللهم إلا أفرادا من العلماء، مهما كثروا فهم قلة قليلة لا تساوي في عددها جماعة العلماء في مدينة واحدة، خلال جيل واحد، في عصرنا الراهن، فكان اعتماد الإنسان في معالجته لأمور الواقع وضروراته، قائما على «خبرة» الخبراء بالممارسة العملية في ميدان معين. إذن فليس إسرافا في القيم أن نقول عن «العلوم الطبيعية» ومناهج البحث في ميادينها، من حيث هي ظاهرة تسود العصر لتطبعه بطابعها، ولا تقتصر على أفراد تناثروا في أقطار الدنيا عبر القرون. إنها ظاهرة ولدت في أوروبا عند منحنى الزمن الذي دخل به تاريخ الإنسان الأوروبي عصره الحديث.
لكن القرون الخمسة التي امتدت من النهضة الأوروبية إلى يومنا هذا، لم تكن كلها على صورة واحدة في تصورها لل «طبيعة» وظواهرها، وهو تصور له أثره الفعال على الإنسان وهو يحاول قراءة تلك الظواهر لاستخراج قوانينها. والذي يهمنا الآن في اختلاف التصور على النحو المذكور، هو ما قد حدث في هذا الصدد ليجعل من القرن العشرين عصرا علميا فريدا قائما وحده بخصائصه المميزة، دون القرون السالفة عليه في التاريخ الحديث. وكان أساس التغير في عمق أعماقه يرجع إلى تحول في تصور النابغين من رجال الفكر خلال القرن الماضي، لحقيقة الكون وكائناته؛ فبعد أن أقيم العلم فيما انقضى من قرون التاريخ الحديث، على فكرة القصور الذاتي لجميع الكائنات - ربما يستثنى منها الإنسان وحده - بمعنى أن الكائن الطبيعي أيا كان نوعه، قاصر بذاته على أن يغير من حالته من حيث الحركة والسكون، فهو إذا كان متحركا - في اتجاه معين - لبث على حركته تلك إلى أبد الآبدين، إلا إذا صادف عاملا خارجيا يصدمه فيغير مساره. وكذلك إذا كان هنالك كائن في حالة سكون، فهو يظل على سكونه إلى أن يدفعه عامل خارجي إلى الحركة، فتغير هذا التصور من أساسه، وأصبح المبدأ هو دينامية الكون في مجموعه، وفي كل كائن من كائناته؛ فالحركة التي لا تعرف السكون هي أساس الوجود، بدءا من الذرة وما تقوم عليه من كهارب. وحسبك في هذا الصدد أن تتذكر بأن كل شيء في الوجود قوامه ذرات، إذن فقوامه حركة داخلية هي صميم وجوده.
ومن هذا التصور الجديد نشأت وجهات نظر تتناول كل شيء في حياة الإنسان، لتجعل التغير والتطور والتقدم أساسه، فإذا اختلف رجال الفكر فيما حوله، فإنما يختلفون في أسلوب التطور والتقدم كيف يقع وليس هو اختلافا بين تطور ولاتطور. وكانت نظرته «النسبية» ذاتها وليدة التصور الجديد، وكان من أهم ما تتفرع عن النظرة الجديدة أن استبدل الإنسان برؤيته السابقة التي كانت تجعل من الماضي عصرا ذهبيا، رؤية جديدة مستقبلية؛ فالعصر الذهبي هو ما سوف يتكون بجهود الإنسان، وليس هو فيما قد كان. وكان يمكن أن يأخذ إنسان عصرنا بفكرة التغيير والتطور الدائبين في عالم الكائنات، دون أن يأخذ بفكرة «القدم»؛ لأن الشيء قد يتغير من حال إلى حال، وينتقل من طور إلى طور دون أن يكون في ذلك تقدم مما هو أقل كمالا إلى ما هو أكثر كمالا، لكنه المناخ الفكري العام السائد في عصرنا، تغلب عليه فكرة «التقدم» ملحقة بما هو حادث من تغيرات وتطورات. وها هنا يكون التاريخ وحده شاهدا؛ فمهما يكن من نكسات انتكس بها سير التاريخ، إلا أن خط السير في مجمله سائر بالإنسان إلى ما هو أكثر علما، وأسلم صحة، وأكثر حرية، وأكثر مساواة وهكذا، مما يقطع بحدوث التقدم ملازما في الحياة الإنسانية على الأقل، لحدوث التغير والتطور في عالم الأشياء والظواهر الأخرى.
