في الفلسفة الحديثة محاولة شهيرة لتفنيد الشك وتأسيس العلم؛ تلك هي محاولة ديكارت،
3
وبالنظر فيها نحدد بعض النقاط السابقة ونتم هذا البحث. يتحدث ديكارت بصيغة المخاطب كأنه يروي قصة شخصية وتجربة نفسية كالغزالي، يقول: إنه بدأ كما يبدأ الشكاك، فاستبعد المحسوسات والمعقولات جميعا، وزاد على أسباب الشك المعروفة افتراض روح خبيث يعبث بعقله، فلا يدع له أدنى ثقة به. ثم لاحظ أن سببا من الأسباب أيا كان لا يمنعه أن يصدق بأنه يفكر طالما هو يشك، وبأنه موجود طالما هو يفكر، فلمعت في نفسه هذه الحقيقة الباهرة: وهي «أنا أفكر وإذن فأنا موجود»، واعتبرها أول وأشد هزيمة للشك، ثم شرع يفحص عن وجود الأشياء التي تصورها له أفكاره، فيوقن بها ويهزم الشك هزيمة نهائية، وكانت أول فكرة استرعت اهتمامه فكرة الله التي تمثل موجودا كاملا لا متناهيا، فوجد أنها صادقة لجلائها وتميزها، وأن صفة اللانهائية تحول دون الظن بأنه استنبط هذه الفكرة من نفسه وهو كائن ناقص، أو استنبطها من العالم الخارجي الناقص كذلك. فهي إذن غريزية طبعها في نفسه الموجود الكامل ذاته، فيما طبع من أفكار. وإذن فالله موجود، والعالم الخارجي موجود؛ إذ إن في النفس ميلا طبيعيا للاعتقاد بأشياء خارجية، وإن الاعتقاد الطبيعي صادر عن موجد الطبيعية الذي هو الله، وإن الله صادق، فلا بد أن يكون قد خلق أشياء مقابلة للأفكار الجليلة المتميزة التي هي وحدها صادقة من بين الأفكار، فإن جلاءها وتميزها والاعتقاد الطبيعي بها دليل على صدورها عن الله. وهكذا خرج ديكارت من الشك إلى اليقين: أراد أن يحل مسألة المعرفة كما وصفها قدماء الشكاك، فاصطنع الشك كنقطة بداية، ثم عمل على التخلص منه، ولذا دعا شكه منهجيا أو افتراضيا. فما الرأي في هذا النهج؟
هذا المنهج غير صالح أصلا، وعيبه الأساسي أنه يبدأ بالشكل الكلي الحقيقي، ومثل هذا الشك يوصد الباب مبدئيا دون أي يقين، فكيف يوضع بداية لمنهج؟ إذا كنا لا نعلم شيئا فنحن لا نعلم شيئا، وقد فرغنا من كل شيء. وما اليقين بأنا أفكر سوى يقين بواقعة جزئية لا تمت بصلة لحقيقة موضوعات الفكر؛ فإن الفكر قد يقع على الباطل كما يقع على الحق. ولا تفيد هذه الواقعة الجزئية في تمييز الحق من الباطل من بين الموضوعات، وهي تفيد حقا في هذا البحث إذا استخلصنا ما تنطوي عليه من مبدأ عقلي ومن شعور العقل بكفايته لمعرفة الحقيقة وهو يتعقل هذا المبدأ، على ما بينا آنفا (12، ك). وهذا جائز سائغ حتى مع افتراض الروح الخبيث، فإن مثل هذا الروح لأعجز من أن يخدعنا عن الأوليات؛ إذ إنه لا يمنع العقل من تصور ما يجده في ذاته من المعارف (أيا كان حظها من الحقيقة)، وأن يجرد فيها المبادئ الأولية ويصدق بهذه المبادئ بداهة وضرورة لعدم افتقارها لحد أوسط. فليس علمنا بوجود الفكر والمفكر بالأمر اليقيني الأوحد في المرحلة الأولى من مراحل المنهج. ولئن كان الأول زمانا عند رجوع العقل على نفسه لنقد معارفه، فليس هو الأول طبعا أي وجودا. قال ديكارت (في القسم الرابع من المقال في المنهج): «ليس في هذا القول (أنا أفكر وإذن فأنا موجود) ما يؤكد لي أن أقول الحق سوى أني أرى بكل وضوح أنه لأجل التفكير يلزم الوجود.» فديكارت نفسه يقر أن قول: «من يفكر فهو موجود» أو «لأجل التفكير يلزم الوجود»، أعم من الواقعة الجزئية «أنا أفكر»، ومتقدم عليها طبعا تقدم الكلي على الجزئي وتقدم الوجود على الفعل أو الحال، فهو إذن قد أخطأ في استبعاد المبادئ الأولية واصطناع الشك المطلق الحقيقي حين شرع ينقد أفكاره ليختار الحقائق من بينها. فورطه هذا الخطأ الأساسي في متناقضات عدة وهو يسير على منهجه.
