وأحيانا نرغب في الموت، فنعتكف ونجمد فلا نستطلع، ونكف عن الارتزاق ونكره البناء - بناء الشخصية، بناء المنزل، بناء الدنيا - ونقعد عن السعي، ونعود سلبيين نقول للحياة : لا، وعندئذ نحس الضعف والحزن، ونأخذ بفلسفة الشك، ونلتزم قواعد الفعل الماضي فنقول كنا وكانوا.
وهذا الانتحار السيكلوجي يصيب بعض الأفراد الذين دللوا في الطفولة، أو لم يتعودوا مجابهة الصعوبات، أو لم يتعلموا السعي والجهد؛ فإذا أرهقتهم الظروف وثقلت عليهم تكاليف الحياة آثروا الموت عليها؛ ولذلك تراهم يبدون مشعثين، يلبسون الرث من الملابس، ليس لهم طموح أو سعي إيجابي. •••
هل الدنيا كئيبة إلى الحد الذي يدفعنا إلى هذا الانتحار السيكلوجي؟
ننتحر بالاعتكاف والتعطل، ونتناول الخمور والمخدرات، وبالتجمد حين لا نقرأ ولا نستطلع، وبالقناعة حين نرضى بالتافه من الطعام والرث من الثياب، وبالانفصال عن المجتمع، فلا صداقة ولا اهتمام بالسياسية ولا عناية بالثقافة ولا سعي وراء مكانة؟
قص علي تاجر أنه فيما بين 1931 و1933 عم الكساد التجارة، فكان المتجر الذي يبيع بنحو عشرين جنيها في اليوم لا يكاد يبيع بجنيهين اثنين، وكان متجره في شارع الموسكي، ولم تكن المتاجر الأخرى تفضل متجره، وكان الكساد يخيم عليها جميعا، والذباب يعكف على موظفيها وأصحابها، والجو مشبعا بالتشاؤم، ولم يعد شعاع واحد من الشمس ينفذ إلى نفوسهم.
وبينما هذا التاجر يسير في شارع إبراهيم، خطر بباله أن يذهب إلى جسر قصر النيل كي يتنسم هواء الصباح وكي يبعد عن متجره - الذي صار يكرهه - ساعة أو ساعتين، وكان الشارع يكاد يكون خاليا؛ لأن الوقت كان مبكرا، وبينما هو في هذا السأم، في هذا الجمود، في هذا الانتحار السيكلوجي، إذا برجل قد بترت ساقاه يسير على عربة صغيرة، بأن يدفع الأرض بيديه خلفه، قد نظر إليه وهو يقول: نهارك سعيد.
قال لي التاجر إنه عندما سمع هاتين الكلمتين من هذا الكسيح العاجز، فزع وتنبه، وكان نهارا جديدا قد طلع عليه؛ لأنه تأمل نفسه؛ إن هذا الرجل المسكين يضحك للصباح على ما به من عجز، فما لي أنا أحزن؟
كانت غريزة الحياة قوية في هذا المسكين، كان نهاره على الدوام سعيدا.
وكانت غريزة الموت عند هذا التاجر قوية، فكان نهاره كئيبا .
وهنا وقفة نتلبث عندها!
نامعلوم صفحہ