إن للعصر الواحد - عادة - صوتا واحدا، برغم ما قد يبدو على السطح المرئي المسموع من منازعات وحروب. وربما كان أصح ما يوصف به عصرنا في صوته الواحد - فيما يرى هذا الكاتب على الأقل - هو حرية الإنسان، تلك الحرية التي كلما اتسعت رقعتها ارتفعت درجتها، قال الإنسان هل من مزيد، فالإنسان في عصرنا هو المحور، وحريته هي الصميم، لكن إذا كان هذا هكذا؛ فما شأن - العلوم الطبيعية وكونها طابع العصر الحديث كله، بما في ذلك صورتها الجديدة التي ظهرت في القرن العشرين، وما تميزت به من تقنيات (تكنولوجيا) ما شأنها في حرية الإنسان؟ وهنا نلفت نظر القارئ إلى ما نراه جوهريا في تشكيل الفكر العربي الجديد، وهو أن الكثرة الغالبة منا تكاد تقتصر في فهمها للحرية على الجانب السياسي وحده الذي يفك عنا قيد المستعمر الخارجي أولا، وقيود الحياة الاجتماعية حين تكون حجرات عثرة في سبيل التقدم ثانيا، لكننا في هذا التصور للحرية نهمل جانبا، لعله هو الجانب الذي إذا تحقق لنا انفتح لنا الباب الذي ندخل منه إلى الحرية في أوسع رحابها من جهة، وإلى مشاركة العصر في خصوصية رسالته، من جهة أخرى، وأعني بذلك الجانب حرية الذين يعلمون، في المجال الذي يعلمونه؛ فلا حرية لإنسان في مجال يجهل طريقة السيطرة عليه، فالفارس الذي يحسن سياسة جواده والتحكم فيه، حر إذا ما كان المجال مجال فروسية وقتال، ولكن ضع على ظهر الجواد من لا دراية له بسياسة الخيل، كانت هزيمته مؤكدة عند لقائه بالفرسان، وهكذا قل في موقف الإنسان من كل شيء بين أن يجهله وأن يعلمه؛ تجده مفقود الحرية في حالة جهله يتمتع بالحرية في حالة علمه، وبمقدار ما قد حصل من ذلك العلم يكون مقدار حريته في ذلك المجال المعين.
فإذا كنا اليوم في عصر العلم بالطبيعة وأسرارها، فمعنى ذلك هو أننا في عصر حرية من نوع جديد، هي حرية الإنسان حيال ما يحيط به من ظواهر الكون . وفي هذا المجال حقق الغرب قدرا من السيادة لا شك في ذلك، وأخفق العربي في أن يشارك بقطرة من هذه السيادة إلا ما يجود عليه به صانع العلم في الغرب، وهنا يبرز السؤال: أفي طبيعة العربي ما يعجزه عن الإبداع في العلم بالطبيعة؟ والجواب بالنفي القاطع، تأسيسا على ما قدمناه في حديثنا عن «العروبة» ومقوماتها، أفي عقيدته الدينية ما يحول بينه وبين ذلك الإبداع؟ والجواب هنا أيضا هو نفي قاطع؛ لأننا نؤمن بدين يحض على العلم صراحة بظواهر الكون، ويأمرنا أمرا مباشرا بأن «نقرأ» معالم الكون فوق قراءتنا لما نتعلمه بالقلم وما يسطره، فليس أمام العربي عقبة تمنعه من المشاركة الإيجابية في بناء عصره مع سائر البناة، اللهم إلا تربية وتعليم وإعلام، لم نعرف حتى اليوم كيف نجعلها وسائل لإخراج المواطن العربي الجديد. (4)
أما النقطة الرابعة فيما يستدعي التفكير عن العربي في موقفه بين ثقافته الأصيلة التي كانت من مبدعات أسلافه، وما قد استحدثته حضارة هذا العصر من ظروف قد لا تصلح له ولا يصلح لها، فماذا هو صانع بميراث عزيز عليه إزاء عصر جديد؟ إنه على كثرة ما تناول هذا الكاتب موضوع «التراث» وما عساه يؤثر به في العربي المعاصر سلبا أو إيجابا، فهو يزداد إيمانا بأن مشكلة «التراث» مصطنعة إلى حد كبير، وربما كانت علة اصطناعها هي أن طائفة ضخمة من العرب المتعلمين قد أوشكت أن تنحصر فيما يقرأ من كتب السلف، فأصبح هذا المصدر الوحيد هو عالمهم الذي عاشوا فيه طلابا للعلم، ويعيشون فيه رجالا من أصحاب العلم؛ فمن الطبيعي لكل إنسان أن يعلي من شأن مصدر علمه ومورد رزقه. وإذا كان لهذا المصدر والمورد من يقاومونه فهم غالبا ما يكونون من طائفة أخرى، انحصرت مصدرا وموردا في عالم آخر، هو عالم المعرفة المنقولة عن بناة عصرنا من علماء ومفكرين وأدباء ورجال فن وغيرهم.
