الجزء الأول
1 - كيف نشئ كنديد في قصر جميل، وطرد منه؟
2 - ما حدث لكنديد بين البلغار
3 - كيف نجا كنديد من البلغار وما وقع له
4 - كيف لاقى كنديد معلمه القديم في الفلسفة: الدكتور بنغلوس وما وقع له
5 - عاصفة وغرق وزلزلة، وما وقع للدكتور بنغلوس وكنديد والتعميدي: جاك
6 - كيف صدر حكم تفتيشي رائع لمنع الزلازل وكيف جلد كنديد على ألييه
7 - كيف عنيت عجوز بكنديد وكيف وجد من كان يحب
8 - قصة كونيغوند
9 - ما وقع لكونيغوند وكنديد وقاضي التفتيش الأكبر ولليهودي
10 - كيف وصل كنديد وكونيغوند والعجوز إلى قادس في كرب شديد، وكيف أبحروا
11 - قصة العجوز
12 - تكملة مصائب العجوز
13 - كيف اضطر كنديد إلى الانفصال عن كونيغوند الحسناء وعن العجوز
14 - كيف قبل كنديد وككنبو من قبل يسوعيي البراغواي
15 - كيف قتل كنديد أخا كونيغوند العزيزة؟
16 - ما وقع للسائحين مع فتاتين وقردين، والمتوحشين الذين يدعون الأوريون
17 - وصول كنديد وخادمه إلى بلد إلدورادو، وما شاهدا فيه
18 - ما شاهداه في بلد إلدورادو
19 - ما وقع لهما في سورينام وكيف تعرف كنديد بمارتن؟
20 - ما وقع لكنديد ومارتن في البحر
21 - يدنو كنديد ومارتن من شواطئ فرنسة ويتحاوران
22 - ما وقع لكنديد ومارتن في فرنسة
23 - ذهاب كنديد ومارتن إلى شواطئ إنكلترة وما رأيا هنالك
24 - باكت والراهب جيرفله
25 - زيارة الشريف البندقي السنيور بوكوكورنته
26 - عشاء كنديد ومارتن مع ستة من الأجانب، ومن كان هؤلاء؟
27 - سفر كنديد إلى الآستانة
28 - ما وقع لكنديد وكونيغوند وبنغلوس ومارتن ... إلخ
29 - كيف لقي كنديد كونيغوند والعجوز؟
30 - الخاتمة
الجزء الثاني
1 - كيف انفصل كنديد عن زمرته؟ وما نشأ عن ذلك
2 - ما وقع لكنديد في ذلك المنزل، وكيف خرج منه؟
3 - قبول كنديد في البلاط، وما عقب ذلك
4 - ما ناله كنديد من حظوات جديدة، ارتقاؤه
5 - كيف كان كنديد أميرا كبيرا، ولكن مع عدم رضاه عن هذا
6 - ملاذ كنديد
7 - قصة زيرزا
8 - اشمئزاز كنديد، لقاء غير منتظر
9 - كنديد يفقد حظوته، رحلات، مغامرات
10 - وصول كنديد وبنغلوس إلى شاطئ بحر مرمرة، ما رأيا وما وقع لهما
11 - يداوم كنديد على رحلته، وبأية صفة
12 - يداوم كنديد على أسفاره، مغامرات جديدة
13 - قصة زنوئيد، كيف صار كنديد عاشقا لها، ونتائج ذلك
14 - دوام غرام كنديد
15 - وصول فلهل، سفر إلى كوبنهاغ
16 - كيف وجد كنديد زوجته مرة أخرى، وكيف خسر خليلته
17 - كيف حاول كنديد أن يقتل نفسه من غير أن يفعل وما حدث له في إحدى الحانات
18 - اعتزال كنديد وككنبو في ملجأ. ما لقيا فيه
19 - مصادفات جديدة
20 - بقية مصائب كنديد، كيف لقي خليلته ثانية وماذا كانت النتيجة
الجزء الأول
1 - كيف نشئ كنديد في قصر جميل، وطرد منه؟
2 - ما حدث لكنديد بين البلغار
3 - كيف نجا كنديد من البلغار وما وقع له
4 - كيف لاقى كنديد معلمه القديم في الفلسفة: الدكتور بنغلوس وما وقع له
5 - عاصفة وغرق وزلزلة، وما وقع للدكتور بنغلوس وكنديد والتعميدي: جاك
6 - كيف صدر حكم تفتيشي رائع لمنع الزلازل وكيف جلد كنديد على ألييه
7 - كيف عنيت عجوز بكنديد وكيف وجد من كان يحب
8 - قصة كونيغوند
9 - ما وقع لكونيغوند وكنديد وقاضي التفتيش الأكبر ولليهودي
10 - كيف وصل كنديد وكونيغوند والعجوز إلى قادس في كرب شديد، وكيف أبحروا
11 - قصة العجوز
12 - تكملة مصائب العجوز
13 - كيف اضطر كنديد إلى الانفصال عن كونيغوند الحسناء وعن العجوز
14 - كيف قبل كنديد وككنبو من قبل يسوعيي البراغواي
15 - كيف قتل كنديد أخا كونيغوند العزيزة؟
16 - ما وقع للسائحين مع فتاتين وقردين، والمتوحشين الذين يدعون الأوريون
17 - وصول كنديد وخادمه إلى بلد إلدورادو، وما شاهدا فيه
18 - ما شاهداه في بلد إلدورادو
19 - ما وقع لهما في سورينام وكيف تعرف كنديد بمارتن؟
20 - ما وقع لكنديد ومارتن في البحر
21 - يدنو كنديد ومارتن من شواطئ فرنسة ويتحاوران
22 - ما وقع لكنديد ومارتن في فرنسة
23 - ذهاب كنديد ومارتن إلى شواطئ إنكلترة وما رأيا هنالك
24 - باكت والراهب جيرفله
25 - زيارة الشريف البندقي السنيور بوكوكورنته
26 - عشاء كنديد ومارتن مع ستة من الأجانب، ومن كان هؤلاء؟
27 - سفر كنديد إلى الآستانة
28 - ما وقع لكنديد وكونيغوند وبنغلوس ومارتن ... إلخ
29 - كيف لقي كنديد كونيغوند والعجوز؟
30 - الخاتمة
الجزء الثاني
1 - كيف انفصل كنديد عن زمرته؟ وما نشأ عن ذلك
2 - ما وقع لكنديد في ذلك المنزل، وكيف خرج منه؟
3 - قبول كنديد في البلاط، وما عقب ذلك
4 - ما ناله كنديد من حظوات جديدة، ارتقاؤه
5 - كيف كان كنديد أميرا كبيرا، ولكن مع عدم رضاه عن هذا
6 - ملاذ كنديد
7 - قصة زيرزا
8 - اشمئزاز كنديد، لقاء غير منتظر
9 - كنديد يفقد حظوته، رحلات، مغامرات
10 - وصول كنديد وبنغلوس إلى شاطئ بحر مرمرة، ما رأيا وما وقع لهما
11 - يداوم كنديد على رحلته، وبأية صفة
12 - يداوم كنديد على أسفاره، مغامرات جديدة
13 - قصة زنوئيد، كيف صار كنديد عاشقا لها، ونتائج ذلك
14 - دوام غرام كنديد
15 - وصول فلهل، سفر إلى كوبنهاغ
16 - كيف وجد كنديد زوجته مرة أخرى، وكيف خسر خليلته
17 - كيف حاول كنديد أن يقتل نفسه من غير أن يفعل وما حدث له في إحدى الحانات
18 - اعتزال كنديد وككنبو في ملجأ. ما لقيا فيه
19 - مصادفات جديدة
20 - بقية مصائب كنديد، كيف لقي خليلته ثانية وماذا كانت النتيجة
كنديد
كنديد
تأليف
فولتير
ترجمة
عادل زعيتر
أقدم ترجمة «كنديد» لفولتير ...
ولد فولتير بباريس سنة 1694، ومات فيها سنة 1778 ...
ولد وعمد في غد يوم ولادته، وأطلق عليه اسم فرنسوا ماري أرويه، فأرويه اسم أسرته، وفرنسوا اسم والده، وماري اسم أمه، فكان جامعا للأسماء الثلاثة.
والأبوان من بواتو أصلا، وأسرة أرويه كانت قبل ولادته بجيلين قد اتخذت باريس لها مستقرا، وكان جد الأسرة تاجرا موفقا، ولم يكن فولتير ليعرف أمه جيدا؛ فقد ماتت أيام كان في السابعة من سنيه، وأما أبوه فقد مات سنة 1721 تاركا له شيئا من المال.
وكان أبوه فرنسوا موثقا
1
بباريس، وكانت أمه صديقة لعرابه «الأب شاتونوف»، وهذا الكاهن هو الذي حبب الأدب والدين الطبيعي إلى فولتير، وعرفه بالمجتمع الراقي منذ صباه، فأبدى تفوقا في القريض أيام صغره بما يثير العجب.
ويدخل - ابنا للعاشر من عمره - إلى كلية «لويس الأكبر» التي كان يقوم بإدارتها أناس من اليسوعيين، ويبقى فيها حتى سنة 1711، وما عليه من ميل إلى الدين الطبيعي، ونزوع إلى الحرية كان يحمله على الحط من قيمة التربية اليسوعية.
غادر المدرسة وعاد إلى بيت أبيه في تلك السنة، فيشتد الخلاف بينهما حول ما يزاول، فالابن يريد الأدب، والأب لا يعترف بالأدب مهنة، ويذعن الابن - مؤقتا - فيعنى بالفقه ظاهرا، ويكب على الأدب حقيقة.
وكان «الأب دوشاتونوف» قد مات قبل أن يتم ابنه في العماد - فولتير - دراسته، ولكن بعد أن جعله ينتسب إلى منظمة التانبل المشهورة، ويحاول أبوه أن يفصله عن هذه المنظمة، ليكون من أنصار المركيز دوشاتونوف - الذي هو أخ للأب دوشاتونوف - وهنالك يتعرف بالمدعوة أولنب دونويه البروتستانية المعسرة التي هي بنت لسيدة أديبة، فيحول أبوه دون اقترانهما بعد وعيد وحصول على أمر بالقبض عليه لم ينفذ.
أجل، لقد أذعن الابن وتظاهر بالعمل في مكتب لأحد المحامين.
ويبلغ فولتير الثالثة والعشرين من سنيه، وتنشر أهجوة عن الوصي على العرش وتعزى إلى فولتير على غير حق، فيعتقل في الباستيل حيث قضى أحد عشر شهرا، وحيث عزم على تغيير اسمه، فلما خرج من الباستيل عرف بفولتير بعد أن كان يعرف باسم أسرته أرويه كما قدمنا.
وليست هذه المرة وحدها هي التي يزج فيها بفولتير في الباستيل، فبعد ثمانية أعوام من ذلك التاريخ أهانه أحد الأشراف، الفارس دوروهان، وأرسل من الأجراء من يضربونه بالعصي، ويدعو فولتير دوروهان إلى المبارزة، ويرضى هذا الشريف الفارس بما دعاه إليه فولتير، ولكن فولتير يقابل بالاعتقال في الباستيل في صباح اليوم المعين للمبارزة بدلا منها، ويقضي في هذا المعتقل نصف عام، فلما خرج من الباستيل هاجر إلى إنكلترة حيث أقام ثلاث سنين (1726-1729).
وقد تعلم فولتير الإنكليزية في أثناء إقامته بإنكلترة، واتصل بعلية القوم اتصالا وثيقا، وأعجب بالدستور الإنكليزي وبتسامح الإنكليز الديني وحريتهم السياسية أيما إعجاب، وكان لأخلاق هؤلاء الناس وعاداتهم بالغ الأثر فيه.
ويعود إلى باريس حاملا في ذهنه كثيرا من المشاريع في الحرية السياسية والإصلاحات الدينية، فينشر في سنة 1734 كتابه «الرسائل الفلسفية» أو «الرسائل الإنكليزية»، حيث أثنى على نظام ذلك البلد، فقال: «إن أميره البالغ القدرة على صنع الخير مقيد اليدين في صنع الشر.»
وفي هذا الكتاب يعرض فولتير نظريات الفيلسوف الإنكليزي لوك، ويحمل حملة شعواء على الاستبداد والتعصب الديني وسلطان الإكليروس، فيعد هذا الكتاب هداما، فتقضي المحكمة العليا (البرلمان) بجمع نسخه وإحراقها «لمخالفته للدين وحسن الأخلاق»، ويؤمر باعتقال فولتير، ولم ينج من السجن في الباستيل للمرة الثالثة إلا بالفرار، ويقضي عاما في دوكية اللورين المستقلة، ثم يلغى أمر اعتقاله، وتطلق له حرية العود إلى باريس (1735).
وبعد عام - أي: في سنة 1736 - يتلقى أول كتاب من ولي عهد بروسية: فردريك، وتكثر المراسلة بينهما، وينادى بفردريك ملكا لبروسية، ويحاول اجتذاب فولتير إليه في بوتسدام، وهو لم يجب فردريك الأكبر إلى طلبه إلا في سنة 1750، ففي هذه السنة غادر باريس إلى برلين حيث أقام ثلاث سنين، وقد أجرى فردريك الأكبر عليه راتبا سنويا في هذه المدة.
وما كان فردريك ليقتصر على صلته الأدبية بفولتير مع ما كان يحبوه به من رعاية شاملة، وما كان فولتير ليطيق مساواة أحد به في الحظوة لدى ذاك العاهل، فيضيق كل منهما بصاحبه ذرعا، وأخيرا يبلغ تشبيه فردريك له بالبرتقالة التي تعصر فيطرح قشرها، فيجيب فولتير عن هذا بأنه ما فتئ يزيل الأقذار عن ثياب فردريك، ويترك فولتير بوتسدام في سنة 1753.
وكان فولتير قبل سنة 1735 يعد من ذوي النباهة فقط، فلا يحسب من ذوي الخطر، ولا ينظر إليه بعين الجد. وأما في السنين العشرين التي عقبت سنة 1735 فكان من سماته البارزة أنه مدون لوقائع لويس الخامس عشر بفرساي، وضيف كريم لدى فردريك الأكبر، مع محاولته تمثيل دور سياسي عنده.
وقد عني فولتير في هذا الدور من حياته بالعلوم والتاريخ والروايات المسرحية على الخصوص، فلم يبلغ الستين من عمره حتى كان مخرجا للناس كتب «عصر لويس الرابع عشر»، و«الطبائع والأخلاق»، و«الروايات».
وكان فولتير من طبقة البرجوازية التي تلي طبقة الأشراف، وكان يرى تلافي هذا الفرق بالغنى، فلم يهمل مصالحه المالية، قال برونتير: «لقد أدرك فولتير أن تمثيل دور في المجتمعات الراقية يتطلب ثراء عند عدم الانتساب إلى طبقة الأشراف»، ويضارب ويكسب في المضاربة، ويكتب له التوفيق في كثرة الربح من كتبه وأعماله المالية، فيبلغ دخله السنوي حين وفاته نحو 370000 فرنك من الذهب.
ويغدو فولتير محل شبهة لدى ملك فرنسة لويس الخامس عشر، كما سبق أن ساءت صلاته بفردريك الأكبر، وقد صار من الثراء ما يقدر معه على ابتياع القصور، فاشترى قصر فيرنه الواقع على حدود سويسرة، والمشرف على بحيرة جنيف (1755)، حتى إذا ما أمر باعتقاله تمكن من الفرار، وقد أقام بهذا القصر حتى قبيل موته.
ولم يكن فولتير ليتمتع بصحة جيدة، وما لاقى في الحين بعد الحين من محن كان يسوقه إلى الموت. ومن العجيب - مع ذلك - أن أبدى في السنين الثلاث والعشرين التي بقيت له من عمره نشاطا عظيما على الرغم من مشيبه، فشن في هذه المرحلة الأخيرة من سنه غارة شديدة على الاستبداد والتعذيب وعدم التسامح وجرائم التعصب ومظالم القضاء.
ومما حدث أن اتهم تاجر بروتستاني من تولوز اسمه كالاس بقتل ابنه، فحكم البرلمان (المحكمة العليا) عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه مع التعذيب سنة 1762، ويطلع فولتير على براءة كالاس، وعلى أن الابن مات منتحرا وعلى ضلال القضاء، فيشهر حربا ضروسا على ظلم المحكمة، ويطالب برد اعتبار ذلك المسكين، فيقضي برلمان باريس بهذا في سنة 1765، ويحمل فولتير على تعويض أسرة المظلوم، فينال لها من الحكومة مبلغا من المال، ويتفق له مثل هذا التوفيق في رد اعتبار لالي تولندال في سنة 1778.
وفي ذلك الدور الأخير من حياته عاد لا يؤثر في الرأي العام بالكتب المطولة، وإنما صار يؤثر فيه - على العموم - بما كان يرسل من رسائل نشرت له منها عشرة آلاف، وبما كان ينشر من كراريس وأضابير لا يحصى لها عد، فظهر معظمها بأسماء مستعارة مستوحيا فيها حوادث الساعة، وبذلك يكون قد قام بتمثيل دور أنشط الصحفيين الذين عرفوا حتى ذلك الزمن وأشدهم لذعا وأكثرهم لمعا.
وفي ذلك الدور الأخير من حياة فولتير يظهر كتابه «كنديد، أو التفاؤل» الذي ملأ صيته الأجواء، وكان فولتير حين وضع هذا الكتاب في الرابعة والستين من سنيه، وقد نشر في جنيف سنة 1759 خاليا من اسم المؤلف والناشر، ولم يقل فولتير أين وضع الكتاب ولا متى كتبه، وقد أظهر للناس مترجما عن الألمانية بقلم الدكتور رالف ...
وقد انتشر كتاب كنديد بسرعة هائلة، وأعيد طبعه باستمرار، حتى إنه وجد له ثلاث عشرة طبعة مؤرخة في سنة 1759، ولم يقتصر صيت الكتاب على فرنسة، بل عم أرجاء الدنيا، وترجم إلى أرقى لغات العالم مرات كثيرة.
وكان يسود العصر الذي ظهر فيه فولتير مبدأ التفاؤل القائل: «إن كل شيء هو أحسن ما يكون في أحسن ما يمكن من العوالم»، وكان فيلسوف ألمانية الشهير ليبنتز يحمل لواء هذا المذهب، وما كان يقع في العالم من مصائب، وما يحل به من كوارث، لا يجعل فيلسوفا مفكرا مثل فولتير يقول بهذا الرأي.
ومما حدث أن أصيبت أشبونة في سنة 1755 بزلزال هائل، جعل عاليها سافلها، وأن اشتعلت حرب السنين السبع في سنة 1756، فأودت بحياة عشرات الألوف من الناس. فهذان الحادثان وما إليهما هزت جميع الافتراضات التفاؤلية هزا عنيفا، فأتاحت لفولتير فرصة الحملة على مذهب التفاؤل بلا هوادة، فقال في كتاب كنديد كلمته وأذاع موعظته.
وفي كتاب «كنديد» جعل فولتير «بنغلوس» بطل التفاؤل، وجعل «مارتن» بطل التشاؤم، وما يعارض به فولتير تشاؤم «مارتن» وتفاؤل «بنغلوس» هو ما يعارض به اللاهوت النصراني وتفاؤل «ليبنتز الرواقي».
وفي كتاب «كنديد» يجوب فولتير معظم أقطار العالم، فيتجلى اكتئابه النفسي حيال ما ينطوي عليه تاريخ العالم من حروب وفظائع ومصائب ونوازل وأعمال تشابه ما يصدر عن المجانين.
وكاد فولتير يقضي بكتاب «كنديد» على مبدأ التفاؤل في العالم، فبه يهدم التفاؤل المطلق، وهو من أعظم كتب العالم حملة على هذا التفاؤل - إن لم يكن أعظمها.
وكتاب «كنديد» مملوء سخرية وإبداعا - ولا عجب - فالقلم بيد فولتير يجري ويضحك كما قال أناتول فرانس.
وفي كتاب «كنديد» ترى فولتير أكثر الكتاب دعابة مع بعد غور في المقصد. ولا غرو، ففولتير في كتابه «كنديد» أعظم من يقوم بهذا الغرض.
وكتاب «كنديد» مؤلف من جزأين: فأما الجزء الأول فيوجد إجماع على أنه وضع بقلم فولتير، وأما الجزء الثاني فقد ذهب كثير من النقاد إلى أنه من وضع كاتب آخر؛ ولذا يرى اقتصار بعض الطبعات وبعض الترجمات على الجزء الأول منه، كما يرى اشتمال طبعات أخرى وبعض ترجمات على الجزءين معا، وذلك مع إشارة قسم منها إلى هذا الأمر.
ومهما يكن من أمر، فإن الجزء الثاني وضع على نحو الجزء الأول وروحه، ولا يكاد الناقد النفاذ يلمس فرقا بينهما، وكيف يدرك هذا والجزء الثاني ينم على براعة ولباقة كالأول؟! وقد حفزنا هذا إلى ترجمة الجزء الثاني أيضا إتماما للفائدة، وإمتاعا للقارئ العربي.
وإذا سألت عن مذهب فولتير السياسي واعتقاده الديني، أجبت بأن فولتير يقتصر - مثل مونتسكيو - على المطالبة بالإصلاح السياسي والديني، وثلم شوكة الاستبداد، وهما في هذا على خلاف جان جاك روسو، الذي كان ينادي بضرورة تجديد الدولة والمجتمع تجديدا كليا.
وكان كل من فولتير ومونتسكيو راضيا بالمجتمع الذي يعيش فيه، فلا يرغب في قلبه، وإنما يطلب الإصلاح، وكلاهما فتن بالدستور الإنكليزي، ولا سيما تسامح الإنكليز الديني. وكان الدين أظهر ما عني به فولتير - وإن بحث في السياسة. وكانت السياسة أظهر ما عني به مونتسكيو - وإن بحث في الدين.
وكلاهما ناهض عدم التسامح في جميع وجوهه، كما ناهضا الاضطهاد والتفتيش والحروب الدينية، وطالب فولتير بإلغاء امتيازات الإكليروس، وطالب مونتسكيو بأن تكف الكنيسة عن ظلم مخالفيها ومنكريها، وبأن يكون الإكليروس أقل ثراء وسلطانا.
حقا كانت فرنسة في عهد لويس الرابع عشر وعهد لويس الخامس عشر خاضعة لكنيسة متعصبة غير متسامحة ولملكية مستبدة، فلم تذق طعم الحرية الدينية ولا طعم الحرية السياسية، فلم يطق الناس هذا الوضع، فظهرت في أوائل القرن الثامن عشر روح تذمر شديد بين المثقفين ضد الكنيسة والملكية، ولكن مع تعذر الجهر بالحملة على الدين والنظام القائم.
وكان فولتير على رأس المتذمرين، فلما عاد من إنكلترة بث كثيرا من الانتقاد للدين والملكية في رواياته وتواريخه وقاموسه الفلسفي ورسائله، ولم ينفك عن جهاده في هذا السبيل حتى وفاته، وهو لم يحاول بهذا تأسيس نظام سياسي أو إقامة مذهب ديني، بل كان يريد الإصلاح ما استطاع، وإن كان من القائلين بالدين الطبيعي مع إنكار الوحي ، وهو قد عد بهذا هادما للنصرانية عدوا لها. ولا يعني هذا أنه أراد إلغاء الدين، وإنما أراد دينا بلا أسرار ولا رموز، فيقتصر إكليروسه على تعليم الأخلاق.
وعنده أن على الأمير أن يكون من تلاميذ الفلاسفة، فقد قال: «لا نقصد إشعال ثورة كما في زمن لوثر، ولكن نقصد إحداث ثورة في نفوس من يقومون بالحكم.»
ويبلغ فولتير الثالثة والثمانين من سنيه، ويعزم على السفر إلى باريس، بعد أن كان العود إليها حراما عليه في القسم الأخير من عهد لويس الخامس عشر، فلما جلس لويس السادس عشر على العرش مهدت له سبيل دخولها، فقصد باريس وحضر تمثيل روايته «إيرين»، فلاقى في أثناء سفره إلى العاصمة وإقامته بها من الإجلال والتعظيم ما يفوق الوصف.
ويمرض بباريس، ويتوفى بها بعد أن لبث بها ثلاثة أشهر في هذه المرة، وتحظر السلطة على الصحف أن تتكلم عن وفاته، ويرفض الإكليروس أن يدفن في قبر، ويهدد برمي جثمانه في مطرح القمامة. بيد أن أهله يتمكنون من دفنه في سليير بشنبانيه، ثم تشتعل الثورة الفرنسية، فينقل رفات هذا العظيم في سنة 1791 إلى مدفن العظماء (البانتيون) بباريس.
عادل زعيتر
نابلس
الجزء الأول
الفصل الأول
كيف نشئ كنديد في قصر جميل، وطرد منه؟
كان يقيم بقصر السيد البارون ثندر تن ترنك في فستفالية غلام حبته الطبيعة أكثر السجايا دماثة، وكانت سيماه تدل على روحه، وكان على شيء من إصابة الرأي مع أبسط ما يمكن من نفس، وأظن أن هذا سبب تسميته كنديد.
وكانت تساور الخدم القدماء في المنزل شبهة في كونه ابنا لأخت السيد البارون ولرجل صالح شريف من الجوار، ولم ترغب هذه الآنسة في الزواج به قط؛ لأنه لم يستطع أن يثبت غير واحد وسبعين جيلا من أجيال الشرف؛ لضياع بقية شجرة نسبه بتلف من الزمن.
وكان السيد البارون من أقوى سنيورات فستفالية؛ لأن لقصره بابا ونوافذ، ولأن بهوه الكبير مزين بطنافس أيضا. وكان يتألف من كلاب حظائره سرب للصيد عند الحاجة، وكان سواسه مكلبيه.
1
وكان قس القرية كاهنه الأكبر، وكان الجميع يدعونه «مولانا»، فيضحكون من قصصه.
وكانت السيدة البارونة - التي تزن من الأرطال نحو ثلاثمائة وخمسين - توجب لنفسها احتراما كبيرا بهذا، وما كانت تقوم به من إكرام للزائرين يجعلها موضع أعظم تبجيل أيضا، وكانت ابنتها كونيغوند - البالغة من العمر سبع عشرة سنة - مشربة بحمرة ناضرة بادنة فاتنة. وكان ابن البارون يبدو سر أبيه. وكان المعلم بنغلوس وحي البيت، فيستمع كنديد الصغير لدروسه بكل ما ينطوي عليه سنه وطبعه من سذاجة.
وكان بنغلوس يعلم ما بعد الطبيعة وعلم اللاهوت وعلم الهيئة، فيثبت - بما يثير العجب - أنه لا معلول بلا علة، وأن قصر مولانا البارون أجمل القصور في هذا العالم الذي هو أحسن ما يمكن من العوالم، وأن السيدة أصلح بارونة يمكن أن تكون.
وكان يقول: «لقد ثبت أن الأشياء لا يمكن أن تكون غير ما هي عليه؛ وذلك لأن كل شيء إذ صنع لغاية كان كل شيء لأصلح غاية بحكم الضرورة، فلاحظوا أن الأنوف صنعت لوضع نظارات؛ ولذا فإن لدينا نظارات، وأن السيقان صنعت لتسرول؛ ولذا فإن لدينا سراويل، وأن الحجارة صنعت لتنحت وتبنى بها قصور؛ ولذا فإن لمولانا قصرا رائعا جدا - ولا عجب. فيجب أن يكون بارون الإقليم الأكبر أحسن الناس منزلا، وبما أن الخنازير خلقت لتؤكل، فإننا نأكل لحم خنزير في جميع السنة. ومن ثم كان من الهراء زعم من قال: إن كل شيء حسن، فيجب أن يقول: إنه على أحسن ما يكون.»
وكان كنديد يستمع منتبها، وكان يصدق مع السذاجة؛ وذلك لأنه يجد الآنسة كونيغوند جميلة إلى الغاية، وإن لم يكن من الجرأة ما يبوح لها بذلك، وكان يحكم بأن أولى درجات السعادة هي أن يولد الإنسان بارون ثندر تن ترنك، وبأن ثانية درجات السعادة هي أن يكون الإنسان الآنسة كونيغوند، وبأن درجتها الثالثة أن يراها كل يوم، وبأن درجتها الرابعة أن يستمع للمعلم بنغلوس الذي هو فيلسوف الإقليم الأعظم، ومن ثم أعظم فلاسفة الأرض طرا.
وبينا كانت كونيغوند تتنزه ذات يوم بالقرب من القصر في الغابة الصغيرة المسماة حديقة، أبصرت الدكتور بنغلوس وهو يؤدي بين الدغل
2
درسا في الفيزياء التجربية إلى خادمة أمها، إلى هذه الخادمة السمراء المذعان
3
البالغة الظرف.
