5
لا أشياء موجودة حقا». وهذا ما يدعيه لوك، فهو أيضا ينبه على «أن القوى تجريدات، لا موجودات متمايزة». «وأننا لا نشعر بالقدرة إلا حين نفعل، وما الفعل الحر إلا الفعل نفسه، فإذا لم نقدر على الفعل لم نكن أحرارا؛ إذ لا معنى للاعتقاد بالقدرة دون الفعل، وما اعتقادنا بالحرية إلا اعتقاد بإمكان تكرار فعل سابق لمجرد كون هذا الفعل قد سبق».
6
ثالثا: ليست القوة فعلا كامنا كما صوره ليبنتز فقد قال: إن من الأفعال التام الظاهر، ومنها الناقص الكامن، ولا حاجة إلى القوة التي ليست بفعل، إنما القوة توتر متجه إلى الفعل بذاته ومعطل أو معوق، مثله مثل مشدود إلى جسم ثقيل أو قوس مشدودة، فلا يفعل بتحريك محرك مغاير كما هو حال الجسم في رأي أرسطو وديكارت، بل بتوتره وتلقائيته التي تجعل منه وسطا بين القوة والفعل كما عرفهما أرسطو.
والأدلة على نفينا هذه الآراء واضحة لأقل تدبر حتى لنعجب كيف غابت عن هؤلاء الفلاسفة، إلا أن يكونوا قد انساقوا إليها بموجب مبدأ خاطئ قبلوه فلزمتهم نتائجه. والمبدأ الخاطئ ههنا أن العقل لا يقبل إلا المعاني الجلية المتميزة كالمعاني الرياضية، والقوة غامضة محجوبة عن الحس والعقل، وإذن فهي غير مقبولة، ويجب أن تفسر بطريقة ما. ولكن الطرق التي ابتدعت لا تفسر شيئا، فالرأي الأول يترك الموجودات وأفعالها لمطلق الإمكان، أي للفوضى والمصادفة؛ فإن مطلق الإمكان يتناول إمكانات لا تحصى. والواقع أن لكل موجود إمكانات معينة محدودة، حتى إمكانات الحرية، فليس في مقدور الحرية الإنسانية أن تغير طبيعة الإنسان أو طبائع الأشياء، ولا أن تفعل كل ما نريده أو نتمناه، فإذا كانت إمكانات كل موجود معينة محدودة، كان هذا دليلا على أن كل موجود إنما يفعل (أو ينفعل) بقوى فيه معينة محدودة.
والرأي الثاني يقبل الفعل دون شرطه فيجعل الفعل مستحيلا، وذلك بأن اكتساب فن من الفنون أو علم من العلوم يقتضي قوة له، فإننا إذا رسمنا حروف الهجاء أو أرقام الأعداد ونطقنا بها أمام طفل وقرد، تعلمها الطفل ولم يتعلمها القرد مهما كررنا المحاولة. وإن استئناف مزاولة الفن أو العلم المكتسب يقتضي بقاء القوة عليه وبقاء المكتسب منه، بينما المزاولة والاكتساب واستئناف المزاولة أمور ممتنعة على فائدة القوة؛ كالقرد في المثال السابق، وعلى الحاصل على القوة دون اكتساب؛ كالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب. ولو تأمل أصحاب هذا الرأي لوجدوا أن ما لا قوة له فهو لا يفعل، اللهم إلا بتحريك خارجي، وهذا التحريك في مذهبهم المنكر للقوة والكيفية هو نقله، أي تحريك مادي آلي، فكيف وأين تبدأ الحركة؟ وكيف ندرك معنى من المعاني حين يصل إلى سمعنا ذبذبة مادية إلا أن نكون قد حفظنا العلاقة بين هذه الذبذبة وبين المعنى، فكانت لنا قوة على هذا الحفظ وعلى استئناف الإدراك؟ وكيف يحدث الماء مثلا حدوثا مطردا بتفاعل الأوكسجين والهيدروجين إذا كان هذا التفاعل حركة آلية صرفا ولم يكن في كل من العنصرين قوة مرتبة إلى قوة الآخر متجهة إلى هذا التركيب، معينة بمقدار بحيث لو زاد المقداران المتفاعلان على المقدار المعين بقي الزائد خارج التركيب. وليست تقتضي المادة لذاتها أو الحركة لذاتها تركيبا معينا ولا مقدارا معينا؟ والعلوم الطبيعية حافلة بأمثلة من هذا القبيل ومن الإسراف، بل من التناقض الصريح إرجاع أفعال متباينة إلى مصدر واحد بالذات تفاديا من قبول القوة - كما صنع ديكارت، والمنطق يقضي بإرجاع كل منها إلى مصدر خاص.
