2
فالمسألة التي تبرز ههنا هي أن لا بد من وسيلة لإتمام الاستقراء التام نفسه، وملء الفراغ بين الجزئيات كجملة وبين الكلي الذي ترجع إليه والذي بسبب احتوائها عليه هي حاصلة على المحمول، وهذا هو المطلب الحق للعلم.
إذا كان هذا واجبا في الاستقراء التام فإنه في الاستقراء الناقص أوجب لما هو بين من أن الانتقال من البعض إلى الكلي (في الاستقراء الناقص) أقل أمانا من الانتقال من الكل إلى الكلي (في الاستقراء التام). وليس يجدي شيئا قول ابن سينا (وقد ردده الغزالي وغيره): إن الاستقراء الناقص يعتمد على أكثر الجزئيات أو على كثير منها، ما دام تمام الاستقراء نفسه لا يكفي، وما دام أكثر وكثير لا يقالان إلا مع اعتبار الكل، والكل هنا لم يستقرأ. أحر بنا أن نقول: إن الاستقراء الناقص يعتمد على «عدد كاف» من الجزئيات، تاركين للفطنة الشخصية مؤيدة بالخبرة العلمية تقدير كافية العدد تبعا لما يتبدى من اتفاق المحمول للجزئيات في أمكنة عدة وأزمنة مختلفة وظروف متباينة. وهذا التفاوت بين عدد الجزئيات وبين الكلي مدعاة أخطاء غير قليلة، يقع فيها الناس بحيث يكون «الاستقراء الناقص غير موجب للعلم الصحيح، فإنه ربما كان ما لم يستقرأ خلاف ما استقرئ، مثل التمساح».
3
في المثال المذكور، فإنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ لا فكه الأسفل كسائر الحيوان. ومثل طير الماء أو البجع المدعو أيضا بالقنس تعريبا للفظ اليوناني،
4
فقديما كان المعتقد أن البياض عرض لازم له بناء على ما كانوا يشاهدون، ولما اكتشفت أستراليا وجد فيها بجع أسود بكل خصائص النوع. أما إذا تبدت لنا نسبة الجزئيات المستقرأة إلى الكلي، أي علة وجود المحمول في تلك الجزئيات، أضحى العدد الكافي مجرد دليل إلى تلك النسبة، غير ذي قيمة في ذات؛ إذ قد يصح الحكم على الكلي بجزئي واحد إذا تأكدنا أن المحمول صادر فعلا عن ماهية هذا الجزئي.
فأساس الاستقراء أو السبب الذي يخولنا الحق في الانتقال من الجزئيات إلى الكلي الشامل لها هو، في الاستقراء التام: أن المحمول الحاصل لكل الجزئيات هو محمول حاصل للموضوع المعادل لها، وهذا أمر بديهي. وفي استقراء الناقص هو: أن المحمول الحاصل لعدد كاف من جزئيات موضوع كلي في أحوال عدة وظروف مختلفة هو محمول حاصل لذلك الموضوع الكلي؛ وهذا أمر بديهي أيضا. فإن تكرار المحمول في الجزئيات دليل على أن المحمول خاصية لازمة عن الماهية المشتركة بين الجزئيات، والثابتة فيها وسط تغير الأعراض، والضامنة لضرورة أفعالها وضرورة القوانين الطبيعية، وإلا كان التكرار بغير علة، وهذا غير معقول. وهكذا نطوي المسافة بين الجزئيات والكلي، ويرجع الاستقراء الناقص إلى الاستقراء التام، وتبطل دعوى الحسيين أن الاستقراء الناقص استدلال سفسطائي يذهب اعتسافا من البعض المستقرأ إلى الكل، فيضع نتيجة كلية حيث لا يجيز انحصار الجزئيات سوى نتيجة جزئية، فحقيقة الاستقراء تلتئم من جزئيات مدركة بالحس ومن مبدأ يطبقه العقل. وما أدق وأبلغ ما قرره ابن سينا بهذا الصدد حيث قال (في منطق النحاة): «المجربات أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس، وذلك أنه إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء تكرر ذلك منا في الذكر (وهذا هو الوجه الحسي)، واقترن به قياس هو أنه لو كان هذا الأمر اتفاقيا عرضيا لا عن مقتضى طبيعته لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف (وهذا هو الوجه العقلي)، حتى إنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة فطلبت سببا لما عرض من أنه لم يوجد.»
مما تقدم يتبين جليا تمايز الاستقراء والقياس تمايزا جوهريا، لا كذلك الخطأ الشائع بأن القياس نزول من الكلي إلى الجزئي، وأن الاستقراء صعود من الجزئي إلى الكلي، فهما كالسلم الواحد يقطع في اتجاهين مختلفين، أجل كثيرا ما ينتهي إلى نتيجة جزئية. ولكن هناك أقيسة صحيحة صادقة نتيجتها مضارعة ما صدقا للمقدمة الكبرى، كقولنا: «كل ناطق فهو ضحاك، والإنسان ناطق، فالإنسان ضحاك.» فظاهر أن «ناطق وإنسان وضحاك» حدود متعادلة؛ إذ ليس يوجد ناطق وضحاك سوى الإنسان. حقيقة القياس أنه انتقال من مبدأ إلى نتيجة بين لزوم النتيجة عن المبدأ بقياس حدين إلى ثالث، وماهيته هي في هذا الارتباط بين الحدود الثلاثة، بغض النظر عن علاقات الكلية والجزئية، فما هذه العلاقات إلا اعتبار ثانوي منطقي.
أما الاستقراء، فإنه انتقال من جزئي إلى كلي يبين ظهور النتيجة أو الكلي من التجربة الحسية، وهو إذن لا يقيس، فلا يحتوي على حد أوسط بمعنى الكلمة، أي حد كلي. ولما كان استدلالا فهو يحتوي على «واسطة» للربط بين المحمول والموضوع في النتيجة، وهذه الواسطة هي الجزئيات المستقرأة يسردها في المقدمة الكبرى لكي يثبت لها المحمول المشاهد في التجربة، ويسردها في المقدمة الصغرى لكي يعادل بينها وبين الكلي الشامل لها؛ فالواسطة وموضوع النتيجة فيه واحد.
نامعلوم صفحہ