من هذه المتناقضات؛ أولا: أنه يدلل على وجود الله بواسطة الوضوح ثم يتبع الوضوح لصدق الله؛ وهذا دور ظاهر. ثانيا: محاولة التدليل هذه ضرب من الطغيان والافتئات؛ إذ يمتنع تبرير المعرفة والقوى العارفة بواسطة هذه القوى أنفسها، وهذه المعرفة نفسها بعد أن شك فيها شكا حقيقيا. ثالثا: الوضوح عنده علامة ذاتية شعورية، فلا يصلح علامة للحقيقة ما لم يكن صدى للوضوح الموضوعي الذي يتجلى للعقل في القضايا البينة بذاتها والقضايا المبرهن عليها بحد أوسط. رابعا: الدليل على وجود الله مستمد من فكرة الله، فهو يؤيد في الحقيقة إلى «فكرة وجود الله» وإلى «فكرة صدق الله» لا إلى عين وجود الله وعين صدقه. خامسا: أنه استرد اليقين بصدق العقل بحجة أن العقل من صنع الله وأن الله صادق، وظل على إنكار موضوعية الكيفيات الثانوية في المادية، محتفظا بالكيفيات الأولية فقط التي هي الامتداد وتعييناته المختلفة من حركة وسكون وعدد، مع أن الحواس هي أيضا من صنع الله، وكان واجبا أن تكون صادقة في كل أو معظم ما تؤديه إلينا، ولو ببعض الشروط. الحق أننا لا نفهم كيف يقول ديكارت إن شكه منهجي، وفي كل مرحلة من مراحله عقبة كأداء تعترض تعارض الطريق إلى المرحلة التالية، ومن ثمة تفسد المنهج وصاحبه ماض على وجهه!
متى يكون الشك منهجيا؟ إن الشك إما جزئي أو كلي، وهو في الحالين إما صوري أو حقيقي. وظاهر أن الشك الجزئي يمكن أن يكون منهجيا سواء أكان حقيقيا أم صوريا، وذلك لأنه يدع ما يكفي من الحقائق للبرهنة على هذا الموضوع. فإذا كنت أشك شكا حقيقيا في وجود نفس للإنسان مثلا، وأخذت أنظر في إمكان إثباتها له؛ كان هذا الشك منهجيا، وإذا كنت أعلم أن للإنسان نفسا وأتصنع الشك، على ما يفعل المعلمون في استفهاماتهم الإنكارية؛ فهذا شك منهجي من باب أولى. أما الشك الكلي، فيمتنع أن يكون منهجيا إذا كان حقيقيا، كما ألححنا في بيان ذلك، ويمكن أن يكون منهجيا إذا كان صوريا. ومعنى هذا أننا قد نسلم أن الفحص عن الحقيقة على العموم في بداية نقد العقل يقتضي أن نشك شكا كليا، أي إن نشك في الحقيقة على العموم، فنتحاشى الموقف الاعتقادي الذي يبدو كأنه يحل مسألة المعرفة بالإيمان بالعقل ابتداء واعتسافا، ونتفق مع الشكاك ومع ديكارت في وجوب الفحص عن الحقيقة على العموم، فلا ندع لهم مأخذا علينا. بيد أن الانفصال عن الموقف الاعتقادي يجب أن يقابله انفصال عن الشك الحقيقي والتزام للوسط الذي يخولنا الحق في بحث المسألة والحكم فيها، ويجنبنا التناقض الذي وقع فيه ديكارت والمحتوم أن يقع فيه كل من يحاول الخروج من الشك الكلي الحقيقي. والوسط ههنا أن يتجاهل العقل اليقين الأولي المصاحب لتعلقه البينات والمتبرهنات، وأن يتخيل نفسه شاكا شكا حقيقيا، وينظر في إمكان هذا الشك، فتتبين له استحالته لفرط بيان المبادئ الأولية، فيصدق بها، ثم يعتمد عليها للتدليل على القضايا غير البينة بذاتها. فالشك الكلي المنهجي شكل متخيل لا فعلي ولو إلى وقت مهما قصر.
الفصل الثاني
التصور والوجود
(1) المذهب التصوري
في مطلع الفصل السابق ألقينا هذين السؤالين: هل يعقل العقل الوجود؟ وهل يعقله على حقيقته؟ وكان متعينا قبل الإجابة عنهما أن ندفع عن العقل شبهة العجز عن إدراك الحق، وأن نثبت له إجمالا القدرة على البلوغ إلى اليقين. فنعود الآن إلى السؤالين، وقد شغلت الفلسفة الحديثة كلها بالإجابة عنهما إن إيجابا أو سلبا، مع تفاوت في السلب والإيجاب. وديكارت هو الأصل الذي يرجع إليه ههنا، كما يرجع إليه في كثير من المسائل المستحدثة في الفلسفة. وقد رأيناه يشكل شكا كليا، وينعزل في فكره، ثم يحاول أن يعلم إن كان يسوغ له التصديق بموجودات مقابلة لأفكاره. ما معنى هذا؟ معناه أن الفكر لا يعرف مباشرة سوى تصوراته، وأن ليس في المعرفة وفي التصورات ما يدل على الموضوعية، أي على نسبة إلى موجودات مستقلة عن التصور، وإنما تنتهي المعرفة (دائما وبالذات) إلى التصورات أنفسها، على نحو انتهاء المخيلة إلى الصور في الأحلام، وانتهاء الحواس إلى الإحساسات الكاذبة في اليقظة، وأن لا سبيل لنا إلى العلم بوجود الأجسام وبخصائصها، ومنها جسمنا، إلا الاستنتاج العقلي المبني على مبدأ العلية. فالمنهج الديكارتي يمضي من الفكر إلى الوجود، بينما كانت الفلسفة السلفية تعتبر الوجود أصلا والفكر مرآة له، كما كان (ولا يزال ولن يزال) يعتبر الناس أجمعون.
نامعلوم صفحہ