وقد اخترنا هؤلاء الشعراء الثلاثة لأنهم جميعا شعراء معبرون عما يحسونه في أنفسهم وما يحسونه حولهم، وأعرضنا عن أدعياء الأفانين ممن يهيمون بكل أفنونة معتسفة لا حياة لها في أنفسهم ولا في العالم، ولا معنى لها غير أنها فقاعة في رغوة طافية، تلمع ثم تنفجر بعد قليل. •••
والاهتمام بعقائد الفنانين من المصورين والموسيقيين والممثلين مطلب لا يقل في دلالته وقيمته عن عقائد الشعراء والأدباء والفلاسفة، ويزيده دلالة أنهم يصدرون عن البداهة الصامتة في فنونهم، ويباشرون دقائق الخلق والإنشاء عملا لا يلتبس بأخطاء اللفظ وتعبيراته.
إلا أن هذه البداهة الصامتة هي موضع الصعوبة في استقراء عقائدهم من أعمالهم، وهم لا يكتبون عن العقيدة ولا يسجلون آراءهم كثيرا بالقلم والكلمة، ولهذا نعول على أقوال الذين كتبوا منهم في المسائل الدينية، ولا نرى بين أيدينا من أقطاب الفن في القرن العشرين من هو أجدر بالتعويل عليه من جون كوليير (Collier) (1850-1934)، الذي يحسب مع الكتاب والنقاد كما يحسب مع المصورين في الذروة العليا، وله في المسألة الدينية كتاب سماه «ديانة فنان» كتبه بعد الحرب العالمية الأولى وتناول فيه هذه المسألة من جميع أطرافها، وفيما يلي تلخيص كلامه على العقيدة والفضيلة ورجاء بني الإنسان، وقد ختم كتابه ختاما موجزا، قال فيه: إن الديانة ليست هي الوسيلة الوحيدة للسعي في طريق الأمثلة العليا، وإنه يترقب مع الزمن يوما تغني فيه الأخلاق غناء الديانة، وتستقيم فيه الحماسة الدينية إلى طريق غير طريقها فيما مضى، وقد كانت طريقها العراك والخلاف، فلعل طريقها المقبل وحدة بني الإنسان.
رأى كوليير في الديانة أن مذهب الموحدين (Unitarianism)
هو المذهب الذي يرتضيه الرجل العصري، إذا فارق عقائده الموروثة وأحب أن يحتفظ بنسبته إلى المسيحية.
ويفضل في أمر الإله أن يؤمن بالإله الذي وصفه الكاتب الكبير (ويلز) على لسان أحد أبطاله،
2
وهو إله قادر على كل شيء ولكنه يوزع تدبير الكون على الملائكة وأكبرهم الملك المحجوب (The Invisible King) ، فإذا حدث النقص والشر في الوجود فذاك من عمل الملك المحجوب لأنه طيب رحيم ولكنه ليس بالقادر على كل شيء، فهذه الصفة أقرب إلى تفسير الواقع لولا أنه - أي كوليير - عاجز عن تخيل الكائنات التي فوق الطبيعة.
أما الأخلاق فرأيه فيها أن المتدينين يسندون أعمالهم خطأ إلى الإرادة الإلهية، فإنهم لا يعلمون هذه الإرادة ويضطرون إلى استجلائها بالصلاة والدعاء إذا عم عليهم أمرها، وخير للفضيلة وللناس أن يبنوا عملهم الخلقي على أساس من حب بني الإنسان. فإن الله غني عن حبنا، وأما بنو الإنسان فلا يستغني بعضهم عن حب بعض ، ولا تزال العداوة بينهم مفسدة للأخلاق والضمائر، ولا يصدق كوليير بالعذاب الأبدي لأن الأبد ديمومة ليس لها نهاية، وعمر الإنسان محدود فلا يجزى عن الخطأ المحدود بعقاب دائم سرمدي لا يعرف الحدود، وهو يقول عن الحياة بعد الموت: «إنني لا أعني أنني أنكر إمكان الحياة الأبدية خارج الزمان والمكان، وإنما الذي أعنيه أنني لا أفهمها وأنها لا تشبه الوجود كما أفهمه.»
وبعد استطراد قصير قال: «إن العلاقة بين العقل والمادة لمن الخفاء بحيث يحسن الوقوف منها موقف اللاأدرية. فقد يحتمل أن يوجد العقل مستقلا من المادة ويحتمل أن يكون للحياة بعد الموت صلة مادية، وحقيقة الأمر أننا لا نعرف عن ذلك شيئا، ولعل هناك موضعا للرجاء.»
نامعلوم صفحہ