مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والشفاء وشرب الدواء. وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وإدامة الحياة مع جز الرقبة ... ونحن نجوز ملاقاة القطن للناس دون الاحتراق، ونجوز انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار، وهم (أي الفلاسفة) ينكرون جوازه، وليس له دليل إلا مشاهدة محصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده لا على الحصول به ... ونجوز أن يلقى نبي في النار ولا يحترق، إما بتغيير صفة النار، أو بتغيير صفة النبي ... فإنا نرى من يطلي نفسه بالطلق ثم يقعد في تنور موقدة ولا يتأثر به.»
31
هذا كلام صريح كل الصراحة، لم يقل هيوم أو غيره من المحدثين أصرح منه.
كذلك أراد مالبرانش أن يقيم فلسفة دينية تثبت تبعية المخلوقات للخالق تبعية مطلقة، كما يقتضي معنى المخلوق بالنسبة إلى معنى الخالق، وتناهض الفلسفات التي تضع المخلوقات بإزاء الخالق متقومة بذاتها فاعلة بقوى فيها، وأهمها فلسفة أرسطو وأتباعه من المدرسيين، فشايع ديكارت في إنكار الصور الجوهرية وما تنطوي عليه من القوى الفاعلية في المخلوقات، فلم يبق لها عنده علية، وشايع ديكارت في استقلال كل من النفس والجسد بذاته، وما ينتج عن هذا الاستقلال من استحالة التفاعل بينهما، كما شايعه في الآلية الكونية التي تقصر التفاعل على مجرد صدام خارجي بين أجزاء المادة، بل أربى عليه بأن سلب المادة كل قوة على مثل هذا الصدام، فعاد إلى حجة أناسيداموس وقال مثله: لا علاقة علية من جسم إلى روح، ولا من روح إلى جسم، ولا من جسم إلى جسم، ولا من روح إلى روح، وحشد الحجج المعروفة.
إنا لنعجب لهؤلاء المفكرين كيف لم يتنبهوا إلى الإشكالات التي يثيرها مذهبهم هذا، وهي كثيرة خطيرة: أولها دور منطقي أو مصادرة على المطلوب تقطع عليهم الطريق إلى الله فتقضي على المذهب من أساسه، تليها إشكالات في حق الذات الإلهية، فأخرى في حق الموجودات. أجل يلزمهم الدور أو المصادرة حين يتحدثون عن الله وهم عاجزون عن البرهنة على وجود الله: ذلك بأن علم الإنسان بالله يكتسب بتطبيق مبدأ العلية للصعود من المخلوقات إلى الخالق، ولكن مبدأ العلية مجرح في نظرهم، غير ذي موضوع في المخلوقات وغير ذي قيمة، وإذن فليس يجوز تطبيقه للبلوغ إلى الله. فإن قالوا: إن الوحي وما يستند عليه من معجزات ينبئنا بوجود الله، سألناهم: ألسنا نعرف الوحي من بلاغ السلف للخلف، أي من طريق العلية، فكيف نأخذ بالعلية في هذه النقطة وننبذها في سائر النقاط؟ فسواء أرادوا أن يعتمدوا على العقل أو على النقل فلا مخرج لهم من هذين المأزقين.
ولا مخرج لهم من الإشكالات التي في حق الذات الإلهية: فإنه إذا كان الله هو الفاعل الأوحد الخالق في العباد أفعالهم، فإليه تعود الأفعال الشريرة، فلا يتصف بالقداسة والكمال. وإذا كانت الأفعال الشريرة عائدة إليه، فكيف ينهانا عنها ونحن لا نملك عملا؟ هذا تناقض ينتزع من الله صفة الحكمة. وكيف يتوعدنا بالعقاب عليها، ويعاقب فعلا كما يؤكد الشرع؟ هذا تناقض آخر ينتزع من الله صفة الطيبة وصفة العدل. كذلك نقول في الأفعال الخيرة: كيف يأمرنا بها وليس في وسعنا أن نأتيها بأنفسنا؟ وكيف يعدنا بالثواب عليها، وثبت فعلا كما يؤكد الشرع، ولا فضل لنا فيها؟ فماذا يبقى لله من صفات الألوهية، بل من صفة التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والعدل والظلم؟
وإذا اتجهنا إلى المخلوقات وجدنا فيها شواهد أخرى على تهافتهم: إنها جميعا تبدو ناقصة نازعة إلى الاستكمال، وإذا لم يكن استكمال الموجود بفعل منه فلم يوجد؟ وبخاصة متى كان عاقلا مريدا مندوبا لاستكمال خلقي وديني. ثم إن لكل موجود طبيعة تبدو في أفعاله المطردة، ونحن نسمي هذه الأفعال طبيعية بسبب اطرادها، فإن اطراد الفعل يدل على أنه صادر عن قوة قارة في الموجود، ولكل موجود هيئة أي تركيب من أجزاء أو أعضاء، ولكل جزء أو عضو هيئة وتركيب: فلم هذا التركيب العجيب المتناسق مع خصائص الأشياء بحيث نرى العين مثلا تدرك الضوء واللون ولا تدرك غير ذلك. ونرى الأذن تدرك الصوت ولا تدرك غير ذلك ... وهلم جرا. وإذا ما تلف عضو أو اضطرب جزء منه، انعدم الفعل أو اضطرب بنفس المقدار. فكيف لا نعتبر العضو أو جزأه علة؟ وما وجه الضرورة لتركيبات مختلفة تصدر عنها أفعال مختلفة؟ ولم يحد الله أي شيء من أي شيء بأي شيء أو بدون شيء؟
لقد ظنوا أن في اختصاص الله بالعلية وسلبها عن المخلوقات تمجيدا لله، والأمر على العكس؛ فإن عالما فعالا لأشد إظهارا للقدرة الإلهية وأعظم تمجيدا لله من عالم ساكن ميت مسرح أشباح وأوهام، أليس يقدر الصانع بقدر صنعه؟ فظنوا أن علية المخلوقات قوة إلهية خالقة. والأمر ينحصر في الإخراج من القوة إلى الفعل دون إيجاد من عدم. فكما أن وجود المخلوقات مشاركة في الوجود الإلهي الذي هو وجود بالذات، كذلك علية المخلوقات مشاركة في العلية الإلهية التي هي علية بالذات. فنحن بإزاء علية أولى مستكفية بذاتها، وعلية ثانية قابلة، منها الوجود والقدرة على الفعل. وإن العقل ليقر بالعلية الثانية بداهة، كما هو مشاهد، ويتأيد إقراره البديهي بالأسباب التي ذكرناها. ولابن رشد كلمتان جامعتان حاسمتان لا نرى خيرا منهما لاختتام هذا البحث: «أما الأشعرية فقد أنكروا الأسباب والمسببات، وهذا نظر خارج عن الإنسان بما هو إنسان.» وقال: «العقل إدراك الموجودات بأسبابها، وبذا يفترق من سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل.»
32
ومن قبله اعتقد الفلاسفة الإسلاميون بالعقل وعلية المخلوقات، وناضل عنهما المعتزلة أروع نضال. (6) العلية الغائية
نامعلوم صفحہ