الترجمة
الباب الأول
1 - موضوع هذا الباب الأول
2 - المجتمعات الأولى
3 - حق الأقوى
4 - العبودية
5 - يجب الرجوع إلى أول عهد دائما
6 - الميثاق الاجتماعي
7 - السيد
8 - الحال المدنية
9 - التملك
الباب الثاني
1 - امتناع التنزل عن السيادة
2 - امتناع انقسام السيادة
3 - أيمكن أن تضل الإرادة العامة؟
4 - حدود السلطة ذات السيادة
5 - حق الحياة والموت
6 - القانون
7 - المشترع
8 - الشعب
9 - طرق الاشتراع المختلفة
10 - تقسيم القوانين
الباب الثالث
1 - الحكومة على العموم
2 - المبدأ الناظم لمختلف أشكال الحكومة
3 - تقسيم الحكومات
4 - الديمقراطية
5 - الأرستقراطية
6 - الملكية
7 - الحكومات المركبة
8 - لا يلائم كل شكل للحكومة جميع البلدان
9 - علامات الحكومة الصالحة
10 - إساءة استعمال الحكومة وتدرجها إلى الانحطاط
11 - موت الهيئة السياسية
12 - كيف تدوم السلطة صاحبة السيادة
13 - نواب أو ممثلون
14 - كون نظام الحكومة ليس عقدا مطلقا
15 - نظام الحكومة
16 - وسيلة منع اغتصابات الحكومة
الباب الرابع
1 - كون الإرادة العامة لا تضمحل
2 - التصويت
3 - الانتخابات
4 - مجالس الشعب الرومانية
5 - المحاماة عن الشعب
6 - الحكم المطلق
7 - الرقابة
8 - الدين المدني
الخاتمة
الترجمة
الباب الأول
1 - موضوع هذا الباب الأول
2 - المجتمعات الأولى
3 - حق الأقوى
4 - العبودية
5 - يجب الرجوع إلى أول عهد دائما
6 - الميثاق الاجتماعي
7 - السيد
8 - الحال المدنية
9 - التملك
الباب الثاني
1 - امتناع التنزل عن السيادة
2 - امتناع انقسام السيادة
3 - أيمكن أن تضل الإرادة العامة؟
4 - حدود السلطة ذات السيادة
5 - حق الحياة والموت
6 - القانون
7 - المشترع
8 - الشعب
9 - طرق الاشتراع المختلفة
10 - تقسيم القوانين
الباب الثالث
1 - الحكومة على العموم
2 - المبدأ الناظم لمختلف أشكال الحكومة
3 - تقسيم الحكومات
4 - الديمقراطية
5 - الأرستقراطية
6 - الملكية
7 - الحكومات المركبة
8 - لا يلائم كل شكل للحكومة جميع البلدان
9 - علامات الحكومة الصالحة
10 - إساءة استعمال الحكومة وتدرجها إلى الانحطاط
11 - موت الهيئة السياسية
12 - كيف تدوم السلطة صاحبة السيادة
13 - نواب أو ممثلون
14 - كون نظام الحكومة ليس عقدا مطلقا
15 - نظام الحكومة
16 - وسيلة منع اغتصابات الحكومة
الباب الرابع
1 - كون الإرادة العامة لا تضمحل
2 - التصويت
3 - الانتخابات
4 - مجالس الشعب الرومانية
5 - المحاماة عن الشعب
6 - الحكم المطلق
7 - الرقابة
8 - الدين المدني
الخاتمة
العقد الاجتماعي
العقد الاجتماعي
تأليف
جان جاك روسو
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم
بقلم عادل زعيتر
أقدم ترجمة «العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية» لجان جاك روسو ...
في اليوم الثامن والعشرين من يونيو
1
سنة 1712 ولد جان جاك روسو في جنيف .
وكان أبوه إسحق ساعيا،
2
وكانت أمه سوزان برنارد ابنة قسيس، وكان جده الأعلى ديديه روسو قد هاجر من باريس إلى جنيف في سنة 1550؛ أي أيام الحروب الدينية، وقد استقرت أسرته، التي هي من أصل فرنسي خالص، بهذه المدينة منذ ذلك الحين.
ولم يعرف روسو أمه سوزان برنارد؛ فقد ماتت بعيد ولادته، ولم يكن ليجاوز اليوم الثامن من عمره حينما فقدها، فقام أبوه بشئون تربيته في البداءة، ولكن من غير أن يعنى بأمر تهذيبه كما يجب، ومع ذلك فقد تعلم القراءة ابنا للسادسة، وطالع مع أبيه كتبا كثيرة قبل بلوغه العاشرة من سنيه.
وكان أبوه إسحق نزقا عاطفيا ذا أثرة، ومما حدث في سنة 1722 أن تشاجر هو وضابط في جنيف قريب للقاضي الذي يحكم في الدعوى، ففر من جنيف؛ خشية القسوة عليه، وأقام بقرية نيون البعيدة حيث تزوج واستقر حتى آخر حياته، وقد ندر اجتماعه بابنه بعد ذلك.
ويقوم بشأن تربيته بعد فرار أبيه خاله برنارد الذي كان مهندسا في مدينة جنيف، ويرسله خاله هذا إلى كاهن بواسي، لانبرسيه؛ ليتعهد أموره، فقضى عنده عامين، ويكسر مشط لأخت معلمه، ويعاقبه معلمه هذا على فعل لم يقترفه، فيألم كثيرا، ويعود إلى منزل خاله سنة 1724، وتحسن زوج خاله معاملته، وتعطف عليه.
ويبلغ الثالثة عشرة من سنيه، ويجعله خاله تلميذا لدى موثق على الرغم منه، ويزدريه معلمه لعدم نجاحه، ويعيده إلى خاله، فيرسله إلى نحات في سنة 1725، ويحب فن النحت، ولكن النحات يقسو عليه، ويكثر ضربه ويجعله بائسا مكارا خبيثا، وفي سنة 1728 حين كان في السادس عشر من عمره، ذهب مع أصدقاء له للنزهة خارج جنيف، ولما عاد مساء وجد أبواب هذه المدينة مقفلة، فتمثلت له غلظة أستاذه، ولم يرجع إليه، وصار يطوف حول جنيف أياما ويعيش مع الأشرار فانحط.
ويقصد روسو دير كونفنيون بمديرية سافوا الإيطالية، ويلقنه كاهن هذا الدير، بونفير، مبادئ الكثلكة، ويبعده عن البروتستانية التي كان يدين بها، ويرسله إلى مدام دوفارنز بمدينة أنسي، وكانت هذه السيدة بالغة الجمال فحاولت أن تجعله كاثوليكيا مقبولا في مدرسة كاتشو من بتورين حيث ارتد عن البروتستانية.
وجد روسو رجال دير تورين فاسدي السيرة، وود لو ينجو منه، فساعده على الخلاص كاهن عطوف قام بزيارة عابرة لذلك الدير، وهكذا هرب روسو منه ليعود إلى سابق فقره.
ظل روسو عاطلا من العمل جائلا في الطرق حتى نفذ جميع ما عنده من نقد، وكاد يموت جوعا فرجع إلى ذلك الكاهن المحسن فأشركه في معيشته موصيا إياه بالصبر واحتمال الألم ... ومن هذا الكاهن اقتبس الإخلاص وحب الإنسانية ومقت النفاق.
ويبحث روسو عن عمل يعيش منه، ويستخدم في حانوت حسناء إيطالية، ويطرده زوجها عن غيرة، ويعمل عند أرملة غنية، وتموت هذه السيدة، ثم يصير خادم مائدة في بيت إحدى الأسر النبيلة، ثم يزوره صديق من جنيف فيرافقه ويترك الخدمة مفضلا الحرية على الاستقرار.
ويفرغ كيسه، ويقصد ثانية منزل مدام دوفارنز بمدينة أنسي سنة 1729 ابنا للثامنة عشرة، فيرحب به، ويقضي في هذه المدينة حياة سعادة، يقضيها في القراءة والدراسة، وترسله مدام دوفارنز إلى إحدى المدارس لإتقان اللاتينية فيقرر أساتذته عدم صلاحه لهذا، ويسافر إلى ليون بعد شتاء يقضيه في منزل تلك السيدة، ويلقى حياة قاسية في ليون، ويعود إلى ذلك المنزل فيجد مدام دوفارنز مسافرة، ويسأل فلا يعرف أين تقيم، ولا متى تعود.
ومن المصادفات أن لاقى في أنسي خادمة جاءت للبحث عن مداد دوفارنز فلم تعلم أين هي أيضا، ويسافر مع هذه الخادمة إلى قرية فريبرغ حيث يقيم أبوها، ويمر في طريقه على أبيه في قرية نيون، ويتعانقان، ولا تحسن زوج أبيه قبوله، فيداوم على سفره إلى قرية فريبرغ، ولا يحسن أبو الخادمة استقباله، فيتوجه إلى مدينة لوزان معسرا كسيرا.
وفي لوزان يزعم أنه أهل لتعليم الموسيقا مدعيا أنه تعلمها في باريس؛ مع أنه لم يرها حتى ذلك الحين، وهو على ما كان من كلفه بالموسيقا كان جاهلا لها، فيمنى بحبوط ذريع.
ويغلب الغموض على تاريخ تلك المغامرات التي حدث عنها في «اعترافاته»، ولكنها وقعت في ثلاث سنين كما يظهر ، فلما حلت سنة 1731 ذهب إلى مدينة بودري فوجد في أحد فنادقها قسيسا يحدث بلغة لا يعرفها غير روسو، فاتخذ روسو ترجمانا له، وصار يجوب معه بلادا كثيرة حتى انتهيا إلى سولور، فأعجب السفير الفرنسي فيها بروسو وجعله موضع رعايته، ويرسله إلى باريس مع ضابط صغير، ويعتريه سأم من باريس ومظاهرها، ويعلم نبأ عودة مدام دوفارنز إلى أنسي ويرجع إليها.
بلغ ليون خاوي الوفاض، فأخذ ينسخ قطعا من الموسيقا، وظل يصنع هذا أياما حتى تلقى كتابا من مدام دوفارنز تدعوه فيه إلى مدينة شانبري، فلبى الدعوة غير آسف على ليون؛ لبعدها من الحياة الريفية، وقد بقي محل رعاية مدام دوفارنز، وقضى حياة هدوء عندها سنين كثيرة؛ سواء أفي شانبري أم في شارمت، وفي هاتين المدينتين أمعن روسو في دراسة شتى العلوم فكان لذلك أبلغ الأثر في كتابة رسائله وكتبه القادمة.
وفي سنة 1738 يصاب روسو بمرض شديد، ويرسل إلى كلية مونبليه للمعالجة، ولم تحسن مدام دوفارنز استقباله بعد شفائه لاشتعال قلبها بغرام حبيب آخر، وما بذله روسو من جهود كثيرة لإقصاء هذا المنافس كان على غير جدوى.
وفي سنة 1740 سافر إلى ليون حيث مكث عاما، وحيث اتخذ مربيا لأبناء حاكم ليون الأكبر دومابلي، ثم عاد إلى شارمت عن شوق إلى مدام دوفارنز، فكان قبولها له حسنا على غير ما ينتظر، ولكن مع بقاء الحبيب المنافس محتلا للمكان الأول من فؤادها، فعزم على السفر إلى باريس.
ذهب إلى باريس سنة 1741 بالغا التاسعة والعشرين من سنيه، ونزل بفندق سان كنتان الوضيع، وقد كان ذا مزاعم في الموسيقا، وقد جد في كسب عيشه من هذا الفن، فعرض في سنة 1742 على مجمع العلوم منهاجه فيها فلم يجده هذا المجمع جديدا ولا نافعا، فرده، غير أن النجاح إذا لم يكن حليفه في هذا الحقل كانت له تعزية بما اتفق له من اتصال برجال العلم والأدب والفلسفة في باريس وانتفاعه بمعارفهم.
وفي ذلك الفندق وقع نظر روسو على فتاة ريفية اسمها تريز لوفاسور بالغة من العمر اثنتين وعشرين سنة، وكانت هذه الفتاة تعمل خادمة فيه، وكانت من أهل أورليان، وقد رق روسو لها؛ لما رأى من هزوء الناس بها؛ لبساطتها وبلهها، فاتخذها رفيقة له عن حب وعاطفة، وغادرا الفندق، وقد دامت حياتهما معا ستا وعشرين سنة.
والحق أن تريز كانت على جانب عظيم من الغباوة، وكانت لا تحسن شيئا من القراءة والكتابة، وكانت كثيرة الشغب والنزاع، ومع ذلك كان روسو كثير الإعجاب بها، ناظرا إليها بعين الحب، راضيا بجمالها وحسن صوتها، متجاوزا عن عيوبها وفقرها، مغضيا عما يفصله عنها من عبقرية ونبوغ، وقد دامت حاله هذه نحوها اثنتي عشرة سنة.
وتغير حب تريز له مع الزمن، وصارت لا تبالي به ولا تفكر فيه، وطلبت منه الفراق قبل موته بتسع سنين؛ فقد ولدت له خمسة أولاد، وسلمهم إلى ملجأ اللقطاء على مضض من الأم، وذلك من غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل، ويعتذر عن ذلك بفقره واضطراره إلى كسب عيشه بكده، وإن كان يهدف في الحقيقة إلى الحياة الحرة الطليقة التي لا تشغل باله بولد، وفي ذلك من الابتعاد عن الإنسانية والمروءة وحس الواجب ما لا يخفى، وقد أراد روسو أن يكفر عن خطيئته هذه التي لا تغتفر بوضعه كتاب «إميل» العظيم الشأن فيما بعد، ومع ذلك فقد وجد من شك في صحة حكاية أطفاله الخمسة تلك ذاهبا إلى أنها دست في «اعترافاته» التي نشرت بعد موته.
وفي اعترافاته تلك يذكر روسو أنه صرح رسميا بزواجه بتريز بعد معاشرته إياها ربع قرن، وقد صرفها بذلك عن طلبها الفراق، فظلت رفيقة له إلى أن مات، وإن لازمها الغم والألم؛ حزنا على أطفالها أولئك.
قلنا إن روسو ذهب إلى باريس، وفي هذه المدينة قضى حياة عسيرة ككتاب ذلك العصر؛ فقد كان يتعيش من استنساخ القطع الموسيقية فيها مع قبوله في رداه المجتمع الراقي، ثم ذهب إلى البندقية سكرتيرا لسفير فرنسة دو مونتيغ.
ويعود روسو إلى باريس حيث أصبح مستخدما لدى الملتزم العام دوبان سنة 1748، وفي ذلك الحين يقدم إلى مدام ديبيناي، ويرتبط بأواصر الصداقة في ديدرو الذي كان من رجال الشعب أيضا فيقضي حياة شاقة مثله في باريس.
وبينا كان ذلك حال روسو في سنة 1749، حين كان ابنا للسابعة والثلاثين نشرت أكاديمية ديجون إعلان مسابقة في موضوع: «هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق، أو إلى إصلاحها؟» وكان صديقه ديدرو في سجن فنسن وقتئذ بسبب «رسالته عن العمي»، فاطلع على ذلك الإعلان حين ذهابه إلى زيارته، فعن له وهو في الطريق أن يشترك في المسابقة، ويكلم ديدرو في الأمر فيشير عليه بالتزام جانب إفساد العلوم والفنون للأخلاق؛ لما في هذا من طرافة وتوجيه نظر، ولما ينطوي التزام جانب إصلاحهما للأخلاق من ابتذال.
أعمل روسو ذهنه وجمع قواه، وكتب في الموضوع فأقام الدليل على أن العلوم والفنون أفسدت الأخلاق، وأوجبت شقاء الإنسان، وادعى أن الترف والحضارة من نتائج العلوم والفنون، وأنهما علة فساد الأخلاق؛ فقال بالرجوع إلى الحال الطبيعية، ومما ذهب إليه في تلك الرسالة كون الثقافة أقرب إلى الشر منها إلى الخير، وكون التفكير مناقضا لطبيعة الإنسان، وكون الفضيلة والأمانة والصدق لا أثر لها في غير الحال الطبيعية؛ حيث لا علوم ولا فنون ... وكتب روسو رسالته تلك بقلم حار وعاطفة جارفة، فجاءت مبتكرة في مجتمع بلغ الغاية في المدنية، مخالفة لما عليه الجمهور، فنال روسو بها الجائزة.
ويعد روسو في رسالته تلك كالمحامي الذي يلتزم طرفا واحدا في المرافعات، فيصعب تصديق جديته في تمثيل دوره، ولذلك لا تتجلى أهمية رسالته تلك في اشتمالها على مذهب إيجابي، بل في كونها مفتاحا لنشوء روسو الذهني، وفي كونها مرحلة مؤدية إلى «العقد الاجتماعي». فالواقع أن هذه الرسالة تحتوي أصل مذهب روسو وعقيدته، ومنها تعلم عداوته للترف والمدنية ونظام الطبقات، كما يعلم منها دفاعه عن الحرية.
ويذيع صيت روسو بتلك الرسالة بعد خمول ذكر، ويعجب بها كتاب، ويحمل عليها آخرون، ويجيب روسو عن النقد الموجه إليه بأنه لم يرد الرجوع بالناس إلى الوراء، وإنما أراد العود إلى الفضائل، والابتعاد عن الترف والرذائل، وسيادة المساواة بين الأنام.
ويرى روسو بعد وضع تلك الرسالة أن يوفق بين سلوكه وما عرضه فيها من مبادئ ويعيش مستقلا، فيترك مكانه مستخدما، ويجعل من نفسه ناسخا للموسيقا.
وفي سنة 1753 أعلنت أكاديمية ديجون مسابقة أخرى عنوانها «ما أصل التفاوت بين الناس؟ وهل أجازه القانون الطبيعي؟» ويشترك روسو في المسابقة؛ لما لاقى من نجاح في الأولى، ولكنه لم ينل الجائزة؛ لشدة حمله على الاستبداد، وينشرها في سنة 1755 مقدمة إلى جمهورية جنيف، ويذهب إلى جنيف بعد إصدارها، ويعود إلى باريس منتحلا البروتستانية، حاملا لقب مواطن بجنيف.
وتدل كلمة «الطبيعة» هنا على تطور كبير، فلا يعارض روسو بها شرور المجتمع معارضة فارغة، بل تنطوي على أمور إيجابية، فترى نصف «أصل التفاوت» يشتمل على وصف خيالي لحال الطبيعة التي يكون الإنسان فيها محصورا ضمن أضيق مجال مع قليل احتياج إلى أمثاله، وقليل اكتراث لما وراء احتياجات الساعة الحاضرة.
وفي هذه الرسالة يصرح روسو بأنه لا يفترض وجود الحال الطبيعية فعلا، وإنما يستحسن حالا من الهمجية متوسطة بين الحال الطبيعية والحال الاجتماعية يحافظ الناس بها على البساطة ومنافع الطبيعة ... ويظهر من تعليقات روسو على متن الرسالة أنه لا يريد رجوع المجتمع الفاسد الحاضر إلى حال الطبيعة، وإنما يعد المجتمع أمرا لا مفر منه مع فساده ... وهو يعلل هذا الفساد بالتفاوت بين أفراد المجتمع في المعاملات والحقوق فيتغنى بالإنسان الطبيعي الطاهر، ويقول بتلك الحال المتوسطة؛ حيث تسود المساواة.
وقد وجد من يؤاخذ روسو على سلوكه منهاج التاريخ في «أصل التفاوت»، مع أنه لم يحرص على إلباس هذه الرسالة ثوبا تاريخيا، وانتحال المناحي التاريخية الزائفة من خصائص القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، وروسو لم يبال بهذه المناحي.
وفي سنة 1755 نشر روسو رسالة «الاقتصاد السياسي»، وهنالك شك في كونها وضعت قبل رسالة «أصل التفاوت» أو بعدها، فالذي يظهر أول وهلة كون رسالة «الاقتصاد السياسي»، على نمط «العقد الاجتماعي»، وهذا يدل على أنها ألفت بعد «أصل التفاوت».
ومهما يكن من أمر فإن روسو بدأ هذه الرسالة بمناقشة حول طبيعة الدولة وإمكان التوفيق بين وجودها وحرية الإنسان، فرأى أن الدولة هيئة تهدف إلى سعادة جميع أعضائها، وجعل جميع وجهات نظره في الجباية تابعا لهذا الهدف، وذهب إلى أن الكماليات وحدها هي ما يجب أن يكون تابعا للضرائب، وإلى وجوب فرض ضرائب فادحة على أمور الترف، وإلى عدم وضع ضريبة على الحاجيات كالقمح والملح.
ولم تشتمل رسالة «الاقتصاد السياسي»، على كثير من مباحث الاقتصاد المعروفة، بل تحتوي آراء روسو السياسية إجمالا، وقد وضعها أيام عمت المجاعة فرنسة فكان الفقراء يموتون عن احتياج، على حين يتمتع الأغنياء بأطايب النعم وضروب الترف.
وقسم «الاقتصاد السياسي» الأول هو أكثر ما يستوقف النظر؛ فهو يهدم ما يبالغ فيه غالبا من المقابلة بين الدولة والأسرة، فيذهب إلى أن الدولة ليست ذات طبيعة أبوية، وأنها تقوم على إرادة أعضائها العامة.
ومن مطالعة كتاب «الاقتصاد السياسي» يرى أن روسو كاد يبلغ به مرحلة النضج في آرائه السياسية، فكان هذا مبشرا بكتاب «العقد الاجتماعي» في نهاية الأمر. •••
ظهر «العقد الاجتماعي» مع كتاب «إميل» سنة 1762، فدل بذلك على بلوغه الذروة من عمله، والواقع أن «العقد الاجتماعي» يشتمل عمليا على نظريته السياسية الإنشائية كلها، ويدل عنوانه على موضوعه، ويسمى هذا الكتاب «مبادئ الحقوق السياسية»، أيضا، ويوضح هذا العنوان الثاني العنوان الأول.
وضع روسو هذا الكتاب، وكان من الخطر البالغ أن يجهر الإنسان بأي رأي حر حينما وضعه، وكان روسو جريئا في كل ما أبداه فيه، وفي هذا الكتاب حمل روسو على الرق وعدم المساواة، وناضل عن حقوق الإنسان وأقامها على طبيعة الأمور، وقال إن هدف كل نظام اجتماعي وسياسي هو حفظ حقوق كل فرد، وإن الشعب وحده هو صاحب السيادة. وكان يهدف إلى النظام الجمهوري، فتحقق هذا النظام بالثورة الفرنسية بعد ثلاثين سنة حين اتخذ «العقد الاجتماعي» إنجيل هذه الثورة.
ولم يقل روسو بحكومات زمنه لمنافاتها للطبيعة، ويقوم مذهبه على كون الإنسان صالحا بطبيعته، محبا للعدل والنظام، فأفسده المجتمع وجعله بائسا، والمجتمع سيئ؛ لأنه لا يساوي بين الناس والمنافع، والتملك جائر؛ لأنه مقتطع من الملك الشائع الذي يجب أن يكون خاصا بالإنسانية وحدها، فيجب أن يقضى على المجتمع إذن، وأن يرجع إلى الطبيعة، وهنالك يتفق الناس بعقد اجتماعي على إقامة مجتمع يرضى به الجميع، فيقيمون بذلك حكومة تمنح الجميع ذات الحقوق، فتقوم سيادة الشعب مقام سيادة الملك، ويتساوى فيها الناس وتنظم الثروة والتربية والديانة.
وفي كتاب «إميل» ظهر روسو الفيلسوف المربي بجانب روسو الفيلسوف الاجتماعي، وقد حاول روسو أن يكفر بكتاب «إميل» عن خطيئته تجاه أولاده - كما قلنا - ويعد روسو بهذا الكتاب مؤسس التربية الحديثة، ففيه ألقى دروسا ممتعة في تربية الأطفال، ومذاهب التربية، والفضيلة والحياة الزوجية، وقد نال كتاب «إميل» من بعد الصيت والأثر ما أصبح معه معول علماء التربية، حتى إن الفيلسوف الألماني الكبير كنت تأثر به كثيرا، وكنت حينما أخذ يطالعه أبى مغادرة منزله إلى نزهته اليومية قبل الفراغ من قراءته، وكنت من تعلم تمسكه بنزهته تلك، وعدم عدوله عنها إلا لأمر جلل.
وقد ألف روسو قصة حياته الخاصة في «اعترافاته»، فوضع الجزء الأول منها سنة 1766، وقد ظهر روسو في هذا الكتاب مثال القاضي المؤرخ العادل النزيه، فلم يكتم شيئا من خطيئاته، ولم يزد في حسناته، ولم تنشر هذه «الاعترافات» إلا بعد موته، وعليها يعتمد في ترجمة حياته.
قلنا إن روسو عاد من جنيف إلى باريس منتحلا البروتستانية، وتعرض عليه صديقته مدام ديبناي في سنة 1756 ملجا في وادي مونمورنسي بالإرميتاج، فيقبله، وهنالك كتب رواية إلوئيز عن حب كان يشعر به نحو بنت أخت مدام ديبيناي، مدام دو ديتو، التي كانت ذات صلة بالشاعر لنبر، وقد كان لهذا الغرام المحزن أثر سيئ في نفس روسو؛ فقد أصبح قاتم الطبع، فقطع اتصاله بمدام ديبيناي، وغادر الإرميتاج ليأوي إلى مونلويس بالقرب من مونمورنسي، إلى هذا المأوى الذي قدمه إليه مريشال لوكسنبرغ، وإلى هذا الدور ترجع نظرياته الاجتماعية وأفكاره الإصلاحية التي أدرجها في «العقد الاجتماعي» و«إميل» وفي رسالته إلى دالنبر عن المسارح، فباعدت هذه الرسالة بينه وبين فولتير ، وألقت بينهما بذور البغضاء، وفي «إميل» هاجم عقيدة الوحي منكرا له مع قوله بوجود الإله، فحكمت عليه جنيف وباريس والبرلمان، فهاجر إلى مونته ترافير في حكومة نوشاتل؛ حيث قضى حياة غريبة وتزيا بزي الأرمن، وحيث وضع في سنة 1764 دفاعا عن «إميل»، ويحمل على مغادرة سويسرة، ويستقر بإنكلترة، بفونون، عند الفيلسوف الإنكليزي هيوم، ويكتب القسم الأول من «اعترافاته»، ولكنه لم يلبث أن ترك هذا الفيلسوف الإنكليزي متهما إياه بالائتمار به مع أعدائه.
ويعود روسو إلى باريس في سنة 1770 بعد طواف في عدة مدن بدوفينه، متنكرا؛ خشية الاعتقال، ويقيم بباريس سبع سنين غير واثق بأحد متمتعا بجمال الطبيعة في ضواحيها، ويكسب عيشه من نسخ قطع من الموسيقا، ويبتعد عن الناس والأصدقاء، ثم يترك استنساخ القطع الموسيقية عن ضعف وعجز فيغدو معوزا إلى الغاية.
وفي السنة الأخيرة من حياته يقدم إليه صديقه دو جيراردن ملجا في إرمنونفيل البعيدة من باريس نحو عشرين كيلومترا فيقبله، ويموت فجأة بعد ستة أسابيع من انزوائه في هذا الكوخ، وكان ذلك في 3 من يوليو
3
سنة 1778، تاركا هذه الحياة وما فيها من أحزان وآلام - ويظن على غير حق أنه مات مسموما أو منتحرا بطلقة فرد - ويدفن بجزيرة الحور في إرمنونفيل.
ويرقد في هذه الجزيرة حتى سنة 1794، وفي 20 من فنديمور من السنة الثالثة (11 من أكتوبر
4
سنة 1794) ينقل رفاته باحتفال عظيم إلى مدفن العظماء بباريس (البانتيون) وفق مرسوم أصدره مجلس العهد، وذلك مع بقاء ضريحه قائما في تلك الجزيرة حيث مكث مدفونا ستة عشر عاما. •••
كان روسو سيئ الحظ فعاش شريدا بائسا، ولعله كان لهذا أثر في عبقريته ووضع مبادئه، وعاش روسو في بيئة فاسدة قاسية، وكان لهذا عمل عظيم في نضج آرائه والكشف عن كثير مما يحيط به من المفاسد والشرور، والجهر بآرائه في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.
وكان روسو عليلا فآثر الحياة الهادئة على غيرها، فكان هذا عاملا في عمق تفكيره، وحمل روسو على العقل، ورفع من شأن الشعور؛ فقال: إن العقل إذا ما استطاع أن ينقض العقيدة بالله ، وأن ينكر الخلود؛ فإن الشعور يؤيدهما، فلماذا لا نصدق الشعور بدلا من الشك الجامح الذي يؤدي إليه العقل؟ وقد أراد «كنت» أن ينقذ الدين من العقل كذلك، فقامت رسالته على ذلك أيضا.
ويعد روسو من أعظم من أنجبتهم فرنسة من الكتاب، غير أن آراءه تقبل أو ترفض على حسب الأمزجة، وهو يحب أو يكره ككاتب أوحى بالثورة الفرنسية قبل كل شيء.
والآن يوجد لكتبه معنيان، فبها ينفذ إلى الذهنية التي كانت سائدة للقرن الثامن عشر، وهي ذات أثر بالغ في حوادث أوربة التي وقعت فيما بعد، وبهذه الكتب يمثل روسو في عالم الفكر السياسي مرحلة الانتقال من النظرية التقليدية للدولة في القرون الوسطى إلى الفلسفة الحديثة حول الدولة.
ولم يعالج روسو نظم الدول الموجودة، خلافا لما صنع مونتسكيو وفولتير، فبينما كان مونتسكيو وفولتير، اللذان هما من أبناء الطبقة العليا، يقتصران على المطالبة بالإصلاح السياسي والديني وثلم شوكة الاستبداد، كان ابن الساعي روسو، كان ابن الشعب روسو، الذي قضى شبابا قاسيا، ينتهي بآلامه إلى ضرورة تجديد الدولة والمجتمع تجديدا كليا، ومن قول روسو: «لم يهدف مونتسكيو إلى معالجة مبادئ الحق السياسي، وإنما كان يكتفي بمعالجة الحق الوضعي (القانون) للحكومة القائمة، فلا يمكن أن يبدو اختلاف بين دراستين أكثر من هذا.» ومن ثم يكون روسو قد تمثل موضوعه مختلفا عن موضوع «روح الشرائع» كل الاختلاف.
وعن روسو وما كتب يقول المؤرخ الاسكتلندي المشهور توماس كارليل: «لقد قدر العالم على إلجاء ذلك البطل إلى الأسطحة، وعلى اتخاذه أضحوكة يسخر منها كما يسخر من البله والمجانين، وعلى إجاعته وتركه يتضور جوعا كالوحش المسجون، فهل قدر العالم على منعه من إضرام الثورة وإشعال الأرض نارا تلظى؟ لقد وجدت الثورة الفرنسية إنجيلها في كتابات روسو، وقد أحدثت آراؤه الشبيهة بالجنون في آفات المدنية وتفضيله عيش المتوحشين على عيش المتمدنين جنونا فاض في أنحاء فرنسة وغمرها.»
نابلس
الترجمة
تنبيه
استخلصت هذه الرسالة الصغيرة من كتاب أكثر اتساعا، من كتاب شرعت فيه قديما من غير أن أزن قدرتي فتركته زمنا طويلا، وهذا المقتطف هو أعظم ما أمكن اختياره من مختلف المختارات التي اقتبستها مما كتبت، وقد بدا لي أنه أقل تفها مما يعرض على الجمهور، وعاد ما بقي غير موجود.
الباب الأول
أريد البحث عن إمكان وجود قاعدة إدارية شرعية صحيحة في النظام المدني عند النظر إلى الناس كما هم عليه، وإلى القوانين كما يمكن أن تكون عليه، وسأحاول أن أمزج دائما، بين ما يبيحه الحق وما تأمر به المصلحة؛ وذلك لكيلا يفصل بين العدل والمنفعة مطلقا.
وأدخل في البحث من غير أن أثبت أهمية موضوعي، وسأسأل عن كوني أميرا أو مشترعا حتى أكتب في السياسة! ويكون جوابي: كلا، ولذا أكتب عن السياسة، ولو كنت أميرا أو مشترعا ما أضعت وقتي في قول ما يجب أن يصنع، وأصنع ذلك أو أسكت.
وقد ولدت مواطنا في دولة حرة، وعضوا لصاحبة سيادة، وعلى ما يمكن أن يكون لصوتي في الشئون العامة من نفوذ ضعيف يكفي ما لي من حق التصويت فيها لحملي على القيام بواجب دراستها، وأراني سعيدا عندما أنعم النظر في الحكومات فأجد في مباحثي دائما أسبابا جديدة أحب بها ما هو خاص ببلدي منها.
الفصل الأول
موضوع هذا الباب الأول
يولد الإنسان حرا، ويوجد الإنسان مقيدا في كل مكان، وهو يظن أنه سيد الآخرين، وهو يظل عبدا أكثر منهم، وكيف وقع هذا التحول؟ أجهل ذلك، وما الذي يمكن أن يجعله شرعيا؟ أراني قادرا على حل هذه المسألة.
لو كنت لا أنظر إلى غير القوة وإلى غير ما يشتق منها من أثر لقلت إن الخير هو ما يصنع الشعب ما أكره على الطاعة وأطاع، وأحسن من ذلك أن يخلع النير عنه عندما يستطيع صنع هذا؛ وذلك لأنه باسترداده حريته لذات الحق الذي نزعت به منه إما أن يكون معذورا باستردادها، وإما أن يكون من نزعوها منه غير معذورين في ذلك، غير أن النظام الاجتماعي حق مقدس يصلح قاعدة لجميع الحقوق الأخرى، ومع ذلك فإن هذا الحق لا يصدر عن الطبيعة مطلقا، وهو، إذن، قائم على عهود، والموضوع هو أن تعرف هذه العهود، وأرى أن أثبت ما أسلفت قبل أن أتناول ذلك.
الفصل الثاني
المجتمعات الأولى
مجتمع الأسرة هو أقدم المجتمعات، وهو المجتمع الطبيعي الوحيد، وذلك إلى أن الأولاد لا يبقون مرتبطين في الأب إلا للزمن الذي يحتاجون فيه إليه لحفظ أنفسهم، وتنحل الرابطة الطبيعية عند انقطاع هذا الاحتياج، ويعود الأولاد إلى الاستقلال بالتساوي عندما يحلون من الطاعة الواجبة عليهم نحو الأب، ويحل الأب من رعاية الأولاد الواجبة عليه، وهم إذا ما استمروا على البقاء متحدين عاد هذا لا يكون طبعا، بل طوعا، ولم تدم الأسرة نفسها إلا عهدا.
وهذه الحرية العامة هي نتيجة طبيعة الإنسان، وقانون الإنسان الأول هو أن يعنى ببقائه الخاص، وواجبه تجاه نفسه هو أول ما يحرص عليه، وهو إذا ما بلغ سن الرشد أصبح سيد نفسه؛ لما يكون بذلك حكما في وسائله الخاصة.
ويمكن أن تعد الأسرة، إذن، أول نموذج للمجتمعات السياسية؛ حيث يكون الرئيس صورة الأب، والشعب صورة الأولاد، وبما أن الجميع يولدون أحرارا متساوين فإنهم لا يتنزلون عن حريتهم إلا لنفعهم، وكل الفرق هو أن حب الأب لأولاده في الأسرة يؤديه بما يرعاهم به، وأن لذة القيادة في الدولة تقوم مقام هذا الحب الذي لا يحمله الرئيس نحو رعاياه.
وينكر غروسيوس قيام كل سلطة بشرية نفعا للمحكوم فيهم، ويورد الرق مثالا، ويقوم طرازه المعتاد في التعليل على تقرير الحق بالواقع
1
دائما. أجل، يمكن اتخاذ منهاج أكثر منه منطقا، ولكن لا شيء يكون للطغاة أكثر منه ملاءمة.
وعند غروسيوس أن من المشكوك فيه، إذن، كون الجنس البشري تابعا لمئة من الناس، أو كون هؤلاء المئة من الناس تابعين للجنس البشري، ويبدو في جميع كتابه ميله إلى الرأي الأول، وهذا هو شعور هوبز أيضا، وهكذا يكون النوع البشري مقسوما إلى قطعان من حيوان فيكون لكل قطيع منها سائسه الذي يرعاه ليلتهمه.
وبما أن الراعي أعلى من قطيعه طبيعة فإن رعاة الناس، الذين هم رؤساء لهم ، أعلى من شعوبهم طبيعة، وهكذا كان يرى الإمبراطور كليغولا على رواية فيلون، مستنتجا من هذا القياس أن الملوك كانوا آلهة، أو أن الشعوب كانت حيوانات.
ويتفق كليغولا هو وهوبز وغروسيوس في الاستدلال، وكان أرسطو قد قال قبلهم جميعا: «إن الناس ليسوا متساوين بحكم الطبيعة، وإنما يولد بعضهم للعبودية، ويولد الآخرون للسيطرة.»
وكان أرسطو على حق لو لم يتخذ المعلول محل العلة، فلا شيء أكثر صحة من كون الإنسان الذي يولد عبدا يولد للعبودية، ويخسر العبيد كل شيء بإيثاقهم حتى الرغبة في الخروج منه، وهم يحبون عبوديتهم كما كان رفقاء أوليس يحبون وحشيتهم،
2
وإذا وجد عبيد عن طبيعة، إذن؛ فذلك لما كان من وجود عبيد ضد الطبيعة، فالقوة صنعت العبيد الأولين، والنذالة أدامتهم.
ولم أقل شيئا عن الملك آدم، ولا عن العاهل نوح، بجانب الملوك العظماء الثلاثة الذين اقتسموا العالم فيما بينهم كما صنع أولاد ساتورن الذين ظن أنهم معروفون، وأرجو أن أقنع بهذا الاعتدال، وذلك بما أنني سليل أحد هؤلاء الأمراء رأسا، سليل الفرع الأسن على ما يحتمل، فكيف أعرف أنني لا أكون الملك الشرعي للجنس البشري بالبحث في الوثائق؟ ومهما يكن من أمر فإنه لا يمكن أن ينكر أن آدم كان ملك العالم كما كان روبنسن ملك جزيرته ما بقي ساكنه الوحيد، وكل ما هو سائغ في هذه الإمبراطورية هو أن الملك المطمئن إلى عرشه لم يكن ليخشى تمردا ولا حربا ولا مؤتمرين.
