وهو في بابه أجرأ كتاب كتبه عالم باسم الطب والعلم في مسائل العقيدة والروح؛ لأنه أعلن فيه أن النظر إلى الإنسان كأنه آلة جسدية هو «خطأ طبي» أو خطأ علمي تثبت للباحث جرائره الحسية كما يثبت كل محسوس يعتمده أصحاب التجارب الطبية والعلمية، وختمه بنداء إلى ذوي الرأي والبصيرة كأنه توسل في محراب، ناشدهم فيه أن يعتقوا ضمائرهم من ربقة الكون المادي الذي بناه لهم الطبيعيون والفلكيون، وقال فيه إن الوقت قد حان لأن نعمل خلاصنا بأنفسنا، ثم قال: «إننا لا نضع للخلاص برنامجا، لأن البرنامج يخنق الحقيقة الحية تحت غشاء متحجر، ويمنع تفتق المجهول عن وارد الغيب الذي لا ينتظر ولا يسبقه خبر، ويحبس المستقبل في حيز العقل المحدود. وإنما علينا أن ننهض ونتحرك، وأن نطلق أنفسنا من المصطلحات العمياء ونقبل على طبائعنا بما أودعته من الغنى والذخيرة المركبة.» «وقد أشارت علوم الحياة إلى بني الإنسان نحو قبلتهم ووضعت تحت أيديهم الوسائل التي تبلغهم غايتها، ولكننا لا نزال غائصين في الدنيا التي خلقتها علوم المادة الميتة غير ملتفتين إلى عوامل النمو والكمال التي في نفوسنا، بين جدران دنيا لم تخلق لنا لأنها من صنع الخطأ في تفكيرنا والذهول عن حقيقتنا، ومثل هذه الدنيا لا يمكن أن تلائمنا ونلائمها، فلا مناص لنا من الخروج عليها وأن نبدل قيمها ونعيد نشأتها وفاقا لمطالبنا الصادقة، وأن هذه العلوم الإنسانية اليوم لتخولنا أن ننمي كل قوة كامنة في أجسامنا، فنحن نعلم الأسرار الآلية في وظائفها وفي ملكاتها القليلة، ونعلم من ثم مواطن ضعفها، كما نعلم كيف تخطينا أوامر الطبيعة ولماذا عوقبنا وضللنا في الظلمات، ولكننا على هذا نبصر خلال الضباب قبسا من الفجر خليقا أن يهدينا سبلنا إلى النجاة ...»
وقد جاء كتاب الإنسان المجهول في إبانه فتجاوبت به الأندية العلمية والدينية سنوات، وقيل إن وطأته على مذاهب الإنكار قد حملت دعاتها على تطويقه بسد خفي من المصادرة، فوقفت نشره عند حد محدود. •••
ويشبه كاريل في اطمئنانه إلى عقيدته المختارة طبيب آخر من الفرنسيين اشتغل مثله بمباحث التشريح والعلم الطبيعي وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته، ثم تسامعت المعاهد بتقريراته العلمية والطبية فاستدعاه معهد روكفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح، ثم عاد إلى فرنسا بعد سبع سنوات فتولى رئاسة معهد باستور للمباحث البيولوجية الطبية، واختير بعد عشر سنوات (1937) مديرا لمعهد الدراسات العليا بجامعة السربون، ونال في سنة 1944 جائزة جامعة لوزان بفلسفة العلوم.
هذا الطبيب العالم الذي قلنا إنه يضارع كاريل في اطمئنانه إلى عقيدته هو ليكونت دي نوي (De Nouy)
صاحب كتاب القدر الإنساني أو قدر الإنسان (Human Destiny) ، وفحوى رسالته فيه أن العقيدة لا تقاس بالمنطق والحساب ولا يقال عن الضمير الإنساني إنه يؤمن بجدول الضرب أو التجربة الكيمية، وإنما طبيعة الإيمان من طبيعة الحياة وهي سر لم توضحه حتى اليوم نظرية من نظريات العلوم، ومدار الإيمان عند دي نوي هو شعار الفيلسوف الإسباني (أنامونو) (Unamuno)
وهو: «إن اعتقادك في الله هو أن ترغب في وجوده، وتزيد على هذا أن تبني عملك على أنه موجود.»
قال: «كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه. على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب، فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل، وليس الكهرب قابلا للتصور في كيانه المادي. وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب، ولو أننا استطعنا أن نتصور الله لما استطعنا أن نؤمن به لأن تمثيلنا إياه - لاصطباغه بالصبغة الإنسانية - يخامرنا بالشكوك.» «... وليست الصورة التي نتمثلها للإله هي التي تثبت وجوده، وإنما يثبت وجوده ذلك الجهد الروحاني الذي نبذله لمعرفته، وكذلك الفضائل إنما يعول فيها على شعورنا بها لا على نتائجها.»
وبعد أن أشار إلى فضل التدين العميق - حتى التعصب - في وقاية المسلم والبرهمي من غوائل الجحود، مضى يطبق قوانين التطور على الضرورات الروحانية والخلقية فقال: إن إنشاء بيئة جديدة لازم لوقاية الأنواع المهددة من عواقب الانحلال والانقراض، وإن النوع الإنساني يواجه حالة كهذه الحالة في أمر العقيدة فلا بد له من بيئة روحانية جديدة.
قال : «على الإنسان أن يفهم أن التطورات الآلية التي أدخلها في بيئته وراح يلائم بينه وبينها لن تكون لها إلا نتيجة من نتيجتين، وهما التقدم أو الدمار حسب نجاحه في شفاعتهما بالتطور في بيئته الخلقية. فواجب الإنسان إذن أن يزيح جانبا معالم حضارته الباطلة ويقيم في مكانها معالمه الصادقة، وهي الكمال الذي يوافق كرامة الإنسانية، وليس المطلوب منه أن يحارب التقدم الآلي - ولا طاقة له بمحاربته لما يرجى من المزيد في تقدم العلم والطب - بل بتهذيب النفس والارتفاع بأمثلتها العليا.» •••
ومن العلماء المؤمنين روبرت بروم (Broom)
نامعلوم صفحہ