ولكننا إذ أغضضنا النظر عن ذلك الجانب الشخصي في الاختيار أو الرفض، ونظرنا في تراثنا نظرة موضوعية محايدة، تجسمت أمامنا مغالطة منطقية عجيبة ، لا يبعد أن تكون هي التي أحدثت لنا هذه البلبلة كلها في موضوع «التراث» وموقفنا منه في عملية التحديث إذا ما رغبنا فيه وأردناه، وتلك المغالطة المنطقية هي في توهمنا بأن «التراث» هو كتلة واحدة، إما أخذتها وحملتها، وإما تركتها. وحقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن هذا التصور الوهمي العجيب؛ فما نسميه «تراثا» هو عالم إذا كان له أول فليس له آخر، وإذا كان له آخر فليس له أول. إنه عالم أوسع من المحيط، يشتمل على جميع ما أبقت عليه الأيام بعد أن فعلت عوامل الفناء فعلها، مما أنتجته عصور توالت على الدنيا بعد عصور. وفي ذلك الخضم الهائل آثار من كل ما يطوف بخاطرك وما لا يطوف من فنون القول وضروب الفكر، وألوان الفن والأدب، وما شئت وما لم تشأ مما خطه قلم، أو إزميل، أو رسمته فرشاة المصور، أو ما تناوله بالعد والحساب علماء الرياضة والفلك وغيرها من علوم. ومن ذلك المحيط الزاخر بمحتواه، الذي لا يسعه واسع ولا يصل إلى أعماقه غواص، تنشأ لنا ثلاث حقائق (بين ما ينشأ) لا يرتاب في أيها مرتاب؛ الأولى، وهي أن ذلك التراث موجود، أراد أبناء هذا العصر، الذين هم الوارثون، أم لم يريدوا. والثانية هي أنه يستحيل على فرد أن يحيط بهذا الموجود كله، وأنه لمن أراد أن يختار من ذلك الكم الهائل ما شاء وما استطاع، وهو لن يعدو أن يكون ما تكون الحبة من كومة الغلال. والثالثة هي أن الفرد الواحد في حالة الاختيار، يجمل به أن يختار شيئا يتفق وميله، حتى يتم في شخصه تواصل بين الماضي والحاضر. وأمام هذه الحقائق الثلاث، ماذا يعني ما نسميه «إحياء التراث»؟ إنه يعني مجموع ما قد حصله المحصلون الذين اختاروا ما اختاروه ، فدرسوه أو طالعوه؛ إذ ليس من الإحياء أن يعاد طبع القديم ليرص على رفوف المخازن، وإنما يكون إحياء القديم بأن يصبح في قلب حي من الأحياء أو في عقله، لا على سبيل الحفظ عن ظهر ذلك القلب أو العقل، بل ينخرط مع غيره من أجزاء المعرفة الموجهة للإنسان في سلوكه. إننا كثيرا ما نتحدث عن العالمين بتراثنا، وكأن تراثنا له «عالم» معين يحمله على كتفيه. وحقيقة الأمر أنه قسمة بين ملايين العارفين، كل في حدود اهتمامه وتخصصه. ومع ذلك فيجب التفرقة بين ما هو علم وما هو فن وأدب، في هذا التراث ومن يحيونه في قلوبهم وعقولهم؛ فبينما للعلم متخصصون يختلفون باختلاف المجال، فإن معظم الأدب - شعرا ونثرا - يمكن أن يكون من شأن الجميع، وأهميته عظيمة في تعاطف المحدثين مع القدماء. وخلاصة ما نريد قوله في هذا الصدد، هو أن «التراث» وإحياءه يجب أن ينظر إليه من زوايا الأفراد، لينظر إليه موضوعا موضوعا وكتابا كتابا، ليكون لكل فرد ما يختص به، فتزول بذلك «الكلية» الوهمية التي تجعل من التراث كله موضوعا واحدا يحمله كل فرد على حدة، وتحييه الحكومات والهيئات، كأنه عبء ثقيل المهم فيه أن ينزاح عن الصدور.