وإذ إن الآنسة كونيغوند ذات ميل كثير إلى العلوم فإنها لاحظت - من غير أن تنطق بكلمة - ما شاهدته من تجارب مكررة، ورأت بوضوح ما عند الدكتور من سبب كاف، كما رأت المعلولات والعلل، وانصرفت مضطربة جدا، مفكرة جدا، شديدة الرغبة في أن تكون عالمة، مبصرة إمكان كونها سببا كافيا للشاب كنديد، الذي يمكنه أن يكون سببا كافيا لها أيضا.
لاقت كنديد وهي راجعة إلى القصر، فاحمر وجهها خجلا، كما احمر وجه كنديد، وقد تمنت له نهارا سعيدا بصوت متهدج، وقد كلمها كنديد من غير أن يعرف ما قال.
ولما كان الغد وتناول الجميع الغداء، وغادروا مائدة الطعام، وجد كنديد وكونيغوند نفسيهما وراء حاجز، فأسقطت كونيغوند منديلها، فالتقطه كنديد، فتناولت يده بسلامة قلب، وقبل الفتى يد الفتاة ببساطة مع نشاط ولطف وظرف خاص، وتلتقي شفاههما، وتلتهب أعينها، وتصطك ركبهما، وتضل أيديهما.
ويمر السيد البارون ثندر تن ترنك بجانب الحاجز، ويشاهد هذه العلة وهذا المعلول، فيطرد كنديد من القصر، راكلا إياه من الخلف بشدة، ويغمى على كونيغوند، وتفيق وتلطمها السيدة البارونة، ويستحوذ ذعر على الجميع في أجمل ما يمكن أن يكون من القصور، وأبهج ما يمكن أن يشاد منها.
الفصل الثاني
ما حدث لكنديد بين البلغار
طرد كنديد من فردوس الأرض، فسار طويلا على غير هدى، باكيا رافعا عينيه إلى السماء، محولا إياهما - في الغالب - نحو القصر الأروع المشتمل على أجمل بارونة صغيرة، وقد نام بين أخدودين في وسط الحقول من غير أن يتناول العشاء، وقد كان الثلج يتساقط رضابا.
1
ويبدو كنديد في الغد مرتعد الفرائص بردا، فيجر نفسه إلى المدينة المجاورة المسماة فلدبرغوف تراربك دكدورف صفر اليد، ميتا جوعا وتعبا، ويقف حزينا عند باب حانة، ويلاحظه رجلان لابسان ثيابا زرقا، فيقول أحدهما للآخر: «ذاك شاب - يا رفيقي - حسن التكوين، مقبول القامة»، ويتقدمان نحو كنديد، ويدعوانه إلى الغداء بأدب جم، فيقول لهما بتواضع فتان: «أي سيدي: إنكما تبالغان في إكرامي، ولكن ليس عندي ما أدفع به حصتي»، فيقول أحد اللابسين ثيابا زرقا:
2 «آه سيدي، إن من له مثل وجهك وفضلك لا يدفع شيئا، ألا تبلغ قامتك خمس أقدام وخمس بوصات؟» ويقول مع حنو رأس: «أجل أيها السيدان، ذلكما قوامي.»
ويقولان: «آه أيها السيد، اجلس حول المائدة، لن نطيق وجود رجل مثلك يعوزه المال، فضلا عن أننا لا نكلفك بدفع شيء، فقد خلق الناس؛ ليتعاونوا»، ويقول كنديد: «الحق كما تقولان، وهذا الذي كان السيد بنغلوس يقوله لي دائما، وأرى كل شيء على أحسن ما يكون»، ويرجوان أن يقبل منهما بعض الدراهم فيأخذها، ويريد أن يعطي سندا بذلك، فلا يوافق على هذا مطلقا.
ويجلس الجميع حول المائدة، ويسأل: «ألا تحب حبا رقيقا؟» ويجيب: «وي! أجل، أحب الآنسة كونيغوند حبا رقيقا.» ويقول له أحد ذينك السيدين: «لا، إننا نسألك عن حبك لملك البلغار حبا رقيقا»، ويقول: «كلا؛ لأنني لم أره قط.» - «كيف؟! هو أكثر الملوك فتنة، فيجب أن يشرب نخبه.» - «وي! سمعا وطاعة أيها السيدان»، ويشرب، ويقال له: «كفى، أنت الآن سند البلغار وحاميهم وبطلهم، وقد نلت حظا، وضمنت مجدا.»
وتقيد رجلاه بالحديد حالا، ويؤتى به إلى الكتيبة، ويؤمر بالالتفات يمينا وشمالا، وبرفع المدك ووضعه، وبتسديد البندقية وإطلاق النار، ومضاعفة الخطو، ويضرب بالعصا ثلاثين مرة. وفي الغد يتحسن في التدريب قليلا فلا يتلقى غير عشرين ضربة، ويتلقى عشر ضربات فقط بعد يومين، فيعده رفقاؤه من الأعاجيب.
بهت كنديد ولم يكشف جيدا بعد كيف أنه بطل. ويعن له في يوم من الربيع أن يتنزه، وأن يمضي قدما معتقدا أن استخدام الإنسان لساقيه كما يروقه امتياز للنوع البشري كما هو امتياز للنوع الحيواني، ولم يكد يسير فرسخين حتى أدركه أربعة أبطال، يبلغ طول الواحد منهم ست أقدام، فأوثقوه وأتوا به إلى سجن مظلم.
ويسأل قضائيا عن اختياره بين أن يجلد ستا وثلاثين مرة من قبل كل جندي في الكتيبة، وأن يتلقى في دماغه اثنتي عشرة رصاصة دفعة واحدة. وهو - على ما كان من احتجاجه بأن للناس إرادة حرة - فلا يريد هذا ولا ذاك، لا بد له من الاختيار، فأراد - بما أنعم الرب عليه من حرية كما تسمى - معاناة السياط ستا وثلاثين مرة، ولم يحتمل غير جولتين، وكانت الكتيبة مؤلفة من ألفي رجل، فأصابته بأربعة آلاف جلدة، أسفرت عن كشف عضله وعصبه فيما بين نقرته
3
ومقعده. وبما أنه عاد لا يطيق أكثر من ذلك، وبما أنهم كادوا يبدءون بالجولة الثالثة، التمس ضارعا أن يحسن إليه بتحطيم رأسه، فنال هذا اللطف.
وتعصب عيناه، ويقعد على ركبتيه، ويمر ملك البلغار في تلك الدقيقة، ويسأل عن جناية المحكوم عليه بالموت، ويدرك الملك - بما فطر عليه من عبقرية عظيمة، وبما علم عن كنديد - أنه فتى من علماء ما بعد الطبيعة، جاهل كل الجهل لأمور هذه الدنيا، فيعفو عنه برأفة تحمد له في جميع الصحف وعلى مر القرون.
ويشفى كنديد في ثلاثة أسابيع على يد جراح جريء، استعمل ما نص عليه ذيسقوريذس من مراهم، ويكتسي قليل جلد، ويستطيع المشي في وقت سار فيه ملك البلغار لمقاتلة الآبار.
الفصل الثالث
كيف نجا كنديد من البلغار وما وقع له
لم يكن مثل الجيشين شيء روعة ونشاطا وبهاء وحسن تنظيم، وكان يتألف من الأبواق والمزامير والنايات والطبول والمدافع انسجام لم يوجد له نظير في جهنم، وأول ما صنعته المدافع هو أنها صرعت نحو ستة آلاف رجل من كل جانب، ثم قضى إطلاق البنادق على ما بين تسعة آلاف وغد وعشرة آلاف وغد من أصلح العوالم، كانوا يفسدون وجهه.
وكانت الحراب سببا كافيا لهلاك بضعة آلاف من الناس، ويمكن تقدير جميع ذلك بثلاثين ألفا من النفوس، ويرتجف كنديد مثل فيلسوف، فيختفي ما استطاع في أثناء هذا المجزر البطلي.
وأخيرا، بينا كان كل من الملكين يأمر بأن ترتل تسبحة الشكر في معسكره، عزم كنديد على الذهاب إلى مكان آخر؛ لينظر في المعلولات والعلل، ويمر على أكداس القتلى والمحتضرين. ويبلغ في بدء الأمر قرية مجاورة تحولت إلى رماد، وهذه قرية آبارية حرقها البلغار وفق قوانين الحق العام، وهنا شيوخ أمعن في ضربهم، فينظرون إلى نسائهم اللائي ذبحن ممسكات أولادهن عند ثديهن الدامية، وهناك فتيات مبقورات البطون، يلفظن أنفاسهن الأخيرة، بعد أن قضى بعض الأبطال أوطارهم الطبيعية منهن، وهنالك أخريات نصف محرقات يصرخن للإجهاز عليهن، وتوجد أدمغة منثورة على الأرض بجانب ذرعان مقطعة وسيقان مبتورة.
ويفر كنديد إلى قرية أخرى بأسرع ما يمكن، وهذه قرية من أملاك البلغار عاملها أبطال الآبار بمثل ما عامل به البلغار تلك القرية، ويمشي كنديد دائما على أشلاء مرتجة، أو من بين أنقاض.
وأخيرا ينتهي إلى ما وراء ساحة الحرب، حاملا قليلا من الزاد في خرجه غير ناس للآنسة كونيغوند مطلقا، وتعوزه الميرة حين وصوله إلى هولندة، ولكن بما أنه سمع قولا عن كون جميع الناس أغنياء نصارى في هذا البلد، لم يشك في أنه سيلقى حسن معاملة منهم، كما عومل في قصر السيد البارون قبل أن يطرد منه في سبيل عيني الآنسة كونيغوند الجميلتين.
ويسأل كثيرا من ذوي الرصانة أن يعطوه صدقة، فيجمعون على الجواب، بأنه إذا داوم على هذه الحرفة حبس في دار للإصلاح، يعلم فيها كيف يعيش.
ثم يقصد رجلا تكلم ساعة كاملة عن الإحسان في مجلس كبير، وينظر هذا الخطيب إليه شزرا ويقول له: «لم أتيت إلى هنا؟ ألغرض صالح؟» ويجيب كنديد بقوله متواضعا: «لا معلول بلا علة، وكل متسلسل بحكم الضرورة، منظم على أحسن ما يمكن، وكان لا بد من طردي من عند الآنسة كونيغوند، وكان لا بد من جلدي، ومن طلب خبزي حتى أقدر على كسبه، وما كان هذا كله ليقع على وجه آخر.»
ويقول الخطيب له: «أتعتقد يا صاحبي، أن البابا عدو المسيح؟» ويجيب كنديد بقوله: «لم أسمع بهذا قبل الآن، وسواء أكان البابا هكذا أم لم يكن، فإن القوت يعوزوني.» ويقول الخطيب: «أنت لا تستحق أن تأكل منه، فاذهب أيها الوغد، اذهب أيها المسكين، ولا تدن مني أبدا.»
وتخرج امرأة الخطيب رأسها من النافذة، وتقول - إذ ترى رجلا لا يعتقد أن البابا عدو المسيح: «يا رب! يا غيرة النساء البالغة على الدين.»
ويرى رجل لم يعمد قط - رجل تعميدي صالح، رجل اسمه جاك - سوء ما عومل به أحد إخوانه، قسوة ما عومل به مخلوق ذو رجلين، ذل ما عومل به موجود بلا ريش، إنسان ذو روح، فيأتي به إلى بيته وينظفه، ويعطيه خبزا وجعة، ويقدم إليه فلورينين، ويريد أيضا أن يعلمه العمل في مصانعه الهولندية التي تصنع فيها نسائج فارسية.
ويسجد كنديد أمامه تقريبا ويقول بصوت عال: «أصاب المعلم بنغلوس في قوله لي: إن كل شيء في هذا العالم يسير على أحسن ما يكون، فما لاقيت من كرمك المتناهي كان له من الأثر البالغ في نفسي ما هو أعظم من قسوة ذلك السيد ذي الحلة السوداء، وقسوة السيدة زوجته.»
وبينما كان يتنزه في الغد لاقى سائلا مستورا ببثور، مطفأ العينين، مقرض الأرنبة،
1
معوج الفم، أسود الأسنان، أبح الصوت، وكان هذا المسكين يألم من سعال شديد، فيبصق في كل سعلة سنا.
الفصل الرابع
كيف لاقى كنديد معلمه القديم في الفلسفة: الدكتور بنغلوس وما وقع له
هزت الشفقة كنديد أكثر من أن تهزه النفرة، فأعطى هذا السائل الهائل ذينك الفلورينين اللذين كان قد أخذهما من التعميدي الصالح جاك، ويصوب هذا الهزيل نظره إليه، ويسكب عبرات ويعانقه، فيتراجع كنديد مذعورا.
قال البائس للبائس الآخر: «واها! أعدت لا تعرف بنغلوسك العزيز؟» - «ما أسمع؟ أنت معلمي العزيز! أنت في هذه الحال الفظيعة! أي بلاء ألم بك إذن؟ ما السبب في أنك عدت لا تكون في أجمل القصور؟ ما خبر الآنسة كونيغوند التي هي درة الفتيات وطرفة الطبيعة؟»
فقال بنغلوس: «أنا منهوك»، فأخذه كنديد من فوره إلى مراح التعميدي حيث أكل قليل خبز، ولما صح بنغلوس قال له كنديد: «خيرا! كونيغوند؟» فقال بنغلوس: «لقد ماتت»، ويغمى على كنديد عند سماع هذه الكلمة، فيعيد صديقه إليه وعيه بقليل من الخل الرديء الذي وجد في المراح عرضا، ويفتح كنديد عينيه ويقول: «ماتت كونيغوند! آه، أين أنت يا خير الناس؟ ولكن بأي مرض ماتت؟ ألأنها رأتني أطرد بضربات الرجل من القصر الجميل الذي يملكه أبوها السيد؟»
فقال بنغلوس: «كلا، بل بقر بطنها جنود من البلغار، بعد أن اغتصبوها ما استطاعوا، وكسروا رأس السيد البارون الذي أراد الدفاع عنها، وقطعوا السيدة البارونة إربا إربا، وصنع بتلميذي المسكين كما صنع بأخته. وأما القصر فلم يبق منه حجر على حجر، ولم يبق نبر
1
ولا ضأن ولا بط ولا شجر، غير أنه انتقم لنا، فقد أصاب الآبار بمثل ذلك السوء بارونية مجاورة يملكها سنيور بلغاري.»
ويسمع كنديد هذا الكلام فيغمى عليه أيضا، ويعود إليه وعيه، ويقول كل ما يجب أن يقول، ويبحث عن العلة والمعلول وعن السبب الكافي الذي نزل به بنغلوس إلى مثل تلك الحال المبكية كثيرا، فيقول بنغلوس: «آه! ذلك هو الحب، الحب المفرج لكرب الجنس البشري والحافظ للكون، الحب الناعم الذي هو روح جميع الموجودات الحاسة.»
ويقول كنديد: «يا حسرتا! عرفت هذا الحب، هذا المسيطر على القلوب، هذا الروح لروحنا، هذا الذي لم يأتني بغير قبلة وعشرين ركلة على استي، فكيف أدت هذه العلة الرائعة إلى هذا المعلول المرذول بهذا المقدار؟»
ويجيبه بنغلوس بهذه الكلمات: «أي كنديدي العزيز! أنت تذكر باكت، هذه الخادمة الحسناء لدى بارونتنا المبجلة، فقد ذقت بين ذراعيها ملاذ الجنة التي أدت إلى ما يفترسني من آلام الجحيم كما ترى، وقد كانت مصابة بها، ومن المحتمل أن ماتت بها، وقد نالت باكت هذه الهدية من راهب علامة، أتى بها من منبعها، وذلك أنها انتقلت إليه من كونتسة عجوز، كانت قد أخذتها من قائد فرسان مدين بها لمركيزة تلقتها من خادم أمير تناولها من يسوعي حديث عهد بالرهبانية، فانتهت إليه من أحد أصحاب كرستوف كولنبس توا، وأما أنا فلن أنعم بها على أحد؛ لأنني أقضي نحبي.»
كنديد (صارخا) : «أي بنغلوس تلك سلسلة نسب غريبة! ألم يكن الشيطان أصلا لها؟»
الرجل الكبير (مجيبا) :
كلا، هذا أمر لازم في أصلح العالمين ، هذا عنصر ضروري، فلو لم يصب صاحب كولنبس بهذا الداء في جزيرة بأمريكة، بهذا المرض الذي يفسد أصل النسل، بهذا الوصب الذي يعوق النسل في الغالب، بهذا العياء المخالف لغرض الطبيعة - كما هو واضح - ما كانت عندنا شكولاتة ولا دودة قرمز.
ومما يلاحظ أيضا كون هذا المرض في قارتنا لا يزال خاصا بنا كالجدل، فلما يعرفه الترك والهنود والفرس والصينيون والسياميون واليابانيون، ولكنه يوجد سبب يكفي لمعرفتهم إياه بدورهم في بضعة قرون، وريثما يقع ذلك نقول: إنه تقدم تقدما عجيبا بيننا، ولا سيما في تلك الجيوش العظيمة، المؤلفة من مرتزقة صالحين، حسني التنشئة، يقررون مصير الدول، فيمكن أن يقال مع التوكيد: «إنه إذا ما اصطف ثلاثون ألف مقاتل لخوض معركة، وكان يقابلهم من الكتائب ما يشتمل على مثل هذا العدد من المقاتلة، وجد في كل من الفريقين نحو عشرين ألف مصاب بالزهري.»
ويقول كنديد: «هذا أمر عجيب، ولكن يجب أن تشفى»، ويقول بنغلوس: «كيف أقدر على ذلك؟ إنني لا أملك فلسا يا صديقي، ولا يتم فصد ولا حقن لإنسان في جميع هذه الدنيا من غير أن يدفع مالا، أو من غير أن يوجد من يدفع عنه مالا.»
وتحث هذه الكلمة كنديد، فيذهب ويرتمي على قدمي التعميدي المحسن إليه جاك، ويصف له ما صار إليه صديقه من حال وصفا مؤثرا جدا، فلم يتردد هذا الرجل الطيب في إيواء الدكتور بنغلوس، ويشفيه على نفقته، ولم يفقد بنغلوس في هذه المعالجة غير عين وغير أذن.
وكان بنغلوس حسن الخط، تام المعرفة بالحساب، فعينه التعميدي جاك ممسكا لدفاتره، ويمضي شهران فيضطر جاك إلى الذهاب إلى أشبونة من أجل أعماله التجارية، ويأخذ معه فيلسوفيه في السفينة، ويفصل له بنغلوس كيف أن كل شيء جعل على أحسن ما يكون، ولم يكن جاك على هذا الرأي؛ فقال: «لا بد من أن يكون الناس قد أفسدوا الطبيعة قليلا؛ وذلك لأنهم لم يولدوا ذئابا، فصاروا ذئابا، ولم يعطهم الرب مدافع من عيار أربع وعشرين، ولم يعطهم الرب حرابا، فصنعوا مدافع وحرابا ليبيد بعضهم بعضا، وأستطيع أن أشير إلى الإفلاسات، وإلى القضاء الذي يقبض على أموال المفلسين ليحرمه الدائنون.»
فأجابه الدكتور الأعور بقوله: «كان جميع هذا ضروريا، فعن المصائب الخاصة ينشأ الخير العام، وإن شئت فقل: إن المصائب الخاصة كلما زادت تحسن كل شيء.»
وبينا كان يبرهن أظلم الهواء، وهبت الرياح من جهات العالم الأربع، فهوجمت السفينة بأفظع عاصفة إزاء ميناء أشبونة.
الفصل الخامس
عاصفة وغرق وزلزلة، وما وقع للدكتور بنغلوس وكنديد والتعميدي: جاك
لم يكن عند نصف المسافرين الخائرين من القوة ما يجزعون معه حتى من الخطر؛ وذلك لما حدث لهم من إغماء، بسبب هذه الغموم التي أصاب ترنح السفينة بها الأعصاب وجميع أمزجة الأبدان، فهزت على وجوه مختلفة، وأما النصف الآخر فكان يصلي ويستغيث، وقد مزقت الأشرعة، وكسرت الصواري، وخرقت السفينة، وقد كان يعمل من يستطيع العمل، ولا يرى من يتفاهم ولا من يقود، وقد كان التعميدي على ظهر المركب، فيساعد قليلا على الإدارة، ويضربه ملاح غضبان ضربا شديدا، ويطرحه على الألواح، ويصاب هذا النوتي برجفة عنيفة، فيسقط بها خارج السفينة، ويكون رأسه أول ما يسقط، ويظل معلقا متعلقا في قسم من الصاري المحطم، ويهرع جاك الصالح إلى مساعدته ويعينه على الصعود.
وكان من الجهد الذي بذل، أن تدهور في البحر على مرأى من البحار، الذي تركه يهلك من غير أن يتفضل حتى بالنظر إليه، ويدنو كنديد، ويبصر المحسن إليه الذي ظهر ثانية، والذي ابتلعه اليم إلى الأبد، ويريد أن يلقي نفسه في البحر وراءه، ويمنعه الفيلسوف بنغلوس من هذا، مثبتا له أن خليج أشبونة كون تكوينا خاصا ليغرق فيه ذاك التعميدي.
وبينا كان يبرهن على هذا الأمر «البديهي»، انشقت السفينة فهلك الجميع، خلا بنغلوس وكنديد وذاك النوتي الجافي الذي أوجب غرق التعميدي الفاضل، ويوفق هذا اللئيم للسباحة حتى الساحل الذي حمل إليه بنغلوس وكنديد على لوح.
ويعود إليهما بعض الصحو، فيسيران نحو أشبونة، وقد بقي عندهما من الدراهم القليلة ما كانا يرجوان معه أن ينجوا من الجوع بعد أن سلما من العاصفة.
ولم تكد أقدامهما تطأ مدينة أشبونة باكيين ذلك المنعم عليهما، حتى شعرا بزلزلة
1
تحت خطواتهما، ويرتفع البحر فائرا في الميناء، ويحطم المراكب الراسية، وتغطي الشوارع والميادين العامة زوابع من اللهب والرماد، وتنهار البيوت، وتسقط السقف على الأسس، وتفرق الأسس، وينسحق تحت الأنقاض ثلاثون ألف ساكن من كل سن وجنس، ويقول الملاح وهو يصفر مقسما: «يوجد ما يلتقط هنا»، ويقول بنغلوس: «ما يمكن أن يكون السبب الكافي لهذا الحادث؟» ويصرخ كنديد قائلا: «هذا آخر أيام الدنيا!» ويركض الملاح من فوره بين الأنقاض، ويقتحم الموت بحثا عن المال، ويجد مالا، ويقبض عليه، ويثمل وينام مخمورا، ويشتري راضيا ألطاف أول فتاة يلاقيها فوق أنقاض البيوت المهدومة وبين المحتضرين والموتى، ومع ذلك فقد جره بنغلوس من كمه وقال له: «ليس هذا عملا صالحا يا صاحبي، وأراك غافلا عن الحق العام مختارا أسوأ الأوقات»، ويجيب الملاح عن هذا بقوله: «يا للقرد، إني نوتي، وقد ولدت في بتافيا، ودست الصليب أربع مرات
2
في رحلاتي الأربع إلى اليابان، فلست بالرجل الذي يبالي بحقك العام.»
وجرح بعض الشظايا من الحجارة كنديد، فانبطح في الشارع، وستر بالأنقاض، فقال لبنغلوس: «آه! أحضر قليل خمر وزيت، فأنا أموت»، فأجاب بنغلوس بقوله: «ليست هذه الزلزلة شيئا جديدا، فلقد عانت مدينة ليما بأمريكة عين الهزات في العام الماضي، وتنشأ ذات المعلولات عن ذات العلل، ولا ريب في وجود سلسلة من الكبريت تحت الأرض بين ليما وأشبونة.»
ويقول كنديد: «لا شيء أكثر احتمالا من هذا، ولكن بالله عليك أن تحضر لي قليل زيت وخمر»، ويجيب الفيلسوف قائلا: «ما تعني بقولك: محتمل؟ فالأمر ثابت عندي»، ويفقد كنديد شعوره، ويأتيه بنغلوس بماء قليل من عين قريبة.
ويجدان في الغد بعض الزاد بانسيابهما بين الأنقاض فيقومان به بعض أودهما، ثم يعملان كالآخرين في الترويح عن الأهلين الذين نجوا من الموت، ومما حدث أن بعض المواطنين الذين أعاناهم قدموا إليهما غداء، يعد أحسن ما يمكن في مثل هذه النكبة.
أجل، كان الطعام كئيبا ما كان الضيوف يبللون خبزهم بدموعهم، بيد أن بنغلوس ألقى سلوانا في نفوسهم عندما ذكر لهم مؤكدا أن الأمور لم تكن لتحدث على غير ما تم، وقد قال لهم: «وذلك لأن جميع ما حدث هو أحسن ما يكون؛ وذلك لأنه إذا وجد بركان في أشبونة لم يمكن أن يكون في مكان آخر؛ وذلك لأن من المحال أن تقع الأمور في مكان غير الذي وقعت فيه؛ وذلك لأن كل شيء حسن.»
ووجد بجانبه رجل أسود قصير موظف لدى محكمة التفتيش، فتناول هذا الرجل الكلام وقال بأدب: «يظهر أن هذا السيد لا يؤمن بالخطيئة الأصلية، فإذا كان كل شيء على أحسن ما يكون لم تكن هنالك زلة ولا جزاء.»
ويجيب بنغلوس بأدب أعظم من ذلك إذ يقول: «أطلب عفوك متواضعا يا صاحب السعادة، وأقول: إن زلة الإنسان واللعنة تدخلان ضمن أحسن العالمين بحكم الضرورة»، ويقول الموظف: «ألا تعتقد الإرادة أيها السيد؟» ويقول بنغلوس: «عفوا يا صاحب السعادة، يمكن الإرادة أن تكون مع الوجوب المطلق، فمن الوجوب أن نكون ذوي اختيار؛ وذلك لأن الإرادة المقدرة ...» وبينا كان بنغلوس في وسط جملته أشار الموظف برأسه إلى خادمه المسلح الذي كان يصب له خمر بورتو أو أوبورتو.
الفصل السادس
كيف صدر حكم تفتيشي رائع لمنع الزلازل وكيف جلد كنديد على ألييه
لم يجد حكماء البلد - بعد الزلزلة التي قضت على ثلاثة أرباع أشبونة - وسيلة أشد فعلا لمنع وقوع خراب شامل من منح الأمة حكما تفتيشيا
1
رائعا، فقد قضت جامعة قلمرية بأن منظر أناس قليلين يحرقون بالنار في احتفال كبير، ينطوي على سر مضمون يمنع الأرض من الاهتزاز.
وكان قد قبض على رجل من بسقاية ثبت تزوجه بشبينته، وعلى رجلين من البرتغال، أكلا فرخة مع نزع شحمها، ويقيد الدكتور بنغلوس وتلميذه كنديد بعد الغداء، يقيد الأول لأنه تكلم، ويقيد الآخر لأنه استمع له سماع استحسان، ويوضع الاثنان على انفراد في منزلين باردين إلى الغاية، في منزلين لم يعنتا بالشمس قط.
وتمضي ثمانية أيام فيلبسان ثوبين بندكتيين ، ويزين رأساهما بتاجين من ورق، فأما تاج كنديد وثوبه فملونان بلهب مقلوب وبشياطين لا أذناب لها ولا مخالب، وأما شياطين بنغلو فذوو مخالب وأذناب مع لهب مستقيم.
ويسيران في موكب لابسين على هذا الوجه، ويستمعان لوعظ مؤثر جدا تعقبه موسيقا كنسية جميلة، ويجلد كنديد على ألييه مع الإيقاع في أثناء الإنشاد، ويحرق البسقائي والرجلان اللذان لم يريدا أن يأكلا شحما، ويشنق بنغلوس على خلاف العادة، وفي اليوم ذاته تزلزل الأرض مجددا مع صوت هائل.
2
ويقول كنديد في نفسه مذعورا حائرا مضطربا داميا مرتجفا: «إذا كان هنا أحسن ما يمكن من العوالم، فما تكون العوالم الأخرى؟ لأدع أمر جلدي على أليي يمر، فلقد جلدت عند البلغار، ولكن يا أسفا عليك أيها العزيز بنغلوس، يا أعظم الفلاسفة! أوكان يجب أن أراك مشنوقا من غير أن أعرف السبب؟ يا أسفا عليك أيها التعميدي العزيز الذي هو أطيب الناس! أوكان يجب أن تغرق في الميناء؟ يا أسفا عليك أيتها الآنسة كونيغوند التي هي درة الفتيات! أوكان يجب أن يبقر بطنك؟»
انصرف ولم يكد يحمل نفسه، وكان مبشرا مضروبا على ألييه مغفورا له مباركا، وكان ذلك حينما دنت منه امرأة مسنة وقالت له: «تشجع يا ولدي واتبعني.»