الفصل الثالث
حق الأقوى
لا يكون الأقوى قويا بما فيه الكفاية، مطلقا، حتى يكون سيدا دائما، ما لم يحول قوته إلى حق وطاعته إلى واجب؛ ومن ثم كان حق الأقوى، هذا الحق الذي يتلقى بسخرية ظاهرا والذي يوضع كمبدأ حقيقة، ولكن أليس علينا أن نوضح هذه الكلمة؟ إن القوة طاقة فزيوية، ولا أرى أي أدب يمكن أن ينشأ عن معلولاتها، والإذعان للقوة هو عمل ضرورة، لا عمل إرادة، وهو أثر حذر غالبا، وما المعنى الذي يحمل به هذا على الواجب؟
ولنفرض هذا الحق المزعوم هنيهة، فأقول إنه لا ينشأ عنه غير هراء يتعذر تفسيره، وذلك إذا كانت القوة هي التي تصنع الحق، فإن المعلول يتغير بتغير العلة، وتخلف الأولى في حقها كل قوة تقهرها، ومتى أمكن العصيان بلا عقاب صار العصيان شرعيا، وبما أن الحق يكون بجانب الأقوى دائما فإن الأمر الوحيد الذي يهم هو أن يسار بما يصار به الأقوى، ولكن ما الحق الذي يزول بانقطاع القوة؟ وإذا ما لزمت الطاعة قهرا لم تكن هنالك ضرورة إليها عن واجب، وإذا عدنا غير مكرهين على الطاعة عدنا غير محمولين عليها، ولذا ترى أن كلمة «الحق» هذه لا تضيف إلى القوة شيئا، ولذا فهي لا معنى لها هنا أبدا.
وأطيعوا السلطات، فإذا كان معنى هذا: «أذعنوا للقوة» فالمبدأ صالح ولكنه هادر، أجبت بأنه لا ينقض مطلقا، وأعترف بأن كل سلطان يأتي من الرب، غير أن كل مرض يأتي منه أيضا، وهل يقصد بهذا حظر دعوة الطبيب؟! وإذا ما فاجأني قاطع طريق في زاوية من غابة وجب علي أن أعطي كيسي قسرا، ولكن هل أكون ملزما وجدانا بأن أعطيه إياه إذا كنت قادرا على منعه منه؟ وذلك لأن السلاح الذي يحمله هو سلطة أيضا.
ولنعترف، إذن، بأن القوة لا تخلق الحق، وبأننا غير ملزمين بغير الطاعة للسلطات الشرعية، وهكذا فإن مسألتي الأولى ترجع دائما.
الفصل الرابع
العبودية
بما أنه ليس لإنسان سلطان طبيعي على مثله، وبما أن القوة لا توجب أي حق، فإن العهود تظل أساسا لكل سلطان شرعي بين الناس.
ومن قول غروسيوس أن الفرد إذا كان يستطيع بيع حريته فيصبح عبد سيد فلماذا لا يستطيع شعب أن يبيع حريته ويصبح تابعا لملك؟ توجد كلمات كثيرة مبهمة في ذلك تحتاج إلى إيضاح، ولكن لنقف عند كلمة «البيع»، فالبيع هو الشرى أو المنح، والواقع أن الإنسان الذي يجعل نفسه عبد آخر لا يمنح نفسه، وإنما يبيع نفسه؛ نيلا لمعاشه، ولكن لم يبيع شعب نفسه؟! إن من المستبعد أن يجهز الملك رعاياه بمعاشهم مع أنه ينال معاشه منهم، ولا يقنع الملك بالقليل، كما يرى رابله، والرعايا يمنحون أشخاصهم، إذن، على أن يأخذ الملك أموالهم أيضا، ولا أرى ما يبقى لهم للحفظ.
وقد يقال إن المستبد يضمن السكون المدني لرعاياه، وليكن ذلك، ولكن ما يكسبون من ذلك إذا كانوا يكدرون بالحروب التي يسوقهم إليها طموحه وبطمعه الذي لا يشبع وبمظالم عماله أكثر مما يصيبهم بتفرقهم؟
وما يكسبون من ذلك إذا كان هذا السكون من بؤسهم؟ وقد تقضى حياة سكون في السجون المظلمة أيضا، ولكن أيكفي هذا لجعلها أماكن طيبة للعيش فيها؟ وكان الأغارقة الذين حبسوا في غار سكلوب يعيشون ساكنين، ولكن مع انتظارهم أن يفترسوا بدورهم.
والقول إن الإنسان يعطي نفسه متبرعا محال لا يمكن تصوره، وعقد مثل هذا باطل غير شرعي، ولا يصدر هذا العقد عن رشيد، وقول ذلك عن شعب يفترض جنون هذا الشعب، والجنون لا يوجد حقا.
وإذا ما استطاع كل واحد أن يبيع نفسه فإنه لا يقدر على بيع أولاده، فهؤلاء الأولاد يولدون أناسا وأحرارا، وتكون حريتهم خاصة بهم؛ فلا يستطيع أحد غيرهم أن يتصرف فيها، ويمكن أباهم - قبل أن يبلغوا سن الرشد - أن يضع شروطا لحفظهم وسعادتهم، لا أن يهبهم هبة مطلقة لا رجعة فيها؛ وذلك لأن هذه الهبة مخالفة لمقاصد الطبيعة وتجاوز حقوق الأبوة، ولذا يقتضي تحول الحكومة المرادية (Arbitraire)
إلى حكومة شرعية أن يكون الشعب في كل جيل حكما في قبولها أو رفضها، ولكن هذه الحكومة تعود غير مرادية إذ ذاك.
وتنزل الإنسان عن حريته يعني تنزلا عن صفة الإنسان فيه، وتنزلا عن الحقوق الإنسانية، وعن واجباتها أيضا، ولا تعويض يمكن لمن يتنزل عن كل شيء، وتنزل كهذا يناقض طبيعة الإنسان، ونزع كل حرية من إرادة الإنسان هو نزع كل أدب من أعماله، ثم إن من العهود الباطلة المتناقضة اشتراط سلطان مطلق من ناحية، وطاعة لا حد لها من ناحية أخرى، أليس من الواضح أننا غير ملزمين بشيء نحو شخص يحق لنا أن نطالبه بكل شيء؟ أليس هذا الشرط وحده يتضمن بطلان العقد عند عدم وجود بدل أو معادل؟ وأي حق يكون لعبدي تجاهي ما دام كل ما عنده خاصا بي، وما دام حقي هذا تجاه نفسي كلمة لا معنى لها مطلقا عن كون حق عبدي هو لي؟
ويستنبط غروسيوس وآخرون من الحرب مصدرا آخر لحق العبودية المزعوم؛ فبما أن للغالب عندهم حق قتل المغلوب فإنه يمكن المغلوب هذا أن يشتري حياته على حساب حريته، ويكون هذا العهد أكثر العهود شرعية لقيامه على نفع الطرفين.
بيد أن من الواضح عدم صدور حق قتل المغلوبين المزعوم هذا عن حال الحرب قطعا، ولهذا وحده لا تجد بين الناس، الذين يعيشون على استقلالهم الفطري، أية علاقة ثابتة بما فيه الكفاية يكونون بها في حال السلم وحال الحرب، فلا يكون بعضهم عدوا لبعض بحكم الطبيعة، وعلاقة الأشياء بعضها ببعض، لا علاقة الناس، هي التي توجب الحرب، ولا يمكن حال الحرب أن تنشأ عن الصلات الشخصية، بل تنشأ عن الصلات الحقيقية فقط، ولا يمكن الحرب الخاصة أو حرب الإنسان للإنسان أن تكون في الحال الطبيعية حيث لا يوجد ملك ثابت مطلقا، ولا في الحال الاجتماعية حيث يكون الجميع تحت سلطان القوانين.
وتعد المنازعات الخاصة والمبارزات والمصارعات أفعالا لا تتألف منها مهنة مطلقا، وإذا نظرت إلى الحروب الخاصة التي أباحتها نظامات ملك فرنسة، لويس التاسع، ومنعها السلام الإلهي، وجدتها من سوء استعمال الحكومة الإقطاعية، هذا النظام المضاد للصواب إذا ما وجد، والمخالف لمبادئ الحقوق الطبيعية وكل سياسة صالحة. «وليست الحرب، إذن، صلة إنسان بإنسان، بل صلة دولة بدولة، أي صلة لا يكون بعض الناس فيها أعداء لبعض إلا عرضا، وذلك كجنود، لا كأناس مطلقا، ولا كمواطنين
1
أيضا، وذلك كحماة الوطن، لا كأعضاء له مطلقا، ثم إن كل دولة لا يمكن أن يكون لها من الأعداء غير دول أخرى، لا أناس؛ لما لا يمكن أن يقرر بين مختلف الطبائع أية علاقة حقيقية.»
ثم إن هذا المبدأ يلائم جميع القواعد المقررة في جميع الأزمنة وتعامل جميع الأمم المتمدنة الدائم، وشهر الحرب أقل إنذارا إلى الدول مما إلى رعاياها، وليس الأجنبي الذي يسرق، أو يقتل، أو يعتقل الرعايا من غير شهر الحرب على الأمير عدوا، بل قاطع طريق، سواء أكان ذلك الأجنبي ملكا أم فردا أم شعبا، حتى إن الأمير المنصف يستولي في بلاد العدو، حين الحرب، على كل ما هو خاص بالجمهور، ولكن مع احترام شخص الأفراد وأموالهم، ومع احترام الحقوق التي قامت عليها حقوقه، وبما أن غاية الحرب هي تقويض دولة العدو فإن من الحق قتل حماتها ما داموا حاملين سلاحا، فإذا ما وضعوا هذا السلاح وسلموا أنفسهم عادوا لا يكونون أعداء أو أداة للعدو، بل صاروا أناسا فقط، وأصبح لا يكون لأحد حق في نزع حياتهم، ومن الممكن أحيانا قتل الدولة من غير قتل أحد من أعضائها، والواقع أن الحرب لا تمنح حقا غير ضروري لبلوغ غايتها، وليست هذه مبادئ غروسيوس، ولم تقم على براهين الشعراء، وإنما تشتق من طبيعة الأمور، وتستند إلى العقل.
وليس للفتح أساس غير قانون الأقوى، وإذا كانت الحرب لا تمنح الغالب حق قتل الشعوب المغلوبة مطلقا فإن هذا الحق الذي ليس له لا يمكن أن يقيم حق استعبادها، ولا يحق قتل العدو إلا عند تعذر استرقاقه، وحق استرقاقه لا يأتي، إذن، من حق قتله، وتعد، إذن، مبادلة جائرة تلك التي يحمل بها على اشتراء حياته بحريته مع أنه لا حق للغالب على الحياة، أليس من الواضح أنه يوقع ضمن دائرة معيبة بإقامة حق الحياة والموت على حق الاسترقاق، وبإقامة حق الاسترقاق على حق الحياة والموت؟
حتى إنني أقول عند افتراض هذا الحق الهائل في قتل الجميع إن العبد الذي ملك في الحرب، أو الشعب المقهور، غير ملزم نحو مولاه بغير الطاعة ما أكره عليها، والغالب، إذ يأخذ منه ما يعدل حياته، لا يكون قد من عليه بها مطلقا، أي إنه يكون قد قتله قتلا مجديا بدلا من قتله على غير جدوى. وبعد، إذن، نيله عليه سلطانا مضافا إلى سلطان الحرب، فتظل حال الحرب قائمة بينهما كما في الماضي، وتكون صلة كل منهما بالآخر معلولا لها، ولا يفترض استعمال حق الحرب أية معاهدة سلم. أجل، قد وضع عهد، غير أن هذا العهد يفترض دوام حال الحرب مع بعده من القضاء عليها.
وهكذا، مهما تكن الجهة التي ينظر منها إلى الأمور، يكون حق الاسترقاق باطلا، لا لأنه غير شرعي فقط، بل لأنه مخالف للعقل خال من كل معنى أيضا، فكلمتا الاستعباد والحق متناقضتان، متنافيتان مبادلة، ومن الحماقة أن يقول رجل لرجل أو لشعب: أضع معك عهدا يجعل كل غرم عليك وكل غنم لي، وأراعي هذا العهد ما راقني، وتراعيه ما راقني!
الفصل الخامس
يجب الرجوع إلى أول عهد دائما
إذا منحت جميع ما كنت قد منعت لم يتزحزح أصحاب الاستبداد، ويكون، في كل وقت، فرق عظيم بين إخضاع جمع وإدارة مجتمع، وإذا ما استعبد أناس متفرقون من قبل واحد بالتتابع، مهما كان عددهم، لم أر هنالك غير سيد وعبيد، لا شعبا ورئيسا، وذلك كما لو كنت أرى تكتلا، لا شركة؛ فلا يوجد هنالك نفع عام ولا هيئة سياسية، ولا يعدو ذلك الرجل كونه فردا دائما، ولو استعبد نصف العالم، وليست مصلحته غير مصلحة خاصة عند فصلها عن مصلحة الآخرين، فإذا ما هلك ذلك الرجل ظلت إمبراطوريته متفرقة بلا ارتباط، وذلك كالبلوطة التي تنحل وتتحول إلى ركام رماد بعد أن تحرقها النار.
والشعب، عند غروسيوس، يستطيع أن يهب نفسه لملك. والشعب، عند غروسيوس إذن، شعب قبل أن يهب نفسه لملك، وهذه الهبة نفسها عقد مدني ينطوي على تشاور عام، ولذا يصلح درس العقد الذي يكون به الشعب شعبا قبل درس العقد الذي يختار به الشعب ملكا، وبما أن ذلك العقد أقدم من الآخر بحكم الضرورة فإنه أساس المجتمع الحقيقي.
والواقع أنه إذا لم يوجد عهد سابق فأين يكون، عند عدم الإجماع في الانتخاب، إلزام الأقلية بالخضوع لاختيار الأكثرية؟ ومن أين يحق للمئة الذين يرغبون في سيد أن يصوتوا عن العشرة الذين لا يريدونه مطلقا؟
وهل قانون أكثرية الأصوات أمر قرر بعهد فيفترض الإجماع لمرة واحدة على الأقل؟
الفصل السادس
الميثاق الاجتماعي
أفترض انتهاء الناس إلى النقطة التي تغلبت عندها العوائق الضارة بسلامتهم في الحال الطبيعية، وذلك عن مقاومة فيها، على القوى التي يمكن كل فرد أن يستعملها للبقاء في هذه الحال، وهنالك لم تقدر هذه الحال الابتدائية على الدوام، وكان الهلاك نصيب الجنس البشري إذا لم يغير طراز حياته.
والواقع أن الناس، إذا كانوا لا يستطيعون إنتاج قوى جديدة، بل توحيد القوى القائمة وتوجيهها، عاد لا يكون لديهم وسائل للبقاء غير تأليفهم، بالتكتل، مقدارا من القوى يمكنه أن يتغلب على المقاومة وتحريك هذه القوى بمحرك واحد وتسييرها متوافقة.
وما كان هذا المقدار من القوى لينشأ إلا باتفاق أناس كثيرين، ولكن بما أن قوة كل إنسان وحريته كانتا أولى الوسائل لسلامته، فكيف يرهنهما من غير أن يضر نفسه ويهمل ما يجب من العناية بشخصه؟ إذا ما ردت هذه المعضلة إلى موضوعي أمكن أن يعبر عنها بالكلمات الآتية؛ وهي: «إيجاد شكل لشركة تجير، وتحمي - بجميع القوة المشتركة - شخص كل مشترك وأمواله، وإطاعة كل واحد نفسه فقط، وبقاؤه حرا كما في الماضي مع اتحاده بالمجموع»، فهذه هي المعضلة الأساسية التي تحل بالعقد الاجتماعي.
وشروط هذا العقد هي من التحديد بطبيعته ما يجعلها أقل تبديل باطلة غير ذات عمل. وهي، على ما يحتمل من أنه لم ينطق بها صراحة قط، واحدة في كل مكان، مسلم معترف بها ضمنا في كل مكان، فإذا ما نقض الميثاق الاجتماعي استرجع كل واحد حقوقه الأولى واسترد حريته الطبيعية التي عدل عنها في سبيل الحرية العهدية الضائعة.
ويرد جميع هذه الشروط، المفهومة حقا، إلى شرط واحد، وهو بيع كل مشترك مع جميع حقوقه في المجتمع بأسره بيعا شاملا، وذلك، أولا، أن الشرط متساو نحو الجميع ما وهب كل واحد نفسه بأسرها، وأنه لا مصلحة لأحد في جعل الشرط ثقيلا على الآخرين ما كان الشرط متساويا نحو الجميع.
ثم بما أن البيع وقع بلا تحفظ فإن الاتحاد يكون على ما يمكن من الكمال، ولا يبقى لمشترك ما يدعيه؛ وذلك لأنه إذا ما بقي للأفراد بعض الحقوق، فبما أنه لا يكون هنالك أي رئيس عام يقدر على الفصل بينهم وبين الجمهور، وبما أن كل واحد يكون قاضي نفسه الخاص من بعض الوجوه، لم يلبث كل واحد أن ينتحل هذه الصفة في جميع الأحوال، وهكذا تظل الحال الطبيعية باقية، وتصبح الشركة طاغية أو لاغية بحكم الضرورة.
ثم بما أن كل واحد لا يهب نفسه لأحد بهبتها للجميع، وبما أنه لا يوجد مشترك لا يكتسب عين الحق الذي تنزل له عنه، فإنه يظفر بما يعدل جميع ما يفقد وبزيادة قوة لحفظ ما يكون له.
وإذا ما أقصي عن الميثاق الاجتماعي، إذن، ما ليس من جوهره حصر في الكلمات الآتية، وهي: «يضع كل واحد منا شخصه وجميع قوته شركة تحت إدارة الإرادة العامة، ونحن نتلقى - كهيئة - كل عضو كجزء خفي من المجموع.»
والآن يؤدي عقد الشركة هذا إلى هيئة معنوية ألبية مؤلفة من أعضاء بمقدار أصوات المجلس، وذلك بدلا من الشخصية الخاصة لكل متعاقد، ومن ذلك العقد تنال هذه الهيئة وحدتها وذاتيتها المشتركة وحياتها وإرادتها، وكان يطلق اسم المدينة
1
على هذا الشخص العام الذي يؤلف، على هذا الوجه، من اتحاد جميع الآخرين، فيسمى اليوم «جمهورية» أو «هيئة سياسية»، وهي ما يسميه أعضاؤها «دولة» إذا كانت منفعلة، و«سيدا» إذا كانت فاعلة، و«سلطانا» إذا ما قيست بأمثالها. وأما المشتركون فإن اسم «الشعب» هو الذي يحملونه ألبيا، ويسمون «مواطنين» على وجه الخصوص، كمشتركين في السلطة ذات السيادة، ويسمون «رعاياه» عن خضوع لقوانين الدولة، غير أن بعض هذه الألفاظ يختلط ببعض في الغالب ويتخذ أحدها للتعبير عن آخر، فيكفي أن يعرف تمييز بعضها من بعض عند استعمالها مضبوطة تماما.
الفصل السابع
السيد
يرى بهذه الصيغة اشتمال عقد الشركة على التزام متبادل بين الجمهور والأفراد وكون كل فرد متعاقد مع نفسه ملزما بعلاقتين، وذلك: كعضو للسيد نحو الأفراد، وكعضو للدولة نحو السيد، بيد أنه لا يمكن أن يطبق هنا مبدأ الحقوق المدنية القائل: إن الإنسان غير ملزم بالعهود التي اتخذها مع نفسه؛ وذلك لوجود فرق بين التزام الإنسان نحو نفسه، والتزامه نحو مجموع يعد جزءا منه.
ويجب أن يلاحظ، أيضا، أن الشورى العامة التي يمكن أن تلزم جميع الرعايا نحو «السيد» وذلك من حيث الناحيتان المختلفتان اللتان ينظر بهما إلى كل من أولئك، لا يمكن أن تلزم «السيد» نحو نفسه للسبب المعاكس، ومن ثم فإن مما يخالف طبيعة الهيئة السياسية أن يلزم «السيد» نفسه بقانون لا يستطيع نقضه، وهو إذ لا يستطيع أن ينظر إلى نفسه إلا من ناحية واحدة فقط فإنه يكون، هناك، في وضع الفرد المتعاقد مع نفسه، وبهذا يرى عدم وجود أي قانون أساسي ملزم لهيئة الشعب، ولو كان العقد الاجتماعي، وهذا لا يعني عدم قدرة هذه الهيئة على إلزام نفسها نحو الآخرين فيما لا ينقض ذلك العقد مطلقا؛ وذلك لأنها تغدو شخصا بسيطا، تغدو فردا، تجاه الغريب عنها.
ولكن بما أن الهيئة السياسية، أو السيد، لا ينال كيانه إلا من قدس العقد فإنه لا يستطيع أن يلزم نفسه، حتى نحو الآخر، بشيء ينقض هذا العقد الأولي، وذلك كأن يبيع جزءا من نفسه أو أن يخضع لسيد آخر، ونقض العهد الذي وجد بسببه يعني تلاشي نفسه، ومن لا يكون شيئا لا ينتج شيئا.
وإذا ما تم اجتماع هذا الجمهور كهيئة على هذا الوجه لم يمكن إساءة أحد الأعضاء من غير إيذاء الهيئة، وإساءة الهيئة من غير إيذاء الأعضاء، وهكذا فإن الواجب والمصلحة يلزمان الفريقين المتعاقدين بالتساوي، على التعاون مبادلة، فعلى الناس أنفسهم أن يجمعوا جميع المنافع المتصلة بتلك الناحية تحت هذه الناحية المزدوجة.
والواقع أن السيد إذ لم يتكون من غير أفراد يؤلف منهم فإنه لا يكون لديه مصلحة مخالفة لمصلحتهم، ومن ثم لا يحتاج السلطان السيد، مطلقا، إلى ضامن تجاه الرعية؛ وذلك لأن من المحال أن تريد الهيئة إيقاع الضرر بجميع أعضائها، وسنرى، فيما بعد، أن الهيئة لا تستطيع الإضرار بأحد على انفراد، فالسيد، بما قد كان فقط، هو ما يجب أن يكون عليه دائما.
وليس ذلك أمر الرعايا تجاه «السيد» الذي لا يكون لديه، على الرغم من المصلحة المشتركة، ما يحمل على قيامهم بتعهداتهم ما لم يجد وسائل تضمن ولاءهم له.
والحق أن كل فرد يمكنه، كإنسان، أن يكون ذا إرادة خاصة معاكسة، أو مباينة، للإرادة العامة التي يملكها كمواطن، ويمكن مصلحته الخاصة أن تخاطبه بما يخالف المصلحة المشتركة، ويمكن كيانه المطلق، والمستقل بحكم الطبيعة، أن يحمله على مواجهة ما يجب عليه تجاه الباعث المشترك كضريبة مجانية يكون ضياعها أقل ضررا بالآخرين من ثقل دفعها عليه، وهو، عند النظر إلى الشخص المعنوي الذي تتألف منه الدولة ككائن اعتباري؛ لأنه غير إنسان، يتمتع بحقوق المواطن من غير أن يريد القيام بواجبات التابع، فالاستمرار على هذا الحيف يوجب هلاك الهيئة السياسية.
والميثاق الاجتماعي، لكيلا يكون صيغة فارغة إذن، يشتمل ضمنا على ذلك العهد الذي يمكنه وحده أن يمنح الآخرين قوة، فكل من يأبى الخضوع للإرادة العامة يكره عليه من قبل الهيئة بأسرها، وهذا لا يعني غير إلزامه بأن يكون حرا، وذلك أن هذا الشرط إذ يعطي كل مواطن للوطن يضمنه من كل خضوع شخصي، وأن هذا الشرط ينطوي على مفتاح إدارة الآلة السياسية، وأنه وحده يجعل العهود المدنية شرعية، هذه العهود التي تكون بغير هذا متعذرة جائرة عرضة لأعظم المساوئ.
الفصل الثامن
الحال المدنية
أدى الانتقال من الحال الطبيعية إلى الحال المدنية إلى تغيير في الإنسان جدير بالذكر كثيرا؛ وذلك بإحلاله العدل محل الغريزة في سيره، وبمنحه أفعاله أدبا كان يعوزها سابقا، وهنالك - فقط - إذ عقب صوت الواجب الصولة الطبيعية، وعقب الحق الشهوة، رأى الإنسان، الذي لم ينظر غير نفسه حتى ذلك الحين، اضطراره إلى السير على مبادئ أخرى، وإلى «مشاورة عقله قبل الإصغاء إلى أهوائه»، وهو - مع حرمانه نفسه في هذه الحال منافع كثيرة ينالها من الطبيعة - يبلغ من كسب ما هو عظيم منها، وتبلغ أهلياته من الممارسة والنمو، وأفكاره من الاتساع، ومشاعره من الشرف، وروحه من السمو، ما إذا لم يحطه معه سوء استعمال هذه الحال الجديدة في الغالب إلى ما تحت الحال التي خرج منها وجب عليه أن يبارك، بلا انقطاع، تلك السويعة السعيدة التي انتزعته من ذلك إلى الأبد، والتي جعلت موجودا ذكيا وإنسانا من حيوان أرعن قليل العقل.
ولنحول جميع هذا الحساب إلى حدود يسهل قياسها؛ فالذي يخسره الإنسان بالعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحق مطلق في كل ما يحاول وما يمكن أن يحصل، والذي يكسبه هو الحرية المدنية وتملك ما يجوز، ويجب - لعدم الخطأ في هذه المعاوضة - أن تماز الحرية الطبيعية، التي لا حدود لها غير قوى الشخص، من الحرية المدنية المقيدة بالإرادة العامة، وأن تماز الحيازة، التي ليست سوى نتيجة قوة المستولي الأول أو حقه، من التملك الذي لا يمكن أن يقوم على غير صك إيجابي.
وعلى ما تقدم يمكن أن تضاف إلى الحال المدنية الحرية الأدبية التي تجعل - وحدها - الإنسان سيد نفسه بالحقيقة؛ وذلك لأن صولة الشهوة وحدها هي العبودية، ولأن إطاعة القانون الذي نلزم به أنفسنا هي الحرية، غير أنني كنت قد أفضت في الكلام حول هذا الموضوع، وليس معنى كلمة «الحرية» الفلسفي غرضي الآن.
الفصل التاسع
التملك
كل عضو في الجماعة يهب نفسه لها حين تأليفها، كما يكون لحينه، مع جميع وسائله التي يكون ما يحوزه من أموال جزءا منها، وليس بهذا العقد ما تغير الحيازة طبيعتها بتغير الأيدي وتصبح تملكا في أيدي السيد، ولكن بما أن قوى المدينة أعظم من قوى الفرد بما لا يقاس فإن من الواقع كون الحيازة العامة أشد قوة وأكثر ثباتا، وذلك من غير أن تكون أكثر شرعية من حيث الأجانب على الأقل؛ وذلك لأن الدولة، من حيث أعضاؤها، سيدة جميع أموالهم وفق العقد الاجتماعي الذي يصلح في الدولة أساسا لجميع الحقوق، ولكنه ليس كذلك نحو الدول الأخرى إلا من حيث حق المستولي الأول الذي ناله من الأفراد.
وحق المستولي الأول، وإن كان أكثر حقيقة من حق الأقوى، لا يصبح حقا حقيقيا إلا بعد استقرار حق التملك. أجل، إن لكل إنسان حقا فيما هو ضروري له بحكم الطبيعة، غير أن العقد الإيجابي الذي يجعله مالكا لمال يبعده من كل شيء آخر، وهو إذ نال نصيبه وجب أن يقتصر عليه وعاد غير ذي حق فيما تملك الجماعة؛ ولذا فإن حق المستولي الأول، البالغ الضعف في الحال الطبيعية، جدير باحترام كل إنسان مدني، ونحن في هذا الحق أقل احتراما لما هو خاص بالآخر من احترامنا لما لا يخصنا.
وعلى العموم لا بد من الشروط الآتية لإجازة حق المستولي الأول على أرض ما؛ وهي: أولا: ألا تكون هذه الأرض معمورة بأحد. ثانيا: ألا يستولي الإنسان منها على غير المقدار الضروري لعيشه. ثالثا: ألا تحاز بمظهر فارغ، بل بالعمل والحرث، أي بهذا الدليل الوحيد للتملك الذي يجب أن يحترمه الآخرون عند عدم وجود مستندات قانونية.
ألسنا، بمنحنا حق المستولي الأول للضرورة والعمل، نكون في الحقيقة قد وسعناه إلى أبعد مدى يمكن أن يمتد إليه؟ أويمكن أن يترك هذا الحق على إطلاقه؟ أويكفي الإنسان أن يضع رجله على أرض مشتركة ليدعي أنه صاحب لها من فوره؟ أويكفي أن يكون لدى الإنسان من القوة ما يقصي به الآخرين عنها ذات حين؛ لينزع منهم حق عدم العود إليها مطلقا؟ وكيف يمكن إنسانا أو شعبا أن يستولي على أرض واسعة وأن يحرم الجنس البشري إياها بغير اغتصاب يستوجب العقاب ما دام هذا الاغتصاب ينزع من بقية الناس ما تنعم الطبيعة عليهم به من المأوى والغذاء مشتركا؟ ووقف نونز بالباو على الشاطئ وحاز أبحر الجنوب وجميع جنوبي أمريكة باسم تاج قشتالة، فهل كان هذا كافيا لنزعها من جميع السكان وإغلاقها دون جميع أمراء العالم؟ وهكذا كثرت هذه الظواهر عبثا، ولم يبق لذلك الملك الكاثوليكي غير حيازته، من حجرته بغتة، جميع العالم، خلا إفرازه من إمبراطوريته بعد ذلك ما كان قد حازه الأمراء الآخرون سابقا.
ونتمثل كيف أن أرض الأفراد الموصول المتصل بعضها ببعض تصبح أرضا عامة ، وكيف أن حق السيادة، إذ يمتد من الرعايا إلى الأرض التي يشغلونها، يصبح حقيقيا وشخصيا، وهذا ما يجعل بعض المتصرفين تابعا لبعض اتباعا عظيما، ويجعل من قواهم ضمناء لإخلاصهم، ويظهر أنه لم يشعر بذلك جيدا من قبل قدماء الملوك الذين لم يدعوا ملوك الفرس والشيت والمقدونيين إلا لعدهم أنفسهم، كما يلوح، رؤساء الناس أكثر من عدها سادة البلاد، وأليق من أولئك ملوك اليوم الذين يدعون أنفسهم ملوك فرنسة وإسبانية وإنكلترة، إلخ ... فهؤلاء إذ يقبضون، هكذا، على الأرض يوقنون بأنهم يقبضون على السكان.
وغرابة هذه المبايعة هي أن الجماعة؛ إذ تقبض على أموال الأفراد، تبتعد عن اغتصابها، وإنما تضمن لها تصرفا شرعيا وتحول الغصب إلى حق صحيح، والتمتع إلى تملك، وهنالك إذ يعد المتصرفون مؤتمنين على المال العام وإذ تحترم حقوقهم من جميع أعضاء الدولة وتصان بجميع قواها ضد الأجنبي، عن تنازل نافع للجمهور، ولأنفسهم أكثر من ذلك، فإنهم يكونون قد كسبوا بذلك جميع ما أعطوا، ويسهل تطبيق هذا القول البديع بتفريق ما للسيد والمالك من حقوق على ذات العقار كما يرى فيما بعد.
ومما يمكن حدوثه أيضا بدء الناس بالاتحاد قبل حيازة شيء، وأنهم إذ يستولون، فيما بعد، على أرض كافية للجميع يتمتعون بها مشاعا، أو يقتسمونها فيما بينهم بالتساوي أو على حسب النسب التي يضعها السيد، ومهما يكن الوجه الذي يتم به هذا الاكتساب فإن حق كل فرد على عقاره الخاص يكون تابعا دائما لحق الجماعة على الجميع، ولولا هذا لم توجد متانة في الرابطة الاجتماعية ولا قوة حقيقية في ممارسة السيادة.
وأختتم هذا الفصل وهذا الباب بملاحظة لا بد من نفعها أساسا لجميع النظام الاجتماعي؛ وذلك أن الميثاق الأساسي، بدلا من نقض المساواة الطبيعية يقيم، على العكس، مساواة معنوية وشرعية مقام ما قدرت الطبيعة أن تضعه من تفاوت طبيعي بين الناس، وأن الناس إذ يمكن أن يتفاوتوا قوة وذكاء فإنهم يتساوون عهدا وحقا.
1
الباب الثاني
الفصل الأول
امتناع التنزل عن السيادة
إن أولى نتائج المبادئ المقررة آنفا وأهمها هو كون الإرادة العامة وحدها هي التي يمكنها أن توجه قوى الدولة وفق هدف نظامها الذي هو الخير العام، وذلك إذا كان تعارض المصالح الخاصة قد جعل قيام المجتمعات أمرا ضروريا فإن توافق هذه المصالح نفسها هو الذي جعل ذلك ممكنا، وهذا ما هو مشترك في هذه المصالح المختلفة التي تتألف الرابطة الاجتماعية منها، وإذا لم توجد نقطة تتوافق فيها جميع المصالح لم يمكن قيام أي مجتمع كان، والواقع أنه يجب أن يدار المجتمع على أساس هذه المصلحة المشتركة فقط.
وأقول إذن بما أن السيادة ليست غير ممارسة الإرادة العامة فإنه لا يمكن أن يتنزل عنها، وإن السيد الذي ليس غير موجود ألبي لا يمكن أن يمثل بغير نفسه، فالسلطان، لا الإرادة، هو الذي يمكن نقله.
والواقع أنه إذا كان لا يتعذر توافق الإرادة الخاصة والإرادة العامة في نقطة؛ فإن من المستحيل، على الأقل، أن يدوم هذا التوافق ويثبت؛ وذلك لأن الإرادة الخاصة تميل إلى التفضيلات بطبيعتها، وأن الإرادة العامة تميل إلى المساواة، وأكثر من ذلك استحالة، أيضا، وجود ضامن لهذا الاتفاق حتى عند وجوب وجوده، فهذا لا يكون نتيجة الصنعة، بل المصادفة، ويستطيع السيد أن يقول: «أريد فعلا ما يريده الرجل الفلاني، أو أريد على الأقل ما يقول إنه يريده»، ولكنه لا يستطيع أن يقول: «إن ما يريده هذا الرجل غدا سأريده أيضا»، ما دام من العبث أن ترتبط الإرادة في قيود للمستقبل، وما دامت الإرادة لا تتعلق بشيء مخالف لخير الموجود الذي يريد، ولذا فإن الشعب إذا وعد بالطاعة فقط فإنه يحل نفسه بهذا العهد لفقده صفة الشعب، فإذا وجد مالك عاد لا يوجد سيد حالا، وهنالك تتلاشى الهيئة السياسية.
ولا يعني هذا عدم اعتبار أوامر الرؤساء إرادات عامة ما دام السيد الحر في معارضتها لم يفعل هذا، ففي مثل هذه الحال يجب أن يفترض رضا الشعب من السكوت العام، وسيوضح هذا فيما بعد.
الفصل الثاني
امتناع انقسام السيادة
يمتنع انقسام السيادة لذات السبب في امتناع التنزل عنها ؛ وذلك لأن الإرادة تكون عامة
1
أو لا تكون، وهي إما أن تكون إرادة هيئة الشعب أو قسم منه فقط، وتكون هذه الإرادة، المعلنة في الحال الأولى، عقد السيادة ويصبح لها حكم القانون، وهي في الحال الثانية ليست غير إرادة خاصة أو عقد قضائي، فتعد مرسوما على الأكثر.
ولكن بما أن سياسيينا لم يستطيعوا تقسيم السيادة في مبدئها فإنهم يقسمونها وفق غرضها، أي إنهم يقسمونها إلى قوة وإرادة، وإلى سلطة اشتراعية وسلطة تنفيذية، وإلى حق فرض الضرائب والعدل والحرب، وإلى إدارة داخلية وإمكان معاهدة الأجنبي، وهم يخلطون بين هذه الأقسام حينا، ويفصلون بينها حينا آخر، وهم يجعلون من السيد موجودا خياليا مؤلفا من أجزاء لاصق بعضها ببعض، وهذا كما لو كانوا يركبون الإنسان من أبدان كثيرة، يكون لأحدها عينان وللآخر ذراعان وللثالث رجلان من غير زيادة. ويروى أن مشعبذي اليابان يقطعون الولد أمام الحضور، ثم يقذفون جميع أعضائه في الهواء واحدا بعد الآخر، ثم يسقطون الولد حيا مجتمع الأجزاء! فهذه هي شعوذات سياسيينا تقريبا، فهؤلاء، بعد أن قطعوا الكيان الاجتماعي أجزاء بسحر جدير بالسوق، جمعوا بين هذه الأجزاء بما لا نعرف كيف وقع.
ومصدر هذا الخطأ عدم قيامه على مبادئ محكمة حول السلطة ذات السيادة، وعلى عد ما ليس غير نفحات أجزاء لهذه السلطة، وهكذا رئي، مثلا، أن شهر الحرب وعقد السلم من أعمال السيادة، والأمر غير هذا ما دام كل واحد من هذه الأعمال ليس قانونا، بل هو تطبيق للقانون فقط، بل هو عمل خاص يعين منحى القانون كما يتضح ذلك عند تحديد الفكرة الملازمة لكلمة «القانون».
وإذا ما أنعمنا النظر على هذا الوجه في التقسيمات الأخرى أبصرنا وجود وهم حينما تبدو السيادة مقسومة، فجميع الحقوق التي عدت جزءا من هذه السيادة تابعة لها في الحقيقة، وهي تفترض دائما وجود إرادات علوية لا توجب هذه الحقوق غير تنفيذها.
ولا يمكن بيان مقدار ما ألقى عدم الضبط ذلك من غموض على أحكام المؤلفين في موضوع الحقوق السياسية عندما أرادوا الفصل في حقوق الملوك والشعوب المتبادلة وفق المبادئ التي وضعوها، وكل يستطيع أن يرى في الفصل
الثالث
و
الرابع
من الباب الأول من غروسيوس كيف أن هذا الرجل العالم ومترجمه باربيراك اشتبكا وارتبكا في سفسطاتهما عن خوف من الإسهاب أو الإيجاز فيما ارتأيا، ومن صدم المصالح التي كان عليهما أن يوفقا بينها، وقد التجأ غروسيوس إلى فرنسة، ساخطا على وطنه، عازما على لزام باب لويس الثالث عشر، فأهدى إلى هذا الملك كتابه، ولم يدخر وسعا في تجريد الشعوب من جميع حقوقها، وفي انتحال هذه الحقوق للملوك بجميع ما يمكن من الحيل، وما كان هذا ليصدر عن ذوق باربيراك الذي أهدى ترجمته إلى ملك إنكلترة جورج الأول، ولكن من سوء الحظ أن أكرهه طرد جيمس الثاني، الذي دعاه تنزلا على التزام كل حذر في الاعوجاج والمواربة؛ لكيلا يجعل من وليم غاصبا، ولو اتخذ ما صح من المبادئ لأزيلت جميع المصاعب ولكانا مجديين دائما، ولكنهما كانا يقولان الحقيقة هزيلة، ولم يكن عليهما أن يداريا غير الشعب ... والواقع أن الحقيقة لا تؤدي إلى الجاه، والشعب لا ينعم بسفارات ولا بكراس وجعالات.
