إن القانون هناك يحترم حقا، والدستور لا يخرق، وعندما يحدث انتهاك صارخ تكون العواقب وخيمة، حتى لو كان المنتهك أكبر رأس في البلاد. هذا صحيح بلا شك، ولكن لنسأل أنفسنا: من الذي يضع القانون هناك؟ إن المؤسسات الدستورية قائمة، وهي تمارس عملها بكفاءة تامة في إطار الشرعية السائدة في البلاد. ولكن من الذي يصل إلى السيطرة على هذه المؤسسات؟ وما نوع القوانين التي يتوقع من هؤلاء المسيطرين أن يصدروها؟
في الانتخابات الأمريكية، سواء على مستوى المجلسين المنتخبين (الكونجرس) أو محافظي الولايات أو رئاسة الجمهورية، نجد نموذجا واضحا لطبيعة هذه الحرية الدستورية؛ فكل شيء يتم بحرية كاملة، ولا يمكن أن يحدث تدخل من جانب الحكومة لتزييف إرادة الشعب أو توجيه عملية الانتخاب لصالح مرشح معين. ولكن من المحال أن يكون أي شخص قادرا على ترشيح نفسه على نحو يعطيه أملا في النجاح إلا إذا كان منتميا إلى طبقة الأثرياء، لأن النظام يجعل من المستحيل أن ينجح مرشح، على أي مستوى، ما لم ينفق على الدعاية أموالا طائلة. وليس هناك - خارج مجموعة قليلة من المفكرين الناقدين - من يطرح أسئلة مثل: لماذا تكون قوة الدعاية والإعلان عاملا أساسيا في النجاح؟ ولماذا يعين كل مرشح، حتى على مستوى أعضاء الكونجرس مكتبا كاملا للاتصال والعلاقات العامة والدعاية، مهمته تحسين صورته أمام الناخبين؟ وهل يعد النجاح الذي يتم إحرازه بفضل تدخل عامل كهذا، مقياسا لحرية اختيار حقيقية لدى الناخبين؟ والأهم من ذلك كله: ما نوع القوانين التي سيصدرها مرشح كهذا حين ينجح، وما هي المصالح التي سيدافع عنها في هذه القوانين؟
وتنطبق تساؤلات مماثلة على حرية الصحافة وسائر أجهزة الإعلام؛ فبالرغم من أن الرقابة الحكومية غير موجودة، فإن هذه المرافق مؤسسات تجارية في أغلب الأحيان، تستهدف الربح وتعتمد على إيراد الإعلانات، ومن ثم فإنها لا تستطيع أن تعبر عن سياسة مضادة لمصالح الشركات التي تقدم إليها أموالها اللازمة عن طريق الإعلان، ولو فعلت ذلك لكان أيسر السبل لتأديبها أو لإسكاتها هو حجب الإعلانات عنها.
وتتدخل المصالح التجارية ذاتها في ميادين كالتعليم، حيث تدار أهم الجامعات على أساس تجاري، وتعتمد اعتمادا أساسيا على منح المؤسسات وهباتها، ومن ثم كان لهذه المؤسسات دائما صوت في إدارة سياستها. وإذا كان الشاب «حرا» في اختيار نوع التعليم الذي يريده، فما قيمة هذه الحرية إذا كانت نفقات التعليم باهظة، وما قيمة حريتك في اختيار طبيبك إذا كان المرض ذاته من أكبر المصائب التي يمكن أن تحل على الإنسان، نتيجة لما يتكلفه علاجه من نفقات باهظة، وإذا كان إجراء عملية جراحية كارثة لمن كان دخله محدودا، وإذا كانت نقابة الأطباء الأمريكية - وهي من أكثر الهيئات رجعية في العالم - تقف بكل صلابة، منذ عشرات السنين، معارضة لأي نوع جاد من تأميم الطب، أو حتى أي شكل من أشكال رعاية المجتمع لصحة الفقراء أو المسنين؟
إن الأمثلة لا حصر لها، وكلها تدل على أن «الحرية» موجودة قانونا، ومحترمة شكلا، ولكن كل شيء يتم تحت السطح وبطريقة «قانونية» أيضا، بحيث تفرغ هذه الحرية من مضمونها الحقيقي، وتكون إطارا خارجيا يختلف عن محتواه الداخلي كل الاختلاف. •••
إن تجاهل الاعتبارات الإنسانية عنصر أساسي من عناصر نمط الحياة الأمريكي: فالهدف هو أن تدور عجلة الإنتاج بكفاءة، وأن يزداد الربح وتتوسع الأعمال بلا انقطاع. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا يقام وزن للعوامل الإنسانية، بل ينظر أحيانا إلى الاهتمام بها على أنه سمة مميزة للمجتمعات الأكثر تخلفا؛ لأن الكفاءة الصناعية والإنتاجية ينبغي أن تكون لا شخصية، مجردة.