وعلى ضوء هذا الذي أسلفناه؛ نسأل عن دور التراث في تكوين العربي المعاصر، فيجيئنا الجواب في ترتيب بعكس الوهم القائم؛ فبدل أن نتوهم العربي وقد حمل تراثه على ظهره، وأراد الدخول به إلى عصره، نعيد الترتيب ونقول: إن العربي في ممارسته لحياته في عصره عليه أن يختار من تراث السلف ما يعينه روحا وعقلا في حياته بلا تكلف ولا افتعال، فمن ذا الذي لا يريد «لغة» عربية في حياته، ومن ذا الذي لا يريد أن ينبض قلبه مع نبضات شاعر صنع من تلك اللغة زهرة عطرة؟ من ذا الذي لا يريد أن ترتفع ثقته بنفسه بأن يتقدم إلى عصره منتميا إلى سلف يفاخر بهم؟ (5)
أما النقطة الخامسة فهي وقفة متسائلة في صدق يأبى أن يخدع النفس عن حقيقة أمرها في موكب الحضارة العصرية وثقافتها، وتلك الحقيقة المرة هي أن موقعنا من ذلك الموكب هو موقع الضعيف يسير في المؤخرة تابعا لمن ساروا في الطليعة يشقون الطريق، ولم تكن الأمة العربية وحدها هي التي رضيت لنفسها بهذا الموقع، بل زاملها فيه بلاد كثيرة أخرى، أراد لها التاريخ أن تعد «شرقا» إذا ما قسم العالم إلى شرق وغرب، ليكون اسم «الشرق» دالا على الضعف والتخلف، وليكون اسم «الغرب» دالا على القوة والتقدم، ثم لم يلبث التاريخ أن أضاف قسمة أخرى لأقطار الأرض بأن قسمها «جنوبا» و«شمالا» ليدل باسم «الجنوب» على الفقر والعجز، وليدل اسم «الشمال» على الغنى والقدرة. لكن إذا كان ثمة ما يبرر لكثير من الشعوب الضعيفة الفقيرة المتخلفة العاجزة أن تكون كذلك؛ لأنها لا تستند إلى ماض حضاري ثقافي رائد، فماذا يبرر هذه النكسة للأمة العربية؟ ماذا أصابها لتدرج مع «الشرق الجنوب» ولا تلحق ب «الغرب الشمال»؟ ترى ما هو العامل الفاصل بين هذين القسمين؟ أيكون ذلك العامل أساسا هو القوة العسكرية، قويت هناك فسيطرت، وضعفت هنا فهان شأنها وغزاها من غزاها؟ يجوز وعندئذ لا يسعنا إلا أن نلحظ مقارنة بيننا - نحن الأمة العربية - وبينهم؛ فأولا: إن حضارتهم وما يلحق بها من ثقافة، إذا رددناها إلى مصادرها، كان اليونان والرومان القديمتان هما المنبع، فما حاضر «الغرب الشمال» بكل قوته وعلمه وتراثه إلا امتدادات تطورات من ذلك النبع الكلاسيكي. وأما حضارتنا أو قل حضارتنا المتتابعة مع أجنحتها الثقافية، فهي إذا ردت إلى ينابيعها الأولى، كانت تلك الينابيع هي الإيمان الديني وما يتفرع عنه بعد ذلك من ظواهر حضارية وثقافية. وثانيا: إنهم حين أصبحت في أيديهم القوة العسكرية، استخدموها في البطش بمن وجدوه ضعيفا ليستثمروه وليستذلوه، في حين أننا نحن عندما كنا أصحاب قوة عسكرية، فقد استخدمناها في جهاد ننشر به الدعوة وبعبارة أخرى ننشر به حضارة وثقافة.