الفصل الثالث
أيمكن أن تضل الإرادة العامة؟
يستنتج مما تقدم كون الإرادة العامة صائبة دائما، وأنها تهدف إلى النفع العام دائما، ولكنه لا يستنتج من ذلك اتصاف شورى الشعب بمثل تلك الإصابة دائما، ونريد ما فيه خيرنا دائما، ولكنا لا نبصر ذلك دائما، ولا يرشى الشعب مطلقا، غير أنه يخدع غالبا، وهنالك، فقط، يلوح أنه يريد ما يكون سيئا، ويوجد، في الغالب، فرق كبير بين إرادة الجميع والإرادة العامة، فالإرادة العامة لا تبالي بغير المصلحة المشتركة، وتبالي الإرادة الأخرى بالمصلحة الخاصة، وهي ليست غير حاصل العزائم الخاصة، ولكن انزعوا من هذه العزائم نفسها أكثر وأقل ما يتهادم
1
تبصروا بقاء الإرادة العامة حاصل الاختلافات.
وإذا ما تشاور الشعب الخبير بما فيه الكفاية، ولم يكن بين المواطنين أي اتصال، فإن العدد الكبير والاختلافات الصغيرة يسفران عن الإرادة العامة دائما، ويكون القرار صالحا دائما، ولكن العصبات إذا ما قامت وتألفت جمعيات جريئة على حساب الجمعية الكبرى فإن كل واحدة من هذه الجمعيات تصبح عامة بالنسبة إلى أعضائها، وذلك على حين تبقى خاصة بالنسبة إلى الدولة، وهنالك يمكن أن يقال إنه عاد لا يكون مصوتين بمقدار الناس، وإنما يقال، فقط، وجود كذا جمعيات، وتصير الاختلافات أقل عددا وتعطي نتيجة أقل عمومية، ثم إذا كانت إحدى هذه الجمعيات من العظم ما تغلب معه جميع الأخرى عاد حاصل الفروق الصغيرة لا يكون عندكم نتيجة، بل صار عندكم اختلاف وحيد، وهنالك لا تبقى إرادة عامة، ولا يكون الرأي الغالب غير رأي خاص.
ومن المهم، إذن، ألا تكون في الدولة جمعية جزئية عند قدرة الإرادة العامة على التعبير عن نفسها، وأن يعطي كل مواطن رأيه كما يرى،
2
وهذا هو النظام الوحيد الرفيع الذي وضعه ليكورغ، ولكنه إذا وجدت جمعيات جزئية وجب تكثير عددها وأن يحال دون تفاوتها كما صنع سولون ونوما وسرفوس، فهذه الاحتياطات هي التي تصلح وحدها لجعل الإرادة العامة منورة دائما، ولعدم ضلال الشعب مطلقا.
الفصل الرابع
حدود السلطة ذات السيادة
إذا كانت الدولة أو المدينة لا تعد غير شخص معنوي تقوم حياته على اتحاد أعضائه، وإذا كانت سلامتها الخاصة أهم ما تعنى به، وجب أن تكون لها قوة عامة قاهرة لتحريك وإعداد كل قسم على أكثر الوجوه ملاءمة للجميع، وكما أن الطبيعة تمنح كل إنسان سلطة مطلقة على جميع أعضائه، يمنح الميثاق الاجتماعي الهيئة السياسية سلطانا مطلقا على جميع أعضائها أيضا، وهذه السلطة نفسها، وهي التي توجهها الإرادة العامة، تحمل اسم السيادة كما قلت.
ولكننا إذا عدونا الشخص العام، وجب علينا أن ننظر إلى الأشخاص الخاصين الذين يتألف منهم والذين يستقلون عنه حياة وحرية بحكم الطبيعة، وعلينا، إذن، أن نميز جيدا حقوق المواطنين والسيد
1
المتقابلة، وأن نميز الواجبات التي يجب على المواطنين أن يقوموا بها كرعايا، من الحقوق الطبيعية التي يجب أن يتمتعوا بها كأناس.
ويسلم بأن كل واحد يتنزل بالميثاق الاجتماعي عن قسم من سلطانه وأمواله وحريته، وذلك بالمقدار الذي يهم الجماعة استعماله، ولكنه يجب أن يسلم أيضا، بأن السيد وحده هو الحاكم في هذه الأهمية.
وكل خدمة يقدمها المواطن إلى الدولة يجب أن يقدمها فور مطالبة السيد إياه بها، غير أن السيد، من ناحيته، لا يمكن أن يثقل الرعايا بأي قيد غير نافع للجماعة، حتى إنه لا يستطيع أن يريد ذلك؛ وذلك لأن من مقتضيات ناموس العقل، وناموس الطبيعة أيضا، ألا يحدث شيء بلا سبب.
وليست التعهدات التي تربطنا بالهيئة الاجتماعية إلزامية إلا لأنها متقابلة، ومن طبيعتها أنها إذا ما أنجزت لم يمكن أن يعمل الإنسان في سبيل الآخرين من غير أن يعمل في سبيل نفسه، ولم تكون الإرادة العامة صائبة دائما؟ ولم يريد الجميع سعادة كل واحد منهم دائما، إذا لم يعن الشخص نفسه بكلمة «كل واحد» ولا يفكر في نفسه عند التصويت من أجل الجميع؟ هذا يثبت كون المساواة في الحقوق، وكون فكرة العدل التي تنشأ عن هذه المساواة، يشتق من إيثار كل واحد نفسه، ومن طبيعة الإنسان نتيجة، وهذا يثبت وجوب كون الإرادة العامة عامة في أغراضها وجوهرها؛ لتكون هكذا في الحقيقة، ووجوب صدورها عن الجميع لتطبق على الجميع، وكونها تفقد سدادها الطبيعي عندما تهدف إلى غرض شخصي معين؛ وذلك لأننا إذ نحكم فيما هو غريب عنا هنالك لم يكن لدينا أي مبدأ صحيح في الإنصاف يرشدنا.
والواقع أن الأمر يصبح موضع جدل عندما تثار مسألة خاصة أو حق خاص حول نقطة لم تنظم بعهد عام سابق. أجل، إن هذه قضية يكون الأشخاص ذوو العلاقة طرفا فيها، ويكون الجمهور الطرف الآخر فيها، غير أنني لا أرى أن القانون هو الذي يجب أن يتبع فيها، ولا القاضي هو الذي يجب أن يحكم فيها، ومن المضحك أن يراد الاستناد هنالك إلى قرار صريح للإرادة العامة قد لا يكون غير استنتاج أحد الطرفين، فلا يعده الطرف الآخر غير إرادة غريبة خاصة مالت في هذه الحال إلى الجور وكانت عرضة للخطأ، وهكذا، كما أن الإرادة الخاصة لا تستطيع أن تمثل الإرادة العامة تغير الإرادة العامة طبيعتها بدورها عندما يكون موضوعها خاصا ولا تستطيع، كإرادة عامة، أن تقضي في أمر رجل ولا واقعة، ولما كان شعب أثينة، مثلا، ينصب رؤساءه أو يعزلهم، وكان يكرم أحدهم ويعاقب آخر منهم، وكان يمارس جميع أعمال الحكومة على السواء ووفق كثير من المراسيم الخاصة، عاد هذا الشعب هنالك لا يكون ذا إرادة عامة بحصر المعنى، وعاد لا يسير مثل سيد، بل مثل حاكم، ويلوح هذا مخالفا للآراء العامة، ولكن يجب أن يترك لي من الوقت ما أعرض فيه آرائي.
يجب أن يرى مما تقدم أن الذي يجعل الإرادة عامة هو المصلحة المشتركة التي تؤلف بين المصوتين أكثر من أن يكونه عددهم؛ وذلك لأن كل واحد في هذا النظام يخضع، بحكم الضرورة، للأحوال التي يفرضها على الآخرين، وهذا الاتفاق العجيب بين المصلحة والعدالة هو الذي يمنح المشورات المشتركة صبغة إنصاف يبصر زوالها في المناقشة حول كل أمر خاص، وذلك عند عدم وجود مصلحة مشتركة توحد، وتوفق، بين قاعدة القاضي وقاعدة الخصم.
ومهما تكن الجهة التي يقترب منها إلى المبدأ فإنه يوصل إلى ذات النتيجة دائما، وذلك أن الميثاق الاجتماعي يجعل بين المواطنين من المساواة ما يلزمون أنفسهم معه بذات الشروط وما يجب أن يتمتعوا معه بذات الحقوق، وهكذا فإن كل عقد سيادة، أي كل عقد صحيح للإرادة العامة، يلزم أو يساعد، على السواء، وعن طبيعة الميثاق، جميع المواطنين، فلا يعرف السيد بذلك غير هيئة الأمة، ولا يفرق بين من تتألف منهم، وما يكون عقد السيادة بحصر المعنى إذن؟ ليس هذا عهدا بين الأعلى والأدنى، بل عهد هيئة بين كل واحد من أعضائها، وهو عهد شرعي؛ لأنه قائم على العقد الاجتماعي، وهو عادل؛ لأنه مشترك بين الجميع، وهو نافع؛ لأنه لا غرض له غير الخير العام، وهو مكين؛ لأن له ضمانا بالقوة العامة والسلطة العليا، ولا يخضع الرعايا لغير إرادتهم الخاصة ما داموا غير خاضعين لسوى تلك العهود، والسؤال عن مدى حقوق السيد والمواطنين المتبادلة هو سؤال عن المدى الذي يمكن المواطنين ضمنه أن يلزم بعضهم بعضا، وعن المدى الذي يمكن كل واحد أن يلزم نفسه نحو الجميع، وعن المدى الذي يمكن الجميع أن يلزموا أنفسهم نحوه.
ومن ثم يرى أن السلطة السيدة، المطلقة، المقدسة، المبرمة كما هي، لا تجاوز ولا يمكن أن تجاوز، حدود العهود العامة، وأن كل إنسان يستطيع أن يتصرف تصرفا تاما فيما ترك له من أمواله وحريته بهذه العهود، فلا يحق للسيد، مطلقا، أن يحمل أحد الرعايا أكثر مما يحمل الآخر؛ وذلك لأن الأمر يصير خاصا هنالك فيعود سلطانه غير ذي اختصاص.
وعندما سلم بتلك الفوارق مرة رئي من غير الصواب كثيرا وجود أي تنزل حقيقي من قبل الأفراد في العقد الاجتماعي، وذلك عن كون الوضع الذي صاروا إليه نتيجة العقد أفضل، في الحقيقة، من الذي قبل ذلك، وذلك أنهم قاموا بمبادلة رابحة بدلا من المبايعة، وأنهم نالوا طراز حياة أكثر صلاحا وأعظم قرارا بدلا من طراز حياة متقلب غير ثابت، وأنهم فازوا بحرية بدلا من استقلال طبيعي، وأنهم ظفروا بحق يجعله الاتحاد الاجتماعي منيعا بدلا من قوتهم التي يمكن الآخرين أن يتغلبوا عليها، وتحمي الدولة، باستمرار حياتهم التي وقفوها عليها. فإذا ما خاطروا بها دفاعا عن الدولة، فما يصنعون أكثر من ردهم إليها ما كانوا قد أخذوه منها؟ وما يفعلون أكثر ما يفعلون، غالبا، مع مجازفة أعظم شدة، في الحال الطبيعية، التي يخوضون فيها معارك لا مفر منها معرضين حياتهم للهلاك دفاعا عن وسائل حفظها؟ إن على الجميع أن يحارب في سبيل الوطن عند الضرورة لا ريب، ولكن ليس لأحد أن يقاتل في سبيل نفسه إذ ذاك، أو لا نكسب شيئا باقتحامنا، في سبيل ما يمنحنا سلامتنا، بعض المخاطر التي يجب أن نسعى إليها في سبيل أنفسنا عند فقد هذه السلامة؟
الفصل الخامس
حق الحياة والموت
يسأل: كيف أن الأفراد الذين ليس لهم حق التصرف في حياتهم الخاصة يمكنهم أن ينقلوا إلى السيد هذا الحق الذي لا يملكونه؟
لا تبدو هذه المسألة صعبة الحل إلا لسوء وضعها، ولكل إنسان حق المخاطرة بحياته الخاصة حفظا لها. وهل قيل، قط، كون الذي يقذف نفسه من نافذة؛ فرارا من حريق، مقترفا ذنب الانتحار؟! وهل عزي ذلك الجرم، أيضا، إلى من يهلك في عاصفة؛ لأنه كان يجهل خطرها؟!
غاية المعاهدة الاجتماعية هي سلامة الطرفين المتعاقدين، ومن يرد الغاية يرد الوسائط أيضا، وهذه الوسائط ملازمة لبعض المخاطر، ولبعض المهالك كذلك، وعلى من يريد حفظ حياته على حساب الآخرين أن يهبها، أيضا، في سبيلهم عند الضرورة، والواقع أن المواطن يعود غير قاض في الخطر الذي يود القانون أن يعرض نفسه له، فمتى قال الأمير له: «يلائم الدولة أن تموت» وجب عليه أن يموت؛ وذلك لأنه لم يعش في مأمن حتى ذلك الحين إلا وفق هذا الشرط، ولأن حياته عادت لا تكون نعمة من الطبيعة، بل هبة من الدولة مقيدة بشرط.
ويمكن أن ينظر إلى عقوبة الإعدام التي تفرض على المجرمين من هذه الوجهة أيضا تقريبا؛ وذلك أننا، لكيلا نكون ضحية قاتل، نوافق على إعدامنا إذا ما صرنا قاتلين، وفي هذه المعاهدة، إذ يبعد الإنسان من التصرف في حياته الخاصة، لا يفكر في غير ضمانها، ولا ينبغي أن يفترض كون أحد من المتعاقدين قد أبصر في ذلك الحين أنه سيشنق.
ثم إن كل شرير، إذا ما هاجم الحقوق الاجتماعية، يصبح بجرائمه عاصيا خائنا للوطن، ويعود غير عضو فيه بانتهاكه حرمة قوانينه، ويعد حتى شاهرا الحرب عليه، وهنالك تصير سلامة الدولة مناقضة لسلامته، فيجب أن يهلك أحدهما، فإذا أعدم المجرم وقع هذا على أنه عدو أكثر منه مواطنا، وتعد المحاكمات والحكم بينات على نقضه المعاهدة الاجتماعية وعلى كونه عاد لا يكون عضوا في الدولة من حيث النتيجة، كما تعد تصريحا بذلك، وهو إذ يعرف هكذا، كما هو الواقع، ولو من حيث إقامته على الأقل، وجب أن يقطع منه بالنفي كناقض للميثاق، أو بالقتل كعدو عام؛ وذلك لأن عدوا كهذا ليس شخصا معنويا، بل إنسان، وفي مثل هذه الحال يكون حق الحرب في قتل المغلوب.
ولكنه يقال: إن الحكم على المجرم عمل خاص. أوافق على هذا، غير أن حكما كهذا ليس من وظائف السيد، بل هو حق يمكنه أن يوليه من غير أن يمارسه بنفسه، وتتوافق جميع آرائي، ولكن مع عدم استطاعتي عرضها دفعة واحدة.
ثم إن كثرة العقوبات دليل على ضعف الحكومة أو كسلها، فلا يوجد رذيل لا يمكن جعله صالحا لشيء ما، فلا يحق إعدام غير من لا يمكن حفظه بلا خطر، ولو كان ذلك الإعدام للعبرة.
وأما حق العفو أو إعفاء المجرم من العقوبة التي فرضها القانون ونطق بها القاضي فإنه لا يخص غير من هو فوق القاضي والقانون، أي السيد، حتى إن حقه في هذا الأمر غير واضح تماما والأحوال التي يستعمله فيها نادرة جدا، والعقوبات قليلة في الدولة الحسنة الإدارة، لا عن كثرة العفو، بل عن قلة المجرمين، فكثرة الجرائم تضمن عدم العقاب عند انحطاط الدولة، ولم يحاول السنات، ولا القناصل، العفو في الجمهورية الرومانية، حتى إن الشعب كان لا يفعل هذا، وإن كان ينقض حكمه الخاص أحيانا، وكثرة العفو تشعر بأن الجرائم لم تلبث أن تغدو غير محتاجة إليه، ويبصر كل واحد مرد هذا، بيد أنني أحس احتجاج قلبي، وأحبس قلمي، فلندع مناقشة هذه المسائل للرجل العادل الذي لم يذنب ولم يحتج إلى العفو عن نفسه قط.
الفصل السادس
القانون
بالميثاق الاجتماعي منحنا الوجود والحياة للهيئة السياسية، والآن يجب علينا أن نمنحها الحركة والإرادة بالاشتراع؛ وذلك لأن العقد الابتدائي الذي تألفت به هذه الهيئة والتحمت لم يعين، بعد، شيئا مما يجب أن يصنعه للبقاء.
وما هو حسن ملائم للنظام هو هكذا بطبيعة الأمور مستقلا عن العهود البشرية، وكل عدل يأتي من الله، والله وحده هو مصدره، ولكننا لو كنا نعرف أن نتلقاه من هذا المقام الأعلى لم نحتج إلى حكومة، ولا إلى قوانين، ولا ريب في وجود عدل عام صادر عن العقل وحده، غير أنه يجب أن يكون هذا العدل متبادلا؛ ليكون مقبولا بيننا، وإذا نظر إلى الأمور من الناحية الإنسانية وجدت قوانين العدل غير مؤثرة بين الناس من عدم وجود مؤيد طبيعي، فهي تجعل من الخبيث خيرا ومن العادل سوءا، وذلك إذا ما راعاها هذا الأخير تجاه جميع العالم من غير أن يراعيها أحد تجاهه، فيجب، إذن، وجود عهود وقوانين لتوحيد ما بين الحقوق والواجبات ورد العدل إلى غايته، ولا أكون في الحال الطبيعية حيث كل شيء شائع، مدينا بشيء لمن لم أعدهم بشيء ولا أعترف بشيء لآخر غير ما لا يكون نافعا لي، ولا يكون الأمر هكذا في الحال المدنية حيث تعين جميع الحقوق بالقانون.
ولكن ما القانون في آخر الأمر إذن؟ نداوم على البرهنة من غير أن نصل إلى اتفاق ما اكتفينا بربط أفكار لاهوتية بهذه الكلمة، ونحن إذا ما عرفنا قانونا للطبيعة لم نقترب من تعريف قانون للدولة.
كنت قد قلت إنه لا يوجد إرادة عامة حول غرض خاص، والحق أن هذا الغرض الخاص إما أن يكون داخل الدولة أو خارجها، فإذا كان خارج الدولة لم تكن الإرادة الغريبة عنه عامة قط بالنسبة إليه، وإذا كان هذا الغرض داخل الدولة عد جزءا منها، وهنالك تقوم بين الكل وجزئه علاقة تجعلهما موجودين منفصلين، فيكون الجزء أحدهما ويكون الكل هو الآخر مع طرح هذا الجزء منه، بيد أن الكل مع طرح جزء ليس الكل مطلقا، وما دامت هذه العلاقة موجودة يعود الكل غير موجود، بل يوجد جزءان متفاوتان، ومن ثم تعود إرادة أحدهما غير عامة بالنسبة إلى الآخر.
ولكن جميع الشعب إذا ما سن في سبيل جميع الشعب لم ينظر إلى غير نفسه، فإذا ما تكونت علاقة حينئذ كان هذا بين وجهتين للغرض كاملا، وذلك من غير تقسيم للكل، وهنالك تكون المسألة التي يسن حولها عامة كالإرادة التي تسن، وهذا العقد هو ما أسميه قانونا.
وعندما قلت إن غرض القوانين عام دائما أردت بذلك كون القانون يعد الرعية جملة والقضايا مجردة، فلا يكون الإنسان فردا ولا تكون القضية خاصة، وهكذا يمكن القانون أن يقول في الحقيقة بوجود امتيازات، ولكنه لا يستطيع أن ينعم بها على شخص باسمه؛ ويمكن القانون أن يقول بعدة طبقات من المواطنين وأن ينص حتى على صفات الانتساب إلى هذه الطبقات، ولكنه لا يستطيع أن يعين هؤلاء أو أولئك الأشخاص لينتسبوا إليها، ويمكن القانون أن يقول بالحكومة الملكية والخلافة الوراثية، ولكنه لا يستطيع انتخاب ملك ولا تعيين أسرة مالكة، والخلاصة أن كل وظيفة ذات غرض خاص هي غير خاصة بالسلطة الاشتراعية مطلقا.
وإننا بعد النظر إلى ذلك نرى من فورنا أنه عاد لا ينبغي أن يسأل عمن يحق له وضع القوانين ما دامت من عمل الإرادة العامة، ولا عن كون الأمير فوق القوانين ما دام عضوا للدولة، ولا عن كون القانون غير عادل ما دام الإنسان لا يجور على نفسه، ولا عن كيفية كون الإنسان حرا وخاضعا للقوانين معا ما دامت القوانين سجلات لعزائمنا فقط.
وإذ يجمع القانون بين عمومية الإرادة وعمومية الغرض، كما يرى أيضا، فإن الرجل، مهما كان شأنه، لا يعد ما يؤمر به قانونا مطلقا، وكذلك لا يعد قانونا ما يأمر به السيد حول موضوع خاص، بل مرسوم. ولا يعد عمل سيادة، بل عمل حاكمية.
وأسمي جمهورية، إذن، كل دولة تدار بقوانين مهما كان شكل هذه الإدارة؛ وذلك لأن المصلحة العامة هي التي تسود هنالك، وهنالك فقط. ويكون الأمر العام حقيقة، وكل حكومة شرعية جمهورية،
1
وسأفصل ما الحكومة فيما بعد.
وليست القوانين، بحصر المعنى، غير شروط شركة مدنية، ويجب أن يكون الشعب الخاضع للقوانين واضعا لها، ولا يقع تنظيم شروط الشركة على غير الشركاء، ولكنهم كيف ينظمونها؟ أيكون هذا باتفاق عام أم بتلقين مفاجئ؟ وهل للهيئة السياسية جهاز تعبر به عن إرادتها؟ ومن ذا الذي يمنحها البصيرة الضرورية لوضع أفعالها ونشرها مقدما؟ أو كيف تنطق بها حين الحاجة؟ وكيف يمكن جمهورا أعمى لا يعرف، في الغالب، ما يريد؛ لأن من النادر أن يعرف ما هو صالح له، كيف يمكن هذا الجمهور أن ينفذ من تلقاء نفسه مشروعا بالغ العظم بالغ الصعوبة كالنظام الاشتراعي؟ أجل، إن الشعب يريد الخير دائما، ولكنه لا يراه من تلقاء نفسه دائما. أجل، إن الإرادة العامة مستقيمة دائما، ولكن قوة التمييز التي ترشده لا تكون منورة دائما، ويجب أن تبدى له الأغراض كما هي، وكما يجب أن تبدو له أحيانا، فيدل على الطريق الصالح الذي يبحث عنه، ويصان من إغواء الإرادات الخاصة، وتقرب الأمكنة والأزمنة إلى عيونه، ويعلم كيف يوازن بين جواذب المنافع الحالية الحساسة تجاه الشرور البعيدة الخفية، ويرى الأفراد ما يطرحون من خير، ويريد الجمهور ما لا يرى من خير، والجميع يحتاجون إلى أدلاء على السواء، ويجب أن يلزم أولئك بجعل عزائمهم ملائمة لعقلهم، وأن يعلم ذاك معرفة ما يريد، وهنالك ينشأ عن البصائر العامة اتحاد الإدراك والإرادة في الهيئة الاجتماعية، ومن ثم يكون اتفاق الأجزاء التام ويرفع المجموع إلى أعظم قوته، وهذا يجعل المشترع ضروريا.
الفصل السابع
المشترع
يجب، لاكتشاف أحسن قواعد المجتمع الملائمة للأمم، وجود ذكاء عال يرى جميع أهواء الناس من غير أن يبتلي واحدا منها، وألا يكون لهذا الذكاء أية صلة بطبيعتنا مع معرفة أساسية لهذه الطبيعة، وأن تكون سعادته مستقلة عن سعادتنا مع إرادة في العناية بسعادتنا، ثم أن يتطلع مع الزمن إلى مجد بعيد فيجد في قرن ليستطيع التمتع في القرن التالي،
1
فكان لا بد من آلهة لمنح الناس قوانين.
وما أتاه كليغولا من برهنة حول الوقائع أتاه أفلاطون حول الحقوق لتعريف الإنسان المدني أو الملكي الذي يبحث عنه في كتابه «الحكم»، ولكن إذا كان من الصحيح كون الأمير العظيم رجلا نادرا فما أشد ندرة المشترع العظيم! ليس على الأول غير اتباع النموذج الذي يجب على الآخر أن يقدمه، وهذا هو الميكاني الذي يخترع الآلة، وذلك ليس غير العامل الذي يعدها ويسيرها. ويقول مونتسكيو: «إن رؤساء الجمهورية هم الذين يضعون النظام حين قيام المجتمعات، ثم يكون النظام رؤساء الجمهوريات.»
2
ويجب على من يكون من الجرأة ما يحاول معه وضع نظم لشعب أن يشعر بقدرته على تغيير الطبيعة البشرية، ومن ثم على تحويل كل فرد، هو في نفسه كل كامل منفرد، إلى جزء من كل أعظم منه، فينال مع هذا الكل حياته ووجوده من بعض الوجوه، وعلى تبديل كيان الإنسان تقوية له، وعلى إقامة كيان جزئي معنوي مقام كيان طبيعي مستقل منحتنا الطبيعة إياه جميعا، والخلاصة أنه يجب أن ينزع من الإنسان قواه الخاصة؛ ليعطيه من القوى ما يكون غريبا عنه، وما لا يستطيع أن يستعمله من غير مساعدة الآخرين، وكلما بادت هذه القوى الطبيعية وتلاشت عظمت القوى المكتسبة ودامت، وأصبح النظام متينا كاملا، وذلك أن الموطن إذا لم يكن شيئا، ولم يستطع شيئا، من غير الآخرين، وكانت القوة المكتسبة من قبل الجميع مساوية لحاصل قوى جميع الأفراد الطبيعية أو أعلى منها، أمكن أن يقال: إن الاشتراع في أعلى نقطة من الكمال يمكنه أن يصل إليها.
والمشترع رجل عجيب في الدولة من كل ناحية، وهو إذا وجب أن يكون هكذا بعبقريته ليس أقل من ذلك بوظيفته التي ليست قضاء ولا سيادة مطلقا، وهذه الوظيفة التي تتألف الجمهورية منها لا تدخل ضمن نظامها مطلقا، وإنما هي وظيفة فردية عالية لا اشتراك بينها وبين السلطان البشري مطلقا؛ وذلك لأنه لا ينبغي لمن يسيطر على الناس أن يسيطر على القوانين، ولأنه لا ينبغي لمن يسيطر على القوانين أن يسيطر على الناس أيضا، وإلا كانت قوانينه خدمة أهوائه فلم تؤد، في الغالب، إلى غير دوام مظالمه، وما كان ليستطيع أن يتجنب، مطلقا، إفساد غاياته الخاصة قدسية عمله.
ولما منح ليكورغ وطنه قوانين بدأ باعتزال العرش، وكان من عادة معظم المدن الإغريقية أن يعهد إلى غرباء في وضع قوانينها، وقد سارت جمهوريات إيطالية الحديثة على هذا الغرار في الغالب، وقد صنعت جنيف مثل هذا وانتفعت بما صنعت،
3
وقد أبصرت رومة في أزهى عصورها انبعاث جميع جرائم الطغيان في صميمها وكادت تبيد؛ وذلك لجمعها السلطة الاشتراعية والسلطة ذات السيادة في رءوس واحدة.
ومع ذلك فإن الحكام العشرة أنفسهم لم يدعوا ، قط، حق وضع أي قانون استنادا إلى سلطانهم فقط، وقد كانوا يقولون للشعب: «لا شيء مما نقترحه عليكم يمكن أن يتحول إلى قانون من غير موافقتكم. فيا أيها الرومان، كونوا بأنفسكم واضعي القوانين التي يجب أن تؤدي إلى سعادتكم.»
إذن، لا يوجد، أو يجب ألا يكون، أي حق اشتراعي لمن يدون القوانين، ولا يستطيع الشعب، ولو أراد، أن يجرد نفسه من هذا الحق الذي لا ينقل؛ وذلك لأنه لا يوجد، وفق الميثاق الأساسي، غير الإرادة العامة ما يلزم الأفراد، ولا يمكن أن يوجد ضمان تكون به الإرادة الخاصة ملائمة للإرادة العامة إلا بعد إخضاعها لأصوات الشعب الحرة. أجل، كنت قد قلت هذا، ولكن ليس من غير المفيد تكراره.
وهكذا يوجد في عمل الاشتراع، معا، أمران يلوح أنهما متناقضان، وهما: مشروع فوق الطاقة البشرية، وسلطة لتنفيذه ليست شيئا.
وتوجد مشكلة تستحق الانتباه؛ وهي أن الحكماء، إذا ما أرادوا أن يخاطبوا بلسانهم فريق العوام بدلا من لسان هؤلاء، لم يستطيعوا أن يسمعوا على ما يحتمل، والواقع أنه يوجد ألف نوع من الأفكار يتعذر ترجمتها إلى لغة الشعب، وكذلك المقاصد البالغة العموم، البعيدة الغور تكون خارجة عن إدراكه، وبما أن كل فرد لا يستحسن خطة للحكومة غير التي تلائم مصلحته الخاصة فإنه يجد من العسير عليه أن يحقق الفوائد التي يرجو نزعها من الزهد الدائم الذي تفرضه القوانين الصالحة، ويجب، لكي يستطيع الشعب الناشئ أن يتذوق مبادئ السياسة الصحيحة، ويتبع القواعد الأساسية لداعي الدولة؛ أن يصبح المعلول علة، وأن تكون الروح الاجتماعية، التي يجب أن تصدر عن هذا النظام، على رأس هذا النظام، وأن يكون الناس قبل القوانين ما يجب أن يكونوه بهذه القوانين، وهكذا، إذ كان لا ينبغي للمشترع أن يستعمل القوة، ولا الدليل، فإن من الضروري أن يلجأ إلى سلطان من صنف آخر قادر على الجذب بلا عنف وعلى الإقناع بلا قطع.
وهذا ما حمل آباء الأمم، في جميع الأزمنة، على استشفاع السماء وتمجيد الآلهة بحكمتهم الخاصة، وذلك لكي تطيع الشعوب الخاضعة لقوانين الدولة خضوعها لقوانين الطبيعة، والمقرة بذات القوة في تكوين الإنسان وتكوين المدينة، بحرية وتحمل نير السعادة العامة بدعة.
وإن هذا العقل الأسمى الذي يعلو مدارك العوام هو العقل الذي يضع المشترع به أحكامه في فم الخالدين؛ ليسوقوا بالسلطان الإلهي من لم تقدر البصيرة البشرية أن تحركهم،
4
ولكن لا يستطيع كل واحد أن يجعل الآلهة يتكلمون، أو أن يؤمن به عندما يجهر بأنه ترجمان لهم، وتكون روح المشترع العظيمة هي المعجزة الحقيقية التي تثبت رسالته، ويمكن كل إنسان أن ينقش موائد من حجر، أو أن يشتري هاتفا للغيب، أو أن يتظاهر بأنه يعاشر إحدى الإلهات سرا، أو أن يروض طائرا ليكلمه في أذنه، أو أن يجد وسائل غليظة أخرى للتمويه على الشعب، حتى إنه يمكن من لم يعرف غير هذا أن يجمع، مصادفة، كتيبة من الحمق، ولكنه لن يؤسس دولة مطلقا، ولا يلبث عمله الأخرق أن يزول معه، ويؤلف النفوذ الفارغ صلة عابرة، ولا تجد غير الحكمة ما يجعله باقيا، ولا تزال الشريعة اليهودية القائمة دائما، وشريعة ابن إسماعيل التي تسيطر على نصف العالم منذ عشرة قرون، تنبئان بالعظيمين اللذين أملياهما، ومع أن الفلسفة المنتفخة، أو روح التعصب العمياء، لا ترى فيهما غير مخادعين مبخوتين فإن السياسة الصحيحة تبصر في نظمها تلك العبقرية العظيمة القوية التي تهيمن على المؤسسات الخالدة.
ولا ينبغي لنا أن نستنتج مع واربرتن، مما تقدم، وجود غرض مشترك للسياسة والدين بيننا، غير أن أحد هذين الأمرين كان يصلح أداة للآخر في الأدوار الأولى للأمم.
الفصل الثامن
الشعب
كما أن المهندس يعاين الأرض ويستبرها قبل إقامة بناء عظيم عليها، وذلك ليرى هل تستطيع حمل الثقل، لا يأخذ المشترع الحكيم في وضع قوانين صالحة بنفسها، وإنما يبحث مقدما في كون الشعب الذي يعدها له قادرا على احتمالها أو لا، ولذا رفض أفلاطون أن يمنح الأركاديين والسيرنائيين قوانين عالما أن هذين الشعبين كانا غينيين فلا يطيقان المساواة، ولذا وجد في أقريطش قوانين صالحة ورجال أردياء عن كون مينوس لم يدرب غير شعب مثقل بالعيوب.
وظهر في العالم ألف أمة أخذت بأسباب العظمة من غير احتمال لقوانين صالحة، حتى إن التي استطاعت احتماله منها لم تستطع الصبر عليه إلا لوقت قصير من تاريخها الطويل، ومعظم الشعوب، ككثير من الناس، لا يكون مطواعا في غير شبابه، فهو إذا شاب تعذر إصلاحه، والعادات إذا ما استقرت والأوهام إذا ما تأصلت حينا كان من الأمور الخطرة الفارغة أن يراد إصلاحها، حتى إن الشعب لا يطيق مس أمراضه لمعالجتها، وهو في هذا كأولئك المرضى الهوج الجبناء الذين يرتعشون عند منظر الطبيب.
وكما أنه يوجد أمراض تقلب رءوس الناس فينسون الماضي، يوجد في تاريخ الدول، أحيانا، أدوار عنيفة يكون للثورات فيها من العمل في الشعوب ما تعمله بعض الأزمات في الأفراد فتقوم كراهية الماضي مقام النسيان، وتبعث الدولة التي أحرقتها الحروب الأهلية من رمادها وتسترد قوة شباب بإفلاتها من فكي الموت، شأن إسبارطة في زمن ليكيورغ، ورومة بعد آل تاركن، وشأن هولندة وسويسرة بعد طرد الطغاة في الزمن الحديث.
بيد أن هذه الحوادث نادرة، وهي استثناءات تجد سببها دائما في النظام الخاص للدولة المستثناة، ولا يمكن هذه الاستثناءات أن تتفق لذات الشعب مرتين، وذلك لإمكان جعل نفسه حرا ما بقي متوحشا، ولكنه يغدو غير قادر على ذلك عند بلى النابض المدني، وهنالك يمكن الفتن أن تبيده من غير أن تستطيع الثورات أن تجدده، وهو إذا ما كسرت قيوده لم يلبث أن يتفرق ويصبح غير موجود، وهو يحتاج إلى سيد فيما بعد، لا إلى منقذ، فيا أيتها الشعوب الحرة، اذكري هذا القول الجامع وهو: «يمكن اكتساب الحرية، ولكنها لا تسترد مطلقا.»
وليس الشباب طفولة، ويأتي على الأمم، كما على الناس، دور شباب، وإن شئت فقل دور رشد لا بد من انتظاره قبل إخضاعها للقوانين، غير أنه لا يسهل أن يعرف دائما، وهو إذا ما سبق أخفق العمل، وذاك الشعب أهل ليدرب منذ نشأته، وذلك الشعب لا يكون أهلا لذلك إلا بعد عشرة قرون، ولن يتمدن الروس حقا؛ لأنهم تمدنوا على عجل، وكان بطرس يتصف بعبقرية اقتدائية، لا عبقرية حقيقية، والعبقرية الحقيقية هي التي تبدع وتصنع كل شيء من العدم. أجل، إنه فعل أمورا صالحة، غير أن معظم ما فعل كان مخالفا للصواب. أجل، إنه أبصر توحش شعبه، غير أنه لم يبصر عدم بلوغه نضجا يتقبل معه الحضارة ... وهو قد أراد تمدينه حينما كان يجب تمرينه على الحرب، وهو قد أراد أن يصنع ألمانا وإنكليزا منذ البداءة حينما كان عليه أن يصنع روسا، وهو قد منع رعاياه من أن يكونوا ما يمكنهم أن يكونوه؛ وذلك بإقناعهم أنهم كانوا ما لا يكونونه، وهو في ذلك كالأستاذ الفرنسي الذي يكون تلميذه ليلمع في طفولته ولا يكون شيئا مذكورا في بقية عمره، وترغب إمبراطورية روسية في إخضاع أوربة، وستخضع هي نفسها، فسيكون رعاياها وجيرانها من التتر سادتها وسادتنا، وتظهر لي هذه الثورة آتية لا ريب فيها، ويعمل جميع ملوك أوربة، متفقين، تعجيلا لها.
تكملة
كما أن الطبيعة جعلت لقامة الإنسان الحسن التقويم من الحدود ما إذا جاوزه لم تصنع هذه القامة غير عمالقة وأقزام يوجد لنظام الدولة الأقوم حدود لا يكون بها من الاتساع ما ينافي حسن إدارتها ولا من الضيق ما لا يستقيم معه حفظها بنفسها، ويوجد في كل هيئة سياسية من الحد الأعلى للقوة ما لا تمكن مجاوزته، وإنما يبتعد عنه في الغالب للتوسع، وكلما اتسعت الرابطة الاجتماعية ارتخت، وإذا نظر إلى دولة صغيرة وجدت، على العموم، أقوى من الدولة الكبيرة نسبيا.