الفصل السابع
كيف عنيت عجوز بكنديد وكيف وجد من كان يحب
لم يتشجع كنديد قط، ولكنه تبع العجوز إلى خربة، فتعطيه وعاء مرهم ليدلك نفسه، وتترك له ما يأكل ويشرب، وتريه فراشا صغيرا نظيفا يوجد بجانبه ثوب كامل، وتقول له: «كل واشرب ونم، وكن في حرز عذراء أتوكا ومولانا القديس أنطوان البادوي ومولانا القديس جاك الكنبوستلي، وسأعود غدا.»
ويستمر دهش كنديد من كل ما رأى وما قاسى، وأكثر من هذا دهشه من إحسان العجوز، فيريد أن يقبل يدها، فتقول: «ليست يدي هي التي يجب أن تقبل، سأعود غدا، ادلك نفسك بالمرهم، وكل ونم.»
أكل كنديد ونام مع جميع تلك المصائب، وفي الغد تأتيه العجوز بالفطور، وتكشف عن ظهره وتدلكه بمرهم آخر، ثم تأتيه بالغداء، ثم ترجع إليه مساء ، جالبة العشاء له، ولما كان اليوم التالي قامت بذات الأعمال أيضا، وما فتئ كنديد يسأل: «من أنت؟ من الذي ألهمك هذا الصلاح البالغ؟ أي شكران يمكنني أن أقابلك به؟»
ولا تجيب العجوز الصالحة عن ذلك بشيء، وتعود مساء من غير أن تكون جالبة عشاء، وتقول له: «تعال معي، ولا تنطق بكلمة»، وتأخذه من ذراعه، وتسير معه في الحقول المجاورة نحو ربع ميل، ويصلان إلى منزل منعزل محاط بحدائق وقنوات، وتقرع العجوز بابا صغيرا فيفتح، وتأتي بكنديد من سلم سري إلى غرفة مذهبة، وتتركه على متكأ من ديباج، وتغلق الباب وتنصرف، ويظن كنديد أنه يحلم، وتتمثل له حياته حلما مزعجا، ويرى الساعة الحاضرة حلما لذيذا.
وتظهر العجوز من فورها مرة أخرى، وكانت تسند بمشقة امرأة مرتعشة مبرقعة ذات قامة رائعة وذات جواهر ساطعة، وتقول العجوز لكنديد: «ارفع هذا البرقع»، ويتقدم الرجل الشاب، ويرفع البرقع متهيبا، يا لها من ساعة! يا لها من مفاجأة! يظن أنه يرى الآنسة كونيغوند، لقد رآها فعلا، هي هي، وتخور قواه، ولم يستطع أن ينطق بكلمة، ويقع على قدميها، وتقع كونيغوند على المتكأ، وتسعفها العجوز بسوائل روحية، ويعود إحساسهما إليهما، ويأخذان في الحديث، وأول ما صدر عنهما كلام متقطع وأسئلة وأجوبة متداخلة وتنهدات وعبرات وصيحات، وتوصيهما العجوز بأن يكونا أقل ضوضاء، وتدعهما وحدهما.
ويقول كنديد: «ماذا؟ أأنت؟ لا تزالين حية! أجدك في البرتغال! إذن لم تغتصبي! لم يبقر بطنك قط، خلافا لما رواه لي الفيلسوف بنغلوس موكدا.»
وتقول كونيغوند الحسناء: «أجل، لقد وقع ذلك، غير أن هذين الحادثين لا يفضيان إلى الموت في كل وقت.» - «ولكن، ألم يقتل أبوك وأمك؟» وتقول كونيغوند باكية: «بلى، لقد قتلا.» - «وأخوك؟» - «لقد قتل أيضا.» - «ولم أنت في البرتغال؟ وكيف علمت أنني في هذا البلد؟ وبأية مغامرة غريبة أوجبت سوقي إلى هذا المنزل؟»
وتجيب السيدة: «سأقص عليك جميع هذا، ولكنه يجب قبل أن أفعل هذا أن تنبئني بجميع ما وقع لك منذ القبلة البريئة التي طبعتها علي، وما تلقيته من ركلات.»
ويطيع كنديد مع احترام عميق. وعلى ما كان من اضطرابه، ومن ضعف وارتجاف في صوته، وعلى ما بقي من ألم في فقاره، فإنه قص عليها - بأبسط ما يمكن - جميع ما ابتلي به منذ افتراقهما.
وترفع كونيغوند عينيها إلى السماء، وتسكب عبرات حزنا على موت التعميدي الصالح وعلى موت بنغلوس، ثم حدثت بهذه العبارات كنديد الذي لم تفته أية كلمة، والذي كان يلتهمها بعينيه.
الفصل الثامن
قصة كونيغوند
«كنت في سريري، وكنت نائمة نوما عميقا عندما شاء الرب أن يرسل البلغار إلى قصر ثندر تن ترنك، إلى قصرنا الجميل هذا، فذبحوا أبي وأخي، وقطعوا أمي إربا إربا، ويبصر بلغاري بالغ من الطول ست أقدام، أنني فقدت صوابي عند هذا المنظر، فأخذ يغتصبني، فعاد إلي بهذا صوابي، واسترددت بهذا مشاعري، فصحت وهجت، وعضضت وخمشت، وأردت قلع عيني هذا البلغاري الطويل غير عارفة بأن ما حدث في قصر أبي كان من العادة. ويطعنني هذا البهيمي في خاصرتي اليسرى بسكين طعنة لا يزال أثرها باديا.»
فيقول الساذج كنديد: «يا حسرتا! أرجو أن أرى هذا الأثر.»
وتقول كونيغوند: «أجل، ستراه، ولكن لنواصل الحديث.»
ويقول كنديد: «واصلي.»
فوصلت بين طرفي قصتها بما يأتي: «ويدخل قائد بلغاري، ويراني دامية، ولم يرتبك الجندي، ويغضب القائد من قلة احترام هذا البهيمي له، ويقتله على جسمي، ثم يأمر بضمد جرحي، ويأتي بي إلى معسكره أسيرة حرب، وكنت أغسل ما عنده من قمصان قليلة، وكنت أطبخ له، ويجدني جميلة جدا، ويجب أن يسلم بهذا، ولا أنكر أنه كان حسن القوام أبيض الإهاب ناعمه، فإذا عدوت هذا وجدته قليل الذكاء قليل الفلسفة، ومن الواضح أنه لم ينشأ من قبل الدكتور بنغلوس. وتمضي ثلاثة أشهر فينفد جميع ماله، وتعافني نفسه، ويبيعني من يهودي اسمه دون إيساشار، الذي كان يتاجر في هولندة والبرتغال، ويحب النساء بولع، ويتعلق هذا اليهودي كثيرا في، ولكنه لم يقدر على الفوز بي، فقد قاومته أكثر من مقاومتي الجندي البلغاري، فقد تغتصب المرأة الصالحة مرة، ولكن فضيلتها تثبت بهذا، وقد أتى اليهودي بي إلى هذا المنزل الريفي الذي تراه ليتغلب علي، وقد كنت أعتقد حتى ذلك الحين أنه لا شيء على الأرض رائع كقصر ثندر تن ترنك، فزال وهمي.» «ويراني قاضي التفتيش الأكبر في القداس ذات يوم، ويحدق إلي كثيرا، ويرسل من يبلغني أنه يريد أن يكلمني في أمور سرية، ويؤتى بي إلى قصره، وأخبره عن أصلي، ويقول: إنه لا يناسب مقامي مطلقا أن أكون ملك يهودي، ويقترح على دون إيساشار أن يتنزل عني لسيادته، ويكون دون إيساشار صيرفيا للبلاط نافذا فلا يوافق، ويهدده ذاك القاضي بحكم تفتيشي. وأخيرا يخاف اليهودي فيعقد صفقة أكون بها مع المنزل ملكا للاثنين، فتكون أيام الاثنين والأربعاء والسبت لليهودي، وتكون أيام الأسبوع الأخرى لقاضي التفتيش. وقد مضت ستة أشهر على هذا العهد، ولم تقض الأمور من غير نزاع، فمما يحدث في الغالب ألا يقطع في كون ليلة السبت أو ليلة الأحد خاضعة للشرع القديم أو الشرع الجديد، وأما أنا فقد قاومت كلا الشرعين حتى الآن، وأظن أن هذا سبب بقائي محبوبة دائما.» «ثم راق مولانا القاضي أن ينفذ حكما تفتيشيا، دفعا لآفة الزلازل، وتخويفا لدون إيساشار، فشرفني بالدعوة إلى ذلك، وقد أعد لي مقعد رائع، وقد قدم إلى السيدات بعض المرطبات بين القداس والتنفيذ، والحق أنه اعتراني ارتجاف عندما رأيت إحراق ذينك اليهوديين، وذاك البسقائي الصالح الذي تزوج شبينته، ولكن يا لشدة ما أصابني من دهشة وذعر واضطراب عندما رأيت وجها يشابه وجه بنغلوس في ثوب بندكتي وتحت تاج! وقد فركت عيني ونظرت بدقة فرأيت شنقه، فخارت قواي، ولم أكد أسترد شعوري حتى رأيتك عاريا، فكان بهذا تمام اشمئزازي وذعري وألمي وقنوطي، وأقول لك - والحق أقول: إن إهابك أشد بياضا مع حمرة من إهاب صاحبي القائد البلغاري، وقد ضاعف هذا المنظر جميع ما كان يسحقني ويقضمني من المشاعر، وقد صرخت وقد حاولت أن أقول: «مهلا أيها البرابرة!» غير أن الصوت خانني، وكانت صرخاتي لا تجدي نفعا لو صحت. ولما تم جلدك على ألييك قلت في نفسي: ما الذي جاء بالحبيب كنديد وبالحكيم «بنغلوس» إلى أشبونة، حتى يجلد أحدهما مائة جلدة، وحتى يشنق الآخر بأمر من مولانا قاضي التفتيش الذي أعد محبوبته المفضلة؟ ولذا يكون بنغلوس قد خادعني بقسوة عندما كان يقول لي: إن كل شيء في العالم يسير على خير ما يكون.» «وأكون مضطربة حائرة خائرة تارة، وأكاد أموت ضعفا تارة أخرى، ولا غرو، فقد زخر رأسي بقتل أبي وأمي وأخي، وبتطاول الجندي البلغاري البغيض، وطعنه إياي بالسكين، وباسترقاقي وطهايتي وبالقائد البلغاري، وبدون إيساشار الكريه، وبقاضي التفتيش القبيح، وبشنق الدكتور بنغلوس، وبنشيد «ارحمني» الكنسي، الذي كنت تجلد على ألييك في أثنائه، ولا سيما تلك القبلة التي منحتك إياها خلف الحاجز في آخر يوم رأيتك فيه، وأحمد الله الذي ردك إلي بعد ابتلاء كثير، وأوصي عجوزي بأن تعنى بك، وبأن تجيء بك إلى هنا عند قدرتها على ذلك، فتجيد تنفيذ وصيتي، وأجد لذة تفوق الوصف بأن أراك ثانية، فأسمعك وأتحدث إليك، ولا بد أنك جائع جوعا شديدا، وشهوة الطعام قوية عندي، فلنبدأ بالعشاء.»
ويجلس الاثنان حول المائدة، ويعودان بعد العشاء إلى ذلك المتكأ الجميل الذي تكلمنا عنه، ويكونان عليه عندما وصل السنيور دون إيساشار الذي هو أحد صاحبي المنزل، فاليوم يوم السبت، وقد حضر ليتمتع بحقه، ويعرب عن ناعم حبه.
الفصل التاسع
ما وقع لكونيغوند وكنديد وقاضي التفتيش الأكبر ولليهودي
كان إيساشار هذا أغضب عبري شوهد في إسرائيل منذ إسارة بابل، وقد قال: «ماذا؟ عاهرة الجليل، ألا يكفي قاضي التفتيش؟ أيجب أن يقاسمني إياك هذا النذل أيضا؟»
ويشهر وهو يقول هذا، خنجرا طويلا كان لا يفارقه مطلقا، وذلك من غير أن يبصر أن خصمه مسلح، وينقض على كنديد، بيد أن هذا الفستفالي الصالح كان قد تسلم سيفا رائعا من العجوز مع الثوب الكامل، ويشهر السيف مع ما فطر عيه من حلم، ويجندل الإسرائيلي مقتولا عند قدمي كونيغوند الحسناء.
وتصرخ قائلة: «أيتها القديسة العذراء، ما يحدث لنا؟ رجل قتل في منزلي! لو جاءت الشرطة لهلكنا.»
ويقول كنديد : «لو لم يشنق بنغلوس لأحسن النصح لنا عند هذه الورطة، فقد كان فيلسوفا عظيما، ودعينا نستنصح العجوز بسبب افتقاده.»
وكانت العجوز بالغة الحذر، وكانت تبدي رأيها عندما فتح باب صغير، فقد حلت الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وبدأ يوم الأحد الذي هو خاص بمولانا قاضي التفتيش، ويدخل ويرى المضروب على ألييه كنديد شاهرا سيفا، ويرى قتيلا مطروحا على الأرض، ويرى كونيغوند مذعورة، ويرى العجوز وهي تبدي نصائحها.
وإليك ما دار في خلد كنديد في تلك الدقيقة، وإليك طراز تفكيره: «إذا ما طلب هذا الرجل القديس عونا أوجب تحريقي لا محالة، وهو يمكنه أن يصنع مثل هذا بكونيغوند، وقد حدث أن أمر بجلدي غير راحم، ويعد منافسي، ولا أجد معدلا عن قتله، ولا سبيل إلى التردد.»
وكان هذا الحكم جليا سريعا، ولم يترك كنديد لقاضي التفتيش من الوقت ما يخرج فيه من دهشه، فبقره من طرف إلى طرف، ورماه إلى جانب اليهودي.
وتقول كونيغوند: «هذه ورطة أخرى، لا أمل في الخلاص، لقد حاق بنا حرمان الكنيسة، لقد حلت ساعتنا الأخيرة، كيف حدث أن قتلت - أنت الذي ولد وديعا جدا - يهوديا وأسقفا في دقيقتين؟»
ويجيب كنديد بقوله: «آنستي الحسناء، إذا كان الرجل عاشقا غيورا، وإذا جلد من قبل محكمة التفتيش، صار غير ذي وعي.»
وهنالك تناولت العجوز الحديث وقالت: «يوجد في الإسطبل ثلاثة أفراس أندلسية مسرجة ملجمة، فليعدها الباسل كنديد، ويوجد عند السيدة مال وألماس، فلنركب على عجل، وإن كنت لا أستطيع القعود على غير العجز، ولنذهب إلى قادس حيث أجمل جو في العالم، وإن من أعظم المتع أن يسافر في طراوة الليل.»
هيأ كنديد الأفراس الثلاثة، وسار مع كونيغوند والعجوز ثلاثين ميلا من غير وقوف، وبينا كانوا يبتعدون وصلت جماعة القديسة هرمنداد إلى البيت، فدفن المنسنيور في كنيسة رائعة، وألقي إيساشار في محل القمامة.
وقد وصل كنديد وكونيغوند والعجوز إلى مدينة أفاسينا الصغيرة الواقعة بين جبال مورينا، وقالوا في إحدى الحانات ما يأتي.
الفصل العاشر
كيف وصل كنديد وكونيغوند والعجوز إلى قادس في كرب شديد، وكيف
أبحروا
قالت كونيغوند باكية: «من استطاع أن يسرق مالي وألماسي إذن؟ ومن أي شيء نستطيع أن نعيش؟ وما نصنع؟ وأين نجد قضاة تفتيش ويهود يعطوننا بدلا منها؟»
وقالت العجوز: «واها! أشتبه كثيرا في أب محترم من الفرنسسكان نام أمس في ذات الفندق الذي كنا نقيم به في بطليوس - أستغفر الله من سوء الظن - ولكنه دخل غرفتنا مرتين، وغادرها قبلنا بوقت طويل.»
وقال كنديد: «آه! لقد أثبت لي بنغلوس الصالح غالبا أن متاع الدنيا مشترك بين جميع الناس، وأن لكل واحد حقا متساويا فيه، ولا بد من أن يكون هذا الراهب قد ترك لنا ما نتم به رحلتنا وفق هذه المبادئ؛ ولذا، ألم يبق عندك شيء يا كونيغوندي الحسناء؟»
فقالت: «ولا فلس.»
وقال كنديد: «وما علينا أن نصنع؟»
وقالت العجوز: «لنبع فرسا، وسأكون ردف الآنسة، وإن كنت لا أستطيع أن أقعد على غير ألية واحدة، وسنصل إلى قادس.»
وكان في الفندق رئيس دير بندكتي، فشرى الفرس بثمن بخس، ويمر كنديد وكونيغوند والعجوز من لوسينا وشيلا ولبريكسا، ويصلون إلى قادس في آخر الأمر، وكان يجهز أسطول، وكانت تجمع كتائب لتأديب الآباء اليسوعيين المحترمين في البراغواي، حيث اتهموا بإثارة إحدى زمرهم على ملكي إسبانيا والبرتغال بالقرب من سان سكرامنتو، وبما أن كنديد كان قد خدم لدى البلغار، فإنه قام بتمرين بلغاري أمام قائد الجيش الصغير فظهر رشيقا سريعا ماهرا زاهيا، فأعطي قيادة كتيبة من المشاة، وها هو ذا قائد مائة، ويبحر مع الآنسة كونيغوند والعجوز وخادمين والفرسين الأندلسيين اللذين كان يملكهما قاضي البرتغال التفتيشي الأكبر.
ويقومون في أثناء سياحتهم البحرية بمناقشات كثيرة حول فلسفة البائس بنغلوس، فيقول كنديد: «نحن ذاهبون إلى عالم آخر، وكل شيء في هذا العالم حسن لا ريب، وذلك مع الاعتراف بإمكان الأنين قليلا مما يحدث في عالمنا روحا وبدنا.»
وتقول كونيغوند: «أحبك من جميع قلبي، ولكن مع بقائي نافرة من جميع ما رأيت وما بلوت.»
ويجيب كنديد: «سيسير كل شيء سيرا حسنا، والآن يفضل بحر هذا العالم الجديد على بحار أوروبتنا، فهو أكثر سكونا، ورياحه أكثر ثباتا، ولا مراء في أن العالم الجديد خير ما يمكن من العوالم.»
وتقول كونيغوند: «حقق الله ذلك! ولكنني بلغت من البؤس الهائل في عالمي ما أغلق فؤادي معه دون الأمل تقريبا.»
وتقول العجوز لهما: «أنتما تتوجعان، آه! إنكما لم تبلوا من المصائب ما بلوت.»
وتكاد كونيغوند تضحك، فقد وجدت هذه المرأة الطيبة مفكهة كثيرا بزعمها أنها كانت أشد بؤسا منها، وقالت: «آه! يا حاضنتي، لا أجد ما يمكنك أن تفوقيني به ما لم يكن قد اغتصبك بلغاريان، وما لم تكوني قد طعنت بضربتي سكين في البطن، وما لم يكن قد هدم لك قصران، وما لم يكن قد قتل لك أبوان وأمان على مرأى منك، وما لم يكن قد جلد لك عاشقان بأمر تفتيشي، وإلى هذا أضيفي كوني ولدت بارونة من اثنين وسبعين جيلا من أجيال الشرف، فصرت طاهية.»
فأجابت العجوز: «أنت لا تعرفين أصلي أيتها الآنسة، ولو أطلعتك على استي، لم تقولي الذي قلته، ولأخرت حكمك.»
فأثار هذا القول حبا للاطلاع بالغا في نفس كونيغوند وكنديد، وإليك ما قالت العجوز.
الفصل الحادي عشر
قصة العجوز
«لم تكن عيناي في كل وقت مقرحة أجفانها، محاطة بلون القرمز، ولم يكن أنفي ليمس ذقني في كل حين، ولم أكن خادمة دائما، فأنا ابنة البابا أوربان العاشر
1
وأميرة بالسترينا، وقد نشئت حتى الرابعة عشرة من سني في قصر لم تكن جميع قصور باروناتكم الألمان لتصلح أصابل له، وكان أحد ثيابي أثمن من جميع روائع فستفالية، وقد ترعرعت في روعة وألطاف وألمعيات بين النعيم والاحترام والآمال، وكنت أوحي بالغرام، وكان جيدي يتكون - ويا له من جيد - أبيض محكما مفصلا كجيد فينوس دوميديسيس، ويا لهما من عينين! ويا لها من أجفان! ويا لهما من حاجبين أسودين! ويا للنار اللامعة في حدقتي إذ تمحو بريق النجوم، كما كان يقول لي شعراء الحي! وكان النساء اللائي يلبسنني ثيابي ويخلعنها عني يقعن في وجد حينما ينظرن إلي من الخلف ومن الأمام، وكان جميع الرجال يودون لو يقومون مقامهن.» «وقد كنت خطيبة لأمير ماسا كرارا الحاكم، ويا له من أمير! لقد كان مثلي جمالا، وكان مجبولا على الحلم، مفطورا على الظرف، وكان يتقد ذكاء، ويحترق غراما، وكنت أحبه عابدة فائرة كحب المرة الأولى، وأعدت الأفراح بأبهة وفخامة لم تسمع بمثلهما أذن، واستمرت الأعياد، ودامت الألعاب، واتصلت الروايات الهزلية، وكانت إيطالية بأسرها تضع من القصائد في سبيلي ما لم أرض بواحدة منها، وكنت بالغة ساعة سعادتي حينما دعت أميري مركيزة عجوز صاحبة له إلى تناول الشكولاتة في منزلها، فقد مات في أقل من ساعتين بتشنجات هائلة، ولكن هذا ليس سوى أمر تافه، فقد أصيبت أمي بقنوط، وأمي - وإن كانت دوني حزنا - أرادت أن تتخلص إلى حين من مكان مشئوم بذاك المقدار، وكانت لها أرض رائعة بالقرب من غايتا، فأبحرنا على مركب بلدي مذهب كهيكل القديس بطرس برومة، وينقض علينا قرصان من ساله ويصل إلينا، ويدافع جنودنا عن أنفسهم كدفاع جنود البابا، فيركعون جميعا ويلقون أسلحتهم، طالبين إلى القرصان أن يقوموا بصلاة الغفران عند الوفاة.» «ويعرون من فورهم كالقردة كما عريت أمي ووصائفنا وكما عريت، ومن الأمور التي تثير العجب سرعة تعرية هؤلاء السادة للناس، ولكن أكثر ما أدهشني هو إدخالهم إصبعا إلى مكان فينا جميعا لم نكن - نحن النساء - لندع شيئا يدس فيه غير أنابيب المحقنة، ولاح لي هذا العمل بالغ الغرابة، وهذا ما نحكم به في كل أمر عندما نخرج من بلدنا، ولم ألبث أن علمت أن هذا وقع ليرى هل أخفينا ألماسا هنالك، وهذه عادة استقرت منذ زمن لا يعرف أوله بين الأمم المتمدنة التي تجول على البحر، وقد علمت أن هذا لا يفوت فرسان مالطة المتدينين مطلقا، عندما يأسرون تركا وتركيات، فهذا قانون دولي لم تخالف أحكامه قط.» «ولا أحدثك مطلقا عن مقدار القسوة في جلب أميرة فتاة أسيرة مع أمها إلى مراكش، ويمكنك أن تتمثلي بما فيه الكفاية ما كان علينا أن نعاني في السفينة القرصانية، وكانت أمي لا تزال بالغة الجمال، وكان لدى وصائفنا ولدى خادمات غرفنا أيضا من الفتون ما يتعذر وجوده في جميع إفريقية. وكنت فاتنة، وكنت عين الجمال، وكنت عين الملاحة وكنت بتولا، ولم أبق هكذا زمنا طويلا، فقد اغتصب الربان القرصان مني هذه الزهرة، التي كانت محفوظة لأمير ماسا كرارا الجميل، وكان هذا الربان زنجيا قبيحا، وكان يظن أنه يحبوني بهذا شرفا عظيما. والواقع أنه وجب أن أكون - مع السيدة أميرة بالسترينا - من القوة ما نقاوم معه جميع ما بلينا به حتى بلوغنا مراكش! ولكن لننتقل، فهذه الأمور من الشيوع ما لا تستحق أن تذكر معه.» «وكانت مراكش غارقة في الدم حين وصولنا، فقد كان لكل من أبناء مولاي السلطان «إسماعيل»
2
الخمسين حزبه، فأدى هذا إلى اشتعال خمسين ثورة بالحقيقة، ثورة بين سود وسود، وثورة بين سود وسمر، وثورة بين سمر وسمر، وثورة بين خلاسيين وخلاسيين، وكانت هذه ملحمة دائمة في جميع السلطنة.» «ولم نكد ننزل إلى البر، حتى ظهر سود من العصابة المعادية لعصابة قرصاني كيما يسلبون غنيمته منه، وقد كنا أثمن ما عنده بعد الألماس والذهب، وقد شاهدت معركة من طراز لم تري مثله قط في أقاليم أوروبا، فليس لدى شعوب الشمال دم حار بما فيه الكفاية، وليس عند هذه الشعوب من حدة النساء مثل ما هو عام في إفريقية، ويظهر أنه يوجد لبن في عروق الأوروبيين، وأن الزاج والنار يجريان في عروق سكان جبل درن والبلاد المجاورة له، وكان يقاتل بصولة الأسود والنمور وأفاعي البلد ليعرف من يملكنا. ويمسك مغربي والدتي من ذراعها اليمنى، ويمسكها وكيل رباني من ذراعها اليسرى، ويمسكها جندي مغربي من إحدى ساقيها، ويمسكها أحد قراصيننا من ساقها الأخرى، ويتجاذب كل واحدة من بناتنا أربعة جنود في دقيقة واحدة تقريبا، ويخفيني رباني خلفه، وكان يحمل سيفا بيده، فيقتل به كل واحد يقاوم صولته، وأخيرا رأيت أمي وجميع إيطالياتي ممزقات مقطعات مذبوحات من قبل الغيلان الذين كانوا يتنازعونهن، ويقتل جميع الأسارى ورفيقاتي ومن قبضوا على هؤلاء، كما قتل جنود وملاحون وسود وسمر وبيض وخلاسيون، ثم يقتل رباني، وأبقى محتضرة على كتلة من القتلى، ومناظر مثل هذه مما يقع - كما هو معلوم - ضمن مساحة تزيد على ثلاثمائة فرسخ، وذلك من غير ترك للصلوات الخمس التي أمر محمد بأدائها في كل يوم.» «وقد تفلت بمشقة كبيرة من جمع تلك الجثث الدامية الكثيرة المكدسة، وزحفت إلى أسفل شجرة برتقال عظيمة قائمة على طرف جدول مجاور، وهنالك سقطت ذعرا وتعبا ونفورا ويأسا وجوعا، ولم تلبث حواسي المنهوكة أن أسلمت إلى سبات ناشئ عن غشيان أكثر مما عن اطمئنان. وبينا كنت في هذه الحال من الضعف، وعدم الشعور مترجحة بين الموت والحياة، أحسست ضغطي بشيء، يتحرك على جسمي، ففتحت عيني، ورأيت رجلا أبيض حسن الملامح يتأوه، ويقول من بين أسنانه: «من البلاء أن يخلو الإنسان من خص ...»»
الفصل الثاني عشر
تكملة مصائب العجوز
«بهت وبهرت بسماع لغة وطني، ولم أكن أقل دهشا بما كان ينطق به هذا الرجل من كلام، فأجبته بوجود مصائب أعظم من التي يتوجع منها، وأخبرته بكلمات قليلة عما قاسيت من الفظائع، ثم هبطت ضعفا، فأخذني إلى بيت قريب، ووضعني على السرير، وأعطاني طعاما وقام بخدمتي، وأسلاني وداراني، وقال لي إنه لم ير قط من هي أجمل مني، وإنه لم يأسف مثل أسفه على شيء لا يستطيع أحد أن يعيده إليه»، ومن قوله لي: «إنني ولدت بنابل حيث يخصى ما بين ألفي ولد وثلاثة آلاف ولد في كل عام، ويموت بعض هؤلاء من ذلك، ويكتسب آخرون منهم صوتا أجمل من صوت النساء، ويصبح آخرون حكاما في الدول، وتتم هذه العملية في بنجاح عظيم، وقد كنت موسيقي بيعة السيدة أميرة بالسترينا»، «وأصرخ قائلة: بيعة أمي!» «ويصرخ باكيا: بيعة أمك! ماذا؟ أأنت تلك الأميرة الصغيرة التي ربيتها حتى السادسة من سنيها، فكانت تنم على جمال كالذي أنت عليه؟» - «إنني تلك الفتاة، وقد قطعت أمي إربا إربا، وهي تحت كتلة من القتلى على مسافة أربعمائة خطوة من هنا ...» «وقد قصصت عليه جميع ما وقع لي، وقص علي مغامراته أيضا، وأخبرني كيف أرسل إلى سلطان مراكش من قبل دولة نصرانية
1
لعقد معاهدة مع هذا العاهل، يجهز وفقها ببارود ومدافع وسفن، مساعدة له على استئصال تجارة النصارى الآخرين»، ويقول لي هذا الخصي الصالح: «لقد تمت رسالتي، وسأبحر إلى سبتة، وسأعيدك إلى إيطالية، ومن البلاء أن يخلو الإنسان من خص ...»
