ولقد يخطر لكثير من القراء أن يسألوا: إن صح هذا أفلا تكون حرية الفرد وهما ظاهرا مرجعه إلى عيب في أساليب فهمنا؟
فنقول إن عرض المسألة على هذا النحو خطأ فيما أراه. وقد نصور هذا الخطأ حين نقول إنه يشبه الظن، بأن الإنسان يعجز عن اللحاق بظله لنقص في سرعته! إذ إن الحقيقة التي ترينا أن الإنسان في بعض حالاته الراهنة لن يخضع لقانون السببية هي حقيقة قائمة على أساس من المنطق، كالقضية التي تقول لنا إن الجزء أصغر من كله، وإن استحالة حكم المرء على تأملاته، طبقا لعلاقات السببية، لهي استحالة مؤكدة ولو على فرض العقل السامي الذي ذكره «لابلاس»، فإن ذلك العقل السامي، على استطاعته أن يرقب البواعث والنتائج في عقول أعظم العباقرة، لا مناص له من التخلي عن هذه المراقبة حين ينظر في تأملات ذاته.
أما «شرودنجر» فرأيه كهذا الرأي في التفرقة بين عوامل المادة الحية وغير الحية، وهو يقول في ختام رسالته «ما هي الحياة»:
أود أن أوضح في هذا الفصل الأخير بالإيجاز أن كل ما علمناه من بناء المادة الحية يوجب علينا أن نكون على استعداد لأن نراها عاملة على مثال لا يمكن إخضاعه لقوانين الطبيعة العادية، وليس ذلك على اعتبار أن التركيب هنا يخالف كل تركيب درسناه في معامل العلوم الطبيعية.
وختم «شرودنجر» رسالته بالتساؤل عن الشخصية والروح، فقرر أن «الوعي» ظاهرة مفردة لا تقبل الجمع، وأن كل ما يمكن الجزم به هو أن الشخصية لا تتكرر وأنها قوام مستقل عن كل قوام. •••
ونعود هنا فنقول - كما قلنا في ختام الفصل السابق - إننا لا نسرد هذه الآراء لأننا نحسبها مقطع القول في القوانين الطبيعية، فإن العلماء لا يقطعون بقول فيها اليوم إلا قطعوا بغيره غدا، وقلما يقطعون بالقول حيث يلتزمون أمانة العلم ويقفون عند حدوده.
ولكننا نسرد تلك الآراء لغرض واحد، وهو أن القوانين الطبيعية لا تتخذ في القرن العشرين حجة للتعطيل والإنكار، بل هي أقرب إلى التشكيك في التعطيل والإنكار، إن لم نقل إنها أقرب إلى مباحث العقيدة والإيمان.
إن المادة اليوم لا تصد المفكرين عن عالم الحقائق المجردة، ولا هم يتخذون من صلابتها وجسامتها شرطا للحقيقة الثابتة، فإن الحقيقة المادية نفسها لا تثبت اليوم بمجرد الصلابة والجسامة، ولا تزال ترتد إلى أصولها حتى تؤول إلى عدد من الهزات في ميدان مجهول هو ميدان الأثير وميدان الفضاء.
فالمادة في القرن العشرين قد اقتربت من عالم الفكر المجرد بل دخلته وأصبحت في تقدير الثقات «عملية رياضية» أو نسبة من النسب التي تقاس بمعادلات الحساب.
وقد جاز لعالم كبير كالسير جيمس جينس (Jeans)
نامعلوم صفحہ