وأمام هذه المقارنة الموجزة السريعة، فإن سؤالا يلح علينا كلما صدمتنا الفوارق الواسعة بيننا وبينهم في القوة، والمغامرة، والعلم، وسرعة التغير، والثروة، وهو سؤال يسأل: ما الذي ينقصنا حتى انتهى أمرنا إلى ما انتهى؟ أين ذهبت الطاقة الحضارية والثقافية التي ما فتئت تتفجر وتومض ببريقها هداية للآخرين؟ إنه لا يبقى أمامنا فرض نفرضه لتعليل هذا التدهور إلا أن نقول: ربما كانت القدرة على إبداع العلم الطبيعي، الذي يقرأ الكون ويستخرج قوانينه، وسرعان ما تتجسد تلك القوانين في أجهزة وآلات تشق الفضاء، وتغوص في الماء، وتزيد إنتاج الصانع ومحصول الزارع مئات المرات عما كانت، ومن تلك القوة يكسب الإنسان من الحرية ما لم يكن يحلم به لأنها هذه المرة حرية من نوع فريد وفعال، وأعني الحرية التي تزيح عن عاتق الإنسان ما تقهره به عوامل الطبيعة، حتى باتت العلوم الطبيعية وما يتولد عنها، من أبرز ما يميز هذا العصر. ونحن نسأل: أيكون رفضنا العميق لهذه العلوم، هو ما شل فينا المشاركة فيها، فكان ما كان من سيادة أصحابها وتبعية الآخرين؟ لكنه سؤال مردود علينا؛ لأننا ندين بدين يكرر لنا الحض على قراءة خلق الله، من زرع، وحيوان، ونجوم، ومطر، ومئات الظواهر الطبيعية التي ساقتها آيات الكتاب الكريم، فإذا أضفنا هذا الحافز الديني إلى ما نبغ فيه أسلافنا من علوم رياضية، عندما كانت هذه العلوم هي وحدها التي تشغل العلماء ومعها ضروب العلم الأخرى التي إن لم تكن رياضية، فهي تنهج منهج الرياضة في توليد النتائج من المقدمات، أقول: إننا إذا أضفنا تاريخنا العلمي إلى حفز الدين لنا نحو العلم بالكون، حق لنا أن ندهش لما أصابنا، لكنها دهشة المتفائل بأن ينتهي بنا عصر البيات الشتوي الذي غمرنا قرونا حتى غفونا عن ركب الحضارة الجديدة، إلى يقظة لا تريد منا إلا شيئا واحدا فينصلح الأمر، وهو أن نضيف إلى ما قد ورثناه من مجد، قدرة جديدة نكتسبها بالدخول في معمعان البحث العلمي بمعانيه الجديدة وبوسائله الجديدة، دخولا نصدر فيه عن إيمان قلبي، ولا نكتفي فيه - كما نكتفي الآن - بلمسات الأصابع. نعم ربما نكون قد عبرنا جسورا كثيرة نحو هذا الهدف، لكننا في كل ذلك كنا كمن يحوم حول الحمى ولا يقتحم أسواره ليغزوه. (6)
وأما النقطة السادسة فهي عن حياتنا «الفكرية» ومدى فقرها، وما نعنيه بالحياة «الفكرية» هو شيء لا يندرج في مجموعة «العلوم»، وكذلك لا يندرج في عالم «الفن والأدب»، ومع ذلك فالأفكار الكبرى ، كالحرية، والديمقراطية، والمساواة ... إلخ، تمد أطرافها لتسري في دنيا العلوم وفي عالم الفن والأدب على السواء، لا من حيث هي جزء من مضمونات هذا أو ذاك، بل من حيث هي بمثابة شروط مسبقة يجب أن تتوافر ليزدهر هذا وذاك معا. ليست الأفكار من جنس قوانين العلم، ولا هي من جنس ما يبدعه الفنان أو الأديب، وخذ هذه الأمثلة من عالم «الفكر»: لمن من أبناء الشعب يكون الحق في صنع القرار؟ هل تكون التجارة مع الخارج حرة أو مقيدة؟ ماذا نرى في مجانية التعليم؟ أيهما أحق بالوجود: أن يتحد العالم كله في وحدة دولية، أم أن تترك الأولوية للشعور الوطني والانتماء القومي؟ وهكذا فهذه أسئلة يتوقف على سداد الإجابات عليها تشكيل الحياة، ومع ذلك فهي أسئلة لا تجيب عليها العلوم، بل يجيب «الفكر» عند «المفكرين».