وأشكر له ذلك باكية بكاء حنان، ويقودني إلى الجزائر بدلا من أن يأتي بي إلى إيطالية، ويبيعني من داي هذه الولاية، ولم أكد أباع حتى انتشر بصولة في الجزائر ذلك الطاعون الذي طاف في أفريقيا وآسيا وأوروبا. أجل، لقد رأيت زلازل، ولكن هل أصبت بطاعون أيتها الآنسة؟ وتجيب البارونة بقولها: «كلا»، وتقول العجوز مجيبة: «لو كنت قد أصبت به، لاعترفت بأنه يفوق الزلزال، وهو كثير الشيوع في أفريقيا، وقد أصابني، وتمثلي أي وضع تكون عليه ابنة للبابا، بالغة من العمر خمس عشرة سنة، فتبتلى في ثلاثة أشهر بالفقر والأسر، ويهتك سترها في كل يوم تقريبا، وتشاهد تقطيع أمها أربع قطع، وتعاني الجوع والحرب، وتكاد تموت في الجزائر بالطاعون، ومع ذلك فإنني لم أمت، وإنما هلك بالطاعون خصيي والداي وجميع من في بلاط الجزائر تقريبا.» «ويباع عبيد الداي عند انقضاء أول تلف أوجبه هذا الطاعون الهائل، فيشتريني تاجر، ويأتي بي إلى تونس، ويبيعني من تاجر آخر، فيبيعني هذا في طرابلس، ومن طرابلس أباع في الإسكندرية، ومن الإسكندرية أباع في إزمير، ومن إزمير أباع في الآستانة، وأخيرا أصير ملك أغا الأنكشارية الذي لم يعتم أن أمر بالسفر للدفاع عن آزوف أمام الروس الذين كانوا يحاصرونها.»
2 «وكان هذا الأغا مغناجا إلى الغاية، فأخذ معه جميع من في سرايه، وجعلنا نقيم بقلعة صغيرة واقعة على شاطئ بالوس مئوتيدس (بحر آزوف)، ويحرسها خصيان أسودان وعشرون جنديا، ويقتل عدد هائل من الروس فيقابلوننا بالمثل، وتسلم آزوف إلى التحريق والتقتيل من غير أن يراعى جنس ولا عمر، ولم يبق غير قلعتنا الصغيرة، وقد أراد العدو أخذنا بالجوع، وكان الأنكشارية العشرون قد أقسموا على عدم الاستسلام مطلقا، فما انتهوا إليه من جوع متناه حملهم على أكل خصيينا، خشية الحنث في يمينهم، ولما انقضت أيام قليلة عزموا على أكل النساء.» «وكان عندنا إمام بالغ التقوى بالغ الحنان، فقام بوعظ رائع، جعلهم يقنعون معه بألا يذبحونا تماما، فقد قال: «اقطعوا ألية فقط من كل واحدة من هؤلاء النسوة، فبهذا ترتعون، وإذا ما وجب أن تعودوا إلى ذلك وجدتم مثل ذلك لأيام، وسيرضى الرب عن عمل كثير الخير كهذا تغاثون به».» «وكان الإمام فصيحا جدا فأقنعهم، وتقضى هذه العملية الفظيعة فينا، ويدهننا الإمام بذات المرهم الذي يوضع للأولاد عقب ختانهم، ونوشك أن نموت جميعا.» «ولم يكد الأنكشارية يتمون طعامهم الذي قدمناه إليهم، حتى وصل الروس على سفن مستوية، ولم يتفلت أي واحد من الأنكشارية، ولم يبد من الروس أي انتباه إلى الحال التي كنا عليها، ويوجد جراحون فرنسيون في كل مكان، وكان أحدهم ماهرا جدا فعني بنا وشفانا، ولن أنسى مدى حياتي أنه طلب مني أمورا بعد أن التأمت جروحي جيدا، ومع ذلك فقد أوعز إلينا أن نتعازى، موكدا لنا كون مثل هذا الأمر مما وقع في كثير من الحصارات، وأن هذا هو قانون الحرب.» «ولما أصبحت رفيقاتي قادرات على المشي سيرنا إلى موسكو، فكنت نصيب بوياري جعلني بستانيته، وصار يجلدني عشرين مرة في كل يوم، ولكن بما أن هذا السنيور عذب بالدولاب عند انقضاء عامين مع ثلاثين من البويار - وذلك بسبب اضطراب في البلاط - فقد استفدت من هذا الحادث، وهربت وجاوزت جميع روسية، وقضيت زمنا طويلا خادمة في حانة بريغا ثم بروستك وفسمار وليبسك وكاسل وأترخت وليدن ولاهاي وروتردام، وقد شبت في البؤس والخزي غير صاحبة لغير ألية واحدة، ذاكرة دائما أنني كنت ابنة لأحد البابوات. أجل، لقد أردت مائة مرة أن أنتحر، ولكني ما فتئت أحب الحياة، وقد يكون هذا الضعف المضحك أكثر ميولنا شؤما، وهل يوجد ما هو أسخف من العزم على حمل حمل يراد طرحه على الأرض باستمرار، ومن نظر الإنسان إلى نفسه مشمئزا مع تعلقه بنفسه، ثم من ملاطفة الثعبان الذي يلتهمنا حتى يأكل قلبنا؟» «ولقد رأيت في البلدان - التي حملني الطالع على الطواف فيها، وفي الحانات التي خدمت فيها - عددا عظيما ممن كرهوا حياتهم، ولكنني لم أر بين هؤلاء غير اثني عشر وضعوا حدا لبؤسهم طائعين، أي: غير ثلاثة من الزنوج وأربعة من الإنكليز وأربعة من جنيف وأستاذ ألماني اسمه روبك.
3
وأخيرا صرت خادمة عند اليهودي دون إيساشار، فجعلني قريبة منك يا آنستي الحسناء، وربطت نفسي بمصيرك، وصرت أكثر اكتراثا لمغامراتك مما لمغامراتي، وما كنت لأحدثك حتى عن نكباتي لو لم تنخزيني قليلا، ولو لم يكن من العادة في المراكب أن تقص قصص للتسلية. والخلاصة أنني أتمتع بالتجربة أيتها الآنسة، وأعرف العالم، وروحي عن نفسك، فاجعلي كل راكب يقص عليك قصته، فإذا وجدت واحدا منهم لم يقل عن نفسه إنه كان أتعس الناس فألقيني في البحر، وليكن رأسي أول ما تلقين.»
الفصل الثالث عشر
كيف اضطر كنديد إلى الانفصال عن كونيغوند الحسناء وعن العجوز
لقد سمعت كونيغوند الحسناء قصة العجوز، فعاملتها بضروب الأدب الواجب نحو شخص من مقامها وحسبها، وقد قبلت اقتراحها، فألزمت جميع المسافرين بأن يقص كل واحد منهم بعد الآخر مغامراته عليها، وقد اعترفت مع كنديد بأنها كانت على حق، فقال كنديد: «إن من الرزايا شنق الحكيم بنغلوس بحكم تفتيشي على خلاف العادة، فكان لا بد من قصصه علينا أمورا عجيبة عن الشرور المادية والأدبية التي تغمر الأرض والبحر، وكان لا بد من شعوري بشيء من القوة أجرؤ به على توجيه بعض اعتراضات إليه مع الاحترام.»
وبينا كان كل واحد يقص قصته كانت السفينة تتقدم، وتبلغ بوينوس أيرس، ويذهب كل من كونيغوند وقائد المائة كنديد والعجوز إلى الحاكم «دون فرناندو ديبارا ئي فيغيئورا ئي مسكارنس ئي لنبوردوس ئي سوزا»، وكان هذا السيد من الزهو ما يلائم رجلا حاملا أسماء كثيرة بهذا المقدار، وكان يخاطب الناس بأرفع ازدراء وبأنف شامخ وبصوت مرتفع قاس، وباتخاذ وضع مهيب، وبتصعير خد بالغ من الغطرسة، ما كانت معه نفوس جميع من يحيونه تحدثهم بلطمه.
وكان شديد الولع بالنساء، فلاحت له كونيغوند أجمل من رأى في حياته، وكان أول شيء صنعه سؤاله عن كونها ليست زوجة لقائد المائة مطلقا، وقد هال الوجه الذي طرح به هذا السؤال كنديد، فلم يجرؤ أن يقول إنها زوجه ما دامت غير ذلك في الحقيقة، ولم يجرؤ أن يقول إنها أخته ما دامت غير ذلك أيضا، ومع أن هذه الأكذوبة النافعة كانت كثيرة الشيوع لدى القدماء، ومع أن من الممكن أن تكون نافعة لدى المعاصرين، فإنه كان من صفاء النفس ما لا يحيد معه عن الحقيقة فقال: «إن الآنسة كونيغوند ستشرفني بأن أتزوجها، وإننا نتوسل إليك يا صاحب السعادة أن تتفضل فتقوم بعقد قراننا.»
رفع «دون فرناندو ديبارا ئي فيغيئورا ئي مسكارنس ئي لنبوردوس ئي سوزا» شاربيه وتبسم بمرارة، وأمر قائد المائة كنديد بأن يذهب لعرض كتيبته، ويطيع كنديد، ويبقى الحاكم مع الآنسة كونيغوند، ويصرح لها بهواه، ويعدها بأن يتزوجها غدا أمام الكنيسة، أو على وجه آخر يروق فتونها، وتستمهله كونيغوند ربع ساعة لتجمع حواسها وتستشير العجوز وتعزم.
قالت العجوز لكونيغوند: «أيتها الآنسة، إنك سليلة اثنين وسبعين جيلا من أجيال الشرف، ولا تملكين فلسا، فعليك يتوقف أن تكوني زوجا لأكبر سنيور في أمريكة الجنوبية صاحب لشارب جميل، وهل عليك أن تفاخري بالوفاء في كل ابتلاء؟ لقد اغتصبك البلغار، وكان ليهودي وقاض تفتيشي حسن ألطافك، وتمنح المصائب حقوقا، وأعترف بأنني لو كنت في مكانك لم يساورني تردد في الزواج بالسيد الحاكم، وفي إسعاد قائد المائة السيد كنديد.»
وبينما كانت العجوز تتكلم بكل ما يقتضيه العمر والتجربة من حذر بالغ، رئي دخول مركب صغير في الميناء يحمل قاضيا وجنودا، وإليك ما حدث:
لقد أصابت العجوز في حزرها أنه الراهب ذو الكم الطويل الذي سرق نقد كونيغوند وحليها في مدينة بطليوس، حينما كانت فارة مع كنديد على عجل، وقد أراد هذا الراهب أن يبيع بعض الحلي من صائغ، فتحقق هذا التاجر كونها ملكا للقاضي التفتيشي الأكبر، فاعترف الراهب قبل أن يشنق بأنه كان قد سرقها، فوصف الأشخاص ودل على الطريق التي سلكوها، وكان فرار كونيغوند وكنديد أمرا معروفا، فوقع تتبعهم إلى قادس، وأرسلت سفينة لتعقبهم كسبا للوقت، والآن أصبحت السفينة في ميناء بوينوس أيرس، وأشيع أن قاضيا سينزل منها تعقيبا لقتلة مولانا قاضي التفتيش الأكبر، وأبصرت العجوز الفطون في دقيقة جميع ما يجب أن يصنع، فقالت لكونيغوند: «لا تستطيعين الفرار، ولا يوجد ما تخافينه، فلم تكوني قاتلة مولانا، ثم إن الحاكم الذي يحبك لن يطيق اضطهادك، فمكانك.»
وتهرع من فورها إلى كنديد وتقول له: «فر، وإن لم تفعل حرقت بعد ساعة»، ولا ينبغي فوات دقيقة، ولكن كيف الانفصال عن كونيغوند؟ وأين الملجأ؟
الفصل الرابع عشر
كيف قبل كنديد وككنبو من قبل يسوعيي البراغواي
كان كنديد قد جلب من قادس خادما من النوع الذي يوجد كثيرا في سواحل إسبانيا وفي المستعمرات، وكان ربعه إسبانيا، وكان أبوه خلاسيا في توكومان،
1
وكان ابن جوقة ترتيل وافها
2
ملاحا راهبا بريديا جنديا وصيفا، وكان يسمى ككنبو، وكان شديد الحب لسيده؛ لأن هذا السيد كان طيبا جدا، ويسرج الفرسين الأندلسيين سريعا، ويقول: «لنذهب يا معلمي، ولنعمل بنصيحة العجوز، ولننطلق، ولنعد من غير نظر إلى الوراء.»
ويسكب كنديد عبرات ويقول: «أي كونيغوندي العزيزة! أيجوز أن أتركك في وقت يكاد السيد الحاكم يزوجنا فيه؟! أي كونيغوند التي أتي بها من بعيد، ما يحدث لك؟»
ويقول ككنبو: «ستصبح ما يمكنها أن تكون، ولا يضيق النساء بأنفسهن مطلقا، والرب يشملهن برعايته، ولنجر.»
ويقول كنديد: «وإلى أين تأتي بي؟ وإلى أين نذهب؟ وما نصنع من غير كونيغوند؟»
ويقول ككنبو: «لقد أتيت من سان جاك دوكنبوستلا لتحارب اليسوعيين، فلنذهب لنقاتل في سبيلهم، ولي علم كاف بالطرق، فسآتي بك إلى مملكتهم، وسيفتنون باشتمالهم على قائد مائة، يقوم بتمرينات على الطريقة البلغارية، وستثري ثراء عجيبا، ومن يخب في عالم ينجح في عالم آخر، ومن عظيم النعم على الإنسان أن يرى وأن يعمل أشياء جديدة .»
قال كنديد: «إذن، كنت في البراغواي؟» فقال ككنبو: «أجل، حقا! وقد كنت أجيرا في كلية انتقال العذراء، فأعرف حكومة الآباء اليسوعيين كما أعرف شوارع قادس، وتعد هذه الحكومة من أعجب الأشياء، والآن يزيد قطر المملكة على ثلاثمائة فرسخ، وهي مقسمة إلى ثلاثين مديرية، ويملك الآباء اليسوعيون فيها كل شيء، ولا يملك الشعب فيها شيئا، وهذا من روائع العقل والعدل، وأرى أنه لا يوجد شيء لاهوتي، كالآباء اليسوعيين الذين يحاربون ملك إسبانيا وملك البرتغال هنا، ويبدون قساوسة اعتراف لهذين الملكين في أوروبا، والذين يقتلون الإسبان هنا ويرسلونهم إلى عليين في مدريد، وهذا يذهلني، ولنتقدم، وسوف تكون أسعد الناس، ويا لبهجة الآباء اليسوعيين، حين يعلمون أنه قدم عليهم قائد مائة عارف بالتدريب البلغاري!»
ويصلان إلى الحاجز الأول فيقول ككنبو لحرس الطليعة من فوره: «إن قائد مائة يطلب محادثة مولانا القائد»، وينقل هذا الخبر إلى الحرس الأكبر، ويهرع ضابط براغوائي إلى قدمي القائد لينبئه بالحادث، ويجرد كنديد وككنبو من السلاح في بدء الأمر، ويقبض على فرسيهما الأندلسيين، ويدخل الأجنبيان بين صفين من الجنود، ويظهر القائد في الطرف لابسا عمرة ذات ثلاث قرن، وثوبا مشمرا، وحاملا سيفا على جانبه، وحربة بيده، ويأتي بإشارة، فلم يلبث أربعة وعشرون جنديا أن أحاطوا بالآتيين حديثا، ويقول لهما عريف: إنه لا بد من الانتظار، فلا يمكن القائد أن يكلمهما، وإن الأب الرجوي المحترم لا يسمح لأي إسباني بأن يفتح فاه إلا في حضرته، وبأن يبقى أكثر من ثلاث ساعات في البلد، ويقول ككنبو: «أين الأب الرجوي المحترم؟» ويجيب العريف عن هذا بقوله: «إنه يعرض الجنود بعد أن أقام القداس، ولن تستطيعا تقبيل مهمازيه قبل ثلاث ساعات»، ويقول ككنبو: «ولكن السيد قائد المائة - الذي يموت جوعا كما أموت - ليس إسبانيا مطلقا، بل ألماني، أفلا نستطيع أن نفطر في أثناء انتظار سيادته؟»
ويذهب العريف إلى القائد حالا ليخبره بهذا، ويقول هذا السنيور: «تبارك الله! أستطيع أن أكلمه ما دام ألمانيا، فليؤت به إلى مظلتي»، ويساق كنديد من فوره إلى حجرة خضيرة، مزينة بأعمدة رائعة رخامية خضر مذهبة، وبقفص مشتمل على ببغاوات وغرغرات ونغران وبغثان وجميع الطيور النادرة، ويعد فطور فاخر في آنية من ذهب. وبينا كان أهل براغواي يأكلون الذرة في قصاع من خشب - وذلك بالعراء وتحت حر الشمس - كان الأب القائد المحترم يدخل المظلة.
وقد كان شابا وسيما مليء الوجه، أبيض الإهاب، ناضر الأدمة، مرتفع الحاجبين، حاد العينين، أحمر الأذنين، قاني الشفتين، غطريسا غطرسة ليست كالتي عند الإسباني، ولا كالتي عند اليسوعي. وتعاد إلى كنديد وككنبو أسلحتهما التي أخذت منهما، كما أعيد إليهما فرساهما الأندلسيان، وقد أطعمهما ككنبو جلبانا بالقرب من المظلة، ولم ينفك ينظر إليهما خشية المفاجأة.
وأول ما صنع كنديد هو تقبيله ذيل حلة القائد، ثم جلسا حول المائدة، فقال له اليسوعي بالألمانية: «إذن، أنت ألماني؟» فقال كنديد: «أجل، يا أبت المحترم.»
وبينا كانا ينطقان بهذا الكلام كان كل منهما ينظر إلى الآخر بدهش بالغ، وولع لم يكونا ضابطين له، ويسأل اليسوعي: «ومن أي بلد ألماني أنت؟» فيقول كنديد: «من ولاية فستفالية الدنسة، فقد ولدت في قصر ثندر تن ترنك»، ويصرخ القائد قائلا: «رباه! أهذا ممكن؟!» ويقول كنديد صارخا: «يا لها من معجزة!» ويقول القائد: «أأنت؟» ويقول كنديد: «هذا غير ممكن!» ويقعان على ظهرهما، ويتعانقان، ويسكبان جداول من العبرات، ويقول كنديد: «ماذا؟! أأنت أيها الأب المحترم؟ أأنت أخو كونيغوند الحسناء؟ أنت الذي قتله البلغار! أنت ابن سيدي البارون! أنت يسوعي في براغواي! يجب أن يعترف بأن هذا العالم أمر عجيب، بنغلوس، بنغلوس! ما أعظم ما تكون عليه من سرور لو لم تشنق!»
ويصرف القائد العبيد الزنوج والبراغوائيين الذين كانوا يقدمون خمرا في كئوس من بلور، ويشكر للرب وللقديس إغناتيوس، ويضم كنديد بين ذراعيه، وكان وجههما غارقا بالدموع، ويقول كنديد: «ويزيد دهشك وحنانك ويطير لبك إذا ما قلت لك: إن أختك الآنسة كونيغوند التي ظننت أنها بقرت مملوءة صحة.» - «أين؟» - «في جوارك، عند السيد حاكم بوينوس أيرس، وكنت قد أتيت لمحاربتكم.»
وكانت كل كلمة ينطقان بها تركم معجزة على معجزة، وكانت روحهما تطير بكاملها من لسانهما، وتسمع في آذانهما، وتلمع في أعينهما.
وبما أنهما ألمانيان، فقد مكثا طويلا حول المائدة منتظرين الأب الرجوي المحترم، وقد حدث القائد كنديده العزيز كما يأتي.
الفصل الخامس عشر
كيف قتل كنديد أخا كونيغوند العزيزة؟
«سأذكر - ما بقيت حيا - ذلك اليوم الفظيع الذي شاهدت فيه قتل أبي وأمي واغتصاب أختي، ولما انصرف البلغار لم توجد قط هذه الأخت التي تستحق العبادة، وأوضع في كارة، أنا وأمي وأبي وخادمتان وثلاثة صغار نحراء
1
لندفن في بيعة لليسوعيين بعيدة فرسخين من قصر آبائي، ويرش يسوعي ماء مقدسا علينا، وكان مملحا إلى الغاية، ويدخل بضع قطرات منه في عيني، ويبصر الأب حركة صغيرة في جفني، ويضع يده على قلبي، ويشعر بأنه يخفق، وأسعف، وتمضي ثلاثة أسابيع فأظهر كأنني لم يطرأ علي شيء.
وتعلم يا كنديدي العزيز أنني كنت باهر الجمال، فغدوت أحسن مما كنت، ثم إن رئيس الدير الأب المحترم كروست كان يحمل لي أرق وداد، فأعطاني ثوب ناشئ في الترهب. وأرسل بعد وقت قصير إلى رومة، وكان الأب العام راغبا في جمع فتيان يسوعيين من الألمان، وكان حكام البراغواي يقبلون أقل ما يمكنهم من يسوعيي الإسبان، وكانوا يفضلون عليهم الأجانب معتقدين أنهم أقدر على رقابتهم، وقد رأى الأب العام المحترم أنني أهل للعمل في هذا الحقل، فسافرت أنا ورجل من بولونية ورجل من التيرول، ولما وصلت شرفت بمنصب شماس وملازم، وأنا اليوم قسيس وزعيم عسكري، وسنلاقي كتائب ملك إسبانيا بشدة، وأنا زعيم بأنها ستحرم وتهزم، وقد قضت العناية الربانية بإرسالك إلى هنا لمساعدتنا، ولكن هل من الصحيح وجود أختي العزيزة كونيغوند في الجوار عند حاكم بوينوس أيرس؟» وكد كنديد هذا باليمين قائلا: إنه لا شيء أصدق من هذا النبأ، وتنهمر دموعهما مرة أخرى.
ولم يتعب البارون من معانقة كنديد، وكان يدعوه بأخيه ومنقذه، ويقول: «آه! قد نستطيع معا يا كنديدي العزيز أن ندخل المدينة غالبين، فنسترد أختي كونيغوند.»
ويقول كنديد: «هذا كل ما أتمناه، فأنا راغب في الزواج بها، وهذا ما لا أزال أرجو.»
ويجيب البارون بقوله: «أيها الوقح! هل بلغت من القحة ما تتزوج به أختي، التي هي سليلة لاثنين وسبعين جيلا من الأشراف؟ أجدك بالغ السفه بإقدامك على محادثتي في أمر بالغ الجرأة!»
ويبهت كنديد من هذا الكلام، ويجيب عنه بقوله: «أبي المحترم، لا قيمة لجميع أجيال الشرف في العالم، فقد انتشلت أختك من ذرعان يهودي وقاض تفتيشي، فهي تشكر لي ذلك، وتريد أن تتزوجني، وقد كان الأستاذ بنغلوس يقول لي دائما: إن الناس متساوون، وسأتزوجها لا ريب.»
ويقول بارون ثندر تن ترنك اليسوعي: «سنرى ما يتم أيها النذل»، ويضربه على وجهه بعرض سيفه في الوقت نفسه، ويستل كنديد سيفه حالا ويغمده في بطن البارون اليسوعي حتى مقبضه، ولكنه يبكي حينما ينتثله داخنا، ويقول: «واحرباه! رباه! لقد قتلت حبيبي ونسيبي وسيدي السابق، إنني أطيب الناس، ومع ذلك فقد قتلت ثلاثة رجال، ومن هؤلاء الثلاثة قسيسان.»
ويهرع إلى المظلة ككنبو الذي كان يقوم بالحراسة عند بابها، ويقول له سيده: «لم يبق لنا غير بيع حياتنا غالية، ولا ريب في أن المظلة ستدخل، فيجب أن نهلك شاهرين سلاحنا»، ولم يفقد صوابه قط ككنبو الذي قد مر عليه مثل هذا الحادث، فيتناول الحلة اليسوعية التي يلبسها البارون، ويضعها على كنديد، ويناوله عمرة القتيل المربعة، ويركبه فرسا، ويتم جميع هذا في طرفة عين «ولنعد يا سيدي، فجميع الناس سيعدونك يسوعيا حاملا أوامر، وسنجاوز الحدود قبل أن نتعقب.»
وبينا هو يقول هذا كان يطير صائحا بالإسبانية: «طريقا، طريقا للأب الزعيم العسكري المحترم!»
الفصل السادس عشر
ما وقع للسائحين مع فتاتين وقردين، والمتوحشين الذين يدعون الأوريون
يجاوز كنديد وخادمه الحواجز قبل أن يعرف أحد في المعسكر قتل اليسوعي الألماني، ولم يغفل اليقظ ككنبو عن ملء خرجه خبزا وشكولاتة وفخذ خنزير مقددة، وفواكه وبعض قوارير خمر، ويوغلان بفرسيهما الأندلسيان في بلد مجهول، لم يكتشفا فيه أي طريق كان، وأخيرا يبدو لهما مرج جميل تقطعه جداول، ويدع السائحان فرسيهما يأكلان، ويعرض ككنبو على سيده أن يأكل، ويجعل من نفسه المثل، فيقول كنديد: «كيف تريد أن آكل فخذ خنزير مقددة، وقد قتلت ابن سيدي البارون، وأجدني محكوما علي بألا أرى كونيغوند الحسناء مدى حياتي؟ وما فائدة إطالة أيام بؤسي ما وجب علي أن أقضيها بعيدا منها مبكت الضمير قانطا؟ وما تقول صحيفة تريفو؟»
1
قال هذا وأخذ يأكل، وكانت الشمس تغرب، وسمع التائهان أصواتا خافتة، يلوح صدورها عن نساء، ولم يعرفا هل هذه أصوات فرح أو ترح، غير أنهما نهضا بسرعة مع جزع وهلع يوحي بهما كل شيء في بلد مجهول، وكانت هذه الصيحات تخرج من فتاتين عاريتين عاديتين عدوا خفيفا على طرف المرج، على حين يتعقبهما قردان فيعضان ألياتهما، وتأخذ الرحمة كنديد الذي تعلم إطلاق النار من البلغار، فيمكنه أن يسقط بندقة من غير أن تمس الأوراق، ويتناول بندقيته الإسبانية ذات الطلقتين، ويطلق فيقتل القردين، ويقول: «حمدا لله يا ككنبو العزيز! فقد أنقذت هاتين المسكينتين من خطر عظيم، وإذا كنت قد اقترفت ذنبا بقتلي قاضيا تفتيشيا ويسوعيا، فقد كفرت عما اجترحت بإنقاذي حياة الفتاتين اللتين قد تكونان من ذوات الحسب، ويمكن أن ننال بهذه المغامرة فوائد عظيمة في هذا البلد.»
أجل، كان يواصل قوله، غير أن لسانه انعقد حينما رأى الفتاتين تقبلان القردين تقبيل حنان باكيتين فوق جسميهما، مالئتين الجو عويلا محزنا، وأخيرا يقول لككنبو: «ما كنت لأنتظر رفقا بهذا المقدار.»
فيجيب ككنبو بقوله: «لقد قمت بأمر رائع يا مولاي، فقد قتلت عاشقي هاتين الآنستين.» - «عاشقان! أهذا ممكن؟! أنت تهزأ بي يا ككنبو، وكيف أصدقك؟»
ويجيب ككنبو بقوله: «سيدي العزيز، أنت تدهش بكل شيء، فلم تجد من الغرابة البالغة وجود قردة في بعض البلدان تنال ألطافا من النساء؟ إن القردة أرباع إنسان، كما أنني ربع إسباني.»
ويقول كنديد: «واها! أذكر أنني سمعت ما قيل للأستاذ بنغلوس من أن مثل هذه الحوادث كان يقع فيما مضى، فأسفرت هذه الاختلاطات عن آلهة الحقول والرعاة، وعن أناس لهم أرجل تيوس الغابات، فرأى ذلك أعيان القرون القديمة ، فكنت أعده من الأساطير.»
ويقول ككنبو: «عليك أن تقنع الآن بأن هذا الأمر حقيقة، وانظر كيف يتصرف في ذلك من لم يتلق قسطا من التربية، وكل ما أخشاه أن تصيبنا معرة من هؤلاء النسوة.»
