وزبدة فلسفة أنامونو أنه كان في بيان ديانته «يميل بقلبه وشعوره إلى المسيحية دون أن يأخذ بقضايا الاعتقاد في هذه النحلة أو تلك ...» وهذه مسألة قلبية، وأعني بأنها قلبية أنها لم تثبت عندي على النحو الذي أثبت فيه أن اثنين واثنين تساوي أربعة.
وفي أقوال أبطاله ومحاورات قصصه زبدة أخرى أدل على لباب عقيدته من ذلك البيان، فليس الله ما تحتويه بفكرة أو أمثولة، ولكنه ما تطلبه بشوق وجهاد، وليس حساب الله للإنسان على ما كان بل على ما ينبغي أن يكون ثم قصر دونه بغفلته وإسفافه وإيثاره الحلوى الصبيانية على غذاء النضج والنماء، ومن قال إنه إنسان وقنع بأن يظل إنسانا في أهوائه ونزواته فنهايته أن ينحدر عن منزلة الإنسان إلى حضيض الحيوانية، وإنما تتم له فضائل الإنسانية حين لا يقنع بها ويتسامى إلى ما فوقها، ولا يكف عن السعي لأنه يسعى في طريق الأبد، وليس للمسعى في طريق الأبد من قرار.
وليس في روسيا اليوم فلسفة مستقلة عن الفلسفة الماركسية كما تطبقها الدولة، ولكن الفيلسوف الروسي المستقل (لوسيف) (Lossev)
قد أعلن آراءه فيما وراء الطبيعة بعيدا من موضوع المباحث الاقتصادية والسياسية، واعتبر أن الوجود ثلاثة أطوار: طور فوق الفكر وفوق الوجود المدرك، وطور كائن لا يتصوره العقل إلا مع مقابل معدوم، وهو يرادف ما يسمى بالكليات في الفلسفة العامة، كاسم الشجر والحجر والنجم والإنسان وغيرها من الأجناس ... والطور الثالث هو الصيرورة التي لا تزال في جانب منها وجودا وفي الجانب الآخر عدما، ومهمة الفلسفة ومهمة العلم تختلفان حيال هذه الأطوار الثلاثة. فالعلم يتولى تحقيق الموجود الفرد الماثل للعيان والحس والتجربة، والفلسفة تتولى النظر في الوجود المطلق والوجود الذي تبرزه الصيرورة، ولا يزال وسطا بين الكائن والمعدوم.
ولولا أن هذا المذهب أقرب إلى النفي لكان كلامه عن الوجود فوق الفكر شبيها بكلام أفلوطين عن «الأحد» الذي يعلو به حتى عن صورة الوجود على الإطلاق، ولكن لوسيف في كتابه عن الكون القديم والعلم الحديث (The Ancient Cosmos and Modern Science)
يكاد ينفي كل وجود فوق الفكر ويقول وهو يسميه بالأحد: «إن هذا الأحد ليس مطابقا لنفسه ولا لغيره، وليس كذلك مخالفا لنفسه ولا لغيره، وإنه بهذه المثابة لا يوجد، وفوق الوجود.»
3 •••
ومن الحالات التي تلوح للنظرة الأولى كأنها إحدى المفارقات أن العالم الجديد أميل إلى المحافظة الدينية من العالم القديم، بيد أنها في الواقع حالة طبيعية منطقية لا محل فيها للمفارقة. إذ كان المجتمع الأمريكي الأول قد قام على عقائد المهاجرين المتنطسين الذين لاذوا بالعالم الجديد فرارا بعقائدهم من اضطهاد خصومهم ومعارضيهم، وإذ كانت ثورة التمرد على الدين بين أمم القارة الأوروبية قد نجمت من مقدمات طويلة في تاريخها لم يحدث لها نظير في تاريخ القارة الأمريكية، فلا جرم يغلب الميل إلى الاعتقاد على مذاهب الفلسفة التي يتمخض عنها مجتمع العالم الجديد، ويقال عنه إن مذاهبه هي الجناح الأيمن في صفوف الدين، ويصدق هذا بصفة خاصة على مذهب رويس الذي ألمعنا إليه.
فالفضيلة العليا في مذهب رويس هي توسيع الحياة الإنسانية حتى تخرج من أفقها الضيق المحدود إلى أفق «اللانهاية» الإلهية، وعلامة الالتقاء بين الأفق الإنساني المحدود والأفق الإلهي السرمدي هو الخلق الذي تجاوز المنافع الفانية، فما الإنسان في حياته الخاصة إلا شذرة من الحياة الأبدية المطلقة، تظل مغلقة إذا غفلت عن مصدرها وتثوب إلى ذلك المصدر كلما تنبهت إلى مبادئها وغاياتها، وليست الحياة الإنسانية الخاصة مفهومة على حدة ما لم تنزل في منزلتها من الحياة الأبدية المطلقة، فهي كالنغمة الموسيقية التي لا معنى لها مع انفرادها، والتي تترجم عن الأبد كله عند تنسيقها مع سائر النغمات.
وفي مذهب رويس أن العالم إرادة وفكرة كما في مذهب شوبنهور المعروف ، ولكن الإرادة والفكرة فيه تتعاونان ولا تتناقضان، وتمام التعاون بينهما أن يخرجا من المحدود إلى غير المحدود.
نامعلوم صفحہ