ويمكن عرض ألف دليل لإثبات هذا المبدأ، ومن ذلك أن المسافات الكبيرة تجعل الإدارة أكثر صعوبة، وذلك كالوزن الذي يصبح أشد ثقلا في طرف أعظم عتلة، وكلما زادت الدرجات غدت الإدارة أثقل وقرا، وذلك أن لكل مدينة إدارتها في بدء الأمر فيدفع الشعب إليها، وأن لكل مديرية إدارتها فيدفع الشعب إليها أيضا، ثم تأتي كل ولاية، ثم تأتي الحكومات الكبيرة والمرزبات والإيالات، فيجب أن يدفع إليها كلما ارتقي وذلك على حساب الشعب البائس، وأخيرا تأتي الإدارة العليا التي تعصر الجميع، وتقع هذه المرهقات الكثيرة على الرعايا فتنهكهم شيئا فشيئا، ومن البعيد أن يكون الرعايا أحسن إدارة بجميع هذه الدرجات المختلفة، وهم بها أسوأ إدارة مما لو حكمت فيهم سلطة منفردة تعلوهم، ومع ذلك لا تكاد تبقى وسائل كافية لمواجهة الطوارئ، فمتى وجب الإسراع إليها كانت الدولة على شفا الانهيار.
وليس هذا كل ما في الأمر، لا لأن الحكومة أقل بأسا وسرعة، فقط، لتحمل على مراعاة القوانين، ولتحول دون المظالم، ولتقوم المساوئ، ولتمنع المفاسد التي يمكن أن تقع في الأماكن البعيدة؛ بل لأن الشعب، أيضا، أقل حبا لرؤسائه الذين لا يراهم مطلقا، وللوطن الذي يتمثل له كالعالم، ولمواطنيه الذين يعد معظمهم غرباء عنه، ولا يمكن القوانين نفسها أن تلائم ولايات كثيرة ذات عادات مختلفة وواقعة في أقاليم متباينة جدا فلا تحتمل شكل الحكومة عينه، ولا تؤدي القوانين المختلفة إلى غير الاضطراب والارتباك بين الرعايا الذين يعيشون تحت ظل الرؤساء أنفسهم والذين يكونون على اتصال دائم فيختلطون، أو يتزاوجون، مع خضوع لعادات أخرى فلا يعرفون هل تراثهم ملك لهم. والمواهب مدفونة والفضائل مجهولة والرذائل بلا عقاب في هذا الجمهور من الناس الذين لا يعرف بعضهم بعضا، والذين يجمع بينهم مقر الإدارة العليا في مكان واحد، ولا يرى الرؤساء المثقلون بالأعمال شيئا بأنفسهم، ويقوم الكتبة بإدارة الدولة، ثم إن التدابير التي يجب اتخاذها حفظا للسلطة العامة، والتي يرغب هؤلاء الموظفون الأباعد في الإفلات منها أو فرضها، تستوعب جميع النشاط العام فلا يترك شيء لسعادة الشعب، ولا يكاد يبقى شيء للدفاع عنه عند الضرورة، وهكذا تهن الهيئة البالغة الضخامة بالنسبة إلى نظامها وتهلك مسحقة تحت عبئها الخاص.
وعلى الدولة، من ناحية أخرى، أن تجعل لنفسها قاعدة أمينة لتضمن الاستقرار، ولتقاوم الزعازع التي لا يقل ابتلاؤها بها، ولتقوم بالجهود التي تلزم بها لتبقى على حالها؛ وذلك لأنه يوجد لدى جميع الشعوب ضرب من القوة الدافعة التي بها يعمل بعضها ضد بعض عملا مستمرا ويميل إلى التوسع على حساب جيرانه كزوابع ديكارت، وهكذا يحف خطر الابتلاع بالضعفاء حالا، ولا يستطيع أحد أن يحفظ نفسه، مطلقا، إلا بتوازنه مع الجميع، فيكون الضغط بذلك متساويا في كل ناحية تقريبا.
ومن ثم ترى وجود أسباب للتوسع وأسباب للتقلص، وليست أدنى موهبة في السياسي ما يجد به بين هذه الأسباب وتلك الأسباب أنفع نسبة لصيانة الدولة، ويمكن أن يقال على العموم إن الأسباب الأولى، إذ لم تكن غير ظاهرية نسبية، يجب أن تكون تابعة للأسباب الأخرى التي هي باطنية مطلقة، والنظام السليم هو الشيء الأول الذي يجب البحث عنه، ويجب أن يعتمد على الحيوية التي تنشأ عن الحكومة الصالحة أكثر مما على الوسائل التي تنشأ عن الأملاك الكبيرة.
ومع ذلك شوهدت دول بلغت من إحكام التركيب ما دخلت ضرورة الفتوح معه ضمن نظامها، وقد اضطرت هذه الدول، لتبقى، إلى التوسع بلا انقطاع، ومن المحتمل أن هنأت هذه الدول نفسها كثيرا بهذه الضرورة السعيدة التي كانت تدلها، مع حد عظمتها، على الخصوص، على زمن سقوطها الذي لا مناص منه. •••
يمكن قياس الهيئة السياسية على وجهين، أي باتساع أرضها وبعدد شعبها، ويوجد بين كل من القياسين علاقة مناسبة تكتسب الدولة عظمتها الحقيقية بها، والناس هم الذين يصنعون الدولة، والأرض هي التي تقيت الناس، وتقوم هذه العلاقة، إذن، على كفاية الأرض لمعيشة سكانها وعلى وجود سكان يمكن الأرض أن تقيتهم، وعلى هذه النسبة يقوم الحد الأعلى لقوة العدد المعين للشعب؛ وذلك لأن الأرض إذا كانت واسعة جدا ثقلت حراستها ونقصت زراعتها وفاضت غلتها، فكان هذا سبب الحروب الدفاعية قريبا، ولأن الأرض إذا كانت غير كافية استخذت الدولة لجارتها تلافيا للنقص فكان هذا سبب الحروب الهجومية قريبا، وكل شعب ليس له، بوضعه، غير الخيار بين التجارة أو الحرب ضعيف بنفسه، فأمره منوط بجيرانه وبالحوادث، ولا يكون له من الوجود غير ما هو متقلب قصير مطلقا، فإما أن يدوخ ويغير وضعه، وإما أن يدوخ ويصبح كالمعدوم، وهو لا يستطيع أن يبقى حرا إلا عن صغر أو عن عظمة.
ولا يمكن أن تقرر بالحساب نسبة ثابتة بين اتساع الأرض وعدد الأهلين الذين يكفي بعضهم بعضا وذلك بسبب الفروق في خواص الأرض، وفي درجات خصبها وطبيعة غلاتها، وفي طبيعة الأقاليم، وبسبب الفروق التي تلاحظ في أمزجة سكان هذه الأقاليم فترى بعضهم يستهلك قليلا في بلد خصيب، وترى آخرين يستهلكون كثيرا في أرض غير خصيبة، وكذلك يجب أن ينظر بعين الاعتبار إلى كثرة خصب النساء وقلته، وإلى الأحوال الملائمة، أو قليلة الملاءمة، في كل بلد لزيادة السكان، وإلى مقدار النفوذ الذي يمكن المشترع أن يرجو ممارسته في نظاماته حول ذلك، لذلك لا ينبغي لمشترع أن يقيم رأيه على ما يرى، بل وفق ما يبصر، ولا أن يقف عند حال السكان الحاضرة بمقدار وقوفه عندما لا بد لهم من الوصول إليه بحكم الطبيعة، ثم إنه يوجد ألف حال تقتضي فيها الحوادث المحلية الخاصة، أو تجيز، نيل أرض أكبر مما تلوح ضرورته، وهكذا يتوسع كثيرا في البلاد الجبلية حيث الإنتاجات الطبيعية، كالغاب والمراعي، تتطلب عملا قليلا، وحيث يعلم من التجربة كون النساء أكثر خصبا مما في السهول، وحيث الأرض المائلة الكبيرة لا تنعم بغير قاعدة أفقية صغيرة يعتمد عليها وحدها في النبات، وعلى العكس يمكن أن يتقبض على شاطئ البحر، حتى في الأرضين الصخرية وفي الرمال الجديبة تقريبا؛ وذلك لأن صيد البحر يمكن أن يقوم مقام غلات الأرضين إلى حد بعيد، ولأن على الناس أن يكونوا أكثر تجمعا لدفع القراصين، ثم لأنه يسهل كثيرا إنقاذ البلاد، بالجاليات، من السكان المرهقة بهم.
وإلى هذه الشروط في تنظيم شعب يجب أن يضاف شرط لا يمكن أن يقوم مقام أي شرط آخر، ولكن مع عدم فائدة الشروط الأخرى بغيره، وذلك هو التمتع بالأمن واليسر؛ وذلك لأن الزمن الذي تنظم فيه الدولة هو كالزمن الذي تؤلف فيه كتيبة حين تكون بهيئتها أقل اقتدارا على المقاومة وأقدر على التخريب بسهولة، فالمقاومة تقع مع وجود الفوضى المطلقة أحسن مما في وقت الاختمار حين يعنى كل واحد بمرتبته لا بالخطر، وإذا ما وقعت حرب أو مجاعة أو فتنة بغتة في زمن الأزمة هذا سقطت الدولة لا محالة.
ولا يعني هذا عدم قيام كثير من الحكومات في أثناء هذه الزوابع، وإنما هذه الحكومات نفسها هي التي تقوض دعائم الدولة، ويوجب الغاصبون، أو يختارون، أزمنة الاضطرابات هذه دائما، فيجيزون، تحت ستار من الذعر العام، قوانين هدامة لم يكن الشعب ليقبل بها رابط الجأش، ويعد اختيار الوقت من أصح الدلائل في تمييز عمل المشترع من عمل الطاغية.
إذن، أي الشعوب أصلح موضوع للاشتراع؟ ذلك الذي ارتبط برابطة الأصل أو المصلحة أو العهد فلم يحمل نير القوانين الحقيقي بعد، وذلك الذي لم يكن لديه من العادات والخرافات ما هو متأصل كثيرا، وذلك الذي لا يخاف أن يرهق بغزو مفاجئ، فيستطيع، من غير تدخل في منازعات جيرانه، أن يقاوم بمفرده كل واحد منهم، أو أن يستعين بأحدهم على دحر الآخر، وذلك الذي يمكن أن يعرف كل عضو فيه من قبل الجميع فلا يلزم فيه بتحميل الإنسان ما لا طاقة له به، وذلك الذي يستطيع أن يستغني عن الشعوب الأخرى استغناءها عنه،
1
وذلك الذي ليس غنيا ولا فقيرا فيمكنه أن يكفي نفسه بنفسه، وأخيرا ذلك الذي يجمع بين ثبات الشعب القديم ودعة الشعب الحديث، والذي يجعل عمل الاشتراع شاقا هو ما يجب أن يبنى أقل مما يجب أن يهدم، والذي يجعل النجاح أمرا نادرا جدا هو تعذر اجتماع البساطة الطبيعية واحتياجات المجتمع، والحق أن من الصعوبة أن توجد هذه الشروط متحدة، ومن ثم كانت قلة الدول ذات النظم الصالحة.
ولا يزال يوجد في أوربة بلد قادر على تقبل الاشتراع، وذلك البلد هو جزيرة قورسقة، وما استطاع به هذا الشعب الباسل أن يسترد حريته ويدافع عنها من شجاعة وثبات يستحق أن يعلمه رجل حكيم معه كيف يحافظ على ما فاز به، ولدي من الشعور ما أبصر به كون هذه الجزيرة الصغيرة ستدهش أوربة ذات يوم.
الفصل التاسع
طرق الاشتراع المختلفة
إذا بحث عن الشيء الذي يقوم عليه أعظم خير للجميع، والذي يجب أن يكون غاية كل طريق اشتراعي، وجد أنه يرد إلى أمرين أصليين: الحرية والمساواة؛ الحرية لأن كل تبعية خاصة تعني القوة التي أخذت من هيئة الدولة بمقدارها، والمساواة لأن الحرية لا يمكن أن تكون من غيرها.
وكنت قد عرفت الحرية المدنية، وأما المساواة فلا ينبغي أن يعرف بهذه الكلمة كون درجات السلطة والغنى واحدة لدى الجميع على الإطلاق، وإنما السلطة في كونها دون كل طغيان، وفي كونها لا تمارس إلا من حيث المرتبة والقوانين، وإنما الغنى في عدم وجود مواطن يكون من اليسر ما يشتري معه آخر، وفي عدم وجود أحد يكون من الفقر ما يضطر معه إلى بيع
1
نفسه، وهذا يفترض، من ناحية الكبراء، اعتدال الأموال والاعتبار، وهذا يفترض، من ناحية الصغراء، اعتدال الشح والشهوة.
وقد قيل: إن هذه المساواة وهم نظري لا يمكن أن يكون عمليا، ولكن سوء الاستعمال إذا كان أمرا لا مفر منه أفلا يجب تنظيمه على الأقل؟ فبما أن قوة الأحوال تميل، بالضبط، إلى القضاء على المساواة دائما فإنه يجب على قوة الاشتراع أن تميل إلى صيانتها دائما.
بيد أن هذه الأغراض العامة لكل نظام صالح يجب أن تعدل في كل بلد على حسب الوضع المحلي وطبع السكان. ويجب، بناء على هذه العوامل، أن يعطى كل بلد طريقة نظام خاصة تكون أصلح ما يكون، لا في حد ذاتها على ما يحتمل، بل من حيث الدولة التي عين لها؛ ومن ذلك أن الأرض إذا كانت نكدة جدباء أو كان البلد زاخرا بالسكان وجب على الشعب أن يتحول إلى الصناعة والحرف فيبادل بين ما ينتجه وما يعوزه من البياعات ... ومن ذلك أن الشعب إذا كان يشغل سهولا غنية ومنحدرات خصيبة أو أرضا صالحة، فيعوزه الأهلون، وجب عليه أن يوجه جميع همه إلى الزراعة التي تزيد السكان، وأن يقصي الحرف التي لا تؤدي إلى غير نقص السكان بحشدها في أماكن قليلة ما تشتمل عليه من الأهلين ...
2
ومن ذلك أن الشعب إذا كان يسكن شواطئ واسعة ملائمة فدعوه يملأ البحر سفينا ويزاول التجارة والملاحة، فهنالك يقضي حياة زاهرة قصيرة، ومن ذلك أن البحر إذا كان لا يبلل من سواحل الشعب غير صخور وعرة فدعوه يبقى متوحشا آكلا للأسماك، فهنالك يعيش أهدأ بالا، وأحسن حالا على ما يحتمل، وأكثر سعادة لا ريب ... والخلاصة أنك إذا عدوت المبادئ المشتركة بين الجميع وجدت كل شعب يشتمل في نفسه على سبب ناظم لتلك المبادئ نظما خاصا به، على سبب جاعل اشتراعه خاصا به، وهكذا كان الدين غرض العبريين الرئيس في الزمن القديم وغرض العرب الرئيس في الزمن الحديث، وهكذا كانت الآداب غرض الأثنيين، والتجارة غرض قرطاجة وصور، والملاحة غرض رودس، والحرب غرض إسبارطة، والفضيلة غرض رومة، وقد بين مؤلف «روح الشرائع» في طائفة من الأمثلة دهاء المشترع في توجيه النظام نحو كل واحد من هذه الأغراض.
والذي يجعل نظام الدولة متينا باقيا حقا هو الإمعان في مراعاة الملاءمات بما تلتقي به العلاقات الطبيعية والقوانين في نقاط واحدة وما تضمن به هذه القوانين وتصاحب وتقوم تلك العلاقات، ولكن المشترع إذا ما أخطأ غرضه فاتخذ مبدأ غير الذي ينشأ عن طبيعة الأمور، كأن يهدف أحدهما إلى العبودية والآخر إلى الحرية، وكأن يهدف أحدهما إلى الثروات والآخر إلى السكان، وكأن يهدف أحدهما إلى السلم والآخر إلى الفتوح ضعفت القوانين رويدا رويدا، وفسد النظام، وما انفكت الدولة تضطرب حتى تنهار أو تغير فتسترد الطبيعة التي لا تقهر سلطانها.
الفصل العاشر
تقسيم القوانين
لا بد من مراعاة علائق كثيرة لتنظيم الكل ومنح الأمر العام أحسن شكل ممكن، وأولى هذه العلائق هي تأثير الهيئة بأجمعها في نفسها، أي علاقة الكل بالكل، أو علاقة السيد بالدولة، وتؤلف هذه العلاقة من علاقة الأحوال المتوسطة، كما نرى ذلك فيما بعد.
وتحمل القوانين التي تنظم هذه العلاقة اسم القوانين السياسية، وتسمى القوانين الأساسية أيضا، وليس من غير سبب أن تكون هذه القوانين حكيمة؛ وذلك لأنه إذا لم يوجد في كل دولة غير منهاج صالح لتنظيمها وجب على الشعب الذي يجده أن يتمسك به، ولكن النظام القائم إذا كان سيئا فلماذا تعد القوانين التي تحول دون صلاح الشعب أساسية؟ ثم إن الشعب، في كل حال، يكون دائما ولي تغيير قوانينه، حتى أحسنها؛ وذلك لأنه إذا ما راقه أن يؤذي نفسه فمن ذا الذي يحق له أن يمنعه من هذا؟!
والعلاقة الثانية هي ما بين الأعضاء، أو مع الهيئة بأسرها، ويجب أن تكون هذه العلاقة قليلة الأهمية في الوجه الأول، وأن تكون عظيمة الأهمية في الوجه الثاني ما أمكن، أي إن يكون المواطن كامل الاستقلال عن الآخرين وأن يكون شديد الاتباع للمدينة، وهذا ما يقع بذات الوسائل دائما؛ وذلك لأنه لا يوجد غير قوة الدولة ما يضمن حرية أعضائها، وعن هذه العلاقة تنشأ القوانين المدنية.
ويمكن أن يبصر، أيضا، نوع ثالث من العلاقة بين الإنسان والقانون، أي علاقة التمرد على عقابه، وهذه العلاقة هي التي تؤدي إلى وضع القوانين الجزائية التي هي في الأساس نوع خاص من القوانين أقل من كونها مؤيدة لجميع القوانين الأخرى.
وإلى هذه الأنواع الثلاثة من القوانين يضاف نوع رابع، وهو أهم من جميع الأنواع، وهو لا ينقش على الرخام ولا على النحاس، بل في قلوب المواطنين، وهو الذي يتألف منه نظام الدولة الحقيقي، وهو الذي ينال قوى جديدة في كل يوم، وهو الذي إذا ما هرمت القوانين الأخرى أو انطفأت أحياها أو قام مقامها، وهو الذي يحفظ الشعب في روح نظامه، ويحل قوة العرف محل السلطة على وجه غير محسوس، وأتكلم عن الطبائع والعادات، وعن الرأي العام على الخصوص، أي عن هذا القسم الذي يجهله سياسيونا، ولكن مع توقف جميع الأقسام الأخرى عليه، عن هذا القسم الذي يعنى المشترع العظيم به سرا، وإن بدا اقتصاره على أنظمة خاصة ليست غير عقد القبة التي تؤلف الطبائع البطيئة التكوين غلقها الراسخ.
وبين هذه الأصناف المختلفة للقوانين تكون القوانين السياسية التي تتألف منها الحكومة، تكون هذه القوانين وحدها، خاصة بموضوعي.
الباب الثالث
دعنا نحاول، قبل الكلام عن مختلف أشكال الحكومة ، أن نحدد، بالضبط، معنى هذه الكلمة التي لم توضح جيدا حتى الآن.
الفصل الأول
الحكومة على العموم
أنذر القارئ بضرورة قراءة هذا الفصل بدقة، وبأنني لا أعرف فن جعل نفسي واضحا عند من لا يريد أن يكون منتبها.
إن لكل عمل حر سببين يتعاونان في إحداثه: فأحدهما أدبي، وهو الإرادة التي تعين العمل، والآخر طبيعي، وهو السلطة التي تنفذه، ومتى سرت نحو غرض وجب أن أكون قد أردت السير إليه أولا، وأن تحملني قدماي ثانيا، وإذا أراد كسيح أن يعدو، ولم يرد رجل نشيط ذلك، ظل الاثنان حيث هما، وللهيئة السياسية ذات البواعث؛ ففيها تماز القوة والإرادة، وهذه باسم السلطة الاشتراعية، وتلك باسم السلطة التنفيذية، ولا شيء يصنع، أو لا شيء ينبغي أن يصنع، من غير تعاونهما.
وقد رأينا أن السلطة الاشتراعية خاصة بالشعب، ولا يمكن إلا أن تكون خاصة به، وعلى العكس يسهل أن يرى، بالمبادئ المقررة آنفا، أن السلطة التنفيذية لا يمكن أن تكون خاصة بعمومية كالاشتراع أو السيد؛ وذلك لأن هذه السلطة لا تقوم على غير أعمال خاصة ليست، مطلقا، من نابض القانون، ولا من نابض السيد نتيجة، من نابض هذا السيد الذي لا يمكن أن تكون أعماله غير قوانين.
ولذا تحتاج القوة العامة إلى عامل خاص يجمع بينها ويسيرها وفق مناحي الإرادة العامة، ويكون واسطة اتصال بين الدولة والسيد، ويصنع في الشخص الألبي ما يصنعه اتحاد الروح والبدن في الإنسان، وهذا هو داعي الحكومة في الدولة التي خلطا خطا بالسيد مع أنها ليست سوى وزير له.
وما الحكومة إذن؟ الحكومة هيئة متوسطة قائمة بين الرعايا والسيد؛ ليتواصلا، موكول إليها تنفيذ القوانين وصيانة الحرية المدنية والسياسية.
وتسمى أعضاء هذه الهيئة «حكاما» أو «ملوكا»، وتحمل الهيئة بأسرها اسم «الأمير»
1 ... وهكذا يكون على حق كبير أولئك الذين يزعمون أن السند الذي يخضع الشعب به لرؤساء ليس عقدا مطلقا، وإنما هو تفويض فقط، وإنما هو وظيفة يمارس بها عمال السيد باسمه ما أودعهم إياه من سلطة فيمكنه أن يحددها ويستردها ويحولها متى أراد، ما دام التنزل عن مثل هذا الحق منافيا لطبيعة الهيئة الاجتماعية مباينا لغاية الشركة.
ولذا أدعو بالحكومة أو الإدارة العليا ممارسة السلطة التنفيذية ممارسة شرعية، وأدعو بالأمير أو الحاكم الرجل، أو الهيئة، المفوض إليه هذه الإدارة.
وفي الحكومة توجد القوى المتوسطة التي تتألف من نسبها نسبة الكل إلى الكل أو نسبة السيد إلى الدولة، ويمكن تشبيه هذه النسبة الأخيرة بحدي تناسب تكون الحكومة وسطا متناسبا بينهما، وتتلقى الحكومة من السيد ما تعطيه الشعب من الأوامر. ويجب لتوازن الدولة جيدا، وذلك عند تعديل كل شيء، أن توجد مساواة بين حاصل أو سلطان الدولة في حد ذاته، وحاصل أو سلطان الموطنين، الذين هم سادة من ناحية ورعية من ناحية أخرى.
ثم إنه لا يمكن تحريف أي واحد من هذه الحدود الثلاثة من غير أن يقضى على النسبة حالا، وإذا أراد السيد أن يحكم، أو أراد الحاكم أن يصدر قوانين، أو رفضت الرعية أن تطيع، اختل النظام، وعادت القوة والإرادة لا تتفقان، ووقعت الدولة المنحلة في الاستبداد أو الفوضى، ثم بما أنه لا يوجد غير متوسط مناسب واحد بين كل نسبة فإنه لا يمكن غير وجود حكومة صالحة واحدة في الدولة أيضا، ولكن بما أن ألفا من الحوادث يمكن أن يغير نسب الشعب، فإن شتى الحكومات لا تكون وحدها صالحة لشتى الشعوب، بل تكون هكذا لدى الشعب نفسه في مختلف الأزمان.
وإني، إذ أحاول إبداء رأي حول مختلف النسب التي يمكن أن تسود بين ذينك الحدين المتناهيين، أتخذ عدد الشعب مثالا كنسبة يسهل التعبير عنها أكثر مما عن سواها.
ولنفترض كون الدولة مؤلفة من عشرة آلاف مواطن، فلا يمكن السيد أن يعد إلا ألبيا وكهيئة، غير أن كل عضو يعد فردا بصفته تابعا، وهكذا يكون السيد بالنسبة إلى التابع كعشرة آلاف بالنسبة إلى واحد، أي إنه ليس لكل عضو في الدولة نصيب غير جزء من عشرة آلاف من سلطان السيد وإن كان خاضعا له بأجمعه، وإذا كان الشعب مؤلفا من مائة ألف نفس لم يتبدل حال الرعايا، ووجد كل واحد تحت سلطان القوانين على السواء، مع أن تصويته المنقوص إلى جزء من مئة ألف ذو تأثير في كتابة القوانين أقل عشر مرات. وهنالك إذ يبقى التابع وحده دائما فإن نسبة السيد تزيد بمقدار عدد المواطنين، ومن ثم تنقص الحرية كلما عظمت الدولة.
وعندما قلت إن النسبة تزيد قصدت ابتعادها عن المساواة، وهكذا كلما عظمت النسبة في اصطلاح المهندسين صغرت في اصطلاح الناس، والنسبة إذ ينظر إليها في الاصطلاح الأول من حيث الكمية، تقدر بالحاصل. والنسبة إذ ينظر إليها في الاصطلاح الثاني من حيث وحدة الذات، تقدر بالمشابهة.
والواقع أن الإرادات الخاصة كلما قلت نسبتها إلى الإرادة العامة، أي نسبة الطبائع إلى القوانين، وجبت زيادة القوة الزاجرة. ولذا يجب، لتكون الحكومة صالحة، أن تكون أكثر قوة نسبيا كلما زاد الشعب عددا.
ومن ناحية أخرى، إذ يمنح توسع الدولة حفظة السلطة العامة نزعات ووسائل إلى إساءة استعمال سلطانهم فإن الحكومة كلما وجب أن تزيد قوة لزجر الشعب وجب على السيد من ناحيته، أن يزيد قوة لزجر الحكومة، ولا أتكلم هنا عن القوة المطلقة، بل عن القوة النسبية لمختلف أقسام الدولة.
وينشأ عن هذه النسبة المضاعفة كون النسبة المتصلة بين السيد والأمير والشعب ليست فكرة مرادية مطلقا، بل نتيجة ضرورية لطبيعة الهيئة السياسية، وينشأ عنها، أيضا، أن أحد الحدود القصوى، أي الشعب كتابع، إذ كان ثابتا ممثلا بوحدة فإن الداعي المضعف كلما زاد أو نقص زاد الداعي البسيط أو نقص أيضا، ومن ثم تغير الحد المتوسط، وهذا يدل على عدم وجود نظام وحيد مطلق للحكومة، بل على إمكان وجود حكومات مختلفة طبيعة بمقدار وجود دول مختلفة حجما.
وإذا ما قيل، عن تحويل لهذه الطريقة إلى سخرية، إنه كان يجب علي أن أستخرج الجذر المربع من عدد الشعب، لكي يعثر على ذلك المتوسط النسبي وتؤلف هيئة الدولة، أجبت أنني لم أتناول هذا العدد هنا إلا مثالا، وأن النسب التي أتكلم عنها لا تقاس بعدد الناس فقط، بل بكمية الباعث الذي هو مزيج من مجموع العلل، وإذا كنت أستعير اصطلاحات هندسية للتعبير بأقل ما يمكن من الكلام فإنني لا أجهل، مع ذلك، أن الدقة الهندسية ليس لها مكان في الكميات الأدبية.
والحكومة مصغرة عن الهيئة السياسية التي تكتنفها على مقياس كبير، وهي شخص معنوي مجهز ببعض الخصائص، فاعل كالسيد، منفعل كالدولة، ويمكن تفريقه إلى نسب متماثلة تنشأ عنها نسبة جديدة من حيث النتيجة، وتنشأ عن هذه النسبة الجديدة نسبة أخرى وفق نظام المحاكم، وذلك إلى أن ينتهى إلى حد لا يتجزأ، أي إلى رئيس أو حاكم عال يمكن تمثله بين هذه النسبة المتوالية كالوحدة بين سلسلة الكسور والسلسلة العددية.
ولنقنع بعد الحكومة هيئة جديدة في الدولة منفصلة عن الشعب والسيد متوسطة بينهما، وذلك من غير أن نرتبك في تلك الكثرة من الحدود.
ويوجد بين الهيئتين هذا الفرق الجوهري القائل: إن الدولة توجد بنفسها، وإن الحكومة لا توجد بغير السيد، وهكذا فإن إرادة الأمير المسيطرة ليست، أو يجب ألا تكون، غير الإرادة العامة أو القانون، وليست قوته غير القوة العامة المتجمعة فيه، فإذا ما حاول أن يستخلص من نفسه عملا مطلقا مستقلا أخذت رابطة الكل في الارتخاء حالا، وأخيرا إذا ما انتهى الأمير إلى حيازة إرادة خاصة أكثر فعالية من إرادة السيد واستعمل القوة العامة التي هي قبضته اتباعا لهذه الإرادة الخاصة فإنه يكون هنالك سيدان: سيد حق، وسيد واقع، وهنالك يتلاشى الاتحاد الاجتماعي من فوره وتنحل الهيئة السياسية.
ومع ذلك فإنه، لكي يكون لهيئة الحكومة وجود وحياة حقيقة تماز بها من هيئة الدولة، ولكي يستطيع جميع أعضائها أن يسيروا متفقين وأن يلائموا الغاية التي أقيمت من أجلها، لا بد لها من شخصية خاصة وحاسة مشتركة بين أعضائها، من قوة، من إرادة خاصة تسعى إلى بقائها، ويفترض هذا الوجود الخاص مجالس ومجامع وسلطة عقد وفصل، وحقوقا وألقابا، وامتيازات خاصة بالأمير حصرا، جاعلة منصب الحاكم أكثر شرفا بنسبة صعابه، والصعوبة كل الصعوبة في تنظيم هذا الكل التابع ضمن الكل فلا يفسد النظام العام مطلقا بتوطيد نظامه، ولا يميز دائما قوته الخاصة المعدة لبقائه من القوة العامة المعدة لبقاء الدولة، والخلاصة أن يكون مستعدا دائما للتضحية بالحكومة في سبيل الشعب، لا بالشعب في سبيل الحكومة.
ثم مع أن هيئة الحكومة المصنوعة من عمل هيئة أخرى مصنوعة، ومع أنه ليس لها غير حياة مستعارة تابعة من بعض الوجوه، فإن هذا لا يمنع من قدرتها على السير بشيء من البأس أو النشاط، ومن تمتعها بعافية ذات قوة ما، ثم إنها، من غير ابتعاد مباشر عن غاية نظامها، تستطيع أن تنحرف عنها بعض الانحراف وفق الوجه الذي أقيمت به.
وينشأ عن جميع هذه الفروق ما يجب أن يكون للحكومة من علائق مختلفة بهيئة الدولة؛ وذلك وفق العلائق العرضية والخاصة التي تعدل بها هذه الدولة نفسها؛ وذلك لأن الحكومة التي هي أحسن ما يكون بنفسها تصبح أكثر ما يكون عيبا إذا ما فسدت العلائق التي تقوم عليها وفق نقائص الهيئة السياسية التابعة لها.
الفصل الثاني
المبدأ الناظم لمختلف أشكال الحكومة
يجب لبيان سبب تلك الفروق العام أن يماز بين الأمير والحكومة هنا كما مزت بين الدولة والسيد فيما تقدم.
ويمكن هيئة الحكام أن تؤلف من أكبر عدد من الأعضاء أو أقل عدد منهم، وقد قلنا: إن نسبة ما بين السيد والرعايا كانت من العظم بنسبة كثرة عدد الشعب ويمكننا، بقياس واضح، أن نقول مثل ذلك عن الحكومة تجاه الحكام.
ولكن بما أن قوة الحكومة التامة هي قوة الدولة دائما فإنها لا تتبدل أبدا، ومن ثم كلما اتخذت هذه القوة نحو أعضائها الخاصة قل ما يبقى لها منها للعمل في جميع الشعب.
ولذا كلما زاد عدد الحكام ضعفت الحكومة، وبما أن هذا المبدأ أساسي فلنعمل على إيضاحه جيدا.
يمكننا أن نميز في شخص الحاكم ثلاث إرادات مختلفة جوهرا؛ وهي:
أولا:
إرادة الفرد الخاصة التي تهدف إلى نفعه الخاص فقط.
ثانيا:
إرادة الحكام المشتركة التي تعمل في نفع الأمير فقط، والتي يمكن تسميتها إرادة الهيئة، هذه الإرادة التي تكون عامة نظرا إلى الحكومة، وخاصة نظرا إلى الدولة التي تؤلف الحكومة جزءا منها.
ثالثا:
إرادة الشعب، أو إرادة السيد التي هي عامة نظرا إلى الدولة التي تعد الكل أكثر مما إلى الحكومة التي تعد جزءا من الكل.
وفي الاشتراع الكامل يجب أن تكون الإرادة الفردية أو الخاصة صفرا، وأن تكون إرادة الهيئة الخاصة بالحكومة تابعة إلى الغاية، ومن ثم أن تكون الإرادة العامة أو إرادة السيد مسيطرة دائما وقاعدة وحيدة لجميع الإرادات الأخرى.
وعلى العكس، تصبح هذه الإرادات المختلفة، وفق النظام الطبيعي، أكثر فاعلية كلما تجمعت، وهكذا فإن الإرادة العامة هي الأضعف دائما، ويكون لإرادة الهيئة المقام الثاني، وللإرادة الخاصة أول مقام، بين الجميع، فيكون كل عضو في الحكومة نفسه أولا، ثم حاكما، ثم مواطنا، أي وفق ترتيب معاكس، تماما، لما يقتضيه النظام الاجتماعي.
وإننا بعد تقرير ذلك، نقول: إن جميع الحكومة إذا كان قبضة رجل واحد اتحدت الإرادة الخاصة وإرادة الهيئة تماما، ومن ثم كانت إرادة الهيئة هذه في أقصى ما يمكن من شدتها، ولكن بما أن استعمال القوة يتوقف على درجة الإرادة، وبما أن قوة الحكومة المطلقة لا تتغير مطلقا، فإن أكثر الحكومات فعالية هي حكومة الفرد.
وعلى العكس، وحدوا بين الحكومة والسلطة الاشتراعية، واجعلوا من السيد أميرا ومن جميع المواطنين حكاما، تروا هنالك أنه عاد لا يكون لإرادة الهيئة المختلطة بالإرادة العامة من الفاعلية ما يزيد على هذه الإرادة، وتركت الإرادة الخاصة في كمال قوتها، وهكذا تكون الحكومة، الصاحبة لذات القوة المطلقة دائما، في الحد الأدنى من قوتها النسبية أو فاعليتها.
ولا جدال في هذه النسب، ويوجد من العوامل ما يؤيدها، ويرى مثلا، أن كل حاكم أعظم فاعلية في هيئته من كل مواطن في هيئته، ومن ثم أن الإرادة الخاصة أكثر نفوذا في أعمال الحكومة مما في أعمال السيد؛ وذلك لأن كل حاكم موقر ببعض وظائف الحكومة دائما تقريبا، مع أن كل مواطن، إذا ما أخذ على حدة، لم يمارس أي وظيفة من السيادة، ثم إن الدولة كلما اتسعت زادت قوتها الحقيقية وإن لم تزد هذه القوة بنسبة اتساعها، ولكن بما أن الدولة تبقى كما هي فإن عدد الحكام يزيد على غير طائل، ولا تنال الحكومة قوة حقيقية أكثر من قبل؛ وذلك لأن هذه القوة هي قوة الدولة التي يبقى مقياسها متساويا دائما، وهكذا فإن قوة الحكومة النسبية أو فاعليتها تنقص من غير أن تمكن زيادة قوتها المطلقة أو الحقيقية.
ومما لا ريب فيه، أيضا، أن تسيير الأمور يصبح أكثر بطئا كلما عهد فيه إلى أناس كثيرين، فالحذر حيث يكون لا يكثر الحظ، وتضيع الفرصة، وبالنقاش تفوت ثمرة النقاش.
وقد أثبت أن الحكومة ترتخي كلما كثر الحكام، وقد أثبت أن الشعب كلما زاد وجبت زيادة القوة الزاجرة، ومن ثم يجب أن تتغير نسبة الحكام إلى الحكومة على عكس نسبة الرعايا إلى السيد، أي إن الدولة كلما عظمت وجب أن تتقبض الحكومة، وذلك بحيث ينقص عدد الرؤساء بنسبة زيادة الشعب.
ومع ذلك فإنني لا أتكلم هنا عن غير القوة النسبية للحكومة، لا عن سدادها؛ وذلك لأن الحاكم إذا كان، على العكس، كثيرا اقتربت إرادة الهيئة من الإرادة العامة، وذلك بدلا من ألا تكون إرادة هذه الهيئة نفسها، تحت سلطان حاكم منفرد، غير إرادة خاصة كما قلت ذلك، وهكذا يخسر من ناحية ما يمكن أن يكسب من الأخرى، ويقوم فن المشترع على معرفة تعيين النقطة التي تلتقي فيه قوة الحكومة وإرادتها، المعكوستا النسبة دائما، ضمن أنفع علاقة للدولة.
الفصل الثالث
تقسيم الحكومات
رأينا في الفصل السابق سبب التميز بين مختلف أنواع الحكومة أو أشكالها على حسب عدد الأعضاء الذين تتألف منهم، فبقي علينا أن نرى في هذا الفصل كيف يقع هذا التقسيم.
يمكن السيد، أولا أن يفوض إلى جميع الشعب، أو إلى أكبر قسم منه، عبء الحكومة، فيكون من المواطنين الحكام من هم أكثر من المواطنين الأفراد، ويطلق اسم «الديمقراطية» على شكل الحكومة هذا.
أو يمكن السيد أن يحصر الحكومة في يد عدد قليل ، فيكون من المواطنين الأفراد من هم أكثر من الحكام، ويطلق اسم «الأرستقراطية» على هذا الشكل.
وأخيرا يمكن السيد أن يجمع جميع الحكومة في يد حاكم منفرد يستمد الآخرون كلهم سلطانهم منه، وهذا الشكل الثالث هو أكثر الأشكال شيوعا، ويسمى «الملكية» أو الحكومة الملكية.
ومما تجب ملاحظته كون جميع هذه الأشكال، أو الشكلين الأولين على الأقل، تقبل الزيادة والنقصان، وكونها على شيء من التفاوت الكبير أيضا؛ وذلك لأنه يمكن الديمقراطية أن تشتمل على جميع الشعب أو أن تنقبض إلى النصف، ويمكن الأرستقراطية من ناحيتها أن تتقبض، بلا تحديد، من نصف الشعب إلى أصغر عدد ممكن، حتى إن الملكية نفسها تقبل بعض التقسيم، ومن ذلك أن كان يوجد في إسبارطة ملكان دائما وفق نظامها، ومن ذلك أن رئي في الإمبراطورية الرومانية حتى ثمانية أباطرة دفعة واحدة من غير أن يمكن القول بأن الإمبراطورية وزعت، وهكذا توجد نقطة يختلط فيها كل شكل للحكومة بما يليه، ويرى أن الحكومة، بثلاث تسميات حصرا، عرضة لأشكال مختلفة، في الحقيقة، بمقدار ما للدولة من مواطنين.