وإذا استعرضنا حياتنا الثقافية كما هي قائمة، وجدنا جانب «الفكر» أضعف جوانبها؛ إذ قد يكون لدينا ما يرضينا في الأدب والفن. وأما في عالم «الأفكار» فنحن تحت خط الفقر، وذلك يعود إلى سببين؛ أولهما أن «الفكرة» من الأفكار الكبرى، تنمو مع الزمن؛ فليست «الحرية» اليوم تعني للمعاصرين ذلك المعنى الضيق الذي كانت تعنيه للقدماء. ومع ذلك فنحن نسهو عن هذه الحقيقة ونقنع في حياتنا الفكرية بما ورثناه عن آبائنا، فإذا لم نقنع بموروثنا نقلنا عن الغرب أفكاره، فلا يكون الفكر فكرنا. والسبب الثاني في ضعف الجانب الفكري من حياتنا الثقافية، هو عسر الضوابط التي تضمن للفكرة أكبر نصيب ممكن في نجاح تطبيقها على الحياة العملية. وليس فينا من يصبر على عناء التحليل الذي يتعقب العناصر الداخلة في تكوين الفكرة، وتعقب تلك العناصر إلى أدق تفصيلاتها. ولا عجب أن ساد الغموض الشديد معظم ما نعرضه على الناس في هذا السبيل. (7)
النقطة السابعة هي أننا قد عكسنا الترتيب الطبيعي بين الفكر السياسي من جهة وتطبيقه من جهة ثانية؛ فالطبيعي أن يفكر المفكرون ثم يجيء رجال السياسة فيتشربون الحصيلة الفكرية ليجروها في قنوات الحياة العملية. لكن الذي يحدث على الأغلب في حياتنا هو أن تسبق إرادة القائد السياسي فكر المفكر. وسرعان ما يجعل هذا المفكر نفسه ظلا لما أراده السياسي فتنتج نتيجتان كلتاهما مصدر للخطر؛ الأولى أن تتعدد الإرادات بتعدد القيادات، فلا يتاح لروافد المفكرين العرب أن تجتمع في نهر واحد عظيم. والثانية أن تجيء الأفكار خادمة لعواطف القيادات وشهواتها، فتفقد أهم الضوابط العقلية التي تضمن لها قدرا من الصواب. (8)
ولقد حللنا الشخصية العربية على ضوء تاريخها ومنجزاتها، فوجدناها في هيكل بنيانها تتألف من قبول إيماني بحقيقة كبرى لا تتناهى إلى حدود تحدها، ثم تجيء بعد ذلك قدرات عقلية فتستنبط من تلك المقدمة الكبرى نتائج. وبهذا التركيب جمع العربي إيمانا إلى علم، وكان هذا الدمج بين الجانبين في رؤية واحدة أهم سمة ميزت فكره وثقافته، ثم ذهبت عنه القوة المبدعة، ونال منه الضعف، فغابت عنه رؤيته بشقيها، فلا الجانب الإيماني ظل حيا ولودا كما كان، ولا القدرة على الفاعلية العلمية التي تستولد النتائج قد بقيت بعد أن نضب معينها. ولو عادت إلى العربي ثقته بنفسه لأعاد هيكله القديم أصلا إيمانيا وفروعا علمية، ثم أدمج فيه ركائز أخرى تحمل جانبا جديدا هو قراءة كتاب العالم. (9)
وأما النقطة التاسعة والأخيرة، فهي أقرب إلى نظرة مستقبلية، نرجو بها للعربي نهضة، ينجو بها من حياة التبعية والمحاكاة، ليدخل عالم الإبداع.
نامعلوم صفحہ