والمعز هؤلاء قلما يكونون من زمرة المحبوبين المقبولين، ولكنهم في الغالب أعلى من المتوسط في الذكاء، وربما كان إلحاح هؤلاء المعز هو الذي يستنزف عصارة الحيوية من العقائد بعدوى المجاورة، وقد توجد في الحق نسبة بين عدد المخالفين وبين عمر عقيدة الضأن في الجماعة.
وطبيعة البشر الثابتة تؤكد لنا أنهم سيظلون في تاريخهم المقبل منقادين لحماسة العقيدة على شكل من الأشكال، وأن الإنسان سيضطهد غيره وسيبتلى بالاضطهاد من غيره مرة بعد مرة في سبيل خاطرة من الخواطر لا يلبث بعضها أن يصبح قليل الخطر أو غير مفهوم ولا معقول في جيل آخر.
إلا أن العقائد لها خاصة أخرى أقوم وأجدر بالالتفات إليها، وذاك أنها تكفل الدوام للخطط الاجتماعية زمنا أطول من الزمن الذي تتكفل به أية فكرة عقلية، وفي التاريخ حالات عديدة تصدى فيها نخبة من الساسة المستنيرين لوضع سياسة يتوخون بها المصلحة العامة ويقفون حياتهم على إنجازها، وما هو إلا أن ينقضي جيلهم حتى يعقبهم ساسة آخرون ينقضونها إيثارا لطريقة غيرها من طرق المصلحة الإنسانية، فلا يطول أجل الخطة القائمة على العقل أكثر من جيل واحد، وهو أمد قصير جدا لا يكفي للتغلب على عقبات المصادفة، فلو أن خطة من الخطط تسنى لها أن تمتزج بحماسة الإيمان فأصبحت من العقائد المصدقة لقوي الأمل في بقائها نحو عشرة أجيال متعاقبة وهي برهة كافية للتغلب على طوارئ المصادفات، وبهذه المثابة تشارك العقيدة خلية التناسل في خاصتها التي تحفظ أثرها في البنية الإنسانية.
فإذا كان تاريخ المستقبل لا ينطوي على تطور إلي لبعض الوقائع التي لا سلطان عليها ولا يمكن تبديلها - وهو فرض لا يقره إلا القليل منا - ففي وسع من تتقرر عنده فكرة يناط بها التقدم الثابت لبني نوعه أن يقفو طريقا من طرق ثلاثة: أولها وأضعفها برنامج سياسي مفهوم لا يلبث أن يموت معه ويذهب بغير أثر، وثانيها أن يبث في النفوس عقيدة إيمانية يرجى أن تدوم أجيالا وأن تحدث معها تغييرا حقا في أثناء بقائها، وثالثها أن يعمل مباشرة على تغيير الطبيعة البشرية بوسائل الوراثة البيولوجية. وهي وسيلة إذا استطيعت أحدثت أثرا فعالا، ولكنها على فرض الإحاطة بكل أسرار الخلايا الناسلة - ونحن نجهلها - لا يتأتى حمل الناس على إنفاذها ولو فترة قصيرة، ولما كان الأمر يحتاج إلى أجيال متطاولة كان الأرجح أن هذه الوسيلة تهمل حتما قبل ظهور نتيجة من نتائجها النافعة.
لهذا كانت العقائد على جانب عظيم من الأهمية بالنظر إلى المستقبل؛ لأن العقيدة تبعث الأمل فعلا في دوامها بعد صاحبها وفي سيطرة الإنسان على مصيره بفضلها. •••
وتطرق المؤلف من موضوع العقيدة إلى موضوع الفصائل الإنسانية، فاقترح استخدام الوسائل البيولوجية في تكوين فصائل من النوع الإنساني كل فصيلة منها نافعة في مقصد من مقاصد النوع كله، وكلها تنتقى وتختار لاستئصال بقايا الوحشية من خلائق الإنسان.
وبعد كلام عن السعادة وعن موارد الطبيعة وكفايتها، جمع أطراف البحث في خاتمة خلص منها إلى قوله:
ومن الميسور عند النظر إلى المستقبل البعيد أن نشرع في أعمال غير التي تعودناها حتى الآن، فإن الأعمال التي يراد بها تحسين النوع قصرت إلى اليوم على تحسين أحواله دون طبيعته، ولا تلبث الأحوال أن تتبدل حتى ينقضي كل شيء. والأمل الوحيد معقود بأن نستخدم معارفنا البيولوجية بحيث لا يضيع كل شيء كلما تبدلت الأحوال، وهذه قواعد الوراثة حرية أن تقودنا إلى مرساة تثبت لنا كل كسب نبلغه في المزايا الإنسانية.
ولا ندري لماذا لم يعالج المؤلف إمكان استخدام الوسائل البيولوجية في تثبيت الاستعداد للعقيدة خاصة، ما دام على هذه الثقة بفضل العقيدة في إطالة أمد الإصلاح واستبقاء نخوته في نفوس طلابه.
فمهما يكن من صفة العقيدة الاجتماعية فالواضح من علاماتها وأطوارها أنها قوة حيوية يتفاوت نصيب الأفراد منها على حسب المزاج والخلق والوراثة، وإن كل مؤمن ففي طبيعته موضع للثقة يركن فيه إلى خاصة حيوية أقرب ما تكون إلى الخواص الموروثة، وإن استفادت من التعليم والبيئة.
نامعلوم صفحہ