حملت هذه التأملات المتينة كنديد على مغادرة المرج، وعلى الإيغال في غابة، حيث تناول عشاءه مع ككنبو، وقد نام الاثنان على الطحلب بعد لعنهما قاضي البرتغال التفتيشي وحاكم بوينوس أيرس والبارون، فلما أفاقا شعرا بأنهما لا يستطيعان الانتقال، وسبب ذلك كون الفتاتين وشتا بهما إلى أهل البلد - الأوريون
2 - فقيدهما هؤلاء ليلا بحبال من قشر الشجر، وقد كان يحيط بهما نحو خمسين من الأوريون كاملي العري، مسلحين بنبال ودبابيس وفئوس من صوان، وكان بعضهم يغلي قدرا كبيرة، وكان آخرون يعدون سفافيد،
3
وكان الجميع يصرخ قائلا: «هذا يسوعي، هذا يسوعي، سننتقم ونتناول غداء فاخرا، لنأكل اليسوعي، لنأكل اليسوعي.»
صرخ ككنبو قائلا بحزن: «لقد قلت لك يا سيدي العزيز إن تينك الفتاتين ستدبران لنا مكيدة سيئة»، ويبصر كنديد القدر والسفافيد، ويقول صارخا: «سنشوى ونغلى لا ريب، آه! ماذا كان يقول الأستاذ بنغلوس لو رأى ما الحال الطبيعية الخالصة؟ ليكن كل شيء حسنا، ولكنني أعترف بأن من القسوة ضياع الآنسة كونيغوند، والوضع على السفود من قبل الأوريون.»
ولم يفقد ككنبو صوابه قط، فقال لكنديد الحزين: «لا تيأس، فقد فهمت قليلا من لهجة هؤلاء الأقوام، فسأكلمهم.»
ويقول كنديد: «لا يفتك أن تبين لهم ما في طبخ الناس من فظاعة شنيعة، وابتعاد عن النصرانية.»
قال ككنبو: «أيها السادة، أراكم عازمين على أكل يسوعي اليوم، وهذا عمل حسن جدا، ولا شيء أكثر عدلا من معاملة الأعداء على هذا المنوال، والواقع أن الحق الطبيعي يعلمنا قتل جارنا، ويسار على هذا في جميع الأرض، وإذا كنا لا نستعمل حق أكل الجار، فذلك لوجود وسائل أخرى نرتع بها، بيد أنكم لا تملكون مثل وسائلنا. والحق أن أكل الإنسان لأعدائه أفضل من تركه ثمرة انتصاره للغربان والزيغان، ولكنكم أيها السادة، لا تريدون أكل أصدقائكم، وأنتم تعتقدون أنكم ستضعون يسوعيا على السفود، مع أن هذا الذي ستشوون هو نصيركم وعدو عدوكم، وأنا ولدت في بلدكم، والسيد الذي ترون هو مولاي، وقد قتل يسوعيا فضلا عن بعده من اليسوعية، وهو يلبس ما سلب منه، وهذا هو سبب خطئكم، فخذوا هذه الحلة لأول حاجز من مملكة الآباء اليسوعيين تحقيقا لما قلت لكم، واسألوا عن صحة قتل مولاي لضابط يسوعي، ولا يستلزم هذا غير زمن قصير، فإذا وجدتم أنني كذبتكم الحديث أمكنكم أن تأكلونا في كل وقت، وإذا ما رأيتم أني قلت الحقيقة عفوتم عنا، وأنتم العارفون جيدا بمبادئ الحقوق العامة وبالأخلاق والقوانين.»
وجد الأوريون هذا القول موافقا للصواب كثيرا، فبعثوا اثنين من وجهائهم على جناح السرعة ليأتيا بالخبر الصحيح، ويتم المبعوثان رسالتهما بإخلاص، ولا يلبثان أن يعودا حاملين أنباء حسنة، ويفك الأوريون قيود أسيريهم، ويعاملونهما بضروب التكريم، ويقدمون إليهما فتيات، ويعطونهما مرطبات، ويرافقونهما حتى حدود بلادهم، هاتفين مسرورين: «ليس يسوعيا مطلقا! ليس يسوعيا مطلقا!»
ولم ينفك كنديد يعجب من سبب نجاته، فيقول: «يا له من شعب! يا لهم من أناس! يا لها من طبائع! لو لم أكن سعيدا بطعني أخا الآنسة كونيغوند من وسطه بسيفي لأكلت لا ريب، ولكن الطبيعة الخالصة طيبة بعد ذلك كله، وذلك ما دام أولئك الناس أكرموني ألف إكرام بعد أن عرفوا أنني لست يسوعيا، وذلك بدلا من أكلي.»
الفصل السابع عشر
وصول كنديد وخادمه إلى بلد إلدورادو، وما شاهدا فيه
وصلا إلى حدود الأوريون فقال ككنبو لكنديد: «ترى أن نصف الكرة الأرضية هذا ليس خيرا من الآخر، فاسمع نصيحتي أن نعود إلى أوروبا من أقصر طريق.»
فقال كنديد: «كيف نعود إليها؟ وأين نذهب؟ إذا ما ذهبت إلى بلدي وجدت البلغار والآبار يذبحون كل إنسان، وإذا رجعت إلى البرتغال أحرقت فيها، وإذا بقيت في هذا البلد لم أضمن عدم وضعي على السفود في كل حين، ولكن كيف أغادر قسم العالم الذي تسكنه كونيغوند؟»
وقال ككنبو: «لنتحول إلى كاين، ففيها نجد فرنسيين يذهبون نحو كل صوب، ويمكنهم أن يساعدونا، وقد يرحمنا الله.»
ولم يكن الذهاب إلى كاين أمرا سهلا. أجل، إنهما عرفا أي ناحية يتوجهان إليها تقريبا، غير أن الجبال والأنهار والوهاد واللصوص والمتوحشين كانت عوائق هائلة في كل مكان، وقد هلك فرساهما تعبا، وقد نفد زادهما، فتغذيا بفواكه برية شهرا كاملا، وأخيرا كانا عند نهر صغير قائم على طرفه شجر نارجيل،
1
فكان لهما به تقويم لأودهما، وتقوية لآمالهما.
ولكنديد قال ككنبو - الذي كان يسدي بنصائح صالحة، كالتي تسدي العجوز: «صرنا لا نستطيع السير، فقد مشينا بما فيه الكفاية، وأبصر على الضفة قاربا خاليا، فلنملأه نارجيلا، ولنرم أنفسنا في هذا الزورق الصغير، ولنسر مع الجريان، فالنهر يؤدي إلى مكان مسكون دائما، وإذا لم نجد أشياء مستحبة، وجدنا أشياء جديدة»، فقال كنديد: «لنذهب، ولنتوكل على الله.»
سارا مع التيار بضعة فراسخ بين الضفاف التي كانت زاهرة تارة، وجافة أحيانا، وسهلة مستوية تارة، ووعرة منحدرة أحيانا، وكان النهر يتسع باستمرار، وأخيرا توارى تحت قبة من الصخور الهائلة التي كانت تناطح السماء، وقد كان لدى السائحين من الجرأة ما استسلما معه للتيار تحت هذه القبة، ويحملهما النهر الضيق في هذا المكان بسرع ودوي هائلين، ويبصران النور ثانية بعد أربع وعشرين ساعة، غير أن قاربهما تكسر على الصخر، فوجب زحفهما من صخرة إلى صخرة مسافة فرسخ كامل، وأخيرا اكتشفا أفقا واسعا تجاوره جبال منيعة، وكان البلد مزروعا عن بهجة كما كان مزروعا عن حاجة، وكان النافع في كل مكان مقترنا بالممتع، وكانت الطرق زاخرة - وإن شئت فقل مزخرفة - بعربات رائعة شكلا، ساطعة مادة، حاملات رجالا ونساء، على جانب عجيب من الجمال، مجررات بكباش سمان حمر، تفوق بسرعتها أروع أفراس الأندلس وتطوان ومكناسة.
ويقول كنديد: «ومع ذلك فإن هذا البلد أفضل من فستفالية.»
وينزل إلى البر مع ككنبو قريبا من أول قرية لاقياها، وكان بعض أولاد القرية اللابسين إستبرقا
2
ممزقا يلعبون بمطثة
3
عند مدخل الضيعة، فيتلهى رجلا العالم الآخر بالنظر إليهم، وكانت مطثاتهم قطعا واسعة بعض الاتساع مدورة صفرا حمرا خضرا لامعة لمعانا عجيبا، ويرغب السائحان في التقاط بعضها، فهي من ذهب وزمرد وياقوت، ويصلح أصغرها لأعظم زينة في عرش المغول، ويقول ككنبو: «لا ريب في أن هؤلاء الصبيان أبناء لملك البلد، يلعبون بالمطثة الصغيرة.»
ويظهر في هذه الساعة معلم القرية؛ ليدخلهم إلى المدرسة، ويقول كنديد: «هذا هو معلم البيت المالك.»
ويترك صغار الصعاليك لعبهم من فورهم، ويتركون على الأرض مطثاتهم، وجميع ما يصلح لتسليتهم، ويجمعها كنديد، ويهرع إلى المعلم، ويقدمها إليه بتواضع، ويخبره بالإشارات أن أصحاب السمو الملكي أولئك نسوا ذهبهم وجواهرهم، ويتبسم معلم القرية، ويرميها على الأرض، وينظر إلى وجه كنديد ذات دقيقة مع كثير حيرة، ويستمر على سيره.
ولم يفت السائحين أن يجمعا الذهب والياقوت والزمرد، ويقول كنديد صارخا: «أين نحن؟ لا بد من أن يكون أبناء ملوك هذا البلد حسني التربية، ما داموا يعلمون ازدراء الذهب والحجارة الكريمة.»
وكان ككنبو بالغ الحيرة ككنديد، وأخيرا يدنوان من منزل القرية الأول الذي كان مبنيا كقصر من قصور أوروبا، وكان يوجد جمع كبير مزدحم حول بابه، وجمع أكبر منه داخله، وكانت تسمع موسيقا بالغة الرخامة، وكانت تشم رائحة طبخ لذيذة، ويقرب ككنبو من الباب، ويسمع القوم يتكلمون بالبيروية التي هي لغة أمه، فكل يعلم أنه ولد في توكومان بقرية لا يعرف فيها غير هذه اللغة، ويقول لكنديد: «سأقوم بعمل ترجمان لك، لندخل، هذه حانة.»
ولم يلبث فتيا النزل وبنتاه اللابسون إستبرقا والمعقود شعرهم بشرط، أن دعوهما إلى الجلوس حول المائدة، وتقدم حساءات أربعة مضاف إلى كل واحد منها ببغاوان ونسر مسلوق يزن مائتي رطل، وقردان مشويان لذيذان، وثلاثمائة نغير في طبق واحد، وستمائة عصفور طنان في طبق آخر، وتقدم يخنة شهية وحلاوى فاخرة، وكل في صحاف من بلور، وكان فتيان النزل وخوادمه يصبون كثيرا من المشروبات المصنوعة من قصب السكر.
وكان معظم الضيوف من التجار والحوذية، وكانوا كلهم بالغي الأدب، فيطرحون بعض الأسئلة على ككنبو برصانة بالغة التحفظ، ويجيبون عن أسئلته بما يرضيه.
ولما تم تناول الطعام رأى ككنبو كما رأى كنديد أن يدفع الحساب، بأن يطرح على المائدة قطعتي ذهب من القطع الكبيرة التي التقطها، فأغرب المضيف والمضيفة في الضحك، وأمسكا بأطرافهما زمنا طويلا، وأخيرا تماسكا، فقال المضيف: «نراكما يا سيدي من الأجانب، ولم نتعود رؤية الأجانب، فاغفرا لنا ضحكنا من تقديمكما حصباء من طرقنا العامة دفعا للحساب. أجل، ليس لديكما شيء من نقود البلد لا ريب، ولكن ليس من الضروري حيازتكما ذلك حتى تتغديا هنا، فالحكومة هي التي تدفع إلى جميع الفنادق القائمة نفعا للتجارة، وقد تناولتما طعاما حقيرا هنا؛ وذلك لأن هذه القرية فقيرة، ولكنكما ستقبلان في كل مكان آخر بما أنتم أهل له.»
وكان ككنبو يوضح لكنديد جميع أقوال المضيف، فيصغي كنديد إليها بمثل ما كان يساور صديقه ككنبو من العجب والدهش حين ترجمته لها، ويقول كل منهما لصاحبه: «إذن، ما هذا البلد المجهول لدى جميع بقية العالم، والذي تختلف الطبيعة فيه عن طبيعة بلادنا اختلافا كبيرا؟ إن من الراجح أن يكون كل شيء في هذا البلد على ما يرام؛ وذلك لضرورة وجود بلد من هذا الطراز حتما، وعلى ما كان الأستاذ بنغلوس يقول، فقد لاحظت - في الغالب - أن كل شيء في فستفالية يسير سيرا سيئا.»
الفصل الثامن عشر
ما شاهداه في بلد إلدورادو
أظهر ككنبو فضوله لمضيفه، فقال له هذا: «إنني شديد الجهل، وأراني راضيا عن هذا، وإنما يوجد هنا شيخ اعتزل البلاط، فيعد أعلم من في المملكة، وأكثر من فيها ميلا إلى بيان أفكاره.»
وقد أتى بككنبو إلى الشيخ من فوره، وصار كنديد لا يمثل سوى دور ثانوي، ورافق خادمه، ويدخلون منزلا بسيطا إلى الغاية؛ وذلك لأن الباب لم يكن من غير الفضة، ولأن ألواح سقف الغرف وجدرانها لم تكن من غير الذهب، ولكن مع صنع بالغ الذوق فلا تمحي أمام أغنى الألواح. أجل، إن غرفة الانتظار كانت مرصعة بالياقوت والزمرد، ولكن ما عليه كل شيء من ترتيب ونظام كان يعوض من تلك البساطة المتناهية.
ويستقبل الشيخ الأجنبيين على متكأ محشو بريش صغار الطير، ويقدم إليهما مشروبات بآنية من ألماس، ثم يشبع حبهما للاطلاع بالكلمات الآتية: «بلغت من العمر 172 سنة، وقد علمت من والدي المرحوم - الذي كان إصطبلي الملك - خبر ثورات البيرو المدهشة التي شاهدها، وقد كانت المملكة التي نحن فيها الآن جزءا من وطن الإنكا السابق، من وطن هؤلاء الذين خرجوا منه - بلا ترو - لفتح قسم من العالم، فأبادهم الإسبان أخيرا.
وقد ظهر أمراء أسرتهم الذين بقوا في بلدهم الأصلي أكثر حكمة، فأمروا - بموافقة الأمة - ألا يخرج أي ساكن من مملكتنا الصغيرة مطلقا، وهذا ما حفظ لنا صفاءنا وسعادتنا، ويعرف الإسبان هذا البلد معرفة مبهمة، ويسمونه إلدورادو، ومما حدث منذ نحو مائة سنة، أن دنا من هذا البلد إنكليزي اسمه الفارس «راله»، ولكن بما أننا محاطون بجبال وعرة وهوي، فإننا بقينا حتى الآن في مأمن من جشع أمم أوروبا، التي تتصف بطمع لا يمكن أن يتصور في حصباء بلدنا وطينه، فتقتلنا على بكرة أبينا نيلا لهما.»
طال الحديث، وقد دار حول شكل الحكومة، وحول الطبائع والنساء، والتمثيل الروائي والفنون، وأخيرا جعل كنديد الذي كان يتذوق ما بعد الطبيعة دائما ككنبو يسأل عن وجود دين في البلد.
احمر وجه الشيخ قليلا وقال: «كيف يساوركما شك في ذلك؟ أتظنان أننا ناكرو النعمة؟»
وسأل ككنبو - بتواضع - عن دين الإلدورادو، فاحمر وجه الشيخ مرة أخرى وقال: «أيمكن أن يوجد دينان؟ أعتقد أننا نعتنق دين جميع الناس، فنعبد الله من المساء إلى الصباح.»
فقال ككنبو الذي كان يقوم دائما بترجمة ريب كنديد: «أتعبدون إلها واحدا فقط؟» فقال الشيخ: «لا يوجد إلهان ولا ثلاثة ولا أربعة كما هو ظاهر، وأعترف لك بأن رجال عالمكما يضعون أسئلة بالغة الغرابة.»
ولم يتعب كنديد من سؤال هذا الشيخ الصالح، فأراد أن يعرف كيف يدعون الله في إلدورادو، فقال الحكيم الصالح الجليل: «نحن لا ندعوه مطلقا، فلا يوجد ما نسأله أن يعطينا إياه، وقد أنعم علينا بكل ما نحتاج إليه، وإنما نشكر له دائما.»
ويبلغ كنديد من الفضول ما يريد معه أن يرى قساوسة ، فيسأل عن مكانهم، فيتبسم الشيخ الصالح ويقول: «كلنا قساوسة يا صاحبي، وينشد الملك وجميع أرباب الأسر - محتفلين - تسابيح في كل صباح، ويرافقهم في ذلك خمسة آلاف أو ستة آلاف من الموسيقيين.» - «ماذا؟ ألا يوجد عندكم مطلقا رهبان يعلمون ويجادلون ويحكمون ويكيدون، ويحرقون من ليسوا على رأيهم؟»
ويقول الشيخ: «نعد من المجانين لو كان عندنا ذلك، فكلنا هنا على رأي واحد، ولا نعرف ما تعني برهبانكم.»
ويظل كنديد في حال وجد بهذا الكلام، ويقول في نفسه: «هذا يختلف كثيرا عن فستفالية، وعن قصر السيد البارون، ولو رأى صديقنا بنغلوس إلدورادو لكف عن الادعاء بأن قصر ثندر تن ترنك خير ما على الأرض، فالحق أن على الإنسان أن يسيح.»
أمر الشيخ الصالح بعد هذا الحديث الطويل بأن تعد عربة ذات ستة كباش، وجعل مع السائحين اثني عشر من خدمه ليأخذوهما إلى البلاط، وقد قال لهما: «لي معذرة في كون سني تحرمني شرف مرافقتكما، وسيقابلكما الملك بما لا يسيئكما، وستغفران للبلد عاداته - لا ريب - إذا ما وجدتما فيه أناسا لا يروقونكما.»
ويركب كنديد وككنبو العربة، وتغذ الكباش الستة في العدو، ويبلغ قصر الملك الواقع في طرف العاصمة في أقل من أربع ساعات، ويبلغ ارتفاع الرتاج
1
220 قدما، ويبلغ عرضه مائة قدم، ومن المتعذر أن يعبر عن المواد التي أنشئ منها، ويمكن أن يبصر - بما فيه الكفاية - سموه العجيب الذي يجب أن يكون له على تلك الحصباء وذلك الرمل اللذين نسميهما ذهبا وحجارة كريمة.
استقبل كنديد وككنبو عشرون من فتيات الحرس الحسان عند نزولهما من العربة، ويأخذنهما إلى الحمامات ويلبسنهما حللا من زغب صغار الطير، ثم يأتي بهما إلى جناح جلالته كبار ضباط التاج وضابطاته، وذلك بين صفين مشتمل كل منهما على ألف موسيقي وفق العادة المتبعة.
فلما اقتربا من بهو العرش سأل ككنبو موظفا كبيرا عن الوضع الذي يتخذ لتحية الملك، وذلك: هل يجب الركوع أو السجود، وهل يجب وضع اليدين على الرأس أو على الخلف، وهل يجب لعق غبار الردهة؟ والخلاصة أنه سأله عن المراسم، فقال الموظف الكبير: «إن العادة تقضي بأن يعانق الملك، وأن يقبل من خديه.»
ويلقي كل من كنديد وككنبو ذراعيه حول عنق جلالته، الذي استقبلهما بكل ما يتصور من اللطف، والذي رجا منهما - بأدب - أن يتناولا العشاء.
وريثما يحل وقت العشاء أريا المدينة والمباني العامة التي تناطح السحاب، والأسواق المزينة بألف عمود، وعيون الماء الزلال، وعيون ماء الورد، وعيون مشروبات قصب السكر الجارية باستمرار في أماكن عظيمة مبلطة بضرب من الجواهر، التي تنشر مثل رائحة القرنفل والقرفة.
وسأل كنديد أن يزور دار القضاء فقيل له: إنها غير موجودة، فلا توجد خصومات ولا مرافعات مطلقا، ويسأل عن السجون فيقال له: إنها غير موجودة أيضا، ودار العلوم هي أكثر ما أثار حيرته، وأوجب سروره، ففي هذه الدار رأى رواقا بالغا من الطول ألفي خطوة، زاخرا بالأدوات الرياضية والآلات الطبيعية.
قضيا جميع ما بعد الظهر في الطواف في نحو جزء من أجزاء المدينة الألف، فأعيدا إلى الملك، ويجلس كنديد حول المائدة بين جلالته وخادمه ككنبو وكثير من السيدات، ولم يقع قط خير من هذا قصفا، ولم يحدث حين العشاء - قط - أكثر من جلالته مزحا. وكان ككنبو يوضح لكنديد دعابات الملك الرائعة، فتبدو من الكلم الطيب على الرغم من ترجمتها، ولم يكن هذا الذي دهش له كنديد أقل الأمور التي دهش لها.
قضيا شهرا في دار الضيافة، وما انفك كنديد يقول لككنبو: «أجل، إن القصر الذي ولدت فيه لا يقاس بالبلد الذي نحن فيه، ولكن الآنسة كونيغوند ليست هنا، ولا بد من أن تكون لك صاحبة في أوروبا، فإذا ما بقينا هنا غدونا ككل إنسان آخر، وإذا ما عدنا إلى عالمنا مع اثني عشر كبشا محملا من حصباء إلدورادو، بدونا أغنى من جميع الملوك معا، وصرنا لا نخشى قضاة تفتيش، وسهل علينا استرداد الآنسة كونيغوند.»
راق هذا القول ككنبو، وما كان يمازج الاثنين السعيدين كثيرا من حب التنقل والمباهاة أمام الأصدقاء، وعرض ما رأيا في الرحلات - شأن غيرهما - جعلهما يعزمان على عدم البقاء سعيدين، وذلك بأن يستأذنا جلالته في الرحيل.
ويقول الملك لهما: «هذه حماقة! نعم، أعرف أن بلدي صغير، ولكن الإنسان إذا ما رضي عن مكان وجب أن يبقى فيه، ولا حق لي في إمساك الأجانب - لا ريب. وهذا طغيان لا تقره أخلاقنا ولا قوانيننا، فجميع الناس أحرار، واذهبا متى شئتما، بيد أن الخروج صعب جدا، ويتعذر السير على عكس النهر السريع، الذي وصلتم عليه بمعجزة، والذي يجري تحت قباب من صخر، وتبلغ الجبال المحيطة بمملكتي من الارتفاع عشرة آلاف قدم، وهي قائمة كالجدر، ويشغل كل منها مساحة تزيد على عشرة فراسخ، ولا يمكن أن ينزل منها بغير هوي، ومع ذلك أراكما عازمين على السفر عزما مطلقا، فسآمر مديري الآلات أن يصنعوا منها واحدة تنقلكما بسهولة، فإذا تم إيصالكما إلى الناحية الأخرى من الجبال لم يمكن أحدا أن يرافقكما؛ وذلك لأن رعاياي قطعوا على أنفسهم عهدا بألا يخرجوا من نطاقهم مطلقا، وهم من الحكمة ما لا ينقضون معه ميثاقهم، واسألاني كل ما تريدان فضلا عن ذلك.»
فقال ككنبو: «لا نسأل جلالتك غير بضعة كباش محملة زادا، وحصى وطينا من البلد.»
ويضحك الملك ويقول: «لا أستطيع أن أفهم السر فيما يحمله أهل أوروبا من ذوق لطيننا الأصفر، فخذا منه ما تريدان وأكثر ما منه تنتفعان.»
ويأمر مهندسيه من فوره بصنع آلة لرفع هذين الرجلين العجيبين خارج المملكة، ويعمل فيها ثلاثة آلاف عالم طبيعي، وتصير معدة في نهاية أسبوعين، ولم تكلف أكثر من عشرين مليون جنيه إسترليني، ووضع كنديد وككنبو على الآلة، وأحضر كبشان أحمران مسرجان ملجمان؛ ليتخذا مطية لهما بعد مجاوزة الجبال، كما أحضر عشرون كبش أثقال محملة زادا، وثلاثون محملة هدايا من أمتع ما في البلد، وخمسون محملة ذهبا وجواهر وألماسا، ويعانق الملك العيارين
2
عناق حنان.
ومن المناظر الرائعة سفرهما والنمط البديع الذي رفعا به هما وكباشهما إلى ذرى الجبال، ويستأذنهما العلماء الطبيعيون في الانصراف، بعد أن جعلوهما في مأمن، ولم يبق لكنديد مطمع آخر وغرض آخر غير الذهاب لعرض كباشه على الآنسة كونيغوند، وقد قال: «لدينا ما ندفعه إلى حاكم بوينوس أيرس ثمنا للآنسة كونيغوند، إذا أمكن اشتراؤها، ولنسر نحو كاين، ولنبحر، ثم نرى أي مملكة نستطيع أن نبتاع.»
الفصل التاسع عشر
ما وقع لهما في سورينام وكيف تعرف كنديد بمارتن؟
كان اليوم الأول الذي قضاه السائحان سارا، ووجدا مشجعا لهما في شعورهما، بأنهما حائزان لكنوز تزيد على ما يمكن آسيا وأوروبا وأفريقيا أن تجمعه، ويكتب كنديد اسم كونيغوند على الأشجار عن وجد، ويغوص في اليوم الثاني اثنان من الكباش في المناقع، ويغرقان مع أحمالهما، ويهلك بعد أيام قليلة كبشان آخران تعبا، ثم يهلك في الصحراء سبعة أو ثمانية جوعا، وتمضي بضعة أيام فتسقط كباش أخرى في الهوى، وأخيرا لا يبقى لهما غير كبشين بعد سير مائة يوم، فيقول كنديد لككنبو: «ترى يا صاحبي، كيف أن ثروات هذه الدنيا زائلة، ولا يوجد ما هو ثابت، غير الفضيلة والسعادة بلقاء الآنسة كونيغوند.»
ويقول ككنبو: «أوافق على ذلك، ولكنه بقي لنا كبشان، عليهما من الكنوز أكثر مما يمكن أن يحوزه ملك إسبانيا في أي وقت كان، وأرى من بعيد مدينة يخيل إلي أنها سورينام، التي يملكها الهولنديون، والآن نحن في نهاية متاعبنا وبداءة سعادتنا.»
ويدنوان من المدينة فيلاقيان زنجيا مستلقيا على الأرض، لم يستر غير نصفه بثوب، أي: بسروال من نسيج أزرق، وكان يعوز هذا المسكين ساقه اليسرى ويده اليمنى، ويقول له كنديد بالهولندية: «والآن، رباه! ما تعمل هنا في الحال الهائلة التي أراك عليها يا صاحبي؟»
ويجيب الزنجي بقوله: «أنتظر التاجر الشهير مولاي السيد وندردندر.»
ويقول كنديد: «وهل السيد وندردندر هو الذي عاملك هكذا؟»
ويقول الزنجي: أجل يا سيدي، إن من العادة أن نعطى كثياب سروالا من القطن مرتين في كل عام، فإذا حدث أن نتش المسحق إصبع الواحد منا في أثناء العمل في معمل السكر قطعت يده، وإذا حاول الواحد منا أن يفر قطعت ساقه، وقد وقعت في الحالين، فهذا هو الثمن الذي تأكلون به سكرا في أوروبا، ومع ذلك فإن أمي قالت لي في ساحل غينة، حينما باعتني بعشرة إيكويات بتاغونية: «أي ولدي العزيز، اشكر لأصنامنا واعبدها دائما، فبفضلها ستعيش سعيدا، ولك الشرف بأن تكون عبدا لسادتنا البيض، وبذلك تغني أبويك.» «آه! لا أعرف هل أغنيتهما، ولكن لم يغنياني، فالكلاب والقردة والببغاوات أقل شقاء منا ألف مرة، وفي كل أحد يقول لي الأصنام الهولنديون الذين غيروا ديني: إننا كلنا أبناء آدم، لا فرق في ذلك بين البيض والسود. ولست نسابا، ولكن إذا كان هؤلاء الوعاظ يقولون الحق كنا أبناء عم لحا،
1
والواقع أنك تسلم بأن الإنسان لا يستطيع أن يعامل أقرباءه بأفظع من هذا.»
ويصرخ كنديد قائلا: «إنك لم تتنبأ بهذا المكروه يا بنغلوس! فإذا صح ذلك وجب أن أعدل عن تفاؤلك.»
ويقول ككنبو: «ما التفاؤل؟»
ويقول كنديد: «واها! هو السورة التي يعد بها كل شيء حسنا مع معاكسة كل شيء لنا»، ويسكب عبرات إذ ينظر إلى الزنجي، ويدخل سورينام وهو يبكي.