ويوجد ما هو أكثر من هذا، وذلك أن الحكومة إذ يمكن أن تنقسم إلى أقسام أخرى من بعض الوجوه، فيدار بعض هذه الأقسام على طراز، ويدار بعض آخر منها على طراز آخر، يمكن أن ينشأ عن هذه الأشكال الثلاثة المختلطة طائفة من الأشكال المركبة التي يقبل كل واحد منها الزيادة بجميع الأشكال البسيطة.
وفي جميع الأزمنة نوقش كثيرا حول أحسن شكل للحكومة، وذلك من غير أن ينظر إلى أن كل واحد منها أحسن الأشكال في بعض الأحوال وأسوأها في أحوال أخرى.
وإذا كان عدد الحكام الأعلين في مختلف الدول يجب أن يكون على عكس عدد المواطنين فإنه ينشأ عن هذا، على العموم، كون الحكومة الديمقراطية تلائم الدول الصغيرة، وكون الحكومة الأرستقراطية تلائم الدول المتوسطة، وكون الحكومة الملكية تلائم الدول الكبيرة، وتستنبط هذه القاعدة من المبدأ رأسا، ولكن كيف تعد الأحوال الكثيرة التي يمكن أن تسفر عن شواذ؟
الفصل الرابع
الديمقراطية
من يضع القانون يعرف أكثر من غيره كيف يجب أن ينفذ ويفسر، ويلوح، إذن، أنه لا يمكن أن يوجد نظام أحسن من النظام الذي يوحد فيه بين السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية، ولكن هذا نفسه هو الذي يجعل هذه الحكومة غير كافية من بعض الوجوه؛ وذلك لأن الأمور التي يجب أن تماز تكون مختلطة، ولأن الأمير والسيد، إذ لم يكونا غير ذات الشخص، لا يؤلفان غير حكومة بلا حكومة.
وليس من الصالح أن ينفذ القوانين من يضعها، ولا أن تحول هيئة الشعب انتباهها من المقاصد العامة إلى الأغراض الخاصة، ولا شيء أشد خطرا من تأثير المصالح الخاصة في الأمور العامة، وإن سوء استعمال الحكومة القوانين أقل شرا من فساد المشترع الذي يكون نتيجة لازمة للأغراض الخاصة، فالدولة إذ تكون قد فسدت في جوهرها فإن كل إصلاح يصير متعذرا، وإن الشعب الذي لا ينبغي له أن يسيء استعمال الحكومة مطلقا لا ينبغي له أن يسيء استعمال الاستقلال أيضا، فالشعب الذي يحسن الحكم دائما لا يحتاج إلى أن يحكم فيه أبدا.
وإذا ما نظر إلى الاصطلاح في أوثق معانيه رئي أنه لم توجد ديمقراطية حقيقية قط، وأنه لن توجد مطلقا، فمما يخالف النظام الطبيعي أن يحكم العدد الأكبر وأن يحكم في العدد الأصغر، فلا يمكن أن يتخيل بقاء الشعب مجتمعا بلا انقطاع لينقطع إلى الأمور العامة، وليس من السهل أن ينصب الشعب لجانا من غير أن يتبدل شكل الإدارة.
والواقع أنني أعتقد اقتداري على وضع هذا المبدأ القائل: إن وظائف الحكومة عندما تقسم بين محاكم كثيرة فاز أقلها عددا بأعظم سلطان، عاجلا كان هذا أو آجلا، ولو من أجل سهولة إنجاز الأمور التي تسوقها إلى هذا السلطان بحكم الطبيعة.
ثم ما أكثر ما يصعب توحيده من الأمور التي تفترض هذه الحكومة! ومن ذلك:
أولا:
كون الدولة بالغة الصغر؛ حيث يسهل اجتماع الشعب، وحيث يسهل على كل مواطن أن يعرف الآخرين.
ثانيا:
بساطة كبيرة في الأوضاع تحول دون كثرة الأمور ودون المناقشات الشائكة.
ثالثا:
كثير مساواة في الصفوف وفي الثروات، فلا يمكن بقاء المساواة بغيره زمنا طويلا في الحقوق والسلطان.
وأخيرا: قليل ترف أو عدمه؛ وذلك لأن الترف إما أن يكون نتيجة الثروات وإما أن يجعلها ضرورية، والترف يفسد الغني والفقير معا؛ الأول عن حيازة، والآخر عن رغبة، والترف يبيع الوطن من التخنث والتباهي، والترف ينزع من الدولة جميع مواطنيها ليجعل بعضهم عبيدا لبعض، وليجعل الجميع عبيدا للرأي العام.
وهذا هو السبب في أن مؤلفا مشهورا جعل الفضيلة مبدأ الجمهورية؛ وذلك لأن جميع تلك الأحوال لا يمكن أن تقوم بلا فضيلة، غير أن هذا العبقري البهي فاته السداد غالبا، والوضوح أحيانا، عن عدم القيام بما يجب من تفريق، فلم يبصر أن السلطة السيدة إذ تكون واحدة في كل مكان فإنه يجب وجود ذات المبدأ في كل دولة حسنة النظام على درجة كبيرة أو صغيرة حقيقة، وذلك على حسب شكل الحكومة.
وأضف إلى ذلك أنه لا توجد حكومة عرضة للحروب الأهلية واضطرابات الداخلية كثيرا كالحكومة الديمقراطية أو الشعبية؛ وذلك لأنك لا تجد حكومة مثلها تميل بقوة واستمرار إلى تغيير الشكل، ولا حكومة تتطلب كثير انتباه وإقدام لبقائها كما هي، وفي هذا النظام على الخصوص يجب أن يتسلح المواطن بالقوة والثبات، وأن يقول في كل يوم من حياته، وفي صميم فؤاده، ما كان يقوله شريف
1
فاضل في ديات بولونية: «أفضل الحرية مع الخطر على السلم مع العبودية.»
ولو وجد شعب من الآلهة لكانت حكومته ديمقراطية، فحكومة بالغة الكمال كهذه لا تلائم الآدميين.
الفصل الخامس
الأرستقراطية
لدينا هنا شخصان معنويان مختلفان كثيرا، وهما: الحكومة والسيد، ومن ثم إرادتان عامتان، إحداهما بالنسبة إلى جميع المواطنين، والأخرى بالنسبة إلى أعضاء الإدارة، وهكذا فإن الحكومة، وإن كانت تستطيع أن تنظم ضابطتها الداخلية كما يروقها، لا يمكنها أن تخاطب الشعب بغير اسم السيد مطلقا، أي باسم الشعب نفسه، وهذا ما لا يجب أن ينسى أبدا.
والمجتمعات الأولى حكمت في نفسها أرستقراطيا، وكان رؤساء الأسر يتشاورون فيما بينهم حول الأمور العامة، وكان الشبان يذعنون لسلطان التجربة بلا سؤال، ومن هنا جاءت الأسماء: الكهنة والشيوخ والسنات والجرونت، ولا يزال همج أمريكة الشمالية يحكمون في أنفسهم على هذا الوجه حتى أيامنا، وحكومتهم حسنة جدا.
ولكن كلما تغلب تفاوت النظام على التفاوت الطبيعي فضل الثراء
1
أو السلطان على السن وأصبحت الأرستقراطية انتخابية، ثم بما أن السلطان الذي يفضي إلى الأولاد مع أموال الأب يجعل الأسرة من الأشارف فإنه يجعل الحكومة وراثية ويرى من أعضاء السنات من هم في العشرين من السن إذن. يوجد للأرستقراطية ثلاثة أنواع: طبيعية وانتخابية ووراثية، فالأولى لا تلائم غير الشعوب البسيطة، والثالثة أسوأ جميع الحكومات، والثانية أحسنها، وهي الأرستقراطية بالمعنى الصحيح.
وإذا عدوت الفرق بين السلطتين وجدتها قائمة على انتخاب أعضائها؛ وذلك لأن جميع المواطنين في الحكومة الشعبية يولدون حكاما فتقصرهم هذه على عدد قليل، وهم لا يغدون ذلك إلا بالانتخاب،
2
أي بهذه الوسيلة التي يكون بها الصلاح والإدراك والتجربة وجميع الأسباب الأخرى للتفضيل والاحترام العام ضمناء جددا للحكم بروية.
وإلى ذلك أضف إنجاز المجالس أعمالها بما هو أكثر سهولة، والمناقشة فيها وتوجيهها بما هو أكثر نظاما وأعظم همة، وكون اعتبار الحكومة أشد دعامة في الخارج بفضل سناتيين أجلاء مما بجمهور مجهول أو محتقر.
والخلاصة أن أحسن ترتيب وأقربه إلى الطبيعة أن يحكم أرشد الناس في الجمهور عندما يطمأن إلى أنهم يحكمون فيه نفعا له، لا نفعا لأنفسهم، ولا ينبغي، مطلقا، أن تكثر النوابض عبثا، ولا أن ينال بعشرين ألف رجل ما يستطيع مائة رجل مختار أن يصنعوا حتى ما هو أحسن منه، ولكن مما يجب أن يلاحظ كون مصلحة الهيئة تأخذ في توجيه القوة العامة هنا على قاعدة الإرادة العامة بما هو أقل، ووجود ميل آخر لا مناص منه ينزع من القوانين قسما من السلطة التنفيذية.
وأما من حيث ما يلائم فرديا فلا يجب أن تكون الدولة من الضآلة والشعب من البساطة والاستقامة ما يتبع معه تنفيذ القوانين الإرادة العامة من فوره كما في الديمقراطية الصالحة، ولا أن تكون الأمة من العظمة ما يقدر معه كل من الرؤساء المفرقين للحكم فيه أن يظهر سيدا في ولايته وأن يصبح مستقلا؛ ليصير ملكا في آخر الأمر.
ولكن الأرستقراطية إذا كانت لا تتطلب جميع ما تحتاج إليه الحكومة الشعبية من الفضائل فإنها تقتضي فضائل أخرى خاصة بها؛ وذلك كالاعتدال في الأغنياء والقناعة في الفقراء، وذلك لما يلوح من عدم صواب المساواة الوثيقة هنالك، وهذه المساواة لم توجد حتى في إسبارطة.
ثم إذا كان شكل الحكومة هذا يحتمل تفاوتا في الثراء فذلك لكي يعهد في إدارة الشئون العامة، على العموم، إلى من يستطيعون أن يقفوا عليها جميع أوقاتهم أحسن من غيرهم، ولكن لا ليفضل الأغنياء دائما كما يزعم أرسطو، وعلى العكس يرى من المهم أن يعرف الشعب، أحيانا، عن خيار مضاد، وجود أسباب تفضيل في مزية الرجال أهم من الثراء.
الفصل السادس
الملكية
حسبنا الأمير، حتى الآن، شخصا معنويا ألبيا متحدا بقوة القوانين وأمينا على السلطة التنفيذية في الدولة، والآن يجب علينا أن نعد هذه السلطة مجتمعة في يد شخص طبيعي، في يد شخص حقيقي، يحق يحق له وحده أن يتصرف فيها وفق القوانين، وهذا الشخص هو ما يسمى عاهلا أو ملكا.
وعكس هذا حال الإدارات؛ حيث يمثل الموجود الألبي فردا، فتكون الوحدة المعنوية، التي يتألف الأمير منها، وحدة طبيعية في الوقت عينه، فترى جميع الخصائص، التي يجمعها القانون في الآخر بجهود كثيرة، مجتمعة اجتماعا طبيعيا.
وهكذا فإن إرادة الشعب وإرادة الأمير وقوة الدولة العامة وقوة الحكومة الخاصة أمور تلائم كلها ذات الباعث، وإن جميع النوابض قبضة واحد، وإن الجميع يسير نحو غرض واحد، فلا توجد حركات متخالفة متهادمة، ولا يمكن أن يتصور نظام كذلك يسفر أقل جهد فيه عن أعظم عمل، ويخيل إلي، بأرخميدس الجالس هادئا على الشاطئ والجار مركبا كبيرا بلا مشقة، ملك ماهر يدير ولاياته الواسعة من غرفته ويحرك كل شيء مع ظهوره ساكنا.
ولكن إذا لم توجد حكومة أكثر من تلك قوة فإنه لم يوجد من الحكومات ما تكون الإرادة الخاصة فيه أكثر سيطرة وأسهل هيمنة على الإرادات الأخرى. أجل، إن الجميع يسير نحو ذات الغرض، غير أن الغرض ليس السعادة العامة مطلقا، حتى إن قوة الإدارة ذاتها تبدي نفسها مجحفة بالدولة دائما.
ويريد الملوك أن يكونوا مطلقين دائما، ومن بعيد ينادون بأن أحسن وسيلة إلى ذلك أن يحببوا أنفسهم إلى رعاياهم، وهذا المبدأ رائع جدا، وهو صحيح جدا من بعض الوجوه، ومن سوء الحظ أن يسخر منه في البلاطات دائما، ولا جرم أن السلطان الذي يأتي من حب الرعية هو أعظم القوى، ولكنه موقت شرطي، وما كان الأمراء ليرضوا به مطلقا، ويرغب أحسن الملوك أن يكونوا في وضع الخبثاء إذا ما راقهم هذا، وذلك من غير انقطاع عن أن يكونوا سادة، وقد يقول واعظ سياسي لهم: بما أن قوة الشعب هي قوتهم فإن أعظم مصلحة لهم هي في ازدهار الشعب وكثرته وهيبته، وهم يعلمون جيدا أن هذا غير صحيح، فأول ما تقوم عليه مصلحتهم الشخصية هو أن يكون الشعب ضعيفا بائسا وألا يستطيع مقاومتهم مطلقا، وأعترف، عند افتراض خضوع الرعية التام دائما، بأن مصلحة الأمير تقضي بأن يكون الشعب قويا؛ وذلك لتجعله هذه القوة التي هي قوته مرهوبا لدى جيرانه، ولكن بما أن هذه المصلحة ليست غير ثانوية تابعة، وبما أن كلا الافتراضين، القوة والخضوع، متناقض، فإن من الطبيعي أن يعطي الأمراء مكان الأفضلية للمبدأ الذي هو أفيد لهم مباشرة، وهذا ما عرضه صموئيل أمام العبريين بقوة، وهذا ما أظهره مكيافيلي بوضوح، ومكيافيلي؛ إذ تظاهر بأنه يلقي دروسا على الملوك، ألقى ما هو عظيم منها على الشعوب، فكتاب «الأمير» لمكيافيلي هو كتاب الجمهوريين.
1
ونعلم من العلائق العامة أن الملكية لا تلائم غير الدول الكبيرة، ونجد هذا عندما ندرسها في حد ذاتها، وكلما كانت الإدارة العامة كثيرة نقصت علاقة الأمير برعاياه، واقتربت من المساواة، وذلك بحيث تكون هذه العلاقة وحدة أو مساواة في الديمقراطية، ويزيد هذا الفرق كلما تقبضت الحكومة، وهو يبلغ حده الأقصى عندما تصبح قبضة واحد، وهنالك يوجد بون واسع بين الأمير والشعب وتفقد الدولة ارتباطها، ولا بد من المراتب المتوسطة لتكوين هذا الارتباط، ولا بد من الأمراء والعظماء والأشراف لملئه، بيد أن مثل هذه الأمور لا يلائم دولة صغيرة حيث جميع هذه المراتب تقوضها.
ولكن إذا كان من الصعب أن تحسن إدارة دولة كبيرة فإن من الصعب أكثر من ذلك أن تدار من قبل رجل واحد إدارة حسنة، فكل يعلم ما يحدث عندما ينيب الملك عنه أناسا آخرين.
ويوجد عيب جوهري لا مفر منه يضع الحكومة الملكية دائما دون الحكومة الجمهورية، وهو أن الصوت العام في الحكومة الجمهورية لا يرفع إلى المراتب الأولى، تقريبا، غير أناس منورين قادرين يملئونها بشرف، مع أن أولئك الذين يبلغون المعالي في الملكيات هم، في الغالب، من صغار الشطار وصغار ذوي الدسائس وصغار المفسدين الذين يصلون بمواهبهم الحقيرة إلى المناصب العالية في البلاطات فتبدو غباوتهم للجمهور فور انتهائهم إليها، ويكون الشعب أقل زللا من الأمير في هذا الاختيار، ويندر وجود الرجل ذي المزية الحقيقية بين وزراء الملك، تقريبا، ندرة وجود رجل ذي جهالة على رأس حكومة جمهورية، وهكذا إذا ما قضى حسن الحظ بأن يقبض على زمام الأمور أحد هؤلاء الرجال المفطورين على الحكم، وذلك في ملكية فسدت تقريبا بتلك الأكداس من المديرين اللطفاء، بهت الناس من الوسائل التي يجدها، وعد ظهوره دورا جديدا في تاريخ بلاده.
ويجب، لحسن إدارة الدولة الملكية، أن يقاس عظمها أو اتساعها بجدارة الحاكم فيها، فالفتح أسهل من الإدارة. أجل، يمكن أن يستعان بعتلة كافية فيرج العالم بإصبع واحدة، غير أنه لا بد من كتفي هركول لدعمه، ومهما تكن الدولة صغيرة فإن الأمير يكون دونها صغرا على الدوام تقريبا، وعلى العكس إذا كانت الدولة صغيرة جدا بالنسبة إلى رئيسها، وهذا ما يندر وقوعه إلى الغاية، فإنه يساء الحكم فيها أيضا؛ وذلك لأن الرئيس إذ يتبع اتساع أغراضه دائما فإنه ينسى مصالح رعاياه ولا يجعلهم أقل بؤسا بإساءة استعمال مواهبه مما يجعلهم رئيس دونه جدارة عن عوز إلى ما ليس عنده، وهكذا على المملكة أن تنبسط أو تنقبض مع كل عهد على حسب مدارك الأمير، ولكن بما أن مواهب السنات أثبت كمية فإنه يمكن الدولة أن تكون ذات حدود دائمة من غير أن تكون الإدارة دون ذلك حسن سير.
وأكثر ما يحس في حكومة الفرد من محذور هو عدم تلك الوراثة المتصلة التي تجعل في الحكومتين الأخريين اتصالا غير منقطع، فإذا مات ملك افتقر إلى آخر، وتدع الانتخابات فترات خطرة، وهي عاصفة، وتكثر الدسائس والفساد في تلك الحكومة ما لم يتحل المواطنون بما لا تحتمله من نزاهة وإخلاص، ومن الصعب ألا يبيع الدولة بدوره من باعت الدولة نفسها منه، وألا يعوض نفسه على حساب الضعفاء من النقد الذي اعتصره الأقوياء منه، وفي إدارة كهذه تنتشر الرشوة عاجلا أو آجلا، وما يتمتع به من أمن في عهد الملوك على هذا الوجه شر من فوضى فترات الملك.
وماذا صنع لتلافي هذه الشرور؟ جعلت التيجان وراثية في بعض الأسر، ووضع نظام للوراثة مانع لكل نزاع عند موت الملوك، أي إن محذور الوصايات على العرش أقيم مقام محذور الانتخابات، وإن الهدوء الظاهر فضل على الإدارة الرشيدة، وإن مغامرة اتخاذ أولاد أو شكس أو بله رؤساء رجحت على الخصام حول اختيار ملوك صالحين، ونحن إذا لم ننظر إلى هذا بعين الاعتبار، وذلك بتعريضنا أنفسنا لمخاطر التناوب، فإننا نوجه جميع المصادفات تقريبا ضد أنفسنا ومن الكلام الرصين جواب الشاب ديونيزيوس لأبيه الذي أنبه على قيامه بعمل شائن، وذلك حين سأله: «ألم أعطك المثل؟» «وي، لم يكن أبوك ملكا!»
وكل يتسابق ليخطف العدل والعقل من الرجل الذي نشئ ليتولى أمر الآخرين، ويقال: إنه يعاني كثير نصب لتعليم شباب الأمراء فن الحكم، ولا يلوح أن هذه التربية تفيدهم، وخير من ذلك أن يبدأ بتعليمهم فن الطاعة، ولم يدرب على الحكم قط أعاظم الملوك الذين رفع التاريخ ذكرهم، فالحكم علم لا نبتعد عن نيله مطلقا بمقدار ما نتعلم منه كثيرا، وهو علم نناله بالطاعة أحسن مما نناله بالقيادة؛ «وذلك لأن أقوم وسيلة وأقصر طريقة للتمييز بين الخير والشر هو أن تسأل نفسك عما تريد وما لا تريد إذا ما كان غيرك ملكا».
2
ومن نتائج عدم الالتحام هذا تقلب الحكومة الملكية، التي تنظم نفسها وفق منهاج تارة، ووفق منهاج آخر تارة أخرى، وعلى حسب طبع الأمير أو على حسب أخلاق من يحكمون نيابة عنه، فلا يمكن أن يكون لها غرض ثابت ولا نهج موافق لزمن طويل، أي ذلك التقلب الذي يجعل الدولة مذبذبة دائما بين مبدأ ومبدأ، وبين مشروع ومشروع، والذي لا محل له في الحكومات الأخرى حيث يكون الأمير عينه دائما، ولذا يرى، على العموم، أنه إذا وجد كيد كبير في بلاط وجد عظيم حكمة في سنات، وأن الجمهوريات تسير نحو مقاصدها ببصائر أكثر ثباتا وأحسن انتظاما، وذلك بدلا مما يحدثه من انقلاب في الدولة كل انقلاب في الوزارة الملكية، وذلك ما دام المبدأ المشترك، بين جميع الوزراء، وجميع الملوك تقريبا، هو سلوك سبيل معاكسة لسبيل سلفهم في كل أمر.
ومن عدم الالتحام ذلك يستخرج حل لسفسطة معروفة كثيرا لدي السياسيين الملكيين، وذلك ألا يقتصر على قياس الحكومة الملكية بالحكومة الأهلية وعلى قياس الأمير برب الأسرة، وهذا خطأ قد دحض، بل أن يتناول ذلك، أيضا، منح هذا الأمير بسخاء كل ما يحتاج إليه من الفضائل، وافتراضا، دائما لحيازة الأمير ما يجب أن يكونه، افتراضا تكون الحكومة الملكية به أفضل من سواها صراحة؛ لأنها الأكثر قوة لا مراء، وهي، لكي تكون الأكثر صلاحا، لم يعوزها غير إرادة هيئة أكثر ملاءمة للإرادة العامة.
ولكن الملك عن طبيعة إذا كان شخصية بالغة الندرة، كما يرى أفلاطون،
3
فما هو عدد المرات التي تتفق فيها الطبيعة والطالع لتتويجه؟ وإذا كانت التربية الملكية تفسد بحكم الضرورة من يتلقونها فما يجب أن يرجى من سلسلة الرجال الذين نشئوا للحكم؟ من أجل ذلك كان من العبث خلط الحكومة الملكية بحكومة الملك الصالح، وعلى من يود رؤية الحكومة كما هي أن ينظر إليها وهي تحت أمراء عاجزين أو خبثاء؛ وذلك لأنهم إما أن يبلغوا العرش خبثاء أو عاجزين أو أن العرش يجعلهم هكذا.
أجل، لم تفت هذه المصاعب مؤلفينا، غير أنهم لم يبالوا بها قط، وهم يقولون: إن العلاج هو الطاعة بلا تذمر، فالرب يبعث أشرار الملوك عن غضب، فيجب احتمالهم كعقاب من عنده، ولا ريب في أن مثل هذا الكلام موجب للعبرة، ولكنه أجدر بالمنابر مما بكتاب في السياسة، وما نقول عن طبيب يعد بالمعجزات فيقوم جميع فنه على حث مريضه على الصبر؟ ونعلم جيدا ضرورة الصبر على حكومة سيئة عند وجودها، والمسألة في الفوز بحكومة صالحة.
الفصل السابع
الحكومات المركبة
لا حكومة بسيطة بحصر المعنى، فلا بد للرئيس المنفرد من حكام تابعين، ولا بد للحكومة الشعبية من رئيس، وهكذا يوجد في توزيع السلطة التنفيذية دائما تسلسل من العدد الأكبر إلى الأقل، وذلك مع الفرق القائل باتباع العدد الأكبر للأصغر تارة واتباع العدد الأصغر للأكبر تارة أخرى.
ويكون التوزيع متساويا أحيانا، وذلك عندما يكون بعض الأقسام المكونة تابعا لبعض اتباعا متبادلا كما في حكومة إنكلترة، أو عندما تكون سلطة كل قسم مستقلة، ولكن ناقصة، كما في بولونية، وهذا الطراز الأخير سيئ؛ لعدم وجود وحدة في الحكومة مطلقا، ولافتقار الدولة إلى رابطة.
وأي الحكومتين أصلح من الأخرى، آلحكومة البسيطة، أم الحكومة المركبة؟ هذه مسألة جادل فيها المؤلفون السياسيون كثيرا، فيجب أن يجاوب عنها بذات الجواب الذي أتيته عن جميع أشكال الحكومة آنفا.
والحكومة البسيطة هي الأصلح بنفسها عن كونها بسيطة فقط، بيد أن السلطة التنفيذية إذا كانت غير تابعة للسلطة الاشتراعية بما فيه الكفاية، أي إذا كانت صلة الأمير بالسيد أكثر من صلة الشعب بالأمير، وجب تدارك هذا النقص في النسبة بتقسيم الحكومة؛ وذلك لأنه لا يكون لجميع أقسامها حينئذ سلطان أقل من ذلك على الرعايا، ولأن تقسيمهم يجعلهم كلهم أقل قوة تجاه السيد.
ويتلافى عين المحذور أيضا بنصب حكام متوسطين يصلحون، بتركهم الحكومة على تمامها، لموازنة ما بين السلطتين وصيانة حقوقهما المتقابلة فقط، وهنالك تعود الحكومة غير مركبة وتكون معدلة.
وبوسائل مماثلة يمكن تلافي المحذور المعاكس، فمتى كانت الحكومة رخوة كثيرا أمكن إقامة محاكم لتضامها، وهذا يزاول في جميع الديمقراطيات، وتقسم الحكومة في الحال الأولى لإضعافها، وتقسم في الحال الثانية لتقويتها؛ وذلك لأن الحدود القصوى للقوة والضعف توجد في الحكومات البسيطة على السواء، وذلك على حين تسفر الأشكال المركبة عن قوة متوسطة.
الفصل الثامن
لا يلائم كل شكل للحكومة جميع البلدان
بما أن الحرية ليست ثمرة جميع الأقاليم فإن جميع الأمم لا تطول إليها، وكلما فكر في هذا المبدأ الذي وضعه مونتسكيو شعر بصحته، وكلما جودل فيه لاحت فرصة لتأييده بأدلة جديدة.
والشخص العام في جميع حكومات العالم يستهلك ولا ينتج شيئا، ومن أين تأتيه المادة المستهلكة إذن؟ تأتيه من كد أعضائه، والذي يفيض عن الأفراد هو ما ينتج حاجي الجمهور، ومن ثم ينشأ عجز الدولة المدنية عن البقاء إلا بالمقدار الذي يقدمه عمل الناس من زيادة على احتياجاتهم.
والواقع أن هذه الزيادة ليست واحدة في جميع بلاد العالم، فهي عظيمة في كثير منها، وهي متوسطة أو لا يؤبه لها أو معدومة في بلدان أخرى، وتتوقف هذه النسبة على خصب الإقليم ونوع العمل الذي تقتضيه الأرض وطبيعة إنتاجها وقوة أهليها ومقدار ما هو ضروري لهم من الاستهلاك وكثير من النسب الأخرى المماثلة التي تتألف منها.
ومن جهة أخرى ترى جميع الحكومات من غير ذات الطبيعة، فبعض الحكومات أقل شرها من بعض، وتقوم الفروق على المبدأ الآخر القائل: إن الضرائب العامة كلما ابتعدت عن منبعها زادت رهقا، وليس مقدار الضرائب هو الذي يجب أن يقاس عليه ذلك التكليف، بل المنهاج الذي عليها أن تسلكه للعود إلى الأيدي التي خرجت منها، وإذا ما كان هذا التداول سريعا حسن الوضع لم يكن من المهم قلة الدفع أو كثرته، فالشعب غني دائما وتسير المالية سيرا مرضيا بلا انقطاع، وعلى العكس إذا قل ما يعطي الشعب، ولم يعد هذا القليل إليه قط، فإنه لا يلبث أن يهن عن إعطاء دائم، وهنالك لا تكون الدولة غنية مطلقا، ويكون الشعب فقيرا دائما.
وينشأ عن ذلك كون المسافة بين الشعب والحكومة كلما زادت أصبحت الضرائب ثقيلة، وهكذا يكون الشعب في الديمقراطية أقل وقرا وفي الأرستقراطية أعظم ثقلا وفي الملكية أشد حملا، ولذا لا تلائم الملكية غير الشعوب الموسرة، ولا تلائم الأرستقراطية غير الدول المتوسطة الثراء والاتساع، ولا تلائم الديمقراطية غير الدول الصغيرة والفقيرة.
والحق أنه كلما أنعم النظر في ذلك وجد فرق بين الدول الحرة والملكيات، وكل في الأولى يستعمل في سبيل النفع العام، وتكون القوى العامة والخاصة متبادلة في الأخرى، فتزيد إحداها بضعف الأخرى، ثم إن الاستبداد يجعل الرعايا بائسين للحكم فيهم بدلا من الحكم فيهم ليكونوا سعداء.
ونجد في كل إقليم، إذن، عوامل طبيعية يمكن أن يمنح بها شكل الحكومة الذي تؤدي إليه قوة الإقليم، ويقال بها ما يجب أن تشتمل عليه من نوع الأهلين، فيجب أن تظل الأماكن الجديبة الجارزة، حيث لا يعدل الدخل العمل، برية بائرة، أو أن تكون آهلة بالهمج، ويجب أن تكون الأماكن، التي لا ينتج عمل الناس فيها غير الحاجي، مأهولة ببرابرة لتعذر كل نظام فيها، فالأماكن التي تكون زيادة الدخل على العمل قليلة فيها تلائم الشعوب الطليقة، وتستدعي الأماكن التي تكون فيها الأرضون كثيرة خصيبة، فتغل كثيرا بعمل قليل، حكما ملكيا لينفق ما يفيض من زوائد الرعايا على كمالي الأمير؛ وذلك لأنه يرجح استنفاد هذا الفائض من قبل الحكومة على تبديده من قبل الأفراد، وأعلم وجود شواذ لهذا، غير أن هذه الشواذ ذاتها تؤيد القاعدة، وذلك عن كونها تؤدي، عاجلا أو آجلا، إلى ثورات ترد الأمور إلى النظام الطبيعي.
ولنفرق دائما بين القوانين العامة والعوامل الخاصة التي يمكن أن تغير فعلها، وإذا ستر جميع الجنوب بجمهوريات وجميع الشمال بدول مستبدة لم يكن أقل من هذه حقيقة ملاءمة الاستبداد للبلاد الحارة والبربرية للبلاد الباردة والنظام الصالح للبقاع المتوسطة بفعل الإقليم، وأرى، أيضا، أنه إذا ما سلم بالمبدأ أمكن الجدال حول التطبيق، فيمكن القول بوجود بلاد باردة بالغة الخصب وبلاد جنوبية بالغة الجدب، بيد أن هذه المشكلة لا تبدو لغير من لا ينظرون إلى الأمر من جميع وجوهه، فيجب أن يحسب حساب العمل والقوة والاستهلاك، إلخ، كما قلت آنفا.
ولنفترض وجود أرضين متساويتين اتساعا فتغل إحداهما خمسة والأخرى عشرة، فإذا كان أهل الأولى يستهلكون أربعة وأهل الأخرى تسعة فإن فائض الإنتاج الأول يكون خمسا وفائض الإنتاج الثاني يكون عشرا، وبما أن نسبة هذين الفائضين تكون على عكس نسبة الإنتاجين فإن الأرض التي لا تغل غير خمسة تمنح فضلة تعدل ضعفي فضلة الأرض التي تغل عشرة.
ولكن لا قول حول غلة مضاعفة، ولا أعتقد وجود أحد يجرؤ على جعل خصب البلاد الباردة مساويا لخصب البلاد الحارة كقاعدة عامة، ومع ذلك دعنا نفترض وجود هذه المساواة، ودعنا، إذا ما أردتم، نجعل إنكلترة على مستوى صقلية، ونجعل بولونية على مستوى مصر، فإذا أمعنا في الجنوب وجدنا إفريقية والهند، وإذا أمعنا في الشمال لم نجد شيئا، وما يجب أن يكون من فرق في الفلاحة نيلا لهذه المساواة في الإنتاج؟ لا اضطرار إلى غير حراثة الأرض حرثا خفيفا في صقلية، وما أكثر ما يحتاج إلى العناية في إنكلترة لفلحها! والواقع أنه كلما اضطر إلى ذرعان نيلا لعين الغلة وجب أن يكون الفائض قليلا بحكم الضرورة.
وفضلا عن ذلك لاحظوا أن ذات المقدار من الآدميين يكون أقل استهلاكا إلى الغاية في البلاد الحارة حيث يتطلب الإقليم قناعة الإنسان ليكون ذا عافية، فالأوربيون الذين يرغبون في العيش هنالك كما في بلادهم يهلكون جميعهم بالزحار والتخمة. قال شاردان: «نكون من الضواري والذئاب عند قياسنا بالآسيويين، ويعزو بعضهم قناعة الفرس إلى كون بلدهم أقل فلحا، وعلى العكس أعتقد أن بلدهم أقل زخرا بالغلال؛ لكون سكانها أقل احتياجا إليها، وإذا كان زهدهم نتيجة جدب البلد لم يكن غير الفقراء فيه من يأكلون قليلا مع أن هذا شأن جميع الناس على العموم، ويؤكل في كل ولاية كثيرا أو قليلا على حسب خصب البلد مع أن ذات القناعة توجد في جميع المملكة، وهم يفاخرون بطراز عيشهم قائلين: إنه يكفي النظر إلى لونهم ليعرف مقدار كونه أجود من لون النصارى، والواقع أن لون الفرس متعادل، وأنهم ذوو جلد جميل ناعم صقيل، على حين يبدو لون رعاياهم الأرمن الذين يعيشون على الطريقة الأوربية خشنا ذا بثور وتظهر أبدانهم سمينة ثقيلة.»
وكلما اقترب من خط الاستواء عاشت الشعوب من القليل، وهي لا تأكل لحما تقريبا، ويعد الأرز والذرة والكسكسو والدخن والكصوة أغذيتهم العادية، وتجد في الهند ملايين من الآدميين لا يكلف غذاؤهم اليومي فلسا واحدا، ونرى في أوربة نفسها فروقا محسوسة في شهوة الطعام بين شعوب الشمال وشعوب الجنوب، فالإسباني يعيش ثمانية أيام من غداء الألماني، ويتحول إلى أمور الاستهلاك أيضا في البلدان التي يكون الناس فيها أشد شرها إلى الكمالي، ويتبين الكمالي في إنكلترا على مائدة مثقلة باللحوم، وتتخمون بالسكر والأزهار على الموائد في إيطالية.
ويظهر الكمالي في الثياب مثل تلك الفروق أيضا، ففي الأقاليم التي يكون تقلب الفصول سريعا عنيفا فيها تلبس ثياب أكثر صلاحا وأعظم بساطة، وفي الأقاليم التي لا يلبس فيها إلا للزينة يبحث عن اللمع أكثر مما عن النفع، وتكون الثياب فيها كمالية بنفسها، وفي نابل ترون كل يوم أناسا يتنزهون في جبل البوزيليب لابسين حللا مذهبة دون سواها، وقل مثل هذا عن المباني، فالبهاء هو كل ما يعنى به عندما لا يخشى شيء من متالف الهواء، وفي باريس ولندن يرغب في السكن الدفيء الهنيء، وفي مدريد توجد رداه رائعة، ولكن من غير نوافذ تغلق، وتنامون في نخاريب مجردة.
وتكون الأطعمة في البلاد الحارة أكثر تغذية وعصارة، وهذا فرق ثالث لا يمكن إلا أن يكون مؤثرا في الثاني، ولم يؤكل كثير من الخضر في إيطالية؟ لأنها جيدة مغذية لذيذة الطعم فيها، وفي فرنسة، حيث تقات بالماء فقط، لا تغذي مطلقا، ولا يؤبه لها على الموائد تقريبا، وهي لا تشغل مكانا أقل من ذلك مع ذلك، وهي تكلف تعبا في زراعتها بمثل ذلك على الأقل، ومن التجارب الواقعة كون بلاد المغرب، التي هي دون بلاد فرنسة من نواح أخرى، تنتج دقيقا كثيرا جدا وكون بلاد فرنسة تنتج من ناحيتها دقيقا أكثر مما تنتج بلاد الشمال، ومن ثم يمكن أن يستنتج كون مثل هذا التدرج يلاحظ على العموم في عين الاتجاه من خط الاستواء إلى القطب، أليس من النقصان الواضح في الحقيقة أن ينال أقل مقدار من الغذاء في إنتاج معادل؟
وإلى جميع هذه النقاط يمكنني أن أضيف نقطة أخرى ناشئة عنها مقوية لها، وهي كون البلاد الحارة أقل احتياجا إلى السكان من البلدان الباردة، وكونها تستطيع أن تغذي أهلين أكثر مما تغذي، وهذا ما يسفر عن فائض مضاعف نفعا للاستبداد، وكلما شغل ذات العدد من السكان مساحة كبيرة صعب اشتعال الفتن، وذلك لتعذر الائتمار بسرعة وخفاء، ولأنه يسهل على الحكومة دائما أن تحبط الخطط وأن تسد المنافذ، غير أن الشعب الكثير العدد كلما تدانى قلت قلت استطاعة الحكومة أن تعتدي على السيد، فالزعماء يأتمرون في غرفهم بأمان ائتمار الأمير في مجلسه، والجمهور يتجمع في الميادين من فوره تجمع الكتائب في معسكراتها، ولذا تكون فائدة الحكومة الطاغية من ذلك أن تسير على مسافات واسعة، وهي بفضل ما تتخذ من نقاط ارتكاز تزيد قوتها في البعد كزيادة قوة العتل،
1
وعلى العكس لا تعمل قوة الشعب إلا متجمعة، وهي تضمحل وتزول بتمددها كفعل البارود المنتثر على الأرض فلا يشتغل إلا حبة بعد حبة، وهكذا فإن أقل البلدان سكانا أصلحها للطغيان، فالضواري لا تسيطر على غير الصحاري.
