وعقيدة الرجل أن هذه الهجرة الدائمة هي رسالة القوم، وأنه من خفايا الأسرار التي لا تدرك في التاريخ الإنساني أن حب الاستقرار هو الخدعة التي يؤتى اليهود من قبلها كلما حاولوا أن يؤسسوا لهم وطنا. وقد حاولوا في القدم، قبل عصر المسيح؛ أن يحسبوا مصريين أو بابليين أو يونانيين كما يرى من كل صفحة من صفحات العهد القديم، فمزقت عنهم ستورهم وبرزت جلودهم المعذبة عارية من تحتها كرة بعد كرة، وهذه محاولاتهم في العصر الحديث تسمى تارة بحركة الاستنارة أو حركة العالمية أو التحرر أو الاشتراكية أو القومية وتنتهي إلى المذابح الأوروبية والبولونية. ولم يبق أمامهم الساعة إلا مقر من مقرين تتزاحم عليهما جموع إسرائيل في إصرار وإلحاح كما يتزاحم النمل في طلب النجاة، ولا بد للإنسان على كل حال من أن يعيش.
هذان المقران هما الديمقراطية الأمريكية أو الصعلكة الروسية، وإن قشعريرة الروح من أن تصير إسرائيل إلى أي مصير غير أن تظل إسرائيل؛ لن تستطيع الوقوف أمام هاتين القوتين.
ومهما يستكثر المؤرخ من أمثلة العقائد التي يدين بها المفكرون الإسرائيليون في العصر الحديث، فلن يجد في كل مائة مثال إلا مثلا أو مثلين يشذان عن هذه القاعدة، وتطرد الأمثلة دائما على أن «الجامعة العصبية» لا تلبث أن تملأ فراغ العقيدة من جوانح الإسرائيليين كلما انطلقوا من شعائر دينهم الموروث، فالتعب الذي يحتمله المفكر الأوروبي كي يستعيض عقيدته باسم الإنسانية أو الحضارة أو الروح الكونية؛ يحل محله تعب واحد سريع إلى نفس المفكر الإسرائيلي، وهو الجامعة الإسرائيلية أو رسالة إسرائيل كما يترسمها في مستقبل قريب أو بعيد.
وهذه الظاهرة المتكررة هي إحدى الظواهر التي يرقبها الباحثون المخصصون لشئون العقيدة ، ليقرنوا بينها وبين عوامل الاعتقاد في عقول المحدثين والأقدمين.
ولهذه القاعدة شذوذها كما تقدم، ولكنه شذوذ ضخم يكاد أن يلغيها لو كان الشذوذ يلغي قاعدته، فقد تمثل في أديب واحد أوشك أن يحلق وحده في سماء الأدب الصوفي بين قومه من مطلع القرن العشرين إلى منتصفه إذ توفي (سنة 1949).
هذا الأديب هو موريس مترلنك (Maeterlinek)
الشاعر البلجيكي الإسرائيلي الذي لقبوه بالحبر ولم يبالغوا، وإن كانوا يتهكمون، وقد أنفق حياته باحثا عن أسرار الطبيعة وأسرار ما بعد الطبيعة، فدرس غرائز النحل والنمل ودرس الديانات الشرقية التي تواترت الروايات عن قدرة أحبارها على تسخير الطبيعة، وفحص هذه الروايات في كتابه عن السر الأعظم فلم يخف على القارئ غمه لتحققه من بطلانها، وظل بعد ذلك مؤمنا بعالم الأسرار يراها ويلمسها في كل مكان بين ظواهر المادة والحياة، ومن مؤلفاته غير القصص المسرحية وغير كتاب السر الأعظم كتاب عن «أبديتنا» (Our Eternity)
وكتاب عن موقفنا أمام الصمت العظيم (Before the great silence)
وشذرات مجموعة في هذا المعنى لا تخلو صفحة منها جميعا من شواهد قوية على شعوره بأسرار الكون ووجوب التسليم بما لها من الأثر في الحياة، وهو يقول في كتاب «أبديتنا» إن المجهول سيظل مجهولا ولو رزقنا ألف نصيب كنصيبنا من الفطنة والذكاء، ولكن «فكرتنا» عن هذا المجهول هي أهم وأنبل ما تحتويه بصيرة الإنسان. إذ ليس المجهول منفصلا عن الكون لأنه مجهول، بل هو فينا ومحيط بنا وعامل بأيدينا ولا حيلة لنا في تقصير المسافة بيننا وبينه إلا أن نصاب بالقصور من تجاهل هذا المجهول، فالبصيرة الإنسانية تكبر بمقدار ما تتسع أمامها حدود ذلك المجهول، وهي تصغر بمقدار ما تصغره وتعرض عنه وتعيش معه كأنه غير موجود. •••
وننتقل من هذا الشاعر الروائي «الحبر» كما وصفوه إلى كاتب روائي عاش زمنا بين أسرار الشرق ثم قنع بأن يعيش في عالم معطل الأسرار، وهو إدوارد مورجان فورستر مؤلف كتاب (مجاز إلى الهند) وصاحب المقالات النقدية عن أدب الهند وأدب اليونان الحديثين.
نامعلوم صفحہ