وأول شيء استعلماه هو وجود مركب في الميناء، يمكن إرساله إلى بوينوس أيرس، والشخص الذي خاطباه في ذلك هو ربان إسباني، عرض عليهما صفقة مناسبة، وجعل لهما موعدا في إحدى الحانات، وذهب كنديد والوفي ككنبو مع كبشيهما لانتظاره هنالك.
وبما أن قلب كنديد على شفتيه، فقد قص على الإسباني خبر مغامراته، واعترف له بأنه يريد خطف الآنسة كونيغوند، فقال الربان: «سأحترز من أخذكما إلى بوينوس أيرس؛ لما يوجبه هذا من شنقي وشنقكما، فالحسناء كونيغوند حظية مولانا المفضلة.»
فنزل هذا كالصاعقة على كنديد، وبكى طويلا، ثم انفرد بككنبو جانبا وقال له: «إليك ما يجب أن تصنعه يا صديقي العزيز: يوجد في جيوب كل منا من الألماس ما يعدل خمسة ملايين أو ستة ملايين، وتعد أبرع مني، فاذهب إلى بوينوس أيرس، وأحضر الآنسة كونيغوند، فإذا ما وضع الحاكم بعض العراقيل فأعطه مليونا، وإذا لم يذعن فأعطه مليونين، وأنت لم تقتل قاضيا تفتيشيا قط، ولن يحترز منك مطلقا، وسأجهز مركبا آخر، وسأذهب لانتظارك في البندقية، فهذا بلد حر لا يخشى فيه شيء، لا يخشى فيه بلغار ولا آبار ولا يهود ولا قضاة تفتيش.»
ويستحسن ككنبو هذا القرار الحكيم، ويحزنه أن ينفصل عن سيد صالح، أصبح صديقه الودود، بيد أن ما ساوره من لذة غدوه نافعا له، تغلب على ألم مغادرته له، ويتعانقان وأعينهما تفيض دمعا، ويوصيه كنديد بألا ينسى العجوز الصالحة مطلقا، ويسافر ككنبو في اليوم نفسه، وكان ككنبو هذا رجلا طيبا جدا.
ويمكث كنديد بسورينام أياما أخر، وينتظر عزم ربان آخر؛ ليأتي به وبالكبشين اللذين بقيا له إلى إيطالية، ويختار خدما، ويشتري كل ما يحتاج إليه في سفرة طويلة، وأخيرا يأتي لمقابلته السيد وندردندر المالك لمركب ضخم، فيسأله كنديد: «كم تريد لإيصالي إلى البندقية رأسا مع خدمي وأمتعتي وهذين الكبشين؟» فيطلب الربان عشرة آلاف قرش، ولم يتردد كنديد، ويقول الفطين وندردندر في نفسه: «وي، وي! إن هذا الغريب يعطي عشرة آلاف قرش دفعة واحدة! لا بد من أنه بالغ الغنى»، ثم يعود بعد هنيهة، ويخبر بأنه لا يستطيع السفر بأقل من عشرين ألفا، ويقول كنديد: «حسنا، ستقبضها.»
ويقول التاجر مخافتا: «ياه! إن هذا الرجل يعطي عشرين ألف قرش بسهولة، كالتي يعطي بها عشرة آلاف»، ويعود ثانية، ويقول: إنه لا يستطيع أن يأتي به إلى البندقية ما لم يدفع ثلاثين ألفا، فيجيب كنديد: «ستقبض ثلاثين ألفا إذن.»
ويقول التاجر الهولندي في نفسه مرة أخرى: «وي، وي! لا قيمة لثلاثين ألف قرش عند هذا الرجل، ولا ريب في أن الكبشين يحملان كنوزا واسعة، فلا أمعن في الإلحاف، ولنقبض ثلاثين ألف قرش أولا، ثم نرى.»
ويبيع كنديد ألماستين صغيرتين، فتساوي صغراهما أكثر مما طلب الربان، ويدفع إليه سلفا، ويرفع الكبشان إلى ظهر المركب، ويتبعهما كنديد بمركب صغير وصولا إلى السفينة الراسية، ولا يضيع الربان وقته، فيقلع
2
السفينة، ويرفع المرساة، وتساعد الريح السفينة، فلم تلبث أن توارت عن عيني كنديد الولهان الحيران، فيصرخ قائلا: «واها! هذه من الحيل الجديرة بالعالم القديم»، ويعود إلى الشاطئ متألما، ولا غرو، فهو قد أضاع في آخر الأمر ما يجعل له غنى عشرين ملكا.
ويذهب إلى القاضي الهولندي، ويقرع الباب بشدة عن اضطراب، ويدخل ويعرض مغامرته، ويرفع صوته بما لا ينبغي أن يصنع، ويغرمه القاضي عشرة آلاف قرش لما أحدث من ضوضاء، ثم يستمع له بأناة، ويعده بالنظر في قضيته فور رجوع التاجر، ويحمله عشرة آلاف أخرى من القروش نفقات للجلسة.
أورد هذا الأسلوب كنديد موارد اليأس، والحق أنه كابد من المصائب ما هو أشد إيلاما من ذلك ألف مرة، غير أن ما لقي من فتور القاضي والربان الذي سرقه أحرق كبده، وأغرقه في بحر من الملنخوليا السوداء، ويتمثل خبث الناس على أبشع صورة، ويتغذى بأفكار كئيبة، وأخيرا وجد مركب فرنسي على وشك السفر إلى بوردو، وبما أنه لم يكن عنده كباش محملة ألماسا يوسقه به، فقد استأجر حجيرة بمقابل مقبول، وقد أعلن في المدينة أنه يدفع إلى رجل صالح يرغب في السفر معه أجرة الانتقال مع الطعام وألفي قرش، على أن يكون هذا الرجل أشد الناس تبرما من حاله في الإقليم وأكثرهم تعسا.
ويحضر أمام جمهور من الطالبين لا يمكن أن يسعه أسطول، ويرغب كنديد في اختيار من ينم مظهره على مطلوبه، فيميز عشرين شخصا بدوا له أنساء، وهم الذين كانوا يدعون أنهم يستحقون التفضيل، ويجمعهم كنديد في حانة، ويقدم إليهم عشاء، على أن يحلف كل منهم أن يروي قصته بإخلاص، واعدا أنه يختار من يظهر له أنه أدعاهم إلى الشفقة، وأنه أكثرهم استياء من حاله بما في كل هذه الكلمة من معنى، وذلك مع الإنعام على الآخرين بقليل من النقد.
وتدوم الجلسة حتى الساعة الرابعة من الصباح، وبينا كان كنديد يستمع إلى جميع مغامراتهم، تذكر ما كانت العجوز قد قالته له في أثناء السفر إلى بوينوس أيرس، وما كان من مراهنتها على عدم وجود شخص في السفينة لم يبتل بمصائب كبيرة جدا، وكان يتمثل بنغلوس في كل مغامرة تروى له، فقال: «كان بنغلوس هذا يجد عسرا في إثبات مذهبه، وأود لو كان موجودا هنا، فالحق أن كل شيء إذا كان حسنا كان هذا في إلدورادو، لا في بقية العالم.»
وأخيرا يقع خياره على عالم فقير، عمل عشر سنين لحساب بائعي الكتب في أمستردام، فقد حكم بأنه لم توجد في الدنيا حرفة أدعى إلى السأم من هذه.
وكان هذا العالم - الذي هو رجل صالح أيضا - قد سلب من قبل امرأته، وضرب من قبل ابنه، وترك من قبل ابنته التي اغتصبت من قبل برتغالي طوعا، وكان قد حرم وظيفة صغيرة يقوم عيشه عليها، وكان مبشرو سورينام يضطهدونه؛ لأنهم يظنونه من السوسنيان.
3
أجل، يجب أن يعترف بأن الآخرين مثله شقاء على الأقل، غير أن كنديد كان يأمل أن يزيل هذا العالم همه في أثناء السفر، وقد وجد منافسوه الآخرون كلهم أن كنديد جار عليهم جورا كبيرا، فهدأهم كنديد هذا بمنحه كل واحد منهم مائة قرش.
الفصل العشرون
ما وقع لكنديد ومارتن في البحر
إذن، أبحر الشيخ العالم مارتن مع كنديد إلى بوردو، وكلاهما رأى كثيرا، وألم كثيرا، ولو وجب على السفينة أن تقلع من سورينام إلى اليابان مارة من رأس الرجاء الصالح، لكان لديهما ما يتكلمان عنه من الشر الأدبي والشر المادي في أثناء جميع الرحلة.
ومع ذلك فقد كان لكنديد مزية كبيرة على مارتن، وذلك أنه كان يأمل دائما أن يرى الآنسة كونيغوند ثانية، وأنه لم يكن عند مارتن شيء يأمله، ثم كان لديه ذهب وألماس فضلا عن ذلك، وهو مع كونه أضاع مائة كبش سمين أحمر محمل أعظم كنوز الأرض، وهو مع كونه يحقد في كل حين على الربان الهولندي السارق، كان إذا ما فكر فيما بقي في جيوبه، وكان إذا ما تكلم عن كونيغوند يميل إلى مذهب بنغلوس، ولا سيما بعد تناول الطعام.
ويقول للعالم: «ولكن ما رأيك في جميع ذلك، يا سيدي مارتن؟ وما قولك عن الشرين: الأدبي والمادي؟»
ويجيب مارتن بقوله: «إن قساوستي يا سيدي، اتهموني بأنني سوسنياني، ولكنني مانوي
1
في الحقيقة.»
ويقول كنديد: «أنت تهزأ بي، عاد لا يوجد مانوي في العالم.»
ويقول مارتن : «أنا مانوي، ولا أدري ما عملي في ذلك، ولكن لا أستطيع أن أفكر على وجه آخر.»
ويقول كنديد: «لا بد من وجود الشيطان في بدنك.»
ويقول مارتن: «بلغ الشيطان من شدة التدخل في شئون هذا العالم، ما يمكن أن يوجد معه في جسمي، كما يوجد في أي مكان آخر، ولكنني أعترف لك بأنني - إذ ألقي نظرة على هذه الكرة أو الكرية - أرى الرب قد تركها لبعض الموجودات الشريرة، وأستثني إلدورادو من ذلك دائما، فلم أر قط مدينة لم ترغب في خراب المدينة المجاورة لها، ولم أر قط أسرة لا تريد استئصال أسر أخرى، وفي كل مكان يلعن الضعفاء الأقوياء الذين يزحفون أمامهم، ويعاملهم الأقوياء كقطاع يباع صوفها ولحمها، وتجد مليون قاتل مدرب يجوب طرفي أوروبا ويمارس القتل وقطع الطرق بنظام كسبا لعيشه؛ وذلك لأنه لم ير حرفة أصلح من هذه، ويفترس الناس في المدن التي يلوح تمتعها بالسلم، والتي تزدهر فيها العلوم، حسد وهموم وقلق أشد من البلايا التي تعانيها مدينة محاصرة، ثم إن الكروب الخفية أقسى من المصائب الظاهرة، والخلاصة أنني أبصرت وبلوت الكثير من ذلك حتى صرت مانويا.»
ويجيب كنديد: «ومع ذلك يوجد ما هو صالح»، ويقول مارتن: «قد يوجد ذلك، ولكنني لا أعرفه.»
ويسمع في أثناء هذا الحوار قصف مدفع، ويتضاعف القصف بين حين وآخر، وكل يتناول منظاره، فيرى على مسافة نحو ثلاثة أميال اقتتال مركبين، وتأتي بهما الريح إلى قرب السفينة الفرنسية بما يسهل أن يتمتع معه برؤية القتال، وأخيرا أطلق أحد المركبين على الآخر قذيفة، بلغت من إصابة الأسفل ما غرق بها إلى القعر، وقد استطاع كنديد ومارتن أن يميزا مائة رجل على سطح المركب الذي يغوص، وكان جميع هؤلاء يرفعون أيديهم إلى السماء، وتخرج منهم صيحات هائلة، ولم تمض دقيقة حتى ابتلعهم اليم جميعا.
قال مارتن: «حسنا! هذا هو الأسلوب الذي يعامل الناس به بعضهم بعضا.»
فقال كنديد: «حقا يوجد شيء شيطاني في هذا الأمر»، وبينما كان يتكلم على هذا الوجه، أبصر شيئا أحمر لامعا، يسبح قريبا من سفينته، وينزل الزورق ليرى ما يمكن أن يكون هذا، فظهر أنه أحد الكبشين، ويبلغ كنديد من السرور بلقيان هذا الكبش ما يفوق الغم الذي اعتراه بفقده الكباش المائة الحاملة ألماسا ضخما من إلدورادو.
ولم يلبث الربان الفرنسي أن أدرك أن ربان المركب الباقي إسباني، وأن ربان المركب الغارق قرصان هولندي، وهذا هو الذي سرق كنديد، فدفنت الثروات الواسعة التي استولى عليها هذا الأثيم معه في البحر، ولم ينقذ منها غير هذا الكبش، ويقول كنديد لمارتن: «ترى كيف يعاقب على الجناية أحيانا! فقد نال هذا الربان الهولندي اللئيم ما يستحق من نصيب.»
ويقول مارتن: «أجل، ولكن أكان يجب أن يهلك المسافرون الذين هم على مركبه أيضا؟! فالرب قد جازى هذا اللص، والشيطان قد أغرق الآخرين.»
ومع ذلك فقد داوم المركب الفرنسي والمركب الإسباني على سيرهما، وقد استمر كنديد ومارتن على حديثهما، وقد طال نقاشهما خمسة عشر يوما، فلما انقضى هذا الوقت لم يكونا قد تقدما شيئا على ما كانا عليه في البداءة، بيد أنهما كانا يتكلمان ويتبادلان الآراء ويتآسيان، وكان كنديد يلامس كبشه ويقول: «يمكنني أن ألقى كونيغوند ما دمت قد لقيتك.»
الفصل الحادي والعشرون
يدنو كنديد ومارتن من شواطئ فرنسة ويتحاوران
وأخيرا تشاهد شواطئ فرنسة، فيقول كنديد: «أكنت في فرنسة، ولو مرة واحدة يا مسيو مارتن؟»
ويقول مارتن: «أجل، لقد طفت في عدة مديريات، فيبدو نصف السكان في بعضها مجنونا، ويكون السكان في بعض آخر منها محتالين، ويظهرون في مديريات أخرى ودعاء أغبياء على العموم، ويلوحون في نواح أخر نبهاء، وفي جميع هذه المديريات يكون الغرام شغلهم الأول، ويكون الثلب شغلهم الثاني، ويكون الكلام الفارغ شغلهم الثالث.» - «ولكن هل شاهدت باريس يا مارتن؟» - «أجل، لقد شاهدت باريس، وهي جامعة لجميع هذه الأنواع، وهي فوضى، وهي زحمة، ينشد جميع الناس فيها لذة، فلا يجدها أحد - كما ظهر لي على الأقل. وقد أقمت بها زمنا قليلا، وقد سرقت حين وصولي إليها من قبل النشالين، وكان هذا في سوق سان جرمن، وقد ظننت أنني سارق، فقضيت ثمانية أيام في السجن، ثم صرت مصحح مطبعة لأكسب ما أعود به إلى هولندة ماشيا، وعرفت الأوباش الكاتبين والأوباش الدساسين والأوباش المتشنجين، ويقال: إنه يوجد أناس مهذبون كثيرا في هذه المدينة، وأود تصديق ذلك.»
ويقول كنديد: «وأما أنا فلا أجد في نفسي من حب الاطلاع ما أرغب معه في مشاهدة فرنسة، ويمكنك أن تتمثل بسهولة كون الإنسان إذا ما قضى شهرا في إلدورادو، عاد لا يكترث لرؤية شيء في العالم غير الآنسة كونيغوند، فأنا ذاهب لانتظارها في البندقية، وسأجوب فرنسة وصولا إلى إيطالية، ألا ترافقني؟»
ويقول مارتن: «أرافقك عن رضا بالغ، ويقال: إن البندقية ليست صالحة لغير الأشراف من أهلها، ولكن الغرباء يتقبلون فيها قبولا حسنا مع ذلك، إذا كان عندهم مال كثير، فليس عندي مال مطلقا، وعندك مال، فسأتبعك حيثما تذهب.»
ويقول كنديد: «وعلى ذكر ما نحن بصدده أسأل: أترى الأرض كانت بحرا في البدء، وذلك كما يوكد في هذا الكتاب الضخم
1
الذي يملكه ربان السفينة؟»
ويقول مارتن: «لا أعتقد ذلك مطلقا، كما أنني لا أعتقد جميع الأوهام التي تروج لدينا منذ زمن قصير.»
ويقول كنديد: «ولكن ما الغاية من تكوين هذا العالم إذن؟»
ويجيب مارتن: «لاستفزازنا»، ويقول كنديد - مواصلا: «ألم تدهش من ولع تينك الفتاتين، اللتين هما من الأوريون بذينك القردين، واللتين قصصت عليك نبأ مغامرتهما؟»
ويقول مارتن: «كلا، لا أجد هذا الهوى أمرا غريبا، فقد شاهدت من الأمور الخارقة للعادة ما عاد لا يبدو شيء معه خارقا للعادة عندي.»
ويقول كنديد: «أتعتقد أن الناس كانوا يتذابحون كما يصنعون اليوم؟ وهل كانوا في كل وقت كاذبين مداجين مخادعين، جاحدين سارقين واهين طائشين، خسيسين حاسدين شرهين سكيرين، بخلاء طمعاء سفاكين مفترين، فاسقين متعصبين منافقين أغبياء؟»
ويقول مارتن: «أوتعتقد أن البيزان في كل وقت تأكل الحمام حيثما تجدها؟»
ويقول كنديد: «أجل، لا ريب.»
ويقول مارتن: «والآن، إذا كانت البيزان تتصف بذات الطبع دائما، فلم تريد أن يغير الناس طبعهم؟»
ويقول كنديد: «وي! يوجد فرق كبير؛ لأن الإرادة ...» وبينا كانا يتحاوران هكذا، وصلا إلى بوردو.
الفصل الثاني والعشرون
ما وقع لكنديد ومارتن في فرنسة
لم يقض كنديد من الوقت في بوردو إلا ما هو ضروري لبيع قليل من حصباء إلدورادو، فيجهز نفسه بكرسي جيد ذي مقعدين؛ وذلك لأنه عاد لا يستطيع الاستغناء عن فيلسوفه مارتن، وإنما حزن كثيرا على فراق كبشه الذي تركه لمجمع العلوم في بوردو؛ لهذا المجمع الذي عرض جائزة في هذه السنة لمن يكشف السبب في كون صوف هذا الكبش أحمر، وقد حكم بهذه الجائزة لعالم من الشمال أثبت ب (أ + ب − ج)/ي أن الكبش يجب أن يكون أحمر، وأنه سيموت بجدري الضأن.
ومع ذلك فإن جميع السياح الذين لقيهم كنديد في حانات الطريق، كانوا يقولون له: «نحن ذاهبون إلى باريس»، وكان من نتائج هذه الرغبة الشاملة أن أثير شوقه إلى رؤية العاصمة، ولم تكن بعيدة كثيرا من طريق البندقية.
ويدخل من ضاحية سان مارسو، ويظن أنه في أسوأ قرية من فستفالية.
ولم يكد كنديد يكون في فندقه، حتى أصيب بمرض خفيف ناشئ عن تعبه، وبما أنه كان يلبس ألماسة كبيرة في إصبعه، وبما أنه رئي في عجلته صندوق صغير ثقيل إلى الغاية، فإنه لم يلبث أن رأى بجانبه طبيبين لم يستدعهما، وبضعة أصدقاء أوداء لم يفارقوه، واثنتين من ذوات التقوى كانتا تعدان مرقا له.
ويقول مارتن: «أذكر، أنني كنت مريضا أيضا في رحلتي الأولى بباريس، وكنت فقيرا جدا، ولم يكن عندي أصدقاء ولا تقيات ولا أطباء، وقد شفيت.»
ومع ذلك فإن مرض كنديد صار خطرا بفعل الطب والفصد، ويعرض عليه بلطف أحد المترددين على الحي سندا لحامله تدفع قيمته في الآخرة، ولم يشأ كنديد صنع شيء من هذا، وتوكد له التقيتان، أن هذا موضة
1
جديدة.
ويجيب كنديد أنه لم يكن على الموضة قط، ويعزم مارتن على إلقاء ذلك الرجل من النافذة، ويقسم الإكليريكي أنه لن يدفن كنديد مطلقا، ويقسم مارتن، أنه يدفن الإكليريكي إذا داوم على إزعاجهما، ويشتد النزاع ، ويمسكه مارتن من كتفيه ويطرده بغلظة، ويسفر هذا عن فضيحة كبيرة، يدون محضر عنها.
ويشفى كنديد، وفي دور نقهه يتعشى عنده عشراء صلاح، ويعرض مال كثير للقمار، ويدهش كنديد من عدم ظفره بآسات مطلقا، ولم يدهش مارتن من هذا.
وكان بين من يكرمونه عن المدينة، يوجد كاهن صغير من بريغور، وكان ذا همة دائم النشاط دائم الخدمة، خالع العذار، لين العريكة، سلس الخلق، فيرقب الأجانب عند مرورهم، ويحدثهم عن فضائح المدينة، ويعرض عليهم ملاذ بأي ثمن كان، وكان أول ما صنع إتيانه بكنديد ومارتن إلى دار التمثيل، حيث تمثل مأساة جديدة، ويجلس كنديد بجانب أناس من حاضري النكتة، ولم يمنعه هذا من البكاء، بفعل الفصول التي يحسن تمثيلها، ويقول له أحد المتعقلين الذين كانوا بجانبه في فترة استراحة: «لا ينبغي لك أن تبكي، فهذه الممثلة سيئة جدا، والممثل الذي يقوم بدوره معها أكثر سوءا منها، وليست الرواية أقل سوءا من الممثلين، فلا يعرف المؤلف كلمة واحدة من العربية، ومع ذلك فإن منظر الرواية في بلاد العرب، ثم إن هذا الرجل لا يعتقد المبادئ الفطرية، وسآتيك غدا بعشرين رسالة، كتبت ضده.»
ويقول كنديد للكاهن: «كم رواية تمثيلية توجد في فرنسة؟»
ويجيب الكاهن: «خمسة آلاف أو ستة آلاف.»
ويقول كنديد: «هذا كثير، فكم عدد الجيد منها؟»
ويجيب الآخر: «خمس عشرة أو ست عشرة.»
ويقول مارتن: «هذا كثير.»
ويسر كنديد كثيرا بممثلة تقوم بدور الملكة إليزابث، في مأساة كابية تمثل أحيانا، ويقول لمارتن: «إن هذه الممثلة تروقني كثيرا، وهي تشابه الآنسة كونيغوند، ويطيب لي أن أحييها.»
ويعرض الكاهن البريغوري أن يقدمه إليها في منزلها، ويسأل كنديد - الذي نشئ في ألمانية - عن الرسميات، وعن الوجه الذي تعامل به ملكات إنكلترة في فرنسة، ويقول الكاهن: «لا بد من التمييز، ففي الأقاليم يؤتى بهن إلى الحانات، وفي باريس يحترمن إذا ما كن حسانا، فإذا متن رمين في مطرح القمامة.»
ويقول كنديد: «ملكات في مطرح القمامة!»
ويقول مارتن: «أجل، لا ريب، إن سيدي الكاهن على حق، فقد كنت بباريس عندما انتقلت الآنسة مونيم من هذه الحياة إلى الآخرة - كما يقال. فقد ضن عليها بما يسميه هؤلاء الناس مراسم الدفن، أي: أن تعفن مع جميع أوغاد الحي في مقبرة كريهة، فدفنت وحدها في زاوية شارع برغونية، وهذا ما كان يشق عليها حقا، فقد كانت أصيلة التفكير.»
ويقول كنديد: «هذا مخالف للأدب.»
ويقول مارتن: «ما تنتظر؟ إن هؤلاء الناس فطروا على هذا الطبع، فتمثل جميع ما يمكن من تناقض وتخالف، تجده في حكومة هذا الشعب السخيف، ومحاكمه وكنائسه ومسارحه.»
ويقول كنديد: «أمن الصحيح كون الناس في باريس يضحكون دائما؟»
ويقول الكاهن: «أجل، ولكن مع غيظ في نفوسهم، وذلك أنهم يشكون من كل شيء مع القهقهة، حتى إنهم يأتون أدعى الأمور إلى المقت، وهم يضحكون.»
ويقول كنديد: «من هو ذاك الخنزير السمين الذي قال لي سوءا كبيرا عن الرواية التي أبكتني كثيرا، وعن الممثلين الذين ألقوا سرورا بالغا في نفسي؟»
ويجيب الكاهن: «هذا أثيم، يكسب عيشه بقوله سوءا عن جميع الروايات وجميع الكتب، وهو يمقت كل واحد يكتب له النجاح، كما يمقت الخصيان كل من يستمتع، وهو من أفاعي الأدب التي تغتذي بالحمأة
2
والحمة،
3
وهو محبر.»
ويقول كنديد: «وما تعني بكلمة محبر؟»
ويقول الكاهن: «إنه ناشر أوراق، إنه فريرون.»
4
وهكذا يتخاطب كنديد ومارتن والبريغوري على الدرج عندما كانوا يشاهدون الناس خارجين من دار التمثيل. ويقول كنديد: «ومع أنني شديد الشوق إلى لقاء الآنسة كونيغوند، فإنني أود - مع ذلك - أن أتعشى مع الآنسة كليرون التي ظهرت لي رائعة.»
ولم يكن الكاهن ليقترب من الآنسة كليرون التي لا تعاشر غير الطبقة الراقية، ويقول: «هي مشغولة في هذه الليلة، ولكن لي الشرف بأن آتي بك إلى بيت سيدة من ذوات المقام، فهنالك تعرف باريس، كما لو أقمت بها أربع سنين.»
وبما أن كنديد كان ذا فضول بطبيعته، فإنه سمح بأن يؤتى به إلى منزل السيدة في آخر ضاحية سان أنوره، فوجد فيه أناس يلعبون لعبة القمار المعروفة بالفرعونية، وكان يوجد هنالك اثنا عشر مقامرا حزينا، يمسك كل واحد منهم كتيبا من أوراق اللعب، أي: سجلا مقرنا لحظهم العاثر، وكان يسود الجميع صمت عميق، وكانت تعلو جباه المقامرين صفرة، وكان يبدو القلق على جبين الصيرفي، وكانت ربة المنزل الجالسة بجانب هذا الصيرفي القاسي تلاحظ بعيني وشق
5
جميع المقامرات بضعف ما لعب به أول مرة، أي: جميع ما يثني به كل مقامر من أوراقه، فتعيد الثنيات بدقة وثيقة، ولكن مؤدبة، خشية افتقاد زبنها، وكانت هذه السيدة تسمى مركيزة بارولينياك، وكانت لها ابنة بالغة من العمر خمس عشرة سنة، وكانت هذه الابنة بين المقامرين، فتخبر بطرفة عين عن مخادعات هؤلاء المساكين الذين يحاولون إصلاح قسوة الطالع، ويدخل الكاهن وكنديد ومارتن فلم ينهض أحد، ولم يحيهم أحد، ولم ينظر إليهم أحد، فالجميع كانوا يفكرون في أوراق لعبهم، ويقول كنديد: إن سيدتي بارونة ثندر تن ترنك كانت أكثر تهذيبا.
ومع ذلك فإن الكاهن يدنو من أذن المركيزة، فتنهض نصف نهضة، وتكرم كنديد بابتسامة لطيفة، كما تكرم مارتن بهزة رأس أصيلة، وتقدم إلى كنديد مقعدا ولعبة أوراق، فيخسر خمسين ألف فرنك في جولتين، وبعد ذلك يتناول العشاء بمرح، ويدهش الحضور من كون كنديد لم يزعج بخساره، وكان الخدم يقولون فيما بينهم: «لا بد من أن يكون هذا لوردا إنكليزيا.»
وكان العشاء مماثلا لمعظم أعشية باريس، فمن صمت في البداءة إلى كلام صاخب، لا يماز بعضه من بعض، ثم إلى فكاهات تافهة في الغالب، فإلى حوادث كاذبة، فإلى تعقلات رديئة، فإلى قليل من السياسة، فإلى كثير من الغيبة، حتى إن الحديث دار حول الكتب الجديدة.
ويقول الكاهن البريغوري: «هل اطلعتم على الرواية التي وضعها الدكتور في اللاهوت السيد غوشا؟»
6
فيجيب أحد المدعوين: «أجل، ولكني لم أستطع إتمامها، ولدينا طائفة من الكتب المخالفة للأدب، ولكنها كلها لا تداني مجون الدكتور في اللاهوت غوشا، وقد بلغت من التخم بهذا الفيض البغيض من الكتب التي تغمرنا ما ملت معه إلى الميسر (الفرعونية).»