الفصل التاسع
علامات الحكومة الصالحة
إذن، عندما يسأل إطلاقا عن أصلح حكومة يوضع سؤال معضل كغير محدد، وإن شئت فقل إن لهذا السؤال حلولا صالحة كثيرة كثرة التراكيب الممكنة في أوضاع الشعوب المطلقة والنسبية.
ولكنه إذا ما سئل عن العلامة التي يمكن أن يعرف بها كون أحد الشعوب محكوما فيه حكما صالحا أو سيئا اختلف الأمر وأمكن حل المسألة الواقعية.
ومع ذلك فإنها لا تحل مطلقا؛ وذلك لأن كل واحد يرغب في حلها على شاكلته، ويثني الرعايا على الراحة العامة، ويمتدح المواطنون حرية الأفراد، فيفضل أحدهم ضمان التصرفات ويفضل الآخر ضمان الأشخاص، ويرى أحدهم أن أصلح الحكومات أشدها ويذهب الآخر إلى أن أصلحها ألينها، ويود هذا أن يعاقب على الجرائم، ويود ذاك منع وقوعها، ويجد أحدهم أن من الجميل أن يخشى من الجيران، ويحب الآخر أن يجهل من قبلهم، ويسر أحدهم بتداول النقد ويتطلب الآخر أن يحوز الشعب خبزا، حتى إنه إذا ما اتفق حول هذه النقاط وما ماثلها فهل يعني هذا تقدمنا أكثر من قبل؟ وبما أنه يعوز المقادير الأدبية قياس دقيق فإذا ما اتفق على العلامة فكيف يتفق على التقدير؟
ومن جانبي أعجب دائما من جهل علامة بالغة هذه البساطة، أو من عدم الاعتراف بها عن سوء نية، وما غاية الجمعية السياسية؟ صيانة أعضائها وفلاحهم. وما أضمن علامة لصيانتهم وفلاحهم؟ عددهم وأهلوهم. ولا تذهبوا بعيدا، إذن، للبحث عن هذه العلامة المجادل فيها كثيرا، ثم بما أن كل شيء متساو فإن الحكومة التي يعمرها المواطنون ويزيدونها أكثر من قبل، وذلك من غير عون خارجي أو تجنيس أو جاليات، هي أصلح الحكومات لا ريب، وإن الحكومة التي يقل رعاياها ويفنون هي أسوؤها، فيا أيها العادون! الآن ترك لكم أمر الحساب والقياس والمقابلة.
1
الفصل العاشر
إساءة استعمال الحكومة وتدرجها إلى الانحطاط
كما أن الإرادة الخاصة تسير بلا انقطاع معاكسة للإرادة العامة تقوم الحكومة بجهد مستمر ضد السيادة، وكلما زاد هذا الجهد فسد النظام، وبما أنه لا يوجد هنا، مطلقا، إرادة أخرى للهيئة توازن إرادة الأمير وهي تقاومها فإن الذي يحدث عاجلا أو آجلا كون الأمير يضطهد السيد ويلغي العهد الاجتماعي، وهنا العيب الملازم الحائق الذي يفضي بلا مهل إلى تقويض الهيئة السياسية منذ ولادتها كما يقوض الهرم والموت بدن الإنسان.
ويوجد سبيلان عامان تنحط بهما الحكومة، أي عندما تتقبض أو عندما تنحل الدولة.
وتتقبض الدولة عندما تسير من العدد الكبير إلى القليل، أي من الديمقراطية إلى الأرستقراطية ومن الأرستقراطية إلى الملكية، وهنالك ميلها الطبيعي،
1
وهي إذا تقهقرت من العدد الصغير إلى الكبير أمكن القول بأنها ترتخي، غير أن هذا التقدم المعاكس مستحيل.
والحق أن الحكومة لا تغير شكلها إلا حين يدعها نابضها البالي من الضعف ما لا تستطيع معه أن تحفظ شكلها، والحق أنها ترتخي أيضا عند تمددها، فتصبح قوتها قاصرة تماما وتكون أقل بقاء، فيجب، إذن، أن يرجع إلى النابض وأن يشد كلما ارتخى، وإلا انهارت الدولة التي يمسكها.
ويمكن أن يقع انحلال الدولة على وجهين:
أولا: عندما ينقطع الأمير عن إدارة الدولة وفق القوانين ويغتصب السلطة ذات السيادة، وهنالك يقع تغيير عجيب، وذلك أن الدولة، لا الحكومة، تتقلص، وبهذا أعني أن الدولة الكبيرة تنحل وتتألف منها دولة أخرى مركبة من أعضاء الحكومة فقط تكون تجاه بقية الشعب سيدته وطاغيته، حتى إذا ما اغتصبت الحكومة السيادة نقض الميثاق الاجتماعي وحمل المواطنون، العائدون إلى حريتهم الطبيعية عن حق، على الطاعة من غير ارتباط.
ويقع ذات الحال أيضا عندما يغتصب أعضاء الحكومة على انفراد ما لا ينبغي لهم أن يمارسوه من سلطان إلا كهيئة، وهذا ما ينطوي على نقض للقوانين، ويؤدي إلى أعظم فساد، وهنالك يوجد، كما أقول، من الأمراء بمقدار الحكام، فتهلك، أو تغير شكلها، الدولة التي هي ليست أقل من الحكومة انقساما.
ومتى انحلت الدولة اتخذ سوء استعمال الحكومة، مهما كان أمره، اسم الفوضى الشائع، فتنحط الديمقراطية، عن تمييز، إلى حكومة عوام والأرستقراطية إلى حكومة أعيان، وإلى هذا أضيف انحطاط الملكية إلى طغيان، بيد أن هذه الكلمة الأخيرة مبهمة، وتحتاج إلى إيضاح.
إن الطاغية، في الاصطلاح العامي، ملك يملك بعنف ومن غير مراعاة للعدل والقوانين، والطاغية، في المعنى الدقيق، فرد ينتحل السلطان الملكي من غير أن يكون له حق في ذلك، وكان الأغارقة يطلقون كلمة الطاغية، بلا تفريق، على الصلاح والطلاح من الأمراء الذين لم يكن سلطانهم شرعيا،
2
وهكذا فإن الطاغية والغاصب كلمتان مترادفتان تماما.
وإذا ما جاز لي إطلاق أسماء مختلفة على أشياء مختلفة دعوت غاصب السلطان الملكي طاغية ودعوت غاصب السلطة ذات السيادة مستبدا، والطاغية هو الذي يتدخل ضد القوانين في الحكم وفق القوانين، والمستبد هو الذي يضع نفسه فوق القوانين نفسها، وهكذا قد لا يكون الطاغية مستبدا، ولكن المستبد طاغية على الدوام.
الفصل الحادي عشر
موت الهيئة السياسية
ذلك هو الميل الطبيعي الملازم لأحسن الحكومات نظاما، وإذا كانت إسبارطة ورومة قد هلكتا؛ فأية دولة يمكن أن ترجو البقاء دائما؟! وإذا أردنا إقامة نظام دائم فلا نحلم مطلقا بجعله خالدا إذن، ولا ينبغي، للنجاح، أن يحاول المستحيل، ولا أن نعلل أنفسنا بمنح عمل الآدميين من الصلابة ما لا تحتمله الأحوال البشرية.
ويبدأ الكيان السياسي، ككيان الإنسان، بالموت منذ ولادته، وهو يحمل في ذاته أسباب زواله، بيد أنه يكون لكل من الكيانين نظام على شيء من القوة صالح لحفظه زمنا طويلا أو قصيرا، ونظام الإنسان من عمل الطبيعة، ونظام الدولة من عمل الفن، ولا يتوقف على الناس إطالة حياتهم، وعلى الناس يتوقف إطالة حياة الدولة بمنحها أحسن نظام ممكن. أجل، إن للدولة المنظمة أحسن تنظيم نهاية، ولكن هذه النهاية تأتي متأخرة عن غيرها ما لم يؤد حادث مفاجئ إلى هلاكها قبل الأوان.
ويقوم مبدأ الحياة السياسية على السلطة ذات السيادة، وتعد السلطة الاشتراعية قلب الدولة، وتعد السلطة التنفيذية دماغها الذي يوجب حركة جميع الأجزاء، وقد يصاب الدماغ بالفالج ويظل الفرد حيا، وقد يبقى الإنسان أبله ويعيش، ولكن القلب إذا ما انقطع عن القيام بوظائفه مات الحيوان.
وبالسلطة الاشتراعية، لا بالقوانين، تبقى الدولة، ولا يلزم اليوم بقانون الأمس، غير أن القبول الضمني يفترض بالسكوت، ويحسب السيد مؤيدا بلا انقطاع للقوانين التي لا يلغيها كما يستطيع، وكل ما يصرح بأنه أراد مرة يريده دائما ما لم ينقض تصريحه.
ولم تحترم القوانين القديمة كثيرا إذن؟ ذلك لذات السبب، ويجب أن يعتقد أنه لا يوجد غير حسن العزائم القديمة ما استطاع حفظها زمنا طويلا، وإذا كان السيد لا يعترف بفائدتها بلا انقطاع ألغاها ألف مرة، ولهذا تنال القوانين باستمرار قوة جديدة في جميع الدولة الحسنة التنظيم بدلا من أن تهن ، وتجعلها سابقة القدم أكثر حرمة في كل يوم، فبينا تضعف القوانين مع العمر في كل مكان يدل هذا على عدم وجود السلطة الاشتراعية وعلى أن الدولة تموت.
الفصل الثاني عشر
كيف تدوم السلطة صاحبة السيادة
بما أنه ليس للسيد قوة غير السلطة الاشتراعية فإنه لا يؤثر بغير القوانين، وبما أن القوانين ليست غير أعمال رسمية للإرادة العامة فإن السيد لا يؤثر إلا عندما يجتمع الشعب، وأقول: إن اجتماع الشعب وهم، وهو اليوم وهم، ولكنه كان غير ذلك منذ ألفي سنة، فهل تغيرت طبيعة الناس؟
وإن حدود الممكن في الأمور الأدبية أضيق مما نتصور، وإن وهناتنا ومعايبنا ومبتسراتنا هي التي تضيقها، ولا تؤمن النفوس الوطيئة بعظماء الرجال مطلقا، ويتبسم أراذل العبيد ابتسام سخرية من كلمة الحرية هذه.
ودعنا نحكم بما صنع فيما يمكن أن يصنع، ولا أتكلم عن جمهوريات اليونان القديمة، ولكن يلوح لي أن الجمهورية الرومانية كانت دولة عظيمة، وأن مدينة رومة كانت مدينة كبيرة، ويدل آخر إحصاء على احتواء رومة أربعمائة ألف مواطن قادر على حمل السلاح، ويدل آخر إحصاء للإمبراطورية على أكثر من أربعة ملايين مواطن عدا الرعايا والأجانب والنساء والأولاد والعبيد.
وما أكثر ما نتمثل من مصاعب في جمع أهل هذه العاصمة وجوارها الكثيرين تكرارا! ومع ذلك كانت لا تمر أسابيع قليلة قبل أن يجتمع الشعب الروماني، وكان هذا يقع عدة مرات، وكان لا يمارس حقوق السيادة وحدها، بل كان يمارس قسما من حقوق الحكومة أيضا، وكان يعالج بعض المسائل، وكان يحكم في بعض القضايا، وكان جميع هذا الشعب حاكما في الميدان العام أكثر من أن يكون مواطنا في الغالب.
وإذا ما رجعنا إلى أزمنة الأمم الأولى وجدنا أنه كان لمعظم الحكومات القديمة، حتى الملكيات كحكومات المقدونيين والفرنج، مجالس مماثلة لتلك، ومهما يكن من أمر فإن هذا الشيء الوحيد الذي لا جدال فيه ينطوي على جواب عن جميع المصاعب، وإن من المنطق الصالح أن يبصر الممكن من الواقع.
تكملة
لا يكفي أن يكون الشعب المجتمع قد قرر لمرة واحدة نظام الدولة بتأييده قانونا معينا، ولا يكفي أن يكون قد أقام حكومة دائمة، أو يكون قد قام لمرة واحدة بانتخاب الحكام، وإذا عدوت المجالس النادرة التي تقتضيها أحوال مفاجئة وجب وجود مجالس ثابتة دورية لا يمكن إلغاؤها ولا تأجيلها، فيدعى الشعب في اليوم المعين شرعا بقوة القانون، وذلك من غير احتياج إلى دعوة رسمية أخرى لهذا السبب.
ولكنك إذا عدوت هذه المجالس الشرعية بتاريخها فقط وجدت كل مجلس للشعب لم يدع من قبل الحكام الموكل إليهم هذا الأمر، وفق الأنظمة المرعية، غير شرعي وأن جميع أعماله باطلة؛ وذلك لأن أمر الاجتماع يجب أن يصدر عن القانون.
وأما دورات المجالس الشرعية القليلة أو الكثيرة فتتوقف على عوامل كثيرة لا يمكن إعطاء قواعد دقيقة عنها، وإنما يمكن أن يقال على العموم: إن الحكومة كلما كانت لها قوة وجب أن يظهر السيد نفسه كثيرا.
وسوف يقال لي: إن هذا قد يكون صالحا لمدينة واحدة، فما يصنع إذا اشتملت الدولة على مدن كثيرة؟ هل تقسم السلطة صاحبة السيادة؟ أو هل تحشر في مدينة واحدة وتسخر لها المدن الأخرى؟
أجيب بأنه لا ينبغي أن يصنع هذا ولا ذاك، وذلك:
أولا:
أن السلطة صاحبة السيادة بسيطة وواحدة، فلا يمكن أن تقسم من غير أن تقوض.
ثانيا:
أن المدينة، كالأمة، لا يمكن أن تسخر شرعيا لأخرى؛ لأن جوهر الهيئة السياسية هو في توافق الطاعة والحرية، ولأن الكلمتين، التابع والحرية، صلتان متحدتان ذاتا ومعنى فتجتمع فكرتهما في كلمة المواطن الواحدة.
وأجيب، أيضا، بأن من السوء في كل وقت جمع مدن كثيرة في حاضرة واحدة، فإذا ما رغبنا في مثل هذا الاتحاد لا ينبغي لنا أمل اجتناب محاذيره الطبيعية، ولا يجوز أن يعارض بسوء استعمال الدول الكبيرة من لا يبتغي غير صغيرها، ولكن كيف تمنح الدول الصغيرة من القوة ما تقاوم به الكبيرة؟ ذلك كما قاومت المدن الإغريقية الملك الأعظم فيما مضى، وكما قاومت هولندة وسويسرة آل النمسة حديثا.
ومع ذلك إذا تعذر رد الدولة إلى حدودها المناسبة بقيت وسيلة أيضا، وذلك ألا تعاني عاصمة، وأن تحمل الحكومة على الاستقرار بكل مدينة مناوبة، وأن تجمع ولايات البلاد، كذلك، تتابعا.
واعمروا الأرض متساويا، واحملوا عين الحقوق إلى كل مكان، واحملوا الرخاء والحياة إلى كل مكان، فعلى هذا الوجه تصبح الدولة أقوى وأصلح ما يمكن أن يحكم فيها معا، واذكروا أن جدر المدن لا تكون من غير أطلال منازل الحقول، وأرى بعين بصيرتي أن كل قصر يقام في العاصمة بلد بأسره من أنقاض. •••
إذا ما اجتمع الشعب اجتماعا شرعيا كهيئة ذات سيادة انقطع كل قضاء للحكومة، ووقفت السلطة التنفيذية، فشخص آخر مواطن هو من التقديس والحرمة كأول حاكم؛ وذلك لأنه لا ممثل حيث يوجد الممثل، وعن جهل هذه القاعدة أو إهمالها نشأ معظم الاضطرابات التي نشبت في مجالس الشعب برومة المعروفة بالكوميس، فلم يكن القناصل حينئذ غير رؤساء للشعب، ولم يكن التريبونات حينئذ غير خطباء،
1
ولم يكن السنات شيئا مذكورا.
وفواصل الوقف تلك التي يسلم في أثنائها الأمير، أو يجب أن يسلم، بوجود عال فعلي كانت مصدر ذعر له في كل حين، ومجالس الشعب تلك، التي هي ترس الهيئة السياسية وزاجر الحكومة، كانت مصدر هول الرؤساء في كل زمان، فلم يدخروا جهودا، ولا مصاعب، ولا وعودا؛ صرفا للمواطنين عنها، فمتى كان المواطنون بخلاء نذولا جبناء أشد حبا للراحة مما للحرية صاروا لا يعارضون جهود الحكومة المضاعفة زمنا طويلا، وهكذا فإن السلطة صاحبة السيادة تزول في نهاية الأمر بزيادة قدرة «الحكومة» المقاومة بلا انقطاع فتسقط المدن وتهلك قبل الأوان.
غير أنه يتدخل بين السلطة ذات السيادة والحكومة المرادية، أحيانا، سلطة متوسطة يجب أن يحدث عنها.
الفصل الثالث عشر
نواب أو ممثلون
عندما تنقطع الخدمة العامة عن كونها عمل المواطنين الرئيس، ويفضل هؤلاء قيام ما لهم مقام أشخاصهم، تكون الدولة قريبة من سقوطها، فإذا ما وجب السير إلى الحرب أدوا إلى الكتائب وظلوا في منازلهم، وهم بما هم عليه من كسل وما لديهم من مال يكونون في نهاية الأمر ذوي جنود لاستعباد الوطن وذوي ممثلين لبيعه.
وهذه هي رجة التجارة والمهن، وهذه هي منفعة الربح ذات الشره، وهذه هي نعومة وهوى الملاذ التي تحول الخدم العامة إلى مال، وإذا ما تنزل الإنسان عن قسم من فائدته فلكي يزيدها على هونه، وإذا ما أعطيت مالا لم تلبث أن تكون ذا قيود، فكلمة «المالية» هي كلمة العبودية، وتجهلها الحاضرة، ويعمل المواطنون في الدولة الحرة حقا بذرعانهم، لا بالمال مطلقا، ويبعدون من الدفع ليعفوا من واجباتهم، ويدفعون إنجازا بأنفسهم، وأجدني بعيدا جدا من الأفكار السائرة، وأعتقد أن السخرات أقل مباينة للحرية من الجبايات.
وكلما كان نظام الدولة صالحا فضلت الأعمال العامة على الأعمال الخاصة في نفوس المواطنين، حتى إن الأعمال الخاصة تكون قليلة جدا؛ وذلك لأن حاصل السعادة العامة يقدم حصة أعظم من حصة كل فرد فلا يكون له ما يطلبه في الخدم الخاصة غير القليل، وكل واحد في الحاضرة الحسنة القيادة يطير إلى المجالس، ولا أحد في الحكومة السيئة يود أن يتقدم خطوة إليها؛ وذلك لأنه لا يكترث أحد لما يحدث فيها، ولأنه يرى أن الإرادة العامة لا تسيطر عليها، ولأن الأمور المنزلية تستغرق كل شيء فيها، وتؤدي القوانين الصالحة إلى وضع ما هو أصلح منها وتؤدي القوانين الصالحة إلى ما هو أسوأ منها، وحالما يوجد من يقول عن أمور الدولة: ما يهمني؟ جاز عد الدولة هالكة.
وأدى فتور حب الوطن ونشاط المصلحة الخاصة واتساع الدول والفتوح وسوء استعمال الحكومة إلى تخيل سبيل نواب الشعب أو ممثليه في مجالس الأمة، وهذا ما جرئ على تسميته في بعض البلدان بالطبقة الثالثة، وهكذا وضعت مصلحة الطبقتين (الإكليروس والأشراف) الخاصة في المرتبة الأولى والثانية ولم توضع المصلحة العامة في غير المكان الثالث.
ولا يمكن السيادة أن تمثل لذات السبب الذي لا يمكن أن تباع معه، وتقوم السيادة، جوهرا، على الإرادة العامة، والإرادة مما لا يمثل مطلقا، والإرادة إما أن تكون عين الشيء أو غيره، ولا وسط، وليس نواب الشعب ممثليه إذن، ولا يمكن أن يكونوا ممثليه ، وهم ليسوا غير وكلائه، وهم لا يستطيعون تقرير شيء نهائيا، وكل قانون لا يوافق الشعب عليه شخصيا باطل، وهو ليس قانونا مطلقا، ويرى الشعب الإنكليزي أنه حر، وهو واهم كثيرا، وهو ليس كذلك إلا في أثناء انتخاب أعضاء البرلمان، فإذا ما انتخبوا عاد عبدا ولم يك شيئا، وما يقوم به من استعمال أويقات الحرية يدل على أنه يستحق ضياعها.
وفكرة الممثلين عصرية، وهي تأتينا من الحكومة الإقطاعية، من هذه الحكومة الباغية الباطلة التي انحط النوع البشري فيها، والتي شين اسم الإنسان بها، ولم يكن لشعب ممثلون قط في الجمهوريات القديمة، ولا في الملكيات أيضا، ولم تعرف هذه الكلمة، ومن الغريب أن كان محامو الشعب في رومة بالغي الحرمة، وأنه لم يخطر حتى على البال إمكان اغتصابهم وظائف الشعب، وأنهم لم يحاولوا قط في وسط جم غفير أن يتقدموا من تلقاء أنفسهم إلى استفتاء عام، ومع ذلك فليقدر الارتباك الذي كان يؤدي إليه الجمهور أحيانا بما حدث في زمن الغراكين حين كان قسم من المواطنين يلقي صوته من فوق السقوف.
وحينما كان الحق والحرية كل شيء لم تكن المساوئ شيئا، وكان كل شيء يعطى قيمته الحقيقية لدى هذا الشعب الحكيم، وكان يدع حملة الفئوس يصنعون ما لم يجرؤ محاموه أن يصنعوه، وكان لا يخشى رغبة حملة فئوسه في تمثيله.
ومع ذلك يكفي، لإيضاح الوجه الذي كان محامو الشعب يمثلونه به في بعض الأحيان، أن يتصور كيف أن الحكومة تمثل السيد، فبما أن القانون لم يكن غير إعلان للإرادة العامة، فإن من الواضح في السلطة الاشتراعية تعذر تمثيل الشعب، غير أن من الممكن ومن الواجب، أن يمثل في السلطة التنفيذية التي ليست غير قوة تطبيقية للقانون، وهذا يدل على أن الأمور إذا ما دقق فيها وجدت أمم قليلة ذات قوانين، ومهما يكن من أمر فإن من المؤكد كون محامي الشعب لم يستطيعوا تمثيل الشعب الروماني بمقتضى وظائفهم لما لم يكن لهم نصيب في السلطة التنفيذية، وإنما اتفق لهم بما اغتصبوه من السنات فقط.
وما كان على الشعب أن يصنعه لدى الأغارقة كان يصنعه بنفسه فيجتمع في الميدان بلا انقطاع، وكان يقيم بإقليم معتدل، ولم يكن طماعا قط، وكان العبيد يقومون بأعماله، وكانت حريته همه الأكبر، وكيف يحافظ على ذات الحقوق وقد عادت لا تكون له ذات المنافع؟ تزيد أقاليمكم الأقسى في احتياجاتكم،
1
ويكون ميدانكم العام غير صالح للإقامة مدة ستة أشهر من السنة، ولا تستطيع ألسنتكم البكم أن تسمع نفسها في العراء، وتبالون بكسبكم أكثر مما بحريتكم، وتخشون العبودية أقل مما تخشون البؤس.
ماذا؟ ألا تستقيم الحرية بغير عون العبودية؟ ربما كان ذلك، فالأقصيان يلتقيان، ولكل ما ليس في الطبيعة محاذيره، والمجتمع المدني أكثر من الجميع، ويوجد من الأحوال السيئة ما لا يمكن أن تحفظ معه الحرية إلا على حساب حرية الآخرين، وما لا يمكن المواطن معه أن يكون تام الحرية إلا بكون العبد عبدا إلى الغاية، وكانت هذه حال إسبارطة، وأما أنت، أيتها الشعوب الحديثة، فليس عندك عبيد، وإنما أنت من العبيد لتأديتك حريتهم من حريتك، ومن العبث مفاخرتك بهذا الاختيار، ففي هذا أجد نذالة أكثر مما أجد إنسانية.
ولا أقصد بجميع هذا ضرورة اقتناء عبيد، ولا كون حق الرق شرعيا، وإنما ذكرت أسباب كون الشعوب الحديثة التي تعتقد أنها حرة ذات ممثلين، وكون الشعوب القديمة غير ذات ممثلين، ومهما يكن من أمر فإن الشعب إذا ما جعل لنفسه ممثلين عاد لا يكون حرا، وعاد لا يكون موجودا.
وإني، بعد بحث في جميع الأمور، لا أرى، فيما بعد، كونه يمكن السيد أن يحافظ بيننا على ممارسة حقوقه إذا لم تكن الحاضرة صغيرة جدا، ولكن ألا تقهر إذا كانت صغيرة جدا؟ كلا، وسأثبت، فيما بعد،
2
كيف يمكن جمع قوة الشعب الكبير الخارجية مع الضابطة السهلة وحسن نظام الدولة الصغيرة.
الفصل الرابع عشر
كون نظام الحكومة ليس عقدا مطلقا
إذا أقيمت السلطة الاشتراعية، جيدا ذات مرة كان الأمر الآخر الذي يقام هو السلطة التنفيذية، وذلك بما أن هذه الأخيرة، التي لا تسير إلا بأعمال خاصة، ليست من جوهر الأخرى فإنها منفصلة عنها بحكم الطبيعة، وإذا كان من الممكن كون السيد، المعدود كذلك، صاحب السلطة التنفيذية فإن الحق والواقع هما من الاختلاط ما لا يعرف معه ما هو قانون وما ليس بقانون، فلا تلبث الهيئة السياسية المحرفة على هذا الوجه أن تصبح فريسة العنف الذي أقيمت ضده.
وبما أن جميع المواطنين متساوون بالعقد الاجتماعي فإن ما يجب أن يصنعه الجميع يمكن الجميع أن يأمر به، ولكن ليس لأحد حق أن يطالب بأن يصنع آخر ما لا يصنعه بنفسه ... والواقع أن هذا الحق، الضروري لمنح الهيئة السياسية حياة وحركة، هو الذي ينعم السيد به على الأمير بإقامة الحكومة.
وزعم كثيرون أن هذا العمل الإنشائي كان عقدا بين الشعب والرؤساء الذين يقيمهم على نفسه، عقدا بين الفريقين ينطوي على شروط يلزم أحدهما نفسه بالقيادة وفقها، ويلزم الآخر نفسه بالطاعة وفقها.
وإني لواثق بأنه سيفترض كون هذا طرازا غريبا للتعاقد، ولكن لننظر هل هذا الرأي مما يمكن تأييده؟
أولا، لا يمكن السلطة العليا أن تعدل أكثر مما يتنزل عنها، ويعني تحديدها تقويضها، ومن العبث والمتناقض أن يضع السيد فوقه من هو أعلى منه، فإلزام نفسه بأن يطيع مولى يعني عودا إلى الحرية المطلقة.
ثم إن من الواضح كون هذا العقد بين الشعب وهؤلاء أو أولئك الأشخاص عملا خاصا، ومن ثم لا يمكن أن يكون هذا العقد قانونا ولا عمل سيادة، ومن ثم يكون غير شرعي.
ومما يرى أيضا أن يكون الفريقان المتعاقدان فيما بينهما تابعين لقانون الطبيعة ومن غير ضامن لتعهداتهما المتبادلة، وهذا يخالف الحال المدنية من جميع الوجوه، وبما أن القابض على القوة هو صاحب التنفيذ دائما فإن ما يعدل ذلك إطلاق اسم العقد على عمل الرجل الذي يقول لآخر: «أعطيك جميع مالي على أن تعيد إلي منه ما يروقك.»
ولا يوجد في الدولة غير عقد واحد، وهو عقد الجمعية، وهذا وحده يبعد غيره، ولا يمكن أن يتصور أي عقد عام لا يكون نقضا للأول.
الفصل الخامس عشر
نظام الحكومة
تحت أي مبدأ يجب تصور العمل الذي قامت به الحكومة؟ ألاحظ قبل كل شيء أن هذا العمل مركب مؤلف من عملين آخرين؛ وهما: وضع القانون، وتنفيذ القانون.
وبالعمل الأول يقرر السيد وجود هيئة للحكومة قائمة تحت هذا أو ذلك الشكل، ومن الواضح كون هذا العمل قانونا.
وبالعمل الثاني يعين الشعب الرؤساء الذين يقومون بالحكومة القائمة، والواقع أن هذا التعيين ليس قانونا ثانيا؛ لكونه عملا خاصا، وإنما هو تابع للأول ووظيفة للحكومة.
والصعوبة في إدراك وجود عمل حكومي قبل وجود الحكومة وفي إمكان تحول الشعب الذي غير سيد أو تابع إلى أمير أو حاكم في بعض الأحوال.
وهنا تكتشف، أيضا، إحدى هذه الخصائص المحيرة للهيئة السياسية التي توفق بين أعمال متناقضة ظاهرا؛ وذلك لأن هذا يتم بتحويل مفاجئ للسيادة إلى ديمقراطية، وذلك أن المواطنين الذين أصبحوا حكاما ينتقلون من الأعمال العامة إلى الأعمال الخاصة ومن القانون إلى التنفيذ من غير تغيير محسوس وبصلة جديدة بين الكل والكل فقط.
وليس تغيير الصلة هذا براعة نظرية لا مثيل لها في العمل، فهو يقع كل يوم في البرلمان الإنكليزي؛ حيث المجلس الأدنى يتحول إلى لجنة كبيرة لحسن النقاش في الأمور، ويصبح هكذا جماعة بسيطة من مجلس ذي سيادة كما كان ذات حين، وذلك بأن تقدم، فيما بعد، إلى نفسه، كمجلس نواب، تقريرا عن نتيجة أعماله في اللجنة الكبرى وأن يناقش مجددا باسم آخر غير الذي كان قد قرر به.
وهذه هي مزية الحكومة الديمقراطية الخاصة في استطاعتها أن تقوم فعلا بقرار بسيط من الإرادة العامة، ثم تظل هذه الحكومة المؤقتة قابضة على السلطان عند قبول هذا الطراز، أو أنها تقيم باسم السيد الحكومة التي يأمر بها القانون، وهكذا يوجد كل شيء في نصابه، ومن المتعذر إقامة الحكومة على وجه شرعي آخر ومن غير عدول عن المبادئ المقررة آنفا.
الفصل السادس عشر
وسيلة منع اغتصابات الحكومة
ما أبديناه من بيان يؤيد الفصل السادس عشر ويوضح كون نظام الحكومة ليس عقدا، بل قانون، وكون حفظة السلطة التنفيذية ليسوا أولياء الشعب، بل موظفوه، وكونه يستطيع نصبهم وعزلهم عندما يود، وكونه لا محل لإبرامهم عقدا، بل لطاعتهم، وكونهم لا يصنعون غير القيام بواجبهم كمواطنين عند تقلدهم الوظائف التي تلزمهم الدولة بها، وذلك من غير أن يحق لهم أن يجادلوا في الشروط.
ومتى حدث، إذن، أن الشعب يقيم حكومة وراثية، سواء أكانت ملكية في أسرة أم أرستقراطية في منظمة للمواطنين، فلا يكون هذا عهدا يتخذه مطلقا، أي إن هذا طراز موقت يمنحه الإدارة، وذلك إلى أن يود تنظيمها على وجه آخر.
أجل، إن هذه التحولات خطرة دائما، وإنه لا ينبغي أن تمس الحكومة القائمة مطلقا إلا حين تصبح منافية للخير العام، غير أن التحفظ مبدأ سياسي، لا قاعدة حقوقية، ولا تعود الدولة ملزمة بترك السلطة المدنية لرؤسائها أكثر من ترك السلطة العسكرية لقادتها.
ومما لا ريب فيه أيضا أنه لا يمكن في مثل هذه الحال ملاحظة جميع الشكليات المطلوبة بعناية كبيرة؛ تمييزا للعمل المنظم المشروع من شعب تمردي، ولإرادة جميع الشعب من ضجيج عصابة، وهنا لا يجوز، على الخصوص، أن تمنح الحال الممقوتة غير ما لا يمكن إمساكه عنها في أوثق نطاق الحق، ومن هذا الالتزام أيضا يستخرج الأمير فائدة عظيمة لحفظ سلطانه على الرغم من الشعب ومن غير أن يمكن القول بأنه اغتصبه؛ وذلك لأنه بظهوره غير مستعمل لغير حقوقه يكون من السهل عليه كثيرا أن يوسع مداها وأن يزجر بحجة الراحة العامة ما هو معد لإعادة حسن النظام من المجالس، وذلك من حيث انتفاعه بسكون يحول دون الإخلال به، أو بمخالفات يوجب اقترافها ليفترض، نفعا لنفسه، اعتراف من حملهم الخوف على السكوت وليعاقب من يجرءون على الكلام، شأن الحكام العشرة (لدى الرومان) الذين انتخبوا لعام واحد، وبقوا في مناصبهم لعام ثان فحاولوا إدامة سلطانهم بعدم الإذن لمجالس الشعب في الاجتماع، فبهذه الوسيلة السهلة يغتصب جميع حكومات العالم السلطة ذات السيادة عاجلا أو آجلا بعد أن تشتمل هذه الحكومات بالقوة العامة.
والمجالس الدورية التي تكلمت عنها آنفا صالحة لتلافي هذه البلية أو لتأخيرها، ولا سيما عند عدم احتياجها إلى دعوة رسمية؛ وذلك لأن الأمير لا يستطيع، إذ ذاك، منعها من غير أن يصرح جهرا بأنه ناقض القانون وعدو الدولة.
ويجب في كل وقت أن يتم افتتاح هذه المجالس، التي لا غرض لها غير حفظ الميثاق الاجتماعي، وفق مطلبين لا يمكن إبطالهما مطلقا، ويجب أن يصوت لهما على انفراد.
فالأول هو: «هل يود السيد أن يحافظ على شكل الحكومة الحاضر؟»
والثاني هو: «هل يود الشعب أن يترك إدارته لمن يقومون بها حاضرا؟»
وهنا أفترض ما أعتقد أنني أثبته، أي عدم وجود قانون أساسي في الدولة لا يمكن إلغاؤه، ولو كان الميثاق الاجتماعي؛ وذلك لأن جميع المواطنين إذا ما اجتمعوا لنقض هذا الميثاق باتفاق شامل فإن من المحال أن يشك في نقضه شرعيا إلى الغاية، حتى إن غروسيوس يرى أن كل واحد يستطيع أن يعدل عن الدولة التي هو عضو فيها، وأن يسترد حريته الطبيعية وأمواله عند خروجه من البلد،
1
والواقع أن من العبث ألا يستطيع جميع المواطنين المجتمعين صنع ما يستطيع كل واحد منهم أن يصنعه منفردا.
الباب الرابع
الفصل الأول
كون الإرادة العامة لا تضمحل
إذا ما عد أناس كثير أنفسهم هيئة واحدة لم يكن لهم، ما داموا هكذا، غير إرادة واحدة تناسب حفظ الجميع والسعادة العامة، وهنالك تكون نوابض الدولة كلها قوية بسيطة، وتكون مبادئها صريحة ساطعة، ولا يكون للدولة مصالح ملتبسة متناقضة، ويبدو الخير العام في كل مكان واضحا، ولا يتطلب غير سلامة إدراك حتى يشعر به، ويحسب السلم والاتحاد والمساواة أعداء للحيل السياسية، فمن الصعب أن يخدع المستقيمون البسطاء بسبب بساطتهم، ولا سبيل لتمويه الخدائع والذرائع الدقيقة عليهم مطلقا، حتى إنهم ليسوا من الرقة الكافية ما يغرون معه، ومتى رئي لدى أسعد شعوب العالم كتائب من الفلاحين تنظم أمور الدولة تحت بلوطة ويسيرون بحكمة فهل يمكن أن يمتنع عن ازدراء حيل الأمم الأخرى التي تصبح مشهورة بائسة مع كثير حيلة وغموض ؟
وتحتاج الدولة التي يحكم فيها على هذا الوجه إلى قوانين قليلة إلى الغاية، وكلما صار من الضروري نشر قوانين جديدة منها بدت هذه الضرورة عموما، ولا يصنع أول من يقترحها غير إعرابه عما يشعر به الجميع، فلا محل للمكايد والبلاغة تحويلا إلى قانون ما كان كل واحد عازما على فعله عندما يوقن بأن الآخرين سيصنعونه مثله.
والخطأ يتطرق إلى النظريين من كونهم لا يرون غير دول سيئة التكوين من أساسها فيقف نظرهم تعذر تطبيق مثل تلك الضابطة عليهم، وهم يسخرون من تمثل جميع الجهالات التي يقنع بها شعب باريس أو لندن ماكر ماهر أو مهذار مغر، وهم لا يعلمون أن كرومويل كان يوضع على الأجراس من قبل أهل برن لو ظهر في هذه المدينة وأن دوك دوبوفور كان يحال إلى التأديب لو ظهر بين أهل جنيف.
ولكن الرابطة الاجتماعية إذا ما أخذت ترتخي، والدولة إذا ما أخذت تهن، والمصالح الخاصة إذا ما أخذت تحس، والمجتمعات الصغيرة إذا ما أخذت تؤثر في الكبيرة، فسدت المصلحة العامة ووجدت معارضين، أي عاد الإجماع لا يسيطر على الأصوات، وعادت الإرادة العامة لا تكون إرادة الجميع، فتتصاعد متناقضات ومجادلات، ولا يؤخذ بالرأي الأصلح من غير منازعات مطلقا.
ثم إن الدولة عندما توشك أن تزول، ولا تكون غير ذات كيان باطل وهمي، وتقطع الصلة الاجتماعية في جميع القلوب، ويزوق أخس المنافع باسم الخير العام من غير حياء، تصبح الإرادة العامة صامتة، أي تكون العوامل الخفية رائد الجميع فلا يبدي الجميع رأيهم كمواطنين إلا كما لو كانت الدولة غير موجودة على الإطلاق، وتجاز زورا مراسيم جائرة باسم القوانين ليس لها غاية غير المنفعة الخاصة.