والرأي الثالث ابتدعه ليبنتز لكي يوفق بين التجربة التي ترينا أشياء وأفعالا تكون بعد أن لم تكن، وبين مذهبه العقلي المطلق القاضي بالتصور الجلي المتميز ليس غير، فاستبعد القوة كوسط بين الوجود الظاهر وبين مطلق اللاوجود، أو التي هي وجود غير معين ومن ثمة غير متصور طالما لم تتعين بالفعل. واستعاض عنها بفعل ناقص يتجه إلى التمام، أو وجود كامن يتجه إلى الظهور، فيكون وسطا ممكن التصور. ولكن هل نستطيع أن نتصور أفعالنا جميعا كامنة فينا منذ ميلادنا وتظهر بالتوالي؟ وهل نقول إن الكائن عن آخر كان فيه على هيئة مصغرة؟ وهل كانت الحبوب النابتة موجودة في الحبة المزروعة بعددها ومقوماتها لكن في كمية متضائلة؟ هل كان العلم كامنا في الطفل قبل أن نعلمه إياه؟ إذا سايرنا أفلاطون وأجبنا بالإيجاب، بقي أن النفس في مذهب أفلاطون تعلمت في حياة سابقة بكل معنى التعلم، فكانت بالقوة إليه وإلى مزاولة العلم بعد ذلك؛ إذ إن الفكر الكامن شيء ومزاولته شيء آخر.
نتقدم خطوة أخرى في تعريف القوة بالنظر في أنواعها؛ فإنها تنقسم إلى فعلية وانفعالية، وإلى طبيعة ونطقية، وإلى قريبة وبعيدة. القوة الفعلية أو الفاعلية هي قدرة الموجود على إحداث تغيير في موجود آخر ، أو في نفسه بما هو آخر، أي بما هو حاصل على قوة انفعالية إلى جانب قوته الفعلية: كالطبيب الذي يداوي نفسه، فإنه يفعل ذلك بعلمه الطبي الذي هو قوته الفعلية، فيؤثر في مرضه الذي هو آخر بالنسبة إليها ويقبل الدواء. وبعبارة أخرى: إن الموجود الذي يغير ما بنفسه هو مغير ومتغير من وجهتين متمايزتين لا من جهة واحدة. والقوة الانفعالية أو المنفعلة هي قدرة في الموجود على قبول فعل موجود آخر، أو فعل منه هو بما هو آخر، وذلك كالداء بالنسبة إلى المداوي وإلى الدواء في المثال السابق، أو كعقل الطفل بالنسبة إلى المعلوم والمتعلم.
والقوة الطبيعية هي التي في طبيعة الموجود، سواء أكان فاعلا أم منفعلا، وهي محدودة نحو شيء واحد أو وظيفة واحدة: كالنار تسخن، أو العقل يعقل، أو المخيلة تتخيل. والقوة النطقية أو العقلية هي التي في النفس الناطقة بما هي ناطقة، وتتناول العلوم والفنون، وليست محدودة نحو طرف واحد، بل قد تفعل طرفا أو الآخر بحسب الاختيار: فعلم الطب يشتمل على معرفة الصحة والمرض، فهو في النفس قوة الصحة والمرض جميعا، ولو أن معرفة أحد الضدين هي المقصودة فيه بالذات، ومعرفة الضد الآخر بالعرض، فهو يعلم الصحة لكي يحدثها ويصونها، ويعلم المرض ليزيله لا ليحدثه، والإرادة تجرح أحد الضدين. وعلم الأخلاق يشتمل على معرفة الخير والشر، فهو في النفس قوة الاثنين، إلا أن المقصود فيه فعل الخير واجتناب الشر، وقد ترجح الإرادة فعل الشر.
والقوة القريبة هي المهيأة لكل التهيؤ للخروج إلى الفعل حالما تفعل علتها أو يترفع المانع لها، وهي القوة في الحقيقة. أما القوة البعيدة فهي التي لا تخرج إلى الفعل إلا بعد مرورها بالمراحل التي تفصل بينها وبين التهيؤ الأخير، فإذا قلنا إن الكائن الحي هو بالقوة في العناصر الكيميائية، أو إن هذا الطفل فيلسوف أو شاعر بالقوة؛ فإننا نقول ذلك بضرب من التجوز يعود إلى الإمكان المنطقي، وقد بينا أن ليس أي شيء كان هو بالقوة أي شيء كان.
نامعلوم صفحہ