ويقول الكاهن: «وما تقول عن «كشكول» رئيس الشمامسة تروبله؟»
7
فتقول مدام دوبارولنياك: «آه! يا له من مخلوق ممل! يا لذكره لكم أمورا على أنها من الطرائف، مع أن جميع الناس يعرفونها! يا لثقل نقاشه في أمر لا يستحق سوى ملاحظة خفيفة! يا لانتحاله - بلا روح - روح الآخرين! يا لإفساده ما يسلبه! يا لاشمئزازي منه! بيد أنه عاد لا يثير نفوري، فيكفي أن يقرأ بضع صفحات من رئيس الشمامسة.»
ويؤيد ما قالته المركيزة رجل علم وذوق كان بين الجالسين حول المائدة، ثم دار الحديث حول المآسي، وتسأل السيدة عن سبب وجود مآس تمثل أحيانا ولا تطاق مطالعتها، ويوضح رجل الذوق إيضاحا جيدا، كيف أن الرواية تنطوي على إمتاع من غير أن تشمل على أية مزية تقريبا، ويثبت بكلمات قليلة أنه لا يكفي أن يؤتى بواحد أو اثنين من المواقف التي توجد في جميع الروايات، وتغري الحضور في كل حين، بل لا بد من الجدة بلا غرابة، ومن السمو غالبا، ومن القرب إلى الطبيعة دائما، ومن معرفة القلب وإنطاقه، ومن كون الكاتب شاعرا كبيرا، مع عدم إظهاره أي واحد من أبطال الرواية شاعرا، ومن كونه تام العلم بلغته، مستخدما إياها بصفاء وانسجام متصل، ومن غير أن يضحى بشيء من المعنى في سبيل القافية، ويضيف إلى هذا قوله: «أجل، يمكن من لم يراع جميع هذه القواعد أن يضع مأساة أو مأساتين، يهتف لهما في دار التمثيل، ولكنه لن يعد من الكتاب المجيدين، والمآسي الجيدة قليلة إلى الغاية، وبعض المآسي رعائية حوارية حسنة الإنشاء حسنة الوزن، وبعضها ملاحظات سياسية تجلب النعاس، أو إسهاب يجلب الملال، وبعض آخر منها أحلام ممسوس بأسلوب جاف، مع حوار متقطع وخطاب طويل للآلهة «عن عدم معرفة لمحادثة الناس»، وأمثال زائفة وأفكار مبتذلة مبالغ فيها.»
ويستمع كنديد إلى هذا القول بدقة، ويكبر في ذهنه هذا المتكلم كثيرا، وبما أن المركيزة كانت تعنى بوضعه بجانبها، فإنه يميل إلى أذنها، ويبيح لنفسه أن يسألها عن هذا الرجل، الذي يجيد الكلام بهذا المقدار، فتقول السيدة: «هذا عالم لا يقامر أبدا، هذا أديب، يأتيني به الكاهن أحيانا لتناول العشاء، وهو تام المعرفة بالمآسي والكتب، وقد وضع مأساة صفر لها، كما وضع كتابا، لم ير منه غير نسخة واحدة خارج حانوت الكتبي، فأهداها إلي.»
ويقول كنديد: «يا له من رجل عظيم! هو بنغلوس آخر.»
وهنالك يلتفت إليه ويقول له: «سيدي، ترى لا ريب أن كل شيء يسير على أحسن حال في العالم المادي والعالم المعنوي، وأن الأمر لا يمكن أن يكون غير هذا؟»
فيجيب العالم: «لا أرى هذا مطلقا يا سيدي، وعكس هذا هو الذي يقع عندنا - كما أرى. فلا أحد يعرف مقامه ولا عمله، ولا ما يفعل، ولا ما يجب أن يفعل، وإذا عدوت العشاء الذي ينطوي على شيء من المرح، وحيث يبدو شيء من الألفة، وجدت ما بقي من الزمن ينقضي بمنازعات ماجنة، فيظهر الينسينيون
8
ضد المولينيين،
9
ورجال البرلمان ضد رجال الكنيسة، ورجال الأدب ضد رجال الأدب، والندماء ضد الندماء، والماليون ضد الشعب، والنساء ضد الأزواج، والأقرباء ضد الأقرباء، فهذا قتال أزلي.»
ويجيبه كنديد بقوله: «رأيت ما هو أسوأ من هذا، غير أن الحكيم الذي شقي بالشنق، علمني أن جميع ذلك على أحسن حال، فهذه ظلال على لوح جميل.»
ويقول مارتن: «إن هذا المشنوق، كان يهزأ بالعالم، فظلالك شوائب فظيعة.»
ويقول كنديد: «إن الناس هم الذين يصنعون الشوائب، ولا يمكنهم اجتنابها.»
ويقول مارتن: «إذن، ليس هذا خطأهم»، وكان معظم المقامرين الذين لا يفقهون شيئا من هذا الحديث يشربون، وقد تبادل مارتن والعالم الحديث، وقد قص كنديد قسما من مغامراته على ربة المنزل.
وبعد العشاء تأتي المركيزة بكنديد إلى مخدعها، وتجلسه على متكأ وتقول له: «حسنا! إذن أنت تحب الآنسة كونيغوند دو ثندر تن ترنك حب ولع دائما؟»
ويجيب كنديد: «أجل، يا سيدتي.»
وتجيب المركيزة بابتسامة ناعمة: «إنك تجيب كما يجيب شاب من فستفالية، ولو وجد فرنسي في مكانك لقال لي: نعم، لقد أحببت الآنسة كونيغوند، ولكنني أخشى ألا أحبها بعد أن رأيتك يا سيدتي.»
ويقول كنديد: «آه! يا سيدتي، سأجيب كما تريدين.»
وتقول المركيزة : «بدأ ولعك بها بالتقاطك منديلها، فأود أن تلتقط لي رباط ساقي.»
ويقول كنديد: «ألتقطه من صميم فؤادي»، ويلتقطه.
وتقول السيدة: «ولكنني أود أن ترده إلى حيث كان في»، فيرده كنديد.
وتقول السيدة: «أنت أجنبي كما ترى، ومما يحدث أحيانا أن أدع عشاقي بباريس يضنون خمسة عشر يوما، ولكنني أهب نفسي لك منذ الليلة الأولى، فمن الواجب أن أبيض وجه بلدي بإكرام شاب من فستفالية.»
وإذ أبصرت الحسناء ألماستين عظيمتين في يدي شابها الأجنبي، فإنها بلغت من امتداحهما بإخلاص ما انتقلتا معه من إصبعي كنديد إلى إصبعي المركيزة.
ولما عاد كنديد مع الكاهن البريغوري، شعر بندم على عدم وفائه للآنسة كونيغوند، ويشاطره السيد الكاهن كربه، ولا غرو فهو لم ينل غير نصيب ضئيل من الخمسين ألف فرنك، التي خسرها كنديد في القمار، ومن قيمة الألماستين اللتين أخذتا منه نصف هبة ونصف اغتصاب، وكانت خطته تقوم على استفادته - ما أمكنه - من العوائد التي قد ينالها بسبب معرفته لكنديد، وقد تحدثا كثيرا عن كونيغوند، وقد قال له كنديد إنه سيطلب من هذه الحسناء عندما يراها في البندقية، أن تغفر له عدم وفائه.
وضاعف البريغوري أدبه وانتباهه، وأقبل إقبال حنو على كل ما يقول كنديد، وما يفعل، وما يريد أن يفعل.
ويقول: «إذن، أنت على موعد في البندقية يا سيدي؟»
ويقول كنديد: «أجل، يا سيدي الكاهن، وعلي أن أسافر حتما لألقى الآنسة كونيغوند.» وبما أنه استحوذ عليه حب الحديث عمن يحب، فقد قص - وفق عادته - قسما من مغامراته مع هذه الفستفالية الباهرة.
ويقول الكاهن: «أظن أن الآنسة كونيغوند نبيهة جدا، وأنها تكتب رسائل فتانة.»
ويقول كنديد: «لم أتلق أية واحدة منها، فاعلم أنني طردت من القصر بسبب حبي لها، فلم أستطع أن أكتب إليها، وأنني لم ألبث أن خبرت بموتها، ثم وجدتها ثانية، ثم أضعتها، ثم أرسلت إليها رسولا في بلد يبعد من هنا 2500 فرسخ، فأنتظر جوابه.»
وكان الكاهن ينصت بدقة، ويبدو شارد الفكر قليلا، وهو لم يلبث أن استأذن الغريبين في الانصراف بعد أن عانقهما برقة، فلما أفاق كنديد صباحا تناول الكتاب الآتي:
سيدي العاشق الأعز، مضت ثمانية أيام على مرضي في هذه المدينة، وقد علمت أنك فيها، وقد كنت أطير إلى ذراعيك، لو كنت قادرة على الانتقال، وقد أنبئت بمرورك من بوردو، حيث تركت المخلص ككنبو والعجوز، اللذين سيلحقان بي سريعا، وقد أخذ حاكم بوينوس أيرس كل شيء، ولكن بقي لي قلبك. تعال، فحضورك يعيد إلي الحياة، أو يميتني قريرة العين.
نقل هذا الكتاب الساحر المفاجئ كنديد إلى جو من السرور لا يمكن أن يعبر عنه، وأثقله مرض كونيغونده العزيزة ألما، واستحوذ عليه هذان الشعوران، فأخذ ذهبه وألماسه، وأتي به وبمارتن إلى الفندق الذي تقيم به الآنسة كونيغوند، ويدخل راجفا وجدا، خافقا قلبا، زافرا صوتا. ويريد أن يزيح ستائر السرير، ويريد إحضار مصباح، فتقول الخادمة له: «احترز من ذلك كثيرا، فالنور يقتلها»، وتسدل الستائر من فورها.
ويقول كنديد باكيا: «أي كونيغوندي العزيزة! كيف حالك؟ إذا كنت لا تستطيعين أن تريني، فكلميني على الأقل.»
وتقول الخادمة: «إنها لا تستطيع الكلام»، وهنالك أخرجت السيدة من السرير يدا سمينة، فبللها كنديد بدموعه طويلا، ثم ملأها ألماسا، تاركا على الكرسي كيسا مملوءا ذهبا.
وبينا هو هائج وجدا، إذ وصل ضابط شرطة، ومن ورائه الكاهن البريغوري، وفوج من رجال الأمن، ويقول: «إذن، هذان هما المتهمان الأجنبيان؟» ويقبض عليهما حالا، ويأمر رجاله الشجعان بسوقهما إلى السجن.
ويقول كنديد: «لا يعامل السياح في إلدورادو بهذا الأسلوب.»
ويقول مارتن: «إنني مانوي، أكثر مني في أي زمن كان.»
ويقول كنديد: «إلى أين تأتون بنا يا سيدي؟»
ويقول ضابط الشرطة: «سنلقي بكما في غياهب السجن.»
ويعود إلى مارتن اعتدال دمه، ويحكم بأن السيدة التي تزعم أنها كونيغوند مخادعة، وبأن الكاهن البريغوري مخادع، أساء بسرعة استغلال بساطة كنديد، وبأن ضابط الشرطة مخادع آخر، يسهل الخلاص منه.
ويستنير كنديد برأي مستشاره، فيفضل عدم التعرض للتدابير القضائية، فيرى - وهو المتهافت على رؤية كونيغوند الحقيقية - أن يعرض على ضابط الشرطة ثلاث ألماسات صغيرة، تقدر قيمة كل واحدة منها بنحو ثلاثة آلاف دينار، ويقول له حامل العصا العاجية: «آه! يا سيدي، لو كنت مقترفا جميع ما يتصور من جرائم، لعددت أصلح رجل في العالم، ثلاث ألماسات! قيمة كل واحدة منها ثلاثة آلاف دينار! أقتل في سبيلك يا سيدي، بدلا من سوقك إلى سجن مظلم. أجل، يقبض على جميع الأجانب، ولكن دعني أدبر، فلي أخ في ديب بنورماندية، وسآتي بك إليه، فإذا كان لديك ألماس قليل، تعطيه إياه عني بك كما أعنى بك.»
ويقول كنديد: «ولم يوقف جميع الأجانب؟» وهنالك يتناول الكاهن البريغوري الحديث، ويقول: «ذلك لأن وغدا من بلد أتريباسي سمع بعض القذائع، فأدى هذا إلى قتله أباه، وليس هذا كالجرم الذي اقترف في شهر مايو سنة 1610، بل كالذي اقترف في شهر ديسمبر سنة 1594،
10
والجرائم الأخرى التي اقترفت في سنين أخرى، وفي شهور أخرى من قبل أوغاد، سمعوا قذائع.»
وهنالك يوضح ضابط الشرطة معنى ذلك، فيقول كنديد صارخا: «وي! يا لهم من غيلان! ماذا؟ أمثل هذه القبائح لدى شعب يرقص ويغني؟! ألا أستطيع الخروج بأسرع ما يمكن من هذا البلد، الذي تزعج القردة فيه النمور؟ لقد رأيت دببة في بلدي، ولم أجد أناسا في غير إلدورادو، أسألك بالله يا سيدي الضابط، أن تأتي بي إلى البندقية، حيث أنتظر الآنسة كونيغوند.»
ويقول رئيس الشرطة: «لا أستطيع أن آتي بك إلى غير نورماندية الدنيا»، ويأمر بفك قيوده حالا، ويصرح بأنه أخطأ، ويصرف أعوانه، ويجلب كنديد ومارتن إلى ديب، ويجعلهما قبضة أخيه، وكان في الميناء مركب هولندي صغير، ويصير النورماندي بثلاث ألماسات أخر أخدم الناس له، ويركب كنديد وخدمه في السفينة التي تقلع إلى برتسموث بإنكلترة، ولم تكن هذه طريق البندقية، بيد أن كنديد يشعر بأنه نجا من الجحيم، وقد كان عازما على السفر إلى البندقية في أول فرصة.
الفصل الثالث والعشرون
ذهاب كنديد ومارتن إلى شواطئ إنكلترة وما رأيا هنالك
كان كنديد يقول وهو على السفينة الهولندية: «وي! بنغلوس، بنغلوس! وي! مارتن، مارتن! وي! كونيغوندي العزيزة! ما هذا العالم ؟»
وكان جواب مارتن: «شيء ممسوس جدا، شيء كريه جدا.» - «أنت تعرف إنكلترة، وهل يوجد هنالك مس كما في فرنسة؟»
ويقول مارتن: «هذا نوع آخر من الجنون، فأنت تعلم أن هاتين الأمتين متحاربتان، من أجل فدادين قليلة من الثلج في كندة، فتنفقان في سبيل هذه الحرب الرائعة ما يزيد كثيرا على قيمة كندة بأسرها، وليس مما يدخل ضمن نطاق مداركي الضعيفة، أن أخبرك بالضبط عن وجود أناس يعاشرون في بلد أكثر مما في بلد آخر، وإنما أعرف أن الذين نزورهم يعدون - على العموم - ذوي سوداء بالغة.»
وبينما هما يتكلمان على هذا الوجه، وصلا إلى برتسموث، فرأيا جمعا من الناس يملأ الشاطئ، وينعم النظر في رجل سمين بعض السمن معصب العينين راكع على ظهر إحدى سفن الأسطول، وكان يقوم أمامه أربعة جنود، فيطلق كل واحد منهم ثلاث رصاصات في قحفه بأهدأ ما يمكن،
1
ويعود الجمع كله مرتاحا إلى الغاية، ويقول كنديد: «ما هذا كله إذن؟ وأي شيطان يمارس سلطانه في كل مكان؟»
ويسأل عن هذا الرجل السمين، الذي قتل منذ هنيهة في احتفال، فيقال له: «إنه أمير بحر.» - «ولم يقتل أمير البحر هذا؟»
فيقال له: «ذلك لأنه لم يوجب قتل أناس بما فيه الكفاية، وقد قاتل أمير بحر فرنسي، فوجد أنه لم يدن منه بما فيه الكفاية.»
ويقول كنديد: «ولكن أمير البحر الفرنسي كان بعيدا من أمير البحر الإنكليزي بعد هذا من ذاك!»
ويجاب عن هذا «بأن هذا أمر لا مراء فيه، غير أن من الصالح في هذا البلد أن يقتل أمير بحر في الحين بعد الحين، تشجيعا للآخرين».
ويبلغ ما رأى كنديد وسمع من إزعاجه وغمه ما لم يرد معه حتى النزول إلى الشاطئ، فيساوم الربان الهولندي (ولو سرقه كما فعل ربان سورينام) لينقله إلى البندقية على عجل.
ويستعد الربان في يومين، ويسار وساحل فرنسة، ويمر أمام أشبونة، ويرتجف كنديد، ويدخل المضيق والبحر المتوسط، ويوصل إلى البندقية في نهاية الأمر، ويقول كنديد وهو يعانق مارتن: «حمدا لله! فهنا سأرى كونيغوند الحسناء ثانية، وأعتمد على ككنبو اعتمادي على نفسي، وكل شيء حسن، وكل شيء يسير سيرا حسنا، وكل شيء يسير على أحسن ما يمكن أن يكون.»
الفصل الرابع والعشرون
باكت والراهب جيرفله
بلغ البندقية، فبحث عن ككنبو في جميع الحانات وجميع القهوات، وعند جميع بنات الهوى، فلم يجده مطلقا، ويرسل في كل يوم سعاة إلى جميع المراكب والقوارب، فلا يأتيه نبأ عن ككنبو، ويقول لمارتن: «ماذا! كان لدي من الوقت ما مررت فيه من سورينام إلى بوردو، وما ذهبت فيه من بوردو إلى باريس، ومن باريس إلى ديب، ومن ديب إلى برتسموث، وما كنت فيه محاذيا للبرتغال وإسبانيا، وما جاوزت فيه جميع البحر المتوسط، وما قضيت منه بضعة أشهر بالبندقية، ثم لم تأت الحسناء كونيغوند قط! إنني لم ألاق غير ماجنة، وغير كاهن بريغوري بدلا منها! لقد ماتت كونيغوند لا ريب، ولم يبق علي غير الموت، آه! كان الأفضل لي أن أبقى في جنة إلدورادو من أن أعود إلى أوروبا اللعينة، يا لوجود الحق بجانبك أيها العزيز مارتن! إن كل شيء باطل وبلاء.»
ويصاب بمالنخوليا سوداء، ولم يكن له نصيب في مشاهدة الأبرا العصرية، ولا في تسليات الكرنفال، ولم يجد في أية سيدة شيئا من المغريات، ويقول مارتن له: «حقا إنك بسيط جدا في تصورك خادما خلاسيا، حاملا في جيوبه خمسة ملايين أو ستة ملايين، يذهب للبحث عن حظيتك في أقصى العالم، فيأتيك بها إلى البندقية، فهو إذا ما وجدها أخذها لنفسه، وهو إذا لم يجدها أخذ غيرها، فأنصحك بأن تنسى خادمك ككنبو وحظيتك كونيغوند.»
ولم يكن مارتن مروحا، فتزيد سوداء كنديد، ولم ينفك مارتن يثبت له، أنه لا يوجد غير قليل فضيلة وقليل سعادة في الأرض، وذلك مع استثناء إلدورادو، التي لا يستطيع أحد أن يذهب إليها.
وبينما كان كنديد يجادل حول هذا الموضوع المهم، وينتظر كونيغوند، أبصر شابا تياتيا
1
في ميدان القديس مرقص متأبطا ذراع فتاة، وكان هذا التياتي يظهر ناضرا، ريانا قويا لامع العينين رابط الجأش أشم الأنف مختالا في مشيه، وكانت الفتاة كثيرة الملاحة، وكانت تغني، وتنظر إلى تياتيها نظر غرام، فتقرص خديه المكتنزين حينا بعد حين.
ويقول كنديد لمارتن: «أنت تعترف لي على الأقل، بأن هذين الإنسانين سعيدان. أجل، لم أجد حتى الآن غير تعساء في جميع الأرض العامرة خلا إلدورادو، ولكنني أراهن على أن هذه الفتاة وهذا التياتي من أكثر الناس سعادة.»
ويقول مارتن: «أراهن على العكس.»
ويقول كنديد: «ما علينا إلا أن ندعوهما إلى الغداء لترى هل أنا مخطئ.»
ويدنو منهما حالا ويجاملهما، ويدعوهما إلى الفندق؛ ليأكلا مكرونة وحجلا لنبارديا وخبياريا، ويشربا خمر مونتبولشيانو، ولكريما كرستي وقبرس وساموس، ويحمر وجه الفتاة، ويقبل التياتي الدعوة، وتتبعه الفتاة ناظرة إلى كنديد نظرة حيرة وارتباك دامعة العينين، ولم تكد تدخل غرفة كنديد حتى قالت له: «يا للعجب! عاد السيد كنديد لا يعرف باكت!»
سمع كنديد هذه الكلمات، وهو الذي لم ينعم النظر فيها حتى الآن؛ لأنه كان لا يفكر في غير كونيغوند فقال لها: «واها أيتها الفتاة المسكينة! إذن أنت التي جعلت الدكتور بنغلوس في الحال اللطيفة التي رأيته عليها!»
وتقول باكت: «آه! أنا يا سيدي، أراك مطلعا على كل شيء، وقد علمت خبر المصائب الهائلة، التي صبت على جميع آل السيدة البارونة وعلى كونيغوند الحسناء، وأقسم لك، إن نصيبي لم يكن أقل بؤسا قط، فقد كنت نقية جدا عندما رأيتني، فسهل على راهب فرنسسكاني كان معروفا لي أن يغويني، وكانت نتائج هذا فظيعة، فألزمت بالخروج من القصر بعيد طرد سيدي البارون لك بضربات الرجل على عجزك، ولو لم يرحمني أحد الأطباء المشهورين لهلكت، وقد بقيت بعض الزمن حظية لهذا الطبيب عن شكر له، وكانت امرأته تتميز غيظا عن غيرة، فتضربني كل يوم ضربا مبرحا، وكانت غضوبا، وكان هذا الطبيب أكثر الرجال دمامة، وكنت أكثر المخلوقات شقاء؛ لما كان من ضربي الدائم في سبيل رجل لم أحبه.» «وتعرف يا سيدي، مقدار الخطر على امرأة شرسة من كونها زوجا لطبيب، ويبلغ الطبيب من الحنق على أساليب امرأته ما يعطيها معه - لتشفى من سعال خفيف - علاجا شديد الفعل، فتموت منه في ساعتين؛ لما أحدث من تشنجات هائلة. ويقيم والدا السيدة قضية جنائية على السيد، ويفر ويلقى بي في السجن، وما كانت براءتي لتنقذني، لو لم أكن على شيء من الجمال، ويفرج القاضي عني على أن يخلف الطبيب. ولسرعان ما ظهرت منافسة لي، فحلت محلي، فطردت بلا مكافأة، واضطررت إلى مواصلة حرفة قبيحة، تبدو لكم مستحبة كثيرا أيها الرجال، وتبدو لنا هوة من البؤس.» «وأذهب إلى البندقية لممارسة هذه الحرفة، آه يا سيدي! لو كنت تستطيع أن تتصور ما أنا مضطرة إليه من ملامستي ملاطفة - بلا تمييز - تاجرا شائبا أو محاميا أو راهبا أو نوتيا أو كاهنا، وما أنا عرضة له من جميع الشتائم وجميع الإهانات، وما أنا محتاجة إليه في الغالب من استعارة تنورة،
2
لأذهب فأجد رجلا كريها يرفعها عني، وما يقع من سلب رجل لما أكون قد كسبته من آخر، وما يحدث من دفعي مالا لضباط العدل، وما يساورني من تمثل مشيب رهيب، ومن تمثل مشفى ودمنة، فهنالك تستنتج أنني من أتعس المخلوقات في الدنيا.»
وهكذا تفتح باكت قلبها لكنديد البسيط في غرفة، وبحضرة مارتن الذي قال لكنديد: «ترى أنني كسبت نصف الرهان.»
وقد بقي الراهب جيرفله في ردهة الطعام، وكان يشرب قدحا منتظرا الغداء، ويقول كنديد لباكت: «ولكنك كنت كثيرة المرح، كثيرة السرور عندما لقيتك، فقد كنت تغنين، وكنت تلاطفين التياتي ملاطفة طبيعية، وأراك تدعين بأنك شقية، مع أنك ظهرت لي سعيدة.»
وتجيب باكت: «آه يا سيدي! وهذا من أبؤس الحرفة، وقد ضربت وسرقت أمس من قبل ضابط، فوجب أن أبدو اليوم طيبة المزاج، لأروق راهبا.»
ولم يرد كنديد أن يسمع أكثر مما سمع، ويعترف بأن مارتن كان على حق، ويجلس حول المائدة مع باكت والتياتي، وكان الطعام ملهيا، ويتكلم في ختامه بشيء من الثقة، ويقول كنديد للراهب: «يظهر لي يا أبت، أنك تتمتع بنصيب يحسدك كل واحد عليه، فزهرة الصحة تسطع على وجهك، وتنم سيماك على السعادة ، ولديك فتاة باهرة الجمال لتسليتك، وتبدو كثير الرضا بحالك التياتية.»
ويقول الراهب جيرفله: «قسما بالله يا سيدي، إنني أود أن يكون جميع التياتيين في قعر البحر، وقد حاولت مائة مرة أن أحرق الدير، وأن أذهب وأصبح تركيا، فقد ألزمني والدي وأنا في الخامسة عشرة من سني أن ألبس هذه الحلة البغيضة تركا لمال أوفر لأخي اللعين الأكبر، الذي أدعو الله أن يخزيه! ويقم الحسد والشقاق والغيظ بالدير، وأقوم ببعض المواعظ السيئة، فأنال بها مالا، يسرق رئيس الدير مني نصفه، وأنفق الباقي على الفتيات، ولكنني إذا ما عدت إلى الدير مساء، وجدتني مستعدا لتحطيم رأسي على جدران غرفة النوم، ومثل هذا حال جميع زملائي.»
ويلتفت مارتن إلى كنديد باعتداله المعتاد، ويقول له: «والآن، ألا أستحق الرهان كاملا؟» ويدفع كنديد ألفي قرش إلى باكت، وألف قرش إلى الراهب جيرفله، ويقول: «أرد عليك، بأنهما سيغدوان سعيدين بهذا.»
ويقول مارتن: «من المحتمل، أنك تجعلهما بهذه القروش أشد شقاء أيضا.»
ويقول كنديد: «ولكن لي العزاء في أمر واحد، وذلك أنني ألاقي - في الغالب - أناسا لا يظن لقاؤهم مطلقا، ومن الممكن كثيرا، أن ألاقي كونيغوند مرة أخرى، كما لقيت كبشي الأحمر.»
ويقول مارتن: «أتمنى أن تكون سبب سعادتك يوما ما، ولكنني أشك في هذا كثيرا.»
ويقول كنديد: «أنت قاس جدا.»
ويقول مارتن: «ذلك لأنني عشت.»
ويقول كنديد: «ولكن انظر إلى هؤلاء الملاحين، ألا يغنون بلا انقطاع؟»
ويقول مارتن: «أنت لا تنظر إليهم في منازلهم مع نسائهم وأولادهم، فلرئيس شيوخ البندقية أحزانه، وللملاحين أحزانهم، والحق أن الأمر إذا قلب من جميع وجوهه، وجد أن نصيب الملاح خير من نصيب رئيس الشيوخ، ولكنني أعتقد أن الفرق هو من الصغر ما لا يستحق معه أن يبحث فيه.»
ويقول كنديد: «يحدث عن عضو السنات بوكوكورنته، الذي يقيم بهذا القصر الجميل القائم على البرنتا، والذي يتقبل الغرباء قبولا حسنا، فيزعم أن الغم لا يجد سبيلا إلى قلبه مطلقا.»
ويقول مارتن: «أود لو أجتمع إلى هذا المثال النادر»، فطلب كنديد من فوره إلى السنيور بوكوكورنته، أن يأذن لهما في الحضور لمقابلته غدا.
الفصل الخامس والعشرون
زيارة الشريف البندقي السنيور بوكوكورنته
ذهب كنديد ومارتن في زورق على البرنتا، ووصلا إلى قصر الشريف بوكوكورنته، فإذا الحدائق حسنة التنسيق، مزينة بتماثيل رخامية رائعة، وكان القصر جميل البناء، وكان رب المنزل في الستين من سنيه بالغ الغنى، فاستقبل محبي الاطلاع بأدب كثير، ولكن مع فتور، وهذا ما ربك كنديد، ولكن مع عدم إغاظة مارتن مطلقا.