وهل يستنبط من ذلك كون الإرادة العامة مبادة أو فاسدة؟ كلا، فهي ثابتة خالصة لا تتغير، غير أنها تابعة لإرادات أخرى تتغلب عليها، ويبصر كل واحد، حين يفصل مصلحته عن المصلحة العامة، أنه لا يستطيع فصل ما بينهما تماما، ولكن حصته من البلاء العام لا تظهر له شيئا بجانب الخير الخاص الذي يزعم أنه يحتكره، وإذا عدوت هذا الخير الخاص وجدته يريد الخير العام في سبيل مصلحته الخاصة ككل فرد آخر، حتى إنه إذا ما باع صوته بنقد لم يطفئ الإرادة العامة في نفسه، بل يتجنبها، ويقوم الخطأ الذي يقترفه على تغيير حال السؤال وعلى الجواب بأمر غير ما يسأل عنه، وذلك أن يقول بصوته: «إن من النافع لهذا الرجل أو الحزب أو ذلك الرجل أو الحزب أن يفوز هذا الرأي أو ذلك الرأي» بدلا من أن يقول بصوته: «إنه نافع للدولة»، وهكذا فإن قانون النظام العام في المجالس لا يقوم على تأييد الإرادة العامة فيها بمقدار استيضاحها وردها الجواب دائما.
ويمكنني أن أضع هنا كثيرا من التأملات حول الحق البسيط للتصويت في كل عمل للسيادة، ذلك الحق الذي لا يستطيع أن ينزعه من المواطنين شيء، وحول حق إعطاء الرأي وحق الاقتراح والتقسيم والنقاش، أي ما تحرص الحكومة دائما على عدم تركه لغير أعضائها، بيد أن هذا الموضوع المهم يتطلب رسالة مستقلة، فلا أستطيع أن أقول عنه كل شيء في هذا الكتاب.
الفصل الثاني
التصويت
يرى من الفصل السابق أن الوجه الذي تعالج به الأمور العامة يمكن أن ينم بدرجة الكفاية على الحال الحاضرة للطبائع وعلى ما تتمتع به الهيئة السياسية من عافية، وكلما ساد الاتفاق في المجالس، أي كلما قربت الآراء من الإجماع سادت الإرادة العامة أيضا، غير أن المناقشات الطويلة والاختلافات والشغب أمور تدل على نفوذ المصالح الخاصة وانحطاط الدولة.
ويظهر هذا أقل وضوحا عندما يتخلل نظامها طبقتان أو أكثر، كما اتفق في رومة للأشارف والعوام الذين كدرت منازعاتهم مجالس الشعب في الغالب، حتى في أجمل أوقات الجمهورية، بيد أن هذا الاستثناء هو في الظاهر أكثر منه في الحقيقة؛ وذلك لأنه يكون، هنالك، بالعيب الملازم للهيئة السياسية دولتان في دولة واحدة، ولأن ما يصح عن الاثنتين معا يصح عن كل منهما على انفراد، والواقع أنه، حتى في أكثر الأوقات عاصفة، كانت استفتاءات الشعب العامة تمر دائما بسلام وبأكثرية الأصوات الساحقة، فبما أنه لم يكن للمواطنين غير مصلحة واحدة لم يكن للشعب غير إرادة واحدة.
ويعود الإجماع إلى الطرف الأقصى الآخر من الدائرة، وهذا حينما يعود المواطنون الساقطون في العبودية غير ذوي حرية ولا إرادة، وهنالك يحول الخوف والملق الآراء إلى هتافات، فلا تشاور بعد، بل عبادة أو لعنة، وعلى هذا الطراز المنحط في إعطاء الرأي كان يسير السنات في زمن الأباطرة، ومما كان يحدث أحيانا أن يتم هذا بتحفظات مثيرة للضحك، ويلاحظ تاسيت في عهد أوتون أن أعضاء السنات كانوا يغرقون فيتليوس باللعنات، فيتظاهرون في الوقت نفسه بأنهم يخرجون أصواتا هائلة؛ وذلك لأنه إذا ما أصبح سيدا مصادفة لم يستطع أن يعرف ماذا كان كل واحد منهم قد قال.
وعن هذه العوامل المختلفة تنشأ المبادئ التي يجب أن ينظم وفقها طراز عد الأصوات والمقابلة بين الآراء، وذلك بنسبة سهولة معرفة الإرادة العامة ونسبة ميل الدولة إلى الزوال.
ولا يوجد غير قانون واحد يتطلب اتفاقا إجماعيا بطبيعته، وهذا هو الميثاق الاجتماعي؛ وذلك لأن الاتحاد المدني هو أكثر عقود العالم اختيارا، وبما أن كل إنسان يولد حرا سيدا لنفسه لا يستطيع أحد أن يخضعه بأي حجة كانت من غير موافقته، فالحكم بأن ابن العبد يولد عبدا هو حكم بأنه لا يولد إنسانا.
ولذلك إذا وجد معارضون عند وضع الميثاق الاجتماعي فإن معارضتهم لا تبطل العقد، وإنما تحول دون اشتماله عليهم، فيكونون غرباء بين المواطنين، وإذا ما أقيمت الدولة كانت الموافقة في دار الإقامة، فسكنى البلد يعني خضوعا للسيادة.
1
وإذا عدوت هذا العقد الابتدائي وجدت صوت العدد الأكبر يلزم جميع الأصوات الأخرى دائما، وهذه هي نتيجة العقد نفسه، ولكنه يسأل: كيف يمكن الإنسان أن يكون حرا ومجبرا على ملاءمة عزائم ليست عزائمه؟ وكيف يكون المعارضون أحرارا وخاضعين لقوانين لم يوافقوا عليها؟!
أجيب بأن المسألة سيئة الوضع، فالمواطن يوافق على جميع القوانين، حتى التي تسن على الرغم منه، حتى التي تجازيه إذا ما جرؤ على انتهاكها، والإرادة العامة هي الإرادة الثابتة لجميع أعضاء الدولة، وهم بهذه الإرادة مواطنون وأحرار،
2
وإذا ما اقترح قانون في مجلس الشعب فلا يقوم ما يطلب منهم على استحسانهم الاقتراح بالضبط أو على رفضهم إياه، بل على ملاءمته أو عدم ملاءمته للإرادة العامة التي هي إرادتهم، وكل واحد يعرب عن رأيه في ذلك عند إعطائه صوته، وتتجلى الإرادة العامة عند إحصاء الأصوات، فإذا ما فاز الرأي المعاكس لرأيي في هذه الحال فإن هذا لا يثبت غير كوني مخطئا، وأن الإرادة العامة لم تكن ما قدرت، وإذا ما فاز رأيي الخاص مع وجوب إنجازي عكس ما كانت عليه إرادتي، وجب أن كنت غير حر هنالك.
والحق أن هذا يفترض كون جميع صفات الإرادة العامة لا تزال قائمة في الأكثرية، فإذا عادت هذه الصفات لا تكون هكذا، عادت الحرية غير موجودة مهما كان الحزب الذي ينتسب إليه الرجل.
وفيما تقدم أثبت كيف تستبدل الإرادات الخاصة بالإرادة العامة في المشاورات العامة، فأشرت بما فيه الكفاية إلى الوسائل العملية لاجتناب سوء الاستعمال هذا، وسأتكلم عن هذا فيما بعد أيضا، وأما عدد الأصوات النسبي للإعراب عن هذه الإرادة فقد عرضت المبادئ التي يمكن تعيينه بها، وفرق صوت واحد يقضي على المساواة، ووجود معارض واحد يقضي على الإجماع، غير أنه يوجد بين الإجماع والمساواة عدة أقسام متفاوتة، ويمكن تعيين هذا العدد وفق حال الهيئة السياسية واحتياجاتها.
وتوجد قاعدتان عامتان يمكن أن تنظم هذه النسب بهما، فأما إحداهما فهي أن المشاورات كلما كانت مهمة رصينة وجب اقتراب الرأي الفائز من الإجماع، وأما الأخرى فهي أن الأمر المثار كلما تطلب سرعة وجب تضييق الفرق المقرر في تقسيم الأصوات، فيجب أن تكفي زيادة صوت واحد في المشاورات التي يجب إكمالها حالا، ويلوح أن أولى القاعدتين أكثر ملاءمة للقوانين، وأن الثانية أكثر ملاءمة للأمور العملية، ومهما يكن من أمر فإن مزج ما بينهما هو الذي يسفر عن أصلح النسب لتعيين الأكثرية الضرورية لإصدار القرار.
الفصل الثالث
الانتخابات
يوجد في انتخابات الأمير والحكام، التي هي من الأعمال المركبة، طريقتان؛ وهما: الاختيار والقرعة ، وقد استعمل كل منهما في جمهوريات مختلفة، ولا يزال يرى في انتخاب رئيس البندقية مزيج معقد إلى الغاية منهما.
قال مونتسكيو: «إن التصويت بالقرعة من طبيعة الديمقراطية.» وأوافق على أن الأمر هكذا، ولكن بأي معنى؟ ويقول مونتسكيو مداوما: «والقرعة هي طريقة انتخاب لا تغم أحدا، فهي تدع لكل مواطن أملا معقولا في خدمة وطنه.» وليست هذه أسبابا.
وإذا ما علمنا أن انتخاب الرؤساء وظيفة حكومة، لا وظيفة سيادة، أبصرنا السبب في كون طريقة القرعة أكثر ملاءمة لطبيعة الديمقراطية حيث الإدارة أكثر صلاحا بنسبة ما تكون الأعمال أقل عددا.
وليست الحاكمية في كل ديمقراطية حقيقية خيرا، بل هي حمل ثقيل لا يمكن فرضه على فرد بإنصاف أكثر مما على فرد آخر، والقانون وحده هو الذي يستطيع أن يفرض هذا الحمل على من تصيبه القرعة؛ وذلك لأن الأحوال؛ إذ تكون متساوية بين الجميع إذ ذاك، وإذ يكون الاختيار غير تابع لأية إرادة بشرية إذ ذاك، فإنه لا يكون أي تطبيق خاص يغير عمومية القانون.
والأمير في الأرستقراطية يختار الأمير، والحكومة تحافظ على نفسها بنفسها، وهنالك تكون الأصوات في محلها.
ويؤيد مثال انتخاب رئيس البندقية هذا التمييز بدلا من هدمه، ويكون هذا الشكل المختلط ملائما لحكومة مركبة؛ وذلك لأن من الخطأ عد حكومة البندقية أرستقراطية حقيقية، وإذا كان الشعب غير ذي نصيب في الحكومة فلأن طبقة الأشراف نفسها هي الشعب، ولم يدن جمع مؤلف من البرنابيين الفقراء من أي حاكمية قط، ولم يكن له من شرفه غير لقب «صاحب السعادة» وغير حضور المجلس الكبير، وبما أن هذا المجلس الكبير هو من كثرة العدد كمجلسنا العام في جنيف فإنه ليس لأعضائه المشهورين من الامتيازات ما هو أكثر مما لمواطنينا البسطاء، ومما لا مراء فيه أنك إذا عدوت ما بين الجمهوريتين من اختلاف متناه وجدت برجوازية جنيف تمثل طبقة الأشارف لدى البندقيين، وكون أبناء وطننا وأهلينا يمثلون بلديي البندقية وشعبها، وكون فلاحينا يمثلون رعايا اليابسة، ثم إنه مهما يكن الوجه الذي ينظر به إلى هذه الجمهورية فإنه، عند قطع النظر عن اتساعها، يرى أن حكومتها ليست أكثر أرستقراطية من حكومتنا، والفرق كل الفرق هو في أنه إذ لم يكن لنا رئيس لمدى الحياة فإنه ليس لدينا الاحتياج عينه إلى القرعة.
ويكون للانتخابات بالقرعة قليل محذور في الديمقراطية الصحيحة، حيث يتساوى الجميع بالطبائع والمواهب تساويه بالمبادئ والنصيب؛ فيكون الاختيار خليا تقريبا، غير أنني قلت إنه لم توجد ديمقراطية صحيحة قط.
وإذا مزج بين الاختيار والقرعة وجب أن يملأ الأول المراكز التي تقتضي مواهب خاصة كالخدم العسكرية، ويلائم الأمر الآخر المراكز التي يكفي فيها الرشاد والعدل والنزاهة كالمناصب القضائية؛ وذلك لأن هذه الصفات مشتركة بين جميع المواطنين في الدولة الحسنة التنظيم.
ولا مكان في الحكومة الملكية للقرعة ولا للتصويت، فبما أن الملك هو الأمير الوحيد والحاكم الفريد عن حق فإن اختيار عماله أمر خاص به وحده، وحينما اقترح شماس سان بيير تكثير مجالس ملك فرنسة وانتخاب أعضائها بالتصويت السري لم يبصر أنه اقترح تغيير شكل الحكومة.
وعلي أن أتكلم عن طريقة إعطاء الأصوات وجمعها في مجلس الشعب، ولكن من المحتمل أن قصة النظام الروماني من هذه الناحية توضح بما هو أكثر بروزا جميع القواعد التي أستطيع وضعها، وليس مما لا يناسب القارئ الأريب أن يبصر مع قليل من التفصيل كيف تعالج الشئون العامة والخاصة في مجلس مؤلف من مئتي ألف رجل.
الفصل الرابع
مجالس الشعب الرومانية
ليس لدينا آثار وثيقة عن أزمنة رومة الأولى، حتى إن الظاهر يدل دلالة كبيرة على أن معظم الأمور التي تروى عن ذلك هي من الأقاصيص،
1
وإذا ما نظر إلى الأمر على العموم وجد أن أكثر أقسام حوليات الشعوب إمتاعا، وهو تاريخ تأسيسها، هو أكثر ما نفتقر إليه، وتعلمنا التجربة كل يوم أي الأسباب تنشأ عنها ثورات الإمبراطوريات، ولكن بما أنه عاد لا يؤلف شعوب فإنه ليس لدينا غير فرضيات غالبا لإيضاح كيفية قيامها.
وتدل العادات، التي نجدها قائمة، على الأقل، على وجود أصل لهذه العادات، وما يرجع إلى هذه الأصول من روايات، وما يدعمه منها أعظم الثقات وما يؤيده أقوى الأدلة، يجب أن يعد صحيحا كثيرا، وهذه هي القواعد التي حاولت اتباعها ببحثي عن كيفية ممارسة أكثر شعوب الأرض حرية وقوة سلطته العليا.
وتقوم رومة، فتقسم الجمهورية الناشئة، أي جيش مؤسسها المؤلف من ألبين وسابين وأجانب، إلى ثلاث طبقات حملت اسم قبائل بهذا التقسيم، ثم قسمت كل واحدة من هذه القبائل إلى عشر عشائر، وقسمت كل واحدة من هذه العشائر إلى فصائل يكون فوقها رؤساء.
وإذا عدوت هذا وجدت أنه استخلص من كل قبيلة كوكبة مؤلفة من مائة فارس أو خيال ومسماة مئوية يرى بها أن هذه الأقسام غير الضرورية كثيرا في مدينة لم تكن غير عسكرية في البداءة، ولكنه يظهر أن غريزة عظمة كانت تحمل مدينة رومة الصغيرة على اتخاذها مقدما ضابطة مناسبة لعاصمة العالم.
ولسرعان ما نشأ عن هذا التقسيم الأول محذور، وذلك أن قبيلتي الألبين
2
والسابين
3
إذ بقيتا على ذات الحال دائما، على حين كانت قبيلة الغرباء
4
تزيد بلا انقطاع بتزاحم الغرباء الدائم على رومة، لم تلبث هذه القبيلة الأخيرة أن فاقت الأخريين قوة، وقد قام الدواء الذي وجده سرفيوس لهذا المحذور الخطر على تغيير التقسيم، وقد قام الدواء الذي وجده لمحذور العروق التي ألغاها على إقامة عرق آخر من أحياء هذا المصر التي يشغلها كل قبيلة، وهو قد أحدث أربع قبائل بدلا من ثلاث فجعل كل واحدة منها تشغل أحد تلال رومة وتحمل اسمه، وهكذا يكون بمعالجته التفاوت الحاضر قد تلافاه من أجل المستقبل أيضا، وهو، لكيلا يكون هذا التقسيم عن الأحياء وحدها، بل عن الناس أيضا، قد حظر على أهل أحد الأحياء أن ينتقلوا إلى حي آخر، وهذا ما حال دون اختلاط العروق.
وقد ضاعف مئويات الفرسان الثلاث القديمة وأضاف إليها اثنتي عشرة أخرى، ولكن بأسماء قديمة دائما، أي اتخذ هذه الوسيلة البسيطة الصائبة فوفق لتمييز ما بين كوكبة الفرسان والشعب من غير أن يؤدي إلى تذمر هذا الأخير.
وإلى هذه القبائل الأربع المدنية أضاف سرفيوس خمس عشرة أخرى سميت قبائل ريفية؛ وذلك لأنها ألفت من سكان الريف الموزعين بين خمس عشرة مقاطعة، وقد أحدث خمس عشرة أخرى فيما بعد، فوجد الشعب الروماني مقسما بين خمس وثلاثين قبيلة في نهاية الأمر، أي إلى هذا العدد الذي ظلت باقية عليه حتى نهاية الجمهورية.
ونشأ عن هذا التفريق بين قبائل المدن وقبائل الريف أمر يستحق أن يلاحظ؛ وذلك لعدم وجود ما يماثله في مكان آخر مطلقا، ولأن رومة مدينة له بحفظ أخلاقها وتوسع إمبراطوريتها، وقد يظن أن القبائل المدنية لم تلبث أن انتحلت السلطان والشرف ولم تعتم أن استذلت القبائل الريفية، والعكس هو ما وقع تماما، ومما يعرف ذوق الرومان الأولين حول الحياة الريفية، وقد أتاهم هذا الذوق من المؤسس الحكيم الذي جعل الحرية تسير بجانب الأعمال الريفية والعسكرية، والذي أبعد الفنون والحرف والدسيسة والثراء والعبودية إلى المدينة.
وهكذا بما أن جميع أبناء رومة الممتازين كانوا يعيشون في الحقول ويزرعون الأرضين فإن النفس وطنت على عدم البحث هنالك عن غير دعائم الجمهورية، وبما أن هذه الحال هي حال أحسن الأشارف فإنها أكرمت من قبل جميع العالم، ففضلت حياة القرويين البسيطة الشاقة على حياة برجوازية رومة المتوانية البطالة، ولم يكن غير صعلوك تعس في المدينة ذلك الذي صار مواطنا محترما بالزراعة في الحقول، ومن قول فارون: إنه ليس من غير سبب إقامة أجدادنا السراة في القرية منبت أولئك الرجال الضلع الشجعان الذين كانوا يدافعون عنهم أيام الحرب ويطعمونهم أيام السلم. ويقول بليني مؤكدا: إن قبائل الحقول كانت تكرم بسبب الرجال الذين تؤلف منهم، وذلك بدلا من أن ينقل إلى قبائل المدينة عن عار جميع الأنذال الذين يراد إذلالهم، ولما جاء السابيني أبيوس كلوديوس ليقيم برومة غمر فيها بضروب الإكرام وسجل في قبيلة ريفية اتخذت اسم عائلته فيما بعد، وأخيرا كان جميع العتقاء يدخلون في القبائل المدنية، لا في القبائل الريفية مطلقا، ولا يوجد في جميع العهد الجمهوري مثال واحد لواحد من هؤلاء العتقاء بلغ أي منصب قضائي وإن أصبح مواطنا.
وكانت هذه القاعدة رائعة، غير أنه بلغ من استبعادها ما نشأ عنه تغيير وسوء استعمال في النظام السياسي لا ريب.
والرقباء بعد أن انتحلوا، أولا، ولطويل زمن، حق نقل المواطنين من قبيلة إلى أخرى نقلا مراديا أباحوا لمعظم الأشخاص أن يسجلوا أنفسهم في القبيلة التي تروقهم، ولم تكن هذه الإباحة صالحة لا ريب، وكانت تنزع نابضا من أعظم نوابض الرقابة، ثم بما أن جميع الكبراء والأقوياء كانوا يسجلون أنفسهم في قبائل الريف، وبما أن العتقاء الذين صاروا مواطنين ظلوا مع الرعاع ضمن قبائل المدينة، عاد لا يكون للقبائل للقبائل على العموم معنى المكان ولا الأرض، غير أنها كانت من شدة الاختلاط ما عاد لا يمكن معه تمييز أعضاء كل واحدة منها بغير السجلات، فانتقل بذلك مدلول كلمة «القبيلة» من حقيقي إلى شخصي، أو أصبح وهميا تقريبا.
وقد حدث أيضا ظهور قبائل المدينة، وهي ما يمكن التقرب إليه، أكثر القبائل قوة في مجالس الشعب غالبا، وبيعها الدولة ممن يتفضلون باشتراء أصوات الأوباش الذين تتألف منهم.
وبما أن المؤسس جعل عشر عشائر في كل قبيلة فإن جميع الشعب الروماني، المحاط بأسوار المدينة حينئذ، كان مؤلفا من ثلاثين عشيرة، فكان لكل واحد منها معابدها وآلهتها وموظفوها وكهنتها وأعيادها المسماة كنبيتالية والمشابهة للبغانالية التي اتفقت للقبائل الريفية فيما بعد.
ولما قام سرفيوس بتقسيمه الجديد، ولم يمكن تقسيم الثلاثين عشيرة بين قبائله الأربع على التساوي، لم يرد مسها قط، فأصبحت العشائر المستقلة عن القبائل تقسيما آخر لسكان رومة، بيد أنه لم يكن موضع بحث عن العشائر قط في القبائل الريفية ولا في الشعب الذي كانت تتألف منه، وذلك بما أن القبائل صارت نظاما مدنيا صرفا، وبما أنه أدخل نظام جديد لجمع الكتائب وجدت فرق رومولوس العسكرية أمرا لا طائل فيه، وهكذا كان يوجد كثير ممن ليسوا أعضاء عشيرة وإن سجل كل مواطن في قبيلة.
وكذلك قام سرفيوس بتقسيم ثالث لا صلة بينه وبين التقسيمين السابقين مطلقا، فأصبح بنتائجه أهم من الجميع؛ فقد وزع جميع الشعب الروماني بين ست طبقات لم يفرق فيها بالمكان ولا بالإنسان، بل بالمال، فملئت الطبقات الأولى بالأغنياء وملئت الطبقات الأخيرة بالفقراء وملئت الطبقات المتوسطة بمن يتمتعون بثروة معتدلة، وقد قسمت هذه الطبقات الست إلى 193 هيئة أخرى مسماة مئويات، وقد بلغت هذه الهيئات من التوزيع ما احتوت الطبقة الأولى وحدها معه أكثر من نصفها وما اشتملت الأخيرة معه على واحدة منها فقط، وهكذا كان أقل الطبقات عددا في الرجال أكثرها مئويات، وهكذا لم تعد الطبقة الأخيرة بأكملها غير شعبة مع احتوائها وحدها أكثر من نصف سكان رومة.
وأريد أن يكون الشعب أقل نفوذا إلى نتائج هذا الشكل الأخير، فحاول سرفيوس منحه مسحة عسكرية فأدخل إلى الطبقة الثانية مئويتين من السلاحيين، وأدخل إلى الطبقة الرابعة مئويتين من صانعي آلات الحرب، وإذا عدوت الطبقة الأخيرة وجدته في كل طبقة قد ماز الشباب من الشيب، أي ماز من هم ملزمون بحمل السلاح ممن تعفيهم القوانين منه بسبب السن، وكان هذا التمييز هو الذي يقتضي في الغالب تكرارا للإحصاء أو التعداد أكثر مما كان يقتضيه تمييز الثراء، وأخيرا أراد انعقاد المجلس في ميدان مارس، وأن يأتيه جميع من هم في سن الخدمة مع أسلحتهم.
والسبب في عدم اتباعه في الطبقة الأخيرة ذلك التفريق بين الشبان والشيب هو أن الرعاع المؤلفة منهم كانوا لا يمنحون شرف حمل السلاح في سبيل الوطن، فكان لا بد للرجل من دار نيلا لحق الدفاع عنه، ولم يوجد، على ما يحتمل، من زمر الصعاليك هذه التي لا يحصيها عد، والتي تزدهي بها جيوش الملوك في الوقت الحاضر، واحدة كانت لا تطرد مع الازدراء من فوج روماني حين كان الجنود حماة الحرية.
وفي الطبقة الأخيرة أيضا ميز على الخصوص بين الصعاليك ومن كانوا يدعون
capite censi ، فالأولون، الذين لم يدفعوا تماما، كانوا يمنحون الدولة مواطنين على الأقل، حتى إنهم كانوا يمنحون أحيانا جنودا عند الحاجة الملحة، وأما الذين كانوا يدفعون فلا يمكن تعدادهم بغير رءوسهم فقد كانوا يعدون شيئا غير مذكور، وكان ماريوس أول من تفضل بقبولهم في الجندية.
وإني، من غير أن أقرر هنا: هل كان هذا التعداد الثالث حسنا أو سيئا في ذاته، أعتقد أنه يمكنني أن أؤكد أنه لا يوجد غير أخلاق الرومان الأولين البسيطة وخلوهم من الغرض وميلهم إلى الزراعة وازدرائهم للتجارة ورغبتهم في الكسب ما يستطيع أن يجعله أمرا يسيرا، وأين هو الشعب الحديث الذي يستطيع ما عنده من الجشع الجامح والروح الجزوع والمكيدة والانتقالات الدائمة وتحولات الثروة المستمرة أن يدع مثل هذا النظام يدوم عشرين عاما من غير قلب جميع الدولة رأسا على عقب؟ حتى إنه يجب أن يلاحظ أن الأخلاق والرقابة إذ كانتا أقوى من هذا النظام فإنهما أصلحتا معايبه في رومة وجعلتا الغني يرى نفسه مبعدا في طبقة الفقراء عند إفراطه في عرض غناه.
ويمكن من جميع ما تقدم أن يدرك بسهولة ما السبب في أنه لم يذكر من الطبقات غير خمس تقريبا مع أنه كان يوجد ست طبقات بالحقيقة، فبما أن الطبقة السادسة لم تقدم جنودا إلى الجيش، ولم تصوت في ميدان مارس،
5
ولم تكن ذات عمل في الجمهورية غالبا، فإن من النادر أن كانت شيئا مذكورا.
وتلك هي تقسيمات الشعب الروماني المختلفة، ولننظر الآن إلى الأثر الذي أسفرت عنه في المجالس، وكانت هذه المجالس التي تدعى إلى الاجتماع شرعيا تسمى كوميسات، وكانت تجتمع عادة في ساحة رومة أو ميدان مارس، وكانت تماز بكوميسات عن عشائر وكوميسات عن مئويات وكوميسات عن قبائل، وذلك على حسب الشكل الذي كانت تجمع به من هذه الأشكال الثلاثة، وإن الكوميسات عن عشائر كانت من وضع رومولوس، وإن الكوميسات عن مئويات من وضع سرفيوس، وإن الكوميسات عن قبائل من وضع محامي الشعب، وما كان لقانون أن ينال تأييدا، وما كان لحاكم أن ينتخب، إلا في الكوميسات، وبما أنه لا يوجد مواطن غير مسجل في عشيرة أو مئوية أو قبيلة فإنك لم تجد مواطنا محروما حق التصويت، فكان الشعب الروماني سيدا حقا وفعلا لا ريب.
وكان لا بد من ثلاثة شروط لاجتماع الكوميسات شرعيا، ولنيل ما يقرر فيها قوة القانون، فالشرط الأول هو أن يكون الشخص أو الحاكم الذي يدعوها صاحبا للسلطة الضرورية في هذا السبيل، والشرط الثاني هو أن يقع اجتماع المجلس في يوم يسمح به القانون، والشرط الثالث هو أن تكون الهواتف ملائمة.
ولا يحتاج سبب النظام الأول إلى إيضاح، والنظام الثاني من شأن الضابطة، وهكذا كان لا يباح اجتماع الكوميسات يوم عيد أو يوم سوق، أي في يوم يأتي فيه أهل الأرياف إلى رومة لقضاء أمورهم فلا يكون لديهم من الوقت ما يقضون معه يومهم في الميدان العام، وبالنظام الثالث كان السنات يكبح جماح شعب مختال شموس فيلطف حميا محامي الشعب المشاغبين، غير أن هؤلاء المحامين كانوا يجدون غير وسيلة للخلاص من هذا العائق.
ولم تكن القوانين وانتخاب الرؤساء كل ما هو خاضع لحكم الكوميسات، فبما أن الشعب الروماني اغتصب أهم وظائف الحكومة فإن من الممكن أن يقال: إن مصير أوربة نظم بمجالسه، وكان تنوع الموضوع هذا يفسح في المجال لمختلف الأشكال التي تتخذها هذه المجالس وفق المواد التي كان يجب أن تقضي فيها.
وكان يكفي أن يقابل بين مختلف الأشكال هذه ليحكم فيها، وكان رومولوس، بإقامته العشائر، يهدف إلى ردع السنات بالشعب وردع الشعب بالسنات مهيمنا عليهما بالتساوي، فمنح الشعب بهذا الشكل، إذن، كل ما للعدد من سلطان ليوازن ما ترك للأشارف من سلطان القوة والغنى، غير أنه ترك، وفق روح الملكية مع ذلك، للأشارف منافع كثيرة بنفوذ تابعيهم في أكثرية الأصوات، فكان نظام السادة والتابعين العجيب هذا من روائع السياسة والإنسانية، وما كان ليمكن بدونه بقاء طبقة الأشارف المخالفة لروح الجمهورية كثيرا، وكان لرومة وحدها شرف منح العالم هذا المثال الجميل الذي لم ينشأ عنه سوء استعمال قط، والذي لم يتبع قط مع ذلك.
وبما أن شكل العشائر ذلك بقي في عهد الملوك حتى زمن سرفيوس، وبما أن عهد آخر تاركني لم يعد شرعيا قط، فإن هذا ماز القوانين الملكية، على العموم، باسم شرائع الحاشية الملكية .
وبما أن العشائر في العهد الجمهوري كانت مقصورة على العشائر المدنية الأربع دائما، وبما أنها عادت لا تشتمل على غير رعاع رومة، فإنها كانت لا تلائم السنات الذي كان على رأس الأشارف، ولا محامي الشعب الذين، وإن كانوا من العوام، كانوا على رأس المواطنين الموسرين، ولذلك زال نفوذ العشائر، وقد بلغت من الهوان ما صار حملة فئوسهم الثلاثون يصنعون معه ما كان على المجالس عن عشائر أن تصنعه.
وكان التقسيم عن مئويات من ملاءمة الأرستقراطية ما يبصر معه في البداءة كيف أن السنات يفوز دائما في الكوميسات التي كانت تحمل هذا الاسم والتي كان ينتخب بها القناصل والرقباء وغيرهم من الحكام ذوي الكراسي العاجية، والواقع أن الطبقة الأولى إذ كانت تشتمل على ثمان وتسعين مئوية من المئويات ال 193 التي كانت تتألف منها طبقات جميع الشعب الروماني الست، وأن الأصوات إذ كانت لا تحصى إلا عن مئويات، فإن تلك الطبقة الأولى وحدها هي التي كانت تفوز على جميع الأخرى بعدد الأصوات، وحينما كان جميع هذه المئويات على اتفاق لم يداوم حتى على جمع الأصوات، وما كان يقرره العدد الأقل يعد قرار الكثرة، فيمكن أن يقال: إن الأمور في الكوميسات عن مئويات كانت تنظم وفق أكثرية البدرات
6
أكثر مما وفق أكثرية الأصوات.
بيد أن هذا السلطان المتناهي كان يعدل بوسيلتين: فالأولى هي أن محامي الشعب إذ كانوا من طبقة الأغنياء عادة، وعن عدد كبير من العوام دائما، فإنهم كانوا يوازنون نفوذ الأشارف في الطبقة الأولى.
وكانت الوسيلة الثانية تقوم على ما يأتي، وذلك أنه بدلا من أن تحمل المئويات على التصويت وفق ترتيبها، وهذا يعني البدء بالأولى، كان يصار إلى اختيار واحدة بالقرعة فتأخذه هذه
7
وحدها في الانتخاب، فإذا ما وقع هذا كررت جميع المئويات، التي تدعى ليوم آخر على حسب درجتها، ذات الانتخاب وأيدته عادة، وهكذا كان ينزع سلطان المثال من المرتبة لتعطاه القرعة وفق مبدأ الديمقراطية.
وكان ينشأ عن هذه العادة فائدة أخرى أيضا، وهي أن كان لمواطني الأرياف من الوقت بين الانتخابين ما يبحثون في أثنائه عن مزايا المرشح الذي عين موقتا فلا يعطون أصواتهم من غير معرفة للأمر، بيد أن هذه العادة أبطلت بحجة السرعة فيقع الانتخابان في اليوم نفسه.
وكانت الكوميسات عن قبائل مجلس الشعب الروماني ضبطا، وكانت تدعى من قبل محامي الشعب وحدهم، وفي هذه المجالس كان محامو الشعب ينتخبون ويعرضون استفتاءاتهم، ولم يكن للسنات حق حضورها فضلا عن عدم وجود مرتبة له فيها، وبما أن أعضاء السنات ملزمون بإطاعة قوانين لم يستطيعوا التصويت لها فإنهم كانوا أقل حرية من آخر المواطنين، وقد أسيء تمثل هذا الحيف تماما، فكان يكفي وحده لإبطال مراسيم هيئة لم يقبل جميع أعضائها فيها، ولو كان لجميع الأشارف أن يحضروا هذه الكوميسات وفق حقهم كمواطنين لبدوا أفرادا حينئذ ولم يؤثروا قط في طراز أصوات تجمع على حسب الرءوس فيكون لأحقر الصعاليك من القدرة ما لأقطاب السنات.
وإذا عدوت النظام الذي كان ينشأ عن هذه التوزيعات المختلفة لجمع أصوات شعب بالغ تلك العظمة أبصرت، إذن، أن هذه التوزيعات لم تتحول إلى أشكال غير مكترثة بنفسها، وإنما ترى أن كل واحد منها ذو نتائج مناسبة للأغراض التي كانت تجعله مفضلا.
وإنا، من غير خوض في الجزئيات أكثر من ذلك، نرى أنه يستنتج من الإيضاحات السابقة كون الكوميسات عن قبائل أكثر ملاءمة للحكومة الشعبية وكون الكوميسات عن مئويات أكثر ملاءمة للأرستقراطية، وأما الكوميسات عن عشائر، حيث تكون الأكثرية لرعاع رومة وحدهم، فبما أنها لم تكن صالحة لغير مساعدة الطغيان والمقاصد السيئة فإنه وجب خسرانها حسن الذكر، حتى إن المشاغبين أحجموا عن استعمال وسيلة كهذه كانت تفضح خططهم كثيرا، ولا مراء في أن جميع جلال الشعب الروماني تجلى في الكوميسات المئوية التي كانت شاملة وحدها؛ وذلك لأن الكوميسات عن عشائر كانت لا تشتمل على القبائل الريفية، ولأن الكوميسات عن قبائل كانت لا تشتمل على السنات والأشارف.
وأما طراز جمع الأصوات فقد كان لدى الرومان الأولين من البساطة كطبائعهم وإن كانت دون ما في إسبارطة، وكان كل واحد يعطي صوته عاليا فيقيده كاتب، وكانت أكثرية الأصوات في كل قبيلة تعين أصواتها، وكانت أكثرية الأصوات بين القبائل تعين أصوات الشعب، وقل مثل هذا عن العشائر والمئويات. أجل، إن هذه العادة حسنة ما ساد الصلاح بين المواطنين فيستحي كل واحد من إعطاء صوته جهرا لرأي مخالف للإنصاف أو لتابع غير أهل، ولكن الشعب عندما فسد وصارت الأصوات تشترى صار من الملائم أن تعطى سرا زجرا للمشترين بعدم الثقة، وتجهيزا للخبثاء بوسائل عدم الخيانة.
وأعلم أن شيشرون ذم هذا التحول، وعزا إليه خراب الجمهورية من بعض الوجوه، غير أني وإن كنت أشعر بوزن حجة شيشرون هنا، لا أشاركه رأيه، وعلى العكس أرى أن زوال الدولة عجل بعدم اتخاذ مثل هذه التحولات بدرجة الكفاية، وبما أن نظام الأصحاء لا يلائم المرضى فإنه لا ينبغي أن يراد الحكم في شعب فاسد بقوانين ملائمة لشعب صالح، ولا شيء يثبت هذه القاعدة أكثر من دوام جمهورية البندقية التي لا يزال هيكلها قائما لكون قوانينها لا تلائم غير الخبثاء.
ولذا وزعت على المواطنين رقاع كان يمكن كل واحد أن يصوت بها من غير أن يعرف رأيه، ووضعت أيضا شكليات جديدة لجمع الرقاع وعد الأصوات والمقابلة بين الأعداد، إلخ، ولم يمنع هذا من الشك غالبا في إخلاص الموظفين الذين عهد إليهم في القيام بهذه الأعمال،
8
وأخيرا وضعت مراسيم لمنع المكايد والسحت دلت كثرتها على عدم فائدتها.
ولما دنا الوقت الأخير (للجمهورية) قضت الضرورة في الغالب بأن يلجأ إلى وسائل غير عادية تلافيا لعدم كفاية القوانين، فكانت العجائب تفترض أحيانا، غير أن هذه الوسيلة، التي كان يمكن أن تخدع الشعب، لم تكن لتخدع من يحكمون فيه، وكان يدعى مجلس بغتة في بعض الأحيان، وذلك قبل أن يكون لدى المرشحين من الوقت ما يقومون فيه بشغبهم، وكان يقضى اجتماع بكامله في الكلام عندما يرى الشعب المنال مستعدا لاتخاذ وضع سيئ، ولكن الطموح زاغ عن كل شيء في نهاية الأمر، وكل ما لا يمكن تصديقه هو أن هذا الشعب العظيم كان بين كثير من سوء الاستعمال لا ينقطع، بفضل نظمه القديمة، عن انتخاب الحكام وسن القوانين والقضاء في الدعاوي وإنجاز الأعمال الخاصة والعامة، وذلك بمثل السهولة التي كان السنات نفسه يستطيع أن يأتيها.
الفصل الخامس
المحاماة عن الشعب
إذا تعذر وضع نسبة صحيحة بين الأقسام التي تتكون منها الدولة، أو إذا وجد من الأسباب ما لا تمكن إزالته فيغير باستمرار ما بين تلك الأقسام من صلة، أقيمت حاكمية خاصة غير متحدة بالأخرى مطلقا، ويرد هذا كل حد إلى علاقته الحقيقية بالأخرى، فيحدث رابطة، أو حدا متوسطا إما بين الأمير والشعب، وإما بين الأمير والسيد، وإما بين الأمرين معا عند الضرورة.