هذه حقيقة أشار إليها الكثيرون، وإذا أكدناها فلن نكون قد أضفنا جديدا إلى ما كتبه مئات الكتاب عن ضياع الإنسان في المجتمع الصناعي الضخم، وعن طغيان قيم النجاح والتوسع والربح على القيم الإنسانية. ولكن، في هذا الوقت الذي يعرض فيه النموذج الأمريكي على الأمة العربية بقوة وإلحاح بوصفه نموذجا ينبغي أن نأخذ به لكي نعوض تخلفنا، وفي هذا الوقت الذي يتطوع فيه بعضنا للدعاية لهذا النموذج وغرسه في عقولنا بكل قوة، لا بد لنا من أن نشير إلى مفارقة غريبة تنطوي عليها الدعاية الأمريكية التي تهدف إلى «بيع» نموذجها لبلاد العالم الثالث.
ذلك لأن أمريكا تقدم نفسها على أنها حامية القيم المعنوية والروحية والإنسانية، وتكرس جزءا كبيرا من دعايتها لإثبات أن خصومها الأيديولوجيين (المعسكر الاشتراكي) هم الماديون، على حين أنها هي التي تتجاوز المادية وتعلو عليها. ولما كان هدفنا من هذه الدراسة هو إلقاء الضوء على النموذج الأمريكي ذاته، فسوف نترك جانبا ما تقوله أمريكا عن خصومها، ونختبر هذا النموذج من تلك الزاوية بالذات.
إن المفكرين المدافعين عن نمط الحياة الأمريكي يفخرون بأنه يتيح للإنسان كل فرص الربح، ويؤكدون أن دافع الربح أساسي في الإنسان؛ فهو القوة المحركة التي تحفزه إلى المزيد من العمل والتجديد والابتكار. وعلى الرغم من أن هذه القضية قابلة للنقاش على أوسع مدى، وعلى الرغم من أن الإنسانية قد عرفت نظما تنادي بحوافز أخرى للعمل والمجهود غير حافز الربح، كالسعي إلى تحقيق مصلحة المجموع، أو تحقيق الإنسان لإمكاناته الخلاقة وما ينتج عنه من إرضاء معنوي إلخ، فإننا نود أن نتوقف عند نقطة واحدة: هي التناقض الصارخ بين تأكيد دافع الربح، وبين ادعاء حماية المعنويات واتهام الخصوم بالمادية.
إن أمريكا، وفقا لأيديولوجيتها المعلنة صراحة، لا بد أن تكون أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر. وليس هذا اتهاما وإنما هو إقرار لحقيقة بسيطة واضحة. فحين تقول إن حافز الربح هو القوة الدافعة إلى العمل والابتكار، وحين تتهم خصومك بأنهم لا يعطون الإنسان فرصة كافية لكي يربح إلى أقصى مدى تسمح له به إمكاناته، يكون معنى ذلك أن فلسفتك مادية حتى النخاع، وأن تشدقك بحماية المعنويات والروحانيات ليس نفاقا فحسب، بل تناقض صارخ يرفضه أبسط عقل منطقي. إن الإنسان هناك لا يعمل إلا من أجل المزيد من المال، ومن الأرباح، ومن المستوى المادي المرتفع. وقد تكون هذه حقيقة من حقائق الحياة، وقد يكون هذا هو بالفعل أقوى الحوافز التي ثبت، حتى المرحلة الحالية من تاريخ البشر على الأقل، أنها هي التي تحرك الإنسان إلى الإنتاج وبذل الجهد، هذا كله جائز، ولكن ليست هذه هي القضية التي أناقشها، وإنما الذي أود أن أقوله ببساطة هو: إذا كنت من أنصار هذا الرأي فكيف تدعي أنك خصم للمادية، وكيف تنصب نفسك حاميا للمعنويات وحارسا لإنسانية الإنسان؟
نامعلوم صفحہ