وهذه الهيئة التي أدعوها «محاماة عن الشعب» هي الحافظة للقوانين وللسلطة الاشتراعية، وهي تنفع أحيانا لحماية السيد تجاه الحكومة كما كان محامو الشعب يصنعون في رومة، وهي تنفع أحيانا لتأييد الحكومة تجاه الشعب كما يصنع مجلس العشرة اليوم في البندقية، وهي تنفع أحيانا لحفظ التوازن بين قسم وآخر كما كان حفظة النظام بإسبارطة يصنعون.
وليست المحاماة عن الشعب قسما مكونا للمدينة، ولا ينبغي أن يكون لها نصيب في السلطة الاشتراعية، ولا في السلطة التنفيذية، ولكن هذا هو الذي يجعل لسلطانها النصيب الأكبر؛ وذلك لأنها تقدر على منع كل شيء مع أنها لا تستطيع صنع شيء، وهي كمدافعة عن القوانين أقدس وأجل من الأمير الذي ينفذها ومن السيد الذي يمنحها، وهذا ما رئي واضحا في رومة عندما أكره الأشارف المختالون، الذين احتقروا الشعب بأسره دائما، على الانحناء أمام موظف شعبي بسيط عاطل من الاعتبار والحكم.
وإذا ما عدلت المحاماة عن الشعب بحكمة كانت أقوى دعامة لنظام صالح، ولكن قوتها إذا زادت قليلا قلبت كل شيء رأسا على عقب، وليس الضعف من طبيعتها، وهي ليست دون ما ينبغي أن تكون على أن تكون شيئا.
وهي تنحط إلى طغيان عند غصبها السلطة التنفيذية التي ليست غير معدلة لها وعندما تستغني عن القوانين التي لا ينبغي أن تفعل غير الدفاع عنها، وما كان يتمتع به حفظة النظام من سلطان عريض، لا خطر فيه ما حافظت إسبارطة على أخلاقها، عجل فسادها المبدوء، وما سفك من دم أجيس الذي ذبحه هؤلاء الطغاة انتقم له من قبل وارثه، فجناية حفظة النظام وعقابهم عجلا زوال الجمهورية على السواء، وعادت إسبارطة لا تكون شيئا بعد كليئومن، وكذلك رومة هلكت بذات الطريقة، وأخيرا أفادت سلطة محامي الشعب المفرطة التي اغتصبت بالتدريج، وبمساعدة قوانين وضعت من أجل الحرية، كضمان للأباطرة الذين قضوا عليها، وأما مجلس العشرة في البندقية فهو محكمة دم ممقوتة لدى الأشراف والعوام بالتساوي، هو محكمة بعدت من صيانة القوانين علانية فعادت لا تنفع بعد انحطاطها لغير إنزال ضربات لا يجرؤ أحد على ملاحظتها.
ومحاماة الشعب، كالحكومة، ضعفت بزيادة أعضائها، ولما أراد محامو الشعب الروماني، الذين كانوا اثنين فصاروا خمسة، مضاعفة هذا العدد تركهم السنات يصنعون هذا معتقدا ردع بعضهم ببعض، وهذا ما وقع فعلا.
وأحسن وسيلة لمنع غصب هيئة هائلة بذلك المقدار، وهي وسيلة لم تتخذها أية حكومة حتى الآن، هو ألا تجعل هذه الهيئة دائمة، وإنما تنظم الفواصل التي يجب أن تبقى فيها معلقة، ويمكن هذه الفواصل، التي لا ينبغي أن تكون من الطول ما يدع لسوء الاستعمال وقتا يثبت فيه، أن تعين بالقانون، وذلك على وجه يسهل معه اختصارها عند الضرورة بلجان غير عادية.
وهذه الوسيلة بلا محذور كما يلوح لي؛ وذلك لأن محاماة الشعب ليست من النظام مطلقا فيمكن نزعها من غير تأثير في النظام، وتظهر لي هذه الوسيلة شافية؛ وذلك لأن الحاكم الذي يرجع إلى المنصب مجددا لا يشرع من السلطة التي مارسها سلفه، بل يشرع من السلطة التي يمنحه القانون إياها.
الفصل السادس
الحكم المطلق
يمكن صلابة القوانين، التي تحول دون ملاءمتها الحوادث، أن تجعلها ضارة في بعض الأحوال فتوجب هلاك الدولة في أزمتها، ويتطلب نظام الأشكال وبطؤها مدة من الزمن تأباها الأحوال في بعض الأحيان، وقد يظهر من الأحوال ألف لم يعالجه المشترع قط، فمن الفطنة اللازمة جدا أن يشعر بأنه لا يمكن أن يفطن إلى كل شيء.
ولا ينبغي، إذن، أن يبلغ من تمكين النظم السياسية ما يتعذر معه وقف عملها، حتى إن إسبارطة تركت قوانينها ترقد.
بيد أنه لا يوجد غير أعظم الأخطار ما يستطيع موازنة خطر تغيير النظام العام، ولا يجوز وقف سلطان القوانين المقدس إلا عندما يحيق الخطر بسلامة الوطن، ففي هذه الأحوال النادرة الواضحة يهب إلى السلامة العامة بقرار خاص يفوض أمرها به إلى الأكثر جدارة، وتفويض مثل هذا يمكن أن يقع على وجهين وفق نوع الخطر.
وإذا كان يكفي أن يزاد نشاط الحكومة لمعالجة ذلك فإن السلطة تجعل قبضة واحد أو اثنين من أعضائها، وهكذا ليس سلطان القوانين هو الذي يغير، بل شكل إدارتها، وإذا كان الخطر من الحال ما يكون جهاز القوانين معه مانعا من ضمانها فإنه ينصب رئيس عال يسكت جميع القوانين ويقف السلطة ذات السيادة لحين، ولا شك حول الإرادة العامة في مثل هذه الحال، ومن الواضح أن مقصد الشعب الأول ألا تهلك الدولة، وهكذا لا يعني وقف السلطة الاشتراعية إلغاءها، فالحاكم الذي يسكنها لا يستطيع حملها على الكلام، وهو يسودها من غير أن يقدر على تمثيلها، وهو يستطيع أن يصنع كل شيء خلا وضع القوانين.
وقد اتخذ السنات الروماني الوسيلة الأولى حينما عهد إلى القناصل بصيغة مرسومة أن يعالج سلامة الجمهورية، وقد اتخذت الوسيلة الثانية حينما كان أحد القنصلين يعين حاكما مطلقا،
1
أي يلجأ إلى عادة استعارتها رومة من ألبا.
وكان يلجأ إلى الحكم المطلق في أوائل الجمهورية غالبا؛ وذلك لأنه لم يكن للدولة بعد قاعدة ثابتة بدرجة الكفاية لتستطيع البقاء بقوة نظامها فقط.
وبما أن الأخلاق كانت تجعل في ذلك الحين غير ذي طائل كثيرا من التحفظات يكون ضروريا في زمن آخر فإنه كان لا يخشى أن يسيء حاكم مطلق استعمال سلطانه أو أن يحاول الاحتفاظ به إلى ما بعد الأجل، وعلى العكس كان يلوح أن مثل هذه السلطة العظيمة عبء على عاتق من يتقلدها فيسرع في إلقائها عنه ، وذلك كما لو كان القيام مقام القوانين منصبا بالغ المشقة بالغ الخطر.
ولذلك فإن خطر الهوان، لا خطر سوء الاستعمال، هو الذي يجعلني أذم عادة هذه الحاكمية العليا الطائشة في الأزمنة الأولى؛ وذلك أنه بينما كان يفرط فيها في الانتخابات والتقدمات والشكليات الخالصة كان يخشى ظهورها أقل هولا وقت الضرورة وأن يتعود عد اللقب الذي لا يستعمل في غير الرسميات الفارغة لقبا فارغا.
ويصبح الرومان أكثر احترازا في أواخر الجمهورية فيقتصدون في انتحال الحكم المطلق كما أسرفوا فيه قديما، ومن السهل أن يرى قيام تخوفهم على غير أساس، وكون ضعف العاصمة مدار سلامتها تجاه الحكام الذين تشتمل عليهم، وإمكان الحاكم المطلق أن يدافع في بعض الأحوال عن الحرية العامة من غير أن يستطيع تعريضها للخطر، وأن قيود رومة لا تطرق في رومة نفسها مطلقا، بل في جيوشها، وما كان من مقاومة ماريوس القليلة لسيلا وبونبي لقيصر يدل جيدا على ما يمكن أن ينتظر من السلطان في الداخل تجاه القوة من الخارج.
وقد دفع هذا الخطأ الرومان إلى اقتراف خطيئات عظيمة؛ ومنها أنه لم يعين حاكم مطلق في مؤامرة كاتيلينا، وذلك بما أن الأمر لم يشمل غير داخل المدينة، وولاية من إيطالية على الأكثر، فإن السلطة غير المحدودة التي تنعم بها القوانين على الحاكم المطلق كانت تمكنه من القضاء بسهولة على المؤامرة التي لم تطفأ إلا بمصادفات موفقة ما كانت بصيرة الإنسان لتنتظرها مطلقا.
والسنات، بدلا من ذلك، اكتفى بتسليم سلطانه إلى القناصل، ويرى شيشرون أن يسير سيرا فعالا فيضطر إلى زيادة سلطانه في أمر مهم، وإذا كان الفرح الشامل الأول قد أسفر عن استحسان سلوكه فإن من العدل أن طلب منه فيما بعد تقديم حساب عن دم المواطنين المسفوك خلافا للقوانين، أي عزر بما كان لا يعرض له حاكم مطلق أبدا، غير أن فصاحة هذا القنصل جرفت كل شيء، وقد كان يفضل مجده الخاص على وطنه على الرغم من رومانيته، فلم يبحث عن أكثر الوسائل شرعية وصحة لإنقاذ الدولة بحثه عن نيله لنفسه شرفا جامعا بصنعه ذلك،
2
ولذلك فقد مجد بحق منقذا لرومة كما عوقب بحق ناقضا للقوانين، ومهما كان من بريق في استدعائه ثانية لم يعد هذا كونه عفوا لا ريب.
ومع ذلك فمهما يكن الوجه الذي تقلد به تلك الوكالة المهمة فإنه يجب تحديد زمنها لأجل قصير جدا فلا تمكن إطالته مطلقا، ولا تلبث الدولة في الأزمات التي تؤدي إلى الحكم المطلق أن تزول أو تنقذ، فإذا ما انقضت الحاجة الملحة أصبح الحكم المطلق باغيا أو لاغيا، وبما أن الحكام المطلقين في رومة لم يكونوا كذلك إلا لستة أشهر فإن أكثرهم استعفى قبل حلول الأجل، وإذا كان أجلهم أطول من ذلك حاولوا إطالته على ما يحتمل، وذلك كما صنع الحكام العشرة عندما اختيروا لعام واحد، ولم يكن لدى الحاكم المطلق من الوقت غير ما اقتضته الحاجة التي أوجبت انتخابه، ولم يكن له أن يفكر في خطط أخرى.
الفصل السابع
الرقابة
كما أن إعلان الإرادة العامة يتم بالقانون، يتم إعلان الحكم العام بالرقابة، فالرأي العام هو نوع القانون الذي يديره الرقيب والذي يطبق على أحوال خاصة كالأمير.
فالمحكمة الرقابية تبعد، إذن، من أن تكون حكم رأي الشعب، وهي ليست غير معلنة له، وهي إذا ما ابتعدت عنه غدت قراراتها لاغية غير مؤثرة.
ومن العبث أن تماز أخلاق الأمة من مواضع احترامها، وذلك لتعلق هذا بذات المبدأ واختلاطه به بحكم الضرورة، ولا تجد في العالم أمة لا يكون الرأي العام، من دون الطبيعة، هو الذي يقرر اختيار ملاذها، وقوموا آراء الناس تروا أخلاقها تصفي نفسها بنفسها، وفي كل وقت يحب ما هو جميل أو الذي يوجد هكذا، غير أنه يخدع في هذا الحكم، وهذا الحكم هو الذي يجب تنظيمه، ومن يحكم في الأخلاق يحكم في الشرف، ومن يحكم في الشرف يجد قانونه في الرأي العام.
وتشتق آراء الشعب من نظامه، ومع أن القانون لا ينظم الأخلاق فإن الاشتراع هو الذي ينشئها، ومتى ضعف الاشتراع انحلت الأخلاق، ولكن حكم الرقباء حينئذ لا يصنع ما تعجز عن صنعه قوة القوانين، ومن ثم يمكن الرقابة أن تكون نافعة لحفظ الأخلاق، لا لإعادتها، على الإطلاق، وانصبوا رقباء في إبان قوة القوانين، فإذا ما فقدت هذه القوة زال كل أمل، ولا يستطيع سلطان شرعي أن يكون ذا قوة عندما تخسر القوانين قوتها.
والرقابة تحفظ الأخلاق بمنعها الآراء من الفساد، وبوقايتها استقامتها بتطبيقات حكيمة، وتثبيتها، أحيانا، ما بقيت متقلبة، وما كان من عادة اتخاذ مساعدين في المبارزات التي بلغت الحد الأقصى في مملكة فرنسة ألغي بالكلمات الآتية في مرسوم ملكي: «وأما الذين يكونون من النذالة ما يستدعون معه مساعدين»، فبما أن هذا الحكم قد سبق حكم الرأي العام فقد قرره من فوره، غير أن ذات المراسيم عندما أرادت أن تقول: إن الصراع في المبارزة نذالة، وهذا صحيح إلى الغاية، ولكن مع مخالفة للرأي الشائع، سخر الجمهور من هذا القرار في أمر كان قد أعطى حكمه فيه.
وقد قلت في مكان آخر:
1
إن الرأي العام ليس خاضعا لأي قسر مطلقا، ولا حاجة لأن يكون ذا أثر في المحكمة التي تقام لتمثيله، ومن المتعذر أن يعجب كثيرا بالفن الذي كان هذا النابض، الضائع لدى المعاصرين تماما، يستعمل به عند الرومان، وعند الإسبارطيين بما هو أحسن مما عند الرومان.
ولما قدم رجل سيئ الأخلاق رأيا حسنا إلى المجلس الإسبارطي أهمله حفظة النظام، وأوجبوا اقتراح عين الرأي من قبل مواطن صاحب فضيلة، فيا للشرف لأحدهما! ويا للخزي للآخر! وذلك من غير أن يمدح أو يعاب أي منهما! ومما حدث أن دنس سكارى من ساموس
2
محكمة حفظة النظام، فلما كان اليوم التالي أبيح لأهل ساموس، بمرسوم عام، أن يكونوا أقذارا، فلو فرض عقاب حقيقي لكان أقل شدة من عفو كهذا! ولما نطقت إسبارطة بما هو صالح وما هو غير صالح لم تستأنف بلاد اليونان أحكامها.
الفصل الثامن
الدين المدني
لم يكن للناس في البداءة ملوك غير الآلهة وحكومة غير الحكومة الإلهية، وقد أتوا مثل تعقل كاليغولا، وقد أصابوا في تعقلهم بذلك ، وكان لا بد من تغيير طويل في المشاعر والأفكار حتى يمكن الناس أن يتخذوا أمثالهم سادة لهم راجين أن يلاقوا خيرا من صنعهم ذلك.
ولذلك وحده وضع الرب على رأس كل مجتمع سياسي، ومن ثم كان يوجد من الآلهة من هم بعدد الشعوب، وما كان الشعبان الغريب أحدهما عن الآخر، المتعاديان دائما تقريبا، ليستطيعا أن يسلما بسيد واحد زمنا طويلا، وما كان الجيشان المتقاتلان ليستطيعا أن يطيعا رئيسا واحدا، وهكذا تؤدي التقسيمات القومية إلى تعدد الآلهة، ومن هنا نشأ عدم التسامح اللاهوتي والمدني الذي هو هو بحكم الطبيعة كما نرى ذلك فيما بعد.
وما كان من هوى الأغارقة في لقاء آلهتهم ثانية بين شعوب البرابرة نشأ عن أنهم كانوا يعدون أنفسهم سادة طبيعيين لهذه الشعوب أيضا، ولكنك لا تجد عبثا كلوذعية أيامنا المضحكة التي تطابق بين آلهة مختلف الأمم، كما لو كان يمكن مولك وساتورن وكرونوس أن يكونوا عين الإله، وكما لو كان يمكن بعل الفنيقيين وزوس الأغارقة وجوبيتر اللاتين أن يكونوا ذات الإله، وكما لو كان يمكن أن يبقى شيء مشترك بين موجودات وهمية تحمل أسماء مختلفة!
وإذا ما سئل عن عدم وجود حروب دينية مطلقا في أدوار الوثنية حين كان لكل دولة عبادتها وآلهتها، أجبت بأنه إذا كان لكل دولة عبادتها الخاصة، وحكومتها أيضا، فإنه لم يفرق بين آلهتها وقوانينها قط، وكانت الحرب السياسية لاهوتية أيضا، ولذلك كانت ولايات الآلهة معينة بحدود الأمم، ولم يكن لإله شعب أي حق على الشعوب الأخرى، ولم يكن آلهة الوثنيين آلهة غيرا فكانوا يقتسمون سلطان العالم فيما بينهم، حتى إن موسى والشعب العبري ذهبا إلى هذا الرأي أحيانا عند كلامهما عن إله إسرائيل. أجل، كانا يعدان آلهة الكنعانيين عاجزين، آلهة هؤلاء القوم ذوي الدم الطليل، والمحكوم عليهم بالهلاك، والذين كان بنو إسرائيل يطمعون في الاستيلاء على بلدهم، ولكن انظروا كيف كانوا يتكلمون عن آلهة الشعوب المجاورة الذين منعوا من من الهجوم عليهم، قال يفتاح لبني عمون: أليس أن ما يملكك إياه كموش إلهك إياه تملك، وجميع الذين طردهم الرب إلهنا من أمامنا إياهم نملك؟
1
فيظهر لي أن هذا اعتراف بأن حقوق كموش وحقوق إله إسرائيل متماثلة.
ولكن اليهود عندما خضعوا لملوك بابل، ثم لملوك سورية، أرادوا الإصرار على عدم الاعتراف بإله غير إلههم، فعد هذا الرفض تمردا على الغالب وأدى إلى ما نقرؤه في تاريخهم من اضطهادهم بما لا يرى له مثيل قبل النصرانية.
2
ولذلك، وبما أن كل دين مرتبط في قوانين الدولة التي أمرت به، فإنه لم يكن قط وجه آخر لهداية شعب غير استعباده، ولم يكن قط مبشرون آخرون غير الفاتحين، وبما أن وجوب تغيير العبادة قانون خضع له المغلوب فإنه كان من الضروري أن يبدأ بالانتصار قبل الحديث في ذلك التغيير، ومن البعيد أن يكون الناس قد قاتلوا في سبيل الآلهة. والآلهة، كما جاء في أوميرس، هم الذين قاتلوا في سبيل الناس، وكل كان يسأل إلهه أن ينصره فيقابله بهياكل جديدة، وكان الرومان قبل الاستيلاء على مكان ينذرون آلهته بمغادرته! وهم عندما تركوا لأهل تارانت آلهتهم الذين أغضبوا كان ذلك لأنهم عدوا هؤلاء الآلهة، حينئذ، خاضعين لآلهتهم مكرهين على تقديم الولاء إليهم، وهم قد تركوا للمغلوبين آلهتهم كما تركوا لهم قوانينهم، وكان وضع إكليل على جوبيتر بالكابيتول في الغالب الضريبة الوحيدة التي يفرضونها.
ثم لما وسع الرومان عبادتهم وآلهتهم مع إمبراطوريتهم، ولما انتحلوا في الغالب آلهة المغلوبين بمنحهم حق المدينة، وجد شعوب هذه الإمبراطورية الواسعة أنفسهم، على وجه غير محسوس، ذوي جموع من الآلهة والعبادات واحدة في كل مكان، وهكذا لم تعرف الوثنية في العالم المعروف غير دين واحد بعينه.
ففي هذه الأحوال أتى يسوع ليقيم على الأرض مملكة روحية، وهذا ما جعل الدولة، بفصله النظام اللاهوتي عن النظام السياسي، تكون غير واحدة فأوجب من الانقسامات الداخلية ما انفك يقلق الشعوب النصرانية، والواقع أن هذه الفكرة الجديدة لمملكة في العالم الآخر لم تستطع الدخول في رأس الوثنيين قط فعدوا النصارى عصاة حقيقيين، مع تظاهر هؤلاء بالخضوع، غير باحثين عن سوى الوقت الذي يكونون فيه سادة مستقلين فيغتصبون، بمهارة، السلطة التي تظاهروا باحترامها في أثناء ضعفهم، فكان هذا سبب الاضطهادات.
ويحدث ما خافه الوثنيون، وهنالك يغير كل شيء منظره، ويغير النصارى الوضعاء لهجتهم، ولسرعان ما رئيت مملكة العالم الآخر المزعومة تتحول إلى أعنف استبداد في هذه الدنيا تحت قيادة رئيس منظور.
ومع ذلك، وبما أنه وجد أمير وقوانين مدنية دائما، نشأ عن هذا السلطان المضاعف وتصادم الحاكمية في الدول النصرانية تعذر كل سياسة صالحة، ولم يوفق الناس قط لمعرفة أي الرجلين يلزمون بإطاعته: آلسيد أم القسيس؟
ومع ذلك فإن كثيرا من الشعوب، حتى في أوربة أو في جوارها، أراد حفظ النظام القديم أو إعادته، ولكن من غير نجاح؛ فقد سادت الروح النصرانية كل شيء، وقد ظلت العبادة المقدسة دائما، أو صارت ثانية، مستقلة عن السيد ومن غير ارتباط ضروري في كيان الدولة، وكانت لمحمد آراء صائبة جدا؛ فقد أحسن وصل نظامه السياسي، وذلك أن ظل شكل حكومته باقيا في عهد خلفائه، فكانت هذه الحكومة واحدة تماما، وصالحة إلى هذا الحد، غير أن العرب أصبحوا موسرين متعلمين مثقفين مترفين مرتخين فأخضعهم البرابرة، وهنالك بدأ الانقسام بين السلطتين، وهذا الانقسام، وإن كان أقل ظهورا بين المسلمين مما بين النصارى، موجود على كل حال، ولا سيما في شيعة علي، ويوجد من الدول كفارس، ما انفك يشعر به فيها.
وبيننا جعل ملوك إنكلترة أنفسهم رؤساء للكنيسة، ومثل هذا ما صنعه قياصرة روسية، غير أنهم بدوا بهذا اللقب سادة لها أقل مما بدوا قساوسة لها، وأنهم نالوا حق تغييرها أقل مما نالوا سلطة في حفظها، وهم ليسوا مشترعين لها، بل أمراؤها، والإكليروس، حيث يكون هيئة،
3
يظهر سيدا ومشترعا في وطنه، ولذلك يوجد سلطتان وسيدان في إنكلترة وروسية كما في غيرهما.
والفيلسوف هوبز، من بين جميع مؤلفي النصارى، هو الذي أبصر الشر جيدا وعالجه، وهو الذي جرؤ على اقتراح جمع رأسي النسر ورد كل شيء إلى الوحدة السياسية التي لا تكون الدولة، ولا الحكومة، حسنة التنظيم بغيرها، غير أنه وجب عليه أن يرى مناقضة الروح السائدة للنصرانية لنظامها وكون مصلحة القسيس أقوى من مصلحة الدولة دائما، وما اشتملت عليه نظريته السياسية من فظاعة وخطأ لم يجعلها ممقوتة
4
أكثر مما جعلها ما انطوت عليه من صواب وصحة.
وأرى أنه إذا ما فصلت الوقائع التاريخية وفق وجهة النظر هذه سهل رفض آراء بيل وواربورتن المتناقضة، فزعم أحدهما أنه لا يوجد من الأديان ما هو مفيد للكيان السياسي، وذهب الآخر إلى العكس فقرر أن النصرانية أقوى دعامة له، فللأول نثبت أنه لم تقم دولة من غير أن ينتفع بالدين أساسا لها، وللثاني نثبت أن ضرر الدستور النصراني في الأساس أكثر من نفعه لنظام الدولة المكين، وليس علي للإفصاح عما في نفسي أن أصنع غير إنعامي دقة أكثر قليلا في مبادئ الدين المبهمة الخاصة بموضوعي.
إذا نظر إلى الدين من حيث المجتمع، الذي يكون عاما أو خاصا أمكن أن يقسم إلى نوعين: دين الإنسان ودين المواطن؛ فالأول، العاطل من معبد وهياكل وطقوس والمقصور على عبادة الرب الأعلى الباطنية وعلى واجبات الأخلاق الأزلية، هو دين الإنجيل البسيط والتوحيد الحقيقي مع إنكار الوحي، وهو ما يمكن أن يسمى الحق الإلهي الطبيعي. والآخر، المسنون في بلد واحد، ينعم عليه بآلهته وحماته الحافظين، وله عقائده وطقوسه وعبادته الظاهرية المفروضة بقوانين، فإذا عدوت الأمة الوحيدة التي تتبعه عد جميع العالم في نظره كافرا غريبا بربريا، وهو لا يجعل واجبات الإنسان وحقوقه شاملة لما وراء هياكله، فهذا هو شأن جميع أديان الشعوب الأولى، وهي ما يمكن أن يطلق عليها اسم الحقوق الإلهية المدنية أو الوضعية.
ويوجد للدين نوع ثالث أكثر غرابة؛ فهو يمنح الناس اشتراعين ورئيسين ووطنين، ويجعلهم خاضعين لواجبات متناقضة، ويحول دون كونهم عابدين ومواطنين معا، شأن دين اللاما ودين اليابان، والنصرانية الرومانية، وهي ما يمكن أن تسمى دين الكاهن، وينشأ عن هذا ضرب من الشرائع المختلطة النافرة التي لا اسم لها مطلقا.
وإذا ما نظر إلى هذه الأنواع الثلاثة للأديان من الناحية السياسية وجدت معايب لجميعها، ويبلغ الدين الثالث من السوء الواضح ما يعد من ضياع الوقت معه أن يتلهى بإثباته، فلا قيمة لكل ما يقضي على الوحدة الاجتماعية، ولا تساوي شيئا جميع النظم التي تجعل الإنسان مناقضا لنفسه.
ويكون الدين الثاني صالحا من حيث كونه يجمع بين العبادة الإلهية وحب القوانين، وهو، إذ يجعل من الوطن موضع عبادة المواطنين، يعلمهم أن خدمة الدولة تعني خدمة الإله الحافظ، وهذا ضرب من الحكومة الإلهية التي لا يمكن أن يكون فيها حبر غير الأمير، ولا كهنة غير الحكام، وهنالك يكون موت الإنسان في سبيل بلده شهادة، ويكون انتهاك القوانين إلحادا، ويكون تعريض المذنب للعنة العامة هدفا لغضب الآلهة، (فكن صالحا).
بيد أنه سيئ من حيث قيامه على الخطأ والكذب فيخادع الناس ويجعلهم وابصات
5
سمع وخرافيين، ويغرق عبادة الألوهية الصحيحة في طقوس فارغة، وهو يكون سيئا أيضا عندما يصبح مانعا لسواه باغيا فيجعل الشعب سفاكا متعصبا لا يتنفس بغير الذبح والقتل، ويرى أنه يقوم بعمل مقدس بقتله كل من لا يؤمن بآلهته، وهذا ما يضع مثل هذا الشعب في حال طبيعية للحرب تجاه جميع الشعوب الأخرى فيجعل سلامته الخاصة في خطر عظيم.
ولذلك لا يبقى غير دين الإنسان أو النصرانية، لا نصرانية اليوم، بل نصرانية الإنجيل التي تختلف عنها اختلافا تاما، فبهذا الدين المقدس الرفيع الصحيح يعترف الناس، الذين هم أبناء رب واحد، بأنهم إخوة جميعا، ولا ينحل المجتمع الذي يوحد بينهم حتى القتل.
ولكن بما أنه لا يوجد لهذا الدين أي صلة خاصة بالهيئة السياسية فإنه يترك للقوانين ما تستخرجه من نفسها من قوة، وذلك من غير إضافة شيء إليها، ومن ثم تظل إحدى روابط المجتمع الخاص العظيمة بلا عمل، ثم يبعد ذلك الدين من ربط أفئدة المواطنين بالدولة، وهو يفصلها عنها كما يفصلها عن جميع أمور الأرض، فلا أعرف ما هو أكثر مخالفة منه للروح الاجتماعية.
ويقال لنا: إن شعبا مؤلفا من نصارى صادقين يؤلف أكمل مجتمع يمكن تصوره، ولا أجد في هذا الافتراض غير صعوبة كبيرة، وذلك أن مجتمعا مؤلفا من نصارى يعود غير مجتمع من الناس.
حتى إنني أقول: إن هذا المجتمع المفترض لا يكون عند كماله أقوى المجتمعات ولا أكثرها دواما، فبكماله يفقد الارتباط، ويكون عيبه الهدام في نفس كماله.
أجل، يقوم كل واحد بواجبه، ويخضع الشعب للقوانين، ويكون الرؤساء عادلين معتدلين، ويكون الحكام صالحين عفيفين، ويستخف الجند بالموت، ولا يكون هنالك زهو ولا ترف، وجميع هذا جميل جدا ولكن دعنا نرى ما هو أبعد من هذا.
فالنصرانية ديانة روحانية تماما، وهي تعنى بأمور السماء، وليس هذا العالم وطن النصراني، ولا ريب في أن النصراني يقوم بواجبه، ولكنه يقوم به بعدم اكثراث بالغ لحسن نجاح جهوده أو سوئه، وهو إذا لم يجد ما يلوم به نفسه لم يبال بسير الأمور سيرا حسنا أو سيئا في هذه الدنيا، وإذا ما ازدهرت الدولة لم يكد يجرؤ على التمتع بالبهجة العامة، وخشي الاختيال بمجد بلده، وإذا ما بادت الدولة بارك يد الله التي ثقلت على أمته.
ولا بد، لهدوء المجتمع وبقاء الانسجام، من أن يكون جميع المواطنين بلا استثناء نصارى صالحين على السواء، ولكن إذا ما وجد لسوء الحظ طامع واحد، مداج واحد، كاتيلينا واحد، كرومويل واحد، مثلا، كانت له سوق رخيصة من مواطنيه الأتقياء، فلا يبيح البر النصراني بسهولة أن يظن الإنسان سوءا بجاره، فعندما يجد بحيلة فن الاحتيال عليهم وفن القبض على قسم من السلطة العامة يلج باب الوجاهة، فالرب يريد احترامه، ولسرعان ما تواجهون صاحب سلطان، والرب يريد إطاعته، وإذا ما أساء استعمال سلطان عد العصا التي يعاقب الرب بها أبناءه، وقد تدور في الرءوس هواجس لطرد الغاصب، فلا بد لذلك من إقلاق الراحة العامة واستعمال العنف وسفك الدم، وهذا كله يلائم حلم النصراني ملاءمة سيئة، وبعد هذا كله: ما أهمية كوننا أحرارا أو عبيدا في وادي البؤس هذا؟ فالأصل أن يذهب إلى الفردوس، وليس التسليم غير وسيلة إضافية لبلوغ هذا.
وإذا ما اشتعلت حرب خارجية سار المواطنون إلى القتال بلا مشقة ، ولم يفكر أحد منهم في الفرار، وهم يقومون بواجبهم، ولكن من غير ولع بالنصر، وهم يعرفون كيف يموتون أحسن من أن يعرفوا كيف يغلبون، وما أهمية كونهم غالبين أو مغلوبين؟ ألا تعلم العناية الإلهية ما يلائمهم أحسن مما يعلمون؟ ولنتصور ما يمكن عدوا مختالا صائلا ذا حميا أن ينال من عزمهم! قابلوهم بتلك الشعوب السخية التي يأكل قلبها حب متأجج للمجد والوطن، وافترضوا مواجهة جمهوريتكم النصرانية لإسبارطة أو رومة تروا قهر النصارى الأتقياء وسحقهم وإبادتهم قبل أن يكون عندهم من الوقت ما يتعارفون فيه، أو أنهم يكونون مدينين بسلامتهم لما يحمله عدوهم من ازدرائهم، وعندي أن قسم جنود فابيوس الذين حلفوا أن يعودوا منصورين، لا أن يغلبوا أو يموتوا، فبروا به، هو قسم رائع، وما كان النصارى ليأتوا بمثله مطلقا لما يرون أن يطلبوا إلى الرب إظهار قدرته.
ولكنني أخدع إذ أتكلم عن جمهورية نصرانية، فكل واحدة من هاتين الكلمتين تنافي الأخرى، فالنصرانية تبشر بالعبودية والطاعة، وتبلغ روحها من ملاءمة الطغيان ما تنتفع به من هذا النظام دائما، وقد خلق النصارى الحقيقيون ليكونوا عبيدا، وهم يعلمون هذا من غير أن يهزهم مطلقا، فقيمة هذه الحياة القصيرة قليلة في أعينهم.
ويقال لنا: إن الكتائب النصرانية باسلة. وأنكر هذا، ولأدل على مثلها، وأما أنا فلا أعرف كتائب نصرانية مطلقا، وستذكر الحروب الصليبية لي، وإني من غير أن أناقش في قيمة الصليبيين أقول: إنهم بعيدون من أن يكونوا نصارى، وإنهم كانوا جنود قساوسة ومواطني الكنيسة، فهم قد قاتلوا في سبيل بلدهم الروحي الذي جعلته الكنيسة زمنيا بما لا يعرف كيف، وإذا ما أخذ هذا على وجهه الصحيح رد إلى الوثنية، فبما أن الإنجيل لا يقيم دينا قوميا فإن كل حرب مقدسة أمر مستحيل بين النصارى.
وفي عهد الأباطرة كان جنود النصارى شجعانا، وهذا ما يؤكده جميع مؤلفي النصارى، وهذا الذي أعتقده، وكان هذا منافسة شرف تجاه الكتائب الوثنية، وعادت هذه المنافسة لا توجد منذ صار الأباطرة نصارى، وعندما طرد الصليب النسر زالت القيمة الرومانية.
ولكن لندع الاعتبارات السياسية جانبا، ولنعد إلى الحق، ولنقم المبادئ على هذه النقطة المهمة، وقد قلنا: إن الحق الذي يجعله الميثاق الاجتماعي للسيد على الرعايا لا يجاوز النفع العام
6
مطلقا، ولذلك لا يلزم الرعايا بتقديم حساب إلى السيد عن آرائهم إلا بالمقدار الذي تهم به المجتمع، والواقع أن مما يهم الدولة أن يكون لكل مواطن دين يحبب إليه واجباته، غير أن عقائد هذا الدين لا تهم الدولة ولا أعضاءها إلا بالمقدار الذي تناط معه هذه العقائد بالأخلاق والواجبات التي يلزم من يعلمها باتباعها نحو الآخرين، ثم إنه يمكن كل واحد أن يكون له من الآراء ما يروقه من غير أن يكون من شأن السيد أن يعلمها، وذلك بما أنه ليس للسيد سلطان في العالم الآخر مهما كان نصيب رعاياه في الحياة الآتية فإن هذا لا يكون من شئونه، وذلك على أن يكون هؤلاء الرعايا صالحين في هذه الحياة الدنيا.
إذن، يوجد اعتراف بعقائد ديانة مدنية خالصة يجب على السيد أن يعين موادها، لا كعقائد الدين بالضبط، بل كمشاعر اجتماعية يتعذر على الواحد أن يكون بغيرها مواطنا صالحا أو تابعا صادقا،
7
ويقدر السيد، من غير أن يستطيع إكراه أحد على اعتقادها، أن يبعد من الدولة كل من لا يعتقدها، لا كملحد، بل كنافر، كعاجز عن أن يحب القوانين والعدل بإخلاص وعن التضحية بحياته في سبيل واجبه عند الضرورة، وإذا سار أحد كغير مؤمن بهذه العقائد بعد أن أقر بها جهرا فدعه يعاقب بالموت؛ فقد اقترف أعظم الجرائم؛ فقد كذب أمام القوانين.
ويجب أن تكون عقائد الدين المدني بسيطة قليلة العدد، وأن يعبر عنها بضبط ومن غير إيضاح ولا تفسير، فوجود الألوهية القادرة العاقلة الكريمة البصيرة المدبرة، والحياة الآتية، وسعادة الصالحين، ومعاقبة الأشرار، وقدسية العقد الاجتماعي والقوانين، أمور يعبر عنها بالعقائد الإيجابية، وأما العقائد السلبية فإنني أقصرها على واحدة: أقصرها على عدم التسامح، وهي من فصيلة العبادات التي رفضناها.
وعندي أن من يفرقون بين عدم التسامح المدني وعدم التسامح اللاهوتي يكونون مخطئين، فلا يمكن فصل ما بين عدم التسامحين هذين، ومن المتعذر أن تقضى حياة سلم مع أناس يعتقد أنهم مدينون، ويعني حبهم مقتا لله الذي يعاقبهم، ولذا يجب أن يردوا أو يعذبوا، وفي كل مكان يسلم فيه بعدم التسامح اللاهوتي يستحيل ألا يكون عدم التسامح هذا ذا أثر مدني
8
ومتى كان له مثل هذا الأثر عاد السيد لا يكون سيدا، حتى ضمن الدائرة الزمنية، وهنالك يكون القساوسة السادة الحقيقيين، ولا يكون الملوك غير عمال لهم.
والآن عاد لا يوجد دين قومي حصرا، فيجب أن يقع تسامح مع جميع الأديان التي تتسامح مع الأخرى، ما دامت عقائدها غير مناقضة لواجبات المواطن، ولكن يجب أن يطرد من الدولة من يجرؤ أن يقول: «لا سلامة خارج الكنيسة»، ما لم تكن الدولة هي الكنيسة، وما لم يكن الأمير هو الحبر، وعقيدة مثل هذه لا تكون صالحة في غير حكومة إلهية، وهي تكون ضارة في كل حكومة أخرى، ويجب أن يحفز السبب الذي من أجله اعتنق هنري الرابع الديانة الرومانية، كما قيل، إلى تركها من قبل كل رجل صالح، ولا سيما كل أمير يعرف كيف يعقل.
الخاتمة
فأما وقد وضعت مبادئ الحقوق السياسية الصحيحة، وحاولت إقامة الدولة على أساسها، بقي علي أن أدعمها بصلاتها الخارجية، وهذا ما يشتمل على حقوق الأمم والتجارة وحقوق الحرب والفتوح والحقوق العامة والأحلاف والمفاوضات والمعاهدات، إلخ، غير أن جميع هذا يكون موضوعا جديدا بعيدا على بصري القصير، فوجب علي أن أقصره على دائرة أكثر ضيقا دائما.
نامعلوم صفحہ