وأول ما حدث، أن قدمت إليهما فتاتان جميلتان، لابستان ثيابا نظيفة شكولاتة مزبدة جدا، ولم يستطع كنديد أن يمنع نفسه من الثناء على جمالهما ولطفهما ورشاقتهما، فيقول السناتي بوكوكورنته: «إنهما مخلوقتان على شيء من الحسن، ومما يحدث أحيانا أن ألزمهما بالنوم على سريري، فقد سئمت كثيرا من سيدات المدينة ودلالهن وغيرتهن وخصامهن ومزاجهن ودناءتهن وزهوهن وسخافتهن، ومن القصائد التي يجب نظمها لهن، أو يوصى بها من أجلهن، ومع ذلك فقد أخذت هاتان الفتاتان تورثانني سأما شديدا.»
وبينا كان كنديد يسير بعد الفطور في رواق طويل، بهر بروعة الألواح فيه، فسأل عن الأستاذ الذي رسم الاثنين الأولين منهما، فقال السناتي: «إنهما لروفائيل، فاشتريتهما منذ سنين قليلة بثمن غال عن خيلاء، ويقال إنهما أروع ما في إيطالية، ولكنني لا أعجب بهما مطلقا، وذلك أن لونهما مسمر، وأن الوجوه فيهما غير مدورة، غير بارزة تماما، وأن نسائجهما لا تشابه البروز بشيء. ومجمل الكلام أنه مهما يقل عنهما، فإنني لا أجد فيهما محاكاة حقيقية للطبيعة، ولا أحب لوحا إلا إذا اعتقدت أنني أرى فيه الطبيعة نفسها، وهذا غير موجود مطلقا. أجل، توجد عندي ألواح كثيرة، ولكنني عدت لا أنظر إليها.»
وبينا كان الغداء ينتظر، أمر بوكوكورنته بتقديم قطعة موسيقية، فوجد كنديد الموسيقا لذيذة، فقال بوكوكورنته: «قد يسلي هذا الضجيج نصف ساعة، ولكنه إذا ما دام أطول من هذا أتعب جميع الناس، وإن لم يجرؤ أحد على الاعتراف بهذا، فاليوم عادت الموسيقا لا تكون غير فن القيام بأمور صعبة، وما لا يكون غير صعب، لا يروق على التمادي.» «وقد كنت أفضل التمثيل الغنائي، لو لم توجد له وسيلة خفية، يكون بها غولا مثيرا لغضبي، وليشاهد من يود مآسي سيئة في الموسيقا، حيث لا توضع الفصول إلا ليؤتى - عن سماجة - بأغنيتين أو ثلاث أغنيات مضحكة، ترويجا لحنجرة ممثلة، وليفرط في الضحك من يود، أو من يقدر، حينما يرى خصيا ينغم بدور قيصر وكاتون، ويدوس ألواح المسرح بغلظة، وأما أنا؛ فقد عدلت منذ زمن طويل عن هذه السخافات، التي يقوم عليها مجد إيطالية في الوقت الحاضر، والتي يدفع ملوك ثمنا غاليا لها.» ويجادل كنديد قليلا، ولكن برصانة، ويكون مارتن على رأي السناتي تماما.
ويجلسون حول المائدة، ويتناولون غداء فاخرا، ويدخلون المكتبة، ويقع نظر كنديد على أوميرس المجلد تجليدا رائعا، فيثني على حسن ذوق الشريف، ويقول: «هذا كتاب كانت تقوم عليه لذة بنغلوس العظيم، الذي هو أفضل فلاسفة ألمانية.»
ويقول بوكوكورنته بفتور: «لم تقم عليه لذتي، وقديما وجد من جعلني أعتقد أنني أتلذذ بقراءته، غير أن ذلك التكرار المتصل للمعارك المتشابهة، وأولئك الآلهة الذين يعملون دائما على ألا يأتوا شيئا حاسما، وهيلانة التي هي سبب الحرب، فلا تكاد تكون ممثلة للرواية، وتروادة التي تحاصر، فلا يستولى عليها أبدا، أمور كانت تورثني سأما قاتلا جدا، وكنت في بعض الأحيان، أسأل بعض العلماء عن سأمهم من هذه المطالعة بمقدار سأمي، فاعترف جميع المخلصين بأن الكتاب كان يقع من أيديهم، ولكن مع وجوب حفظ الإنسان لهذا الكتاب في مكتبته دائما، كأثر من آثار القرون القديمة، وكتلك النقود الصدئة، التي لا تصلح للتداول.»
ويقول كنديد: «أرأيك يا صاحب السعادة، مثل هذا عن فرجيل؟» ويقول بوكوكورنته: «أوافق على روعة الجزء الثاني والرابع والسادس من إنئيده، وأما إنياه التقي، وكلوانته القوي، وأكاتس الصديق، وأسكانيوس الصغير، والملك لاتينوس السخيف، وأماتا البرجوازية، ولافينيا الغثة، فلا أعتقد وجود ما يعدلها برودة وكراهة، وأفضل التاس والوهميات لأريوستو.»
ويقول كنديد: «أأجرؤ على سؤالك يا سيدي، عن تمتعك بلذة عظيمة من قراءة هوراس؟»
ويقول بوكوكورنته: «يوجد من الأمثال ما يمكن أن ينتفع به رجل المعاشرة، وهي إذا ما حشرت في أبيات حازمة نقشت في الذاكرة بسهولة عظيمة، ولكنني قليل الاكتراث لرحلته إلى برنديزيوم، ولوصفه غداء رديئا، ونزاعا صاخبا بين المدعو بوبيلوس - الذي كان كلامه مملوءا صديدا كما يقول - وآخر كان كلامه من خل، ولم أقرأ قصائده الغليظة، التي هجا بها العجائز والسواحر إلا بنفور بالغ، ولا أرى أية مزية تتفق له بقوله لصديقه مسيناس إنه ينطح الكواكب بجبينه العالي، إذا ما وضعه في مرتبة الشعراء الغنائيين، والأغبياء يعجبون بكل شيء في مؤلف مقدر، ولا أقرأ إلا من أجل نفسي، ولا أحب غير ما يلائم ذوقي.»
وتعتري كنديد - الذي نشئ على عدم الحكم بشيء من تلقاء نفسه - حيرة عظيمة مما سمع، ويجد مارتن طراز بوكوكورنته في التفكير على شيء من الصواب.
ويقول كنديد: «وي! إليك شيشرون، فأرى أنك لا تسأم من مطالعة هذا الرجل العظيم مطلقا.»
ويجيب البندقي بقوله: «لا أقرؤه أبدا، وما يهمني من دفاعه عن رابيريوس وكلوينتيوس؟ لدي من القضايا الكافية ما أحكم فيه، وكان يمكنني أن أرضى بكتبه الفلسفية، ولكنني عندما رأيت أنه يشك في كل شيء، أبصرت أني أعرف مثلما يعرف، فلم أكن لأحتاج إلى من يجعلني جاهلا.»
ويقول مارتن صارخا: «آه! إليك مجموعة مؤلفة من ثمانين مجلدا لمجمع العلوم، فمن المحتمل وجود ما هو صالح بينها.»
ويقول بوكوكورنته: «كان يمكن أن يوجد فيها ما هو صالح، لو أن واحدا من مؤلفي هذه النفايات قد اخترع فن صنع دبابيس فقط، غير أنه لا يوجد في جميع هذه الكتب غير مناهج باطلة، ولا يوجد فيها أمر واحد نافع.»
ويقول كنديد: «ما أكثر ما أرى هنالك من روايات تمثيلية بالإيطالية والإسبانية والفرنسية!»
ويقول السناتي: «أجل، يوجد ثلاثة آلاف، ولا يبلغ الجيد منها ثلاثين، واعلم أن هذه المواعظ المجموعة لا تساوي صفحة من سنيكا، وأنني لا أفتح - ولا أحد يفتح - جميع هذه المجلدات الضخمة في علم اللاهوت.»
ويبصر مارتن الرفوف مثقلة بكتب إنكليزية، ويقول: «أعتقد أن الرجل الجمهوري يسر بمعظم هذه الكتب، التي ألفت بحرية كثيرة.»
ويجيب بوكوكورنته بقوله: «إن من الجميل، أن يكتب ما يفكر فيه، وهذا هو امتياز الإنسان، ولا يكتب في جميع إيطالية غير ما لا يدور في الخواطر، ولا يجرؤ أولئك الذين يسكنون وطن القيصرين والأنطونين أن يكونوا ذوي فكر، من غير أن يأذن يعقوبي لهم في ذلك، وأرضى بالحرية التي تلهم عبقريات الإنكليز، لو لم يفسد الهوى الحزبي والروح الحزبية كل ما تشتمل عليه هذه الحرية الثمينة من أمر جليل.»
ويبصر كنديد ملتن، ويسأله عن عده هذا المؤلف رجلا عظيما، ويقول بوكوكورنته: «من؟! أهذا الجلف الذي وضع تفسيرا طويلا للفصل الأول من سفر التكوين، وذلك بقصائد جافية في عشرة أجزاء؟! أهذا المقلد الغليظ للأغارقة الذي شوه التكوين، فجعل المسيح يأخذ فرجارا من خزانة في السماء ليرسم صنعه، على حين يعرض موسى الكائن الأزلي خالقا للعالم بالكلمة؟ وهل أقدر هذا الذي أفسد جهنم تاسو وشيطانه، هذا الذي نكر إبليس على شكل علجوم
1
تارة، وعلى شكل قزم تارة أخرى، فجعله يكرر ذات الكلام مائة مرة، وحمله على النقاش حول علم اللاهوت، هذا الذي قلد بجد اختراع أريوست الهزلي للأسلحة النارية، فجعل الشياطين يطلقون المدافع في السماء؟ فلم أستطع أنا، ولا أي واحد في إيطالية، أن نعجب بجميع هذه الهذيانات الكئيبة، ومن شأن «زواج الخطيئة والموت» وما تلده الخطيئة من أفاع، أن يقيئ كل إنسان فطر على شيء من الذوق الدقيق، وما وصف به أحد المشافي لا يصلح لغير حفار قبور، وقد ازدري هذا الشعر الغامض الغريب الكريه عند ولادته، فأقف اليوم منه موقف المعاصرين في وطنه، ومع ذلك فإني أقول ما أفكر فيه، ولا أبالي إلا قليلا بتفكير الآخرين مثلي.»
وقد غم كنديد بهذه الملاحظات، فقد كان يبجل أوميرس، ويحب ملتن بعض الحب، ويقول لمارتن مخافتا: «واها! أخشى، أن يكون هذا الرجل محتقرا لشعرائنا الألمان احتقارا كليا.»
ويقول مارتن: «لا كبير ضرر في هذا.»
ويقول كنديد - من بين أسنانه: «وي! يا له من رجل رفيع! يا لبوكوكورنته من عبقري كبير! لا يمكن أن يعجبه شيء.»
وينزلون إلى الحديقة، بعد أن استعرضوا جميع الكتب على ذلك الوجه، ويثني كنديد على جميع محاسنها، ويقول صاحبها: «لا أعرف ما هو أدل على فساد الذوق من هذه الحديقة، فليس لدينا هنا غير زخرف حقير، ولكني سأبدأ في الغد بالغرس وفق أروع رسم.»
ولما استأذن ذانك المحبان للاطلاع صاحب السعادة في الانصراف، قال كنديد مارتن: «والآن توافق على أنه أسعد جميع الناس، فهو يعلو جميع ما يحوز.»
ويقول مارتن: «ألا ترى أنه نافر من جميع ما هو حائز؟ وقديما قال أفلاطون: إن المعدة التي ترفض جميع الأغذية، ليست أصلح المعد.»
ويقول كنديد: «ولكن ألا توجد لذة في نقد كل شيء، وفي الشعور بنقائص، حيث يعتقد الآخرون وجود روائع؟»
ويقول مارتن: «أي: يوجد لذة في عدم التمتع بلذة؟»
ويقول كنديد: «حسنا! إذن، لا سعيد غيري حينما ألاقي الآنسة كونيغوند.»
ويقول مارتن: «من الحسن أن يؤمل دائما.»
وتمضي الأيام والأسابيع مع ذلك، ولا يعود ككنبو مطلقا، وكان من تبريح الألم بكنديد ما لم يلاحظ معه أن باكت والراهب جيرفله لم يأتياه للشكر له على الأقل.
الفصل السادس والعشرون
عشاء كنديد ومارتن مع ستة من الأجانب، ومن كان هؤلاء؟
بينما كان كنديد ومن ورائه مارتن ذاهبين ذات مساء للجلوس حول المائدة مع الأجانب الذين كانوا يقيمون بالفندق نفسه، دنا من خلفه رجل وجهه دخاني اللون، وأمسكه من ذراعه، وقال له: «استعد للذهاب معنا، ولا تقصر.»
ويلتفت فيجد ككنبو، وما كان غير منظر كونيغوند ليبهره ويروقه أكثر من منظر ككنبو، ويكاد يجن من الفرح، ويعانق صديقه العزيز، ويقول: «كونيغوند هنا لا ريب؟ أين هي؟ خذني إليها، ولأمت معها سرورا.»
ويقول ككنبو: «ليست كونيغوند هنا مطلقا، بل هي في الآستانة.» - «رباه! في الآستانة! سأطير إليها، ولو كانت في الصين، فلنذهب.»
ويجيب ككنبو: «سنسافر بعد العشاء، ولا أستطيع أن أقول لك أكثر من هذا، فأنا عبد، وسيدي ينتظرني، ويجب أن أذهب وأقوم بخدمته حول المائدة، ولا تنبس بكلمة، وتعش واستعد.»
ويتجاذب الفرح والألم كنديد، ويفتن كنديد بلقاء عامله المخلص، ويدهش من رؤيته عبدا، وتستولي عليه فكرة لقاء حظيته، ويهتز فؤاده، وتضطرب نفسه، ويجلس حول المائدة مع مارتن، الذي كان ينظر إلى جميع هذه المغامرات معتدل الدم، ومع ستة من الأجانب أتوا لقضاء الكرنفال في البندقية.
ويدنو ككنبو - الذي كان يسكب ليسقي أحد هؤلاء الأجانب - من أذن سيده في آخر الطعام، ويقول له: «مولاي، متى أردتم السفر يا صاحب الجلالة، وجدتم السفينة حاضرة؟»
ويخرج ككنبو بعد أن قال هذا، وينظر بعض المدعوين إلى بعض عن دهش، ومن غير أن ينطقوا بكلمة واحدة، وذلك عندما دنا خادم آخر من سيده، وقال له: «مولاي، إن محمل جلالتكم في بادوا، والزورق حاضر»، ويومئ السيد، وينصرف الخادم، وينظر بعض المدعوين إلى بعض أيضا، ويتضاعف الدهش الشامل، ويدنو خادم ثالث من أجنبي ثالث، ويقول له: «أرى يا مولاي ألا تبقى جلالتكم زمنا آخر هنا، وسأذهب لإعداد كل شيء»، ويتوارى من فوره.
وهنالك لم يشك كنديد ومارتن، في كون هذا من تنكرات الكرنفال، ويقول خادم رابع للسيد الرابع: «تسافرون يا صاحب الجلالة، متى تريدون»، ويخرج كالآخرين، ويقول الخادم الخامس للسيد الخامس مثل هذا، بيد أن الخادم السادس خاطب الأجنبي السادس - الذي كان بجانب كنديد - بما يختلف عن ذلك فقد قال له: «ثق يا مولاي أنه لا يراد الاعتماد على جلالتك، وعلي أيضا، فيمكن أن نسجن كلانا في هذه الليلة، وسأذهب لتدبير أموري، وداعا.»
ولما ذهب جميع الخدم، ساد الأجانب الستة وكنديد ومارتن صمت عميق، وأخيرا قطع كنديد هذا الصمت، وقال: «سادتي، هذا مزاح غريب، فلم تكونون ملوكا جميعا؟! وأما أنا ومارتن فلسنا من الملوك، كما أعترف لكم.»
وهنالك تناول سيد ككنبو الكلام برصانة، وقال بالإيطالية: «لست مازحا مطلقا، وأدعى أحمد الثالث، وقد كنت السلطان الأعظم لعدة سنين، وقد خلعت أخي، فخلعني ابن أخي، وقد قطعت رءوس وزرائي، وأقضي حياتي في السراي القديمة، ويأذن لي ابن أخي السلطان محمود بالسفر أحيانا، نظرا إلى صحتي، فأتيت لقضاء الكرنفال في البندقية.»
1
ويتكلم الشاب، الذي كان بجانب أحمد - بعد أحمد هذا - ويقول: «أدعى إيفان، وقد كنت قيصر جميع روسية، وقد خلعت في المهد، وسجن والدي، فنشئت في السجن، ويؤذن لي أحيانا في السفر مع من يقومون بحراستي، فأتيت لقضاء الكرنفال في البندقية.»
2
ويقول الثالث: «أنا ملك إنكلترة شارل إدوارد،
3
وكان أبي قد تنزل لي عن حقوقه في المملكة، فقاتلت حفظا لها، وقد نزعت قلوب ثمانمائة من أنصاري، فلطمت بها وجوههم، وقد سجنت، وأنا ذاهب إلى رومة لزيارة والدي الملك، الذي خلع كما خلعت، وكما خلع جدي، وقد أتيت لقضاء الكرنفال في البندقية.»
وهنالك يتناول الرابع الكلام، ويقول: «أنا ملك بولونية،
4
وقد حرمني طالع الحرب ممتلكاتي الموروثة، وقد ابتلي أبي بمثل ما ابتليت به، وأسلم أمري إلى الله كالسلطان أحمد والقيصر إيفان والملك شارل إدوارد - أطال الله عمرهم - وقد أتيت لقضاء الكرنفال في البندقية.»
ويقول الخامس: «وأنا ملك بولونية
5
أيضا، وقد خسرت مملكتي مرتين، غير أن الله أنعم علي بدولة، قمت فيها بأعمال صالحة، أكثر مما استطاعه جميع ملوك السرمات على ضفاف الفستولا، وأسلم أمري إلى الله أيضا، وقد أتيت لقضاء الكرنفال في البندقية.»
ويأتي دور الملك السادس في الكلام، فيقول: «سادتي، لست من العظمة كالذي أنتم عليه، ولكنني أصبحت ملكا في آخر الأمر كأي ملك آخر، فأنا تيودور،
6
وقد انتخبت ملكا لقورسقة، ودعيت صاحب الجلالة، والآن لا يكاد الناس ينادونني بالسيد، وقد ضربت نقودا، والآن لا أملك دينارا، وقد كان لدي وزيران، والآن لا يكاد يكون عندي خادم، وقد جلست على العرش، ثم ألقيت على الحصير في سجن بلندن، وأخشى أن أعامل بمثل هذا هنا، وإن كنت قد أتيت - كما أتيتم يا أصحاب الجلالة - لقضاء الكرنفال في البندقية.»
استمع الملوك الخمسة الآخرون لهذا الكلام بحنان كريم، فأعطى كل منهم الملك تيودور عشرين سكوينا؛ ليشتري بها ثيابا وقمصانا، وقدم كنديد إليه ألماسة، تساوي قيمتها ألفي سكوين، فقال الملوك الخمسة: «إذن، من هذا الرجل العادي القادر على منح ما يعدل مائة ضعف ما أعطى كل واحد منا؟ ومن ينعم به فعلا؟ هل أنت ملك أيضا أيها السيد؟» - «كلا يا سادتي، ولا أرغب في هذا مطلقا.»
وبينا كانوا يغادرون المائدة، وصل إلى الفندق نفسه أربعة من أصحاب العظمة، كانوا قد أضاعوا دولهم، نتيجة لطالع الحرب أيضا؛ وذلك لقضاء بقية الكرنفال في البندقية، ولكن كنديد لم يلتفت قط إلى هؤلاء الذين أتوا حديثا، فما كان يفكر في غير السفر للقاء كونيغونده العزيزة في الآستانة.
الفصل السابع والعشرون
سفر كنديد إلى الآستانة
كان ككنبو الوفي قد فاز بإذن من الربان التركي - الذي سيعيد السلطان أحمد إلى الآستانة - في قبول كنديد ومارتن على سفينته، ويدخل الاثنان السفينة بعد أن سجدا أمام صاحب العظمة البائس، وبينما كانا على الطريق، قال كنديد لمارتن: «وهكذا تناولنا العشاء مع ستة ملوك مخلوعين! وهكذا تصدقت على واحد من هؤلاء الملوك الستة، ومن المحتمل وجود أمراء كثيرين آخرين أشد شقاء، وأما أنا فلم أفقد غير مائة كبش، وأطير إلى ذراعي كونيغوند، فيا مارتن العزيز، أقول ثانية: إن بنغلوس كان على حق، فكل شيء حسن.»
ويقول مارتن: «ذلك ما أتمنى.»
ويقول كنديد: «من الحوادث الغريبة أن كنا في البندقية، فلم ير فيرو قط تناول ستة ملوك مخلوعين عشاءهم في فندق معا.»
ويقول مارتن: «ليس هذا أغرب من معظم الأمور التي وقعت لنا، فمن الشائع كثيرا أن يخلع ملوك، وأما الشرف الذي تم لنا في العشاء معهم، فأمر لا يستحق انتباهنا، وما قيمة من يتعشى معه على أن يكون الطعام فاخرا؟»
ولم يكد كنديد يكون في المركب حتى عانق خادمه السابق وصديقه ككنبو، وقال له: «والآن، ما تصنع كونيغوند؟ ألا تزال باهرة الجمال؟ أتحبني دائما؟ كيف حالها؟ لا ريب في أنك اشتريت لها قصرا في الآستانة؟»
ويجيب ككنبو: «سيدي العزيز، إن كونيغوند تغسل الصحون على شاطئ بحر مرمرة عند أمير ذي صحون قليلة جدا، وهي أمة في منزل ملك سابق اسمه راغوسكي، يعطيه سلطان الترك بملجئه ثلاثين ريالا في كل يوم، ولكن الأدعى إلى الحزن كونها أضاعت جمالها، وصارت بشعة بشعا هائلا.»
ويقول كنديد: «آه! جميلة أو بشعة، إنني رجل ذو شرف، ومن الواجب أن أحبها دائما، ولكن كيف نزلت إلى حال من السفالة بالغة كهذه بالملايين الخمسة أو الستة التي أخذتها؟»
ويقول ككنبو: «حسنا! ألم أضطر إلى إعطاء حاكم بوينوس أيرس السنيور «فرنندو ديبارا ئي فيغورا ئي مسكارنس ئي لنبردوس ئي سوزا» مليونين، حتى يأذن في استرداد الآنسة كونيغوند؟ ألم يجردنا أحد القراصين ببسالة من جميع ما بقي؟ ألم يأت بنا هذا القرصان إلى رأس متابان، وإلى ميلو ونيكاري وساموس وبطرا والدردنيل وبحر مرمرة وأسكدار؟ وتخدم كونيغوند والعجوز عند ذلك الأمير الذي حدثتك عنه، وأما أنا فعبد السلطان المخلوع.»
ويقول كنديد: «يا للبلايا الهائلة المرتبط بعضها في بعض! ومع ذلك لا يزال عندي بضع ألماسات، فسأنقذ كونيغوند بسهولة، ومن الخسر الكبير أن تصبح من البشاعة بهذا المقدار.»
ثم يلتفت كنديد إلى مارتن ويقول له: «أينا ترى أدعى إلى الرثاء: أنا، أو السلطان أحمد، أو القيصر إيفان، أو الملك شارل إدوارد؟»
ويقول مارتن: «يجب أن أكون في قلوبكم حتى أعرف.»
ويقول كنديد: «آه! لو كان بنغلوس هنا، لعرف ذلك وحدثنا عنه.»
ويقول مارتن: «لا أعرف الموازين، التي يزن بنغلوسك بها مصائب الناس، ويقدر بها آلامهم، وكل ما أتصور هو وجود ملايين من الآدميين في الدنيا يرثى لهم مائة مرة، أكثر مما يرثى للملك شارل إدوارد والقيصر إيفان والسلطان أحمد.»
ويقول كنديد: «قد يكون هذا.»
ويبلغ مضيق البحر الأسود بعد أيام قليلة، ويأخذ كنديد في فداء ككنبو بثمن غال، ويلقي بنفسه وبصحبه في زورق كبير من زوارق الليمان، ذهابا إلى شاطئ بحر مرمرة، وبحثا عن كونيغوند مهما كانت بشعة.
وكان يوجد بين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، اثنان سيئا الجدف إلى الغاية، فيضربهما الربان التركي بالسوط عدة ضربات على أكتافهم العارية، وينظر كنديد إليهما - عن غير قصد - بأدق مما ينظر به إلى المحكوم عليهم الآخرين، ويدنو منهما عن رحمة، وتبدو له بعض ملامح وجهيهما المشوهين مشابهة بعض الشبه لبنغلوس ولليسوعي الشقي البارون والأخ للآنسة كونيغوند، وتهزه هذه الفكرة وتحزنه، وينعم النظر فيهما، ويقول لككنبو: «حقا، أنني لو لم أشاهد شنق بنغلوس، ولو لم أشق بقتل البارون، لاعتقدت أنهما يجدفان في هذا الزورق الكبير.»
فلما نطق باسم البارون وبنغلوس، صرخ المحكوم عليهما بالأشغال الشاقة، ووقفا على مقعدهما، ورميا مجاديفهما، فركض الربان التركي إليهما، وضاعف ضربات السوط، فيصيح كنديد قائلا: «قف، قف، أيها السيد! فسأعطيك من الدراهم ما تريد.»
ويقول أحد المحكوم عليهما: «ماذا؟ هذا كنديد!»
ويقول الآخر: «ماذا؟ هذا كنديد!»
ويقول كنديد: «أهذا حلم؟ أأنا يقظان؟ أأنا في هذا الزورق الليماني الكبير؟ أذاك هو السيد البارون الذي قتلته؟ أذاك هو الأستاذ بنغلوس الذي شاهدت شنقه؟»
ويجيبان: «نحن، نحن.»
ويقول مارتن: «ماذا؟ أهذا هو الفيلسوف العظيم؟»
ويقول كنديد: «آه! كم تريد يا سيدي الربان التركي، من المال فدية عن السيد ثندر تن ترنك، الذي هو من أوائل بارونات الإمبراطورية، وعن السيد بنغلوس، الذي هو أعظم عالم بما بعد الطبيعة في ألمانية؟»
ويجيب الربان التركي: «أيها الكلب النصراني، بما أن الكلبين النصرانيين المحكوم عليهما بالأشغال الشاقة من البارونات وعلماء ما بعد الطبيعة، وهذا يدل على جاههما في بلدهما - فإنك تعطيني خمسين ألف سكوينا.» - «ستعطاهما يا سيدي، فجئ بي إلى الآستانة كالبرق، وسيدفع المبلغ إليك حالا، ولكن لا، إيت بي إلى الآنسة كونيغوند، وكان الربان التركي قد أدار صدر الزورق نحو المدينة، عملا بطلب كنديد الأول، فسار بسرعة أعظم من التي يشق الطير بها الهواء.»
ويعانق كنديد البارون وبنغلوس مائة مرة، «وكيف لم أقتلك يا باروني العزيز؟ وكيف أراك حيا بعد أن شنقت يا بنغلوسي العزيز؟ ولم حكم عليكما بالأشغال الشاقة في تركية؟»
ويقول البارون: «أحقا أن أختي العزيزة في هذا البلد؟»
ويجيب ككنبو: «أجل.»
ويقول بنغلوس بصوت عال: «إذن أرى كنديدي العزيز ثانية»، ويقدم كنديد إليهما مارتن وككنبو، ويتعانقون جميعا، ويتكلمون كلهم معا، وكان الزورق يطير، فصاروا في الميناء، ويؤتى بيهودي، ويبيع كنديد منه ألماسة بخمسين ألف سكوينا مع أن قيمتها مائة ألف، ويحلف اليهودي بإبراهيم، إنه لا يستطيع أن يدفع أكثر مما صنع، ويؤدي فدية البارون وبنغلوس من فوره، ويقع هذا على قدمي منقذه، ويبللهما بالدموع، ويقدم الآخر إليه شكره بإشارة رأس، ويعده بإعادة ماله إليه عند أول فرصة، ويقول: «ولكن هل من الممكن أن تكون أختي في تركية؟»
ويجيب ككنبو: «لا شيء أكثر إمكانا من هذا، ما دامت تنظف آنية عند أمير من ترنسلفانية.»
ويؤتى بيهوديين حالا، ويبيع كنديد ألماسا أيضا، ويذهبون في زورق ليماني آخر لإنقاذ كونيغوند.
الفصل الثامن والعشرون
ما وقع لكنديد وكونيغوند وبنغلوس ومارتن ... إلخ
قال كنديد للبارون: «عفوا مرة أخرى، عفوا يا أبت المحترم، عن طعنة السيف النجلاء التي اخترقت البدن.»
ويقول البارون: «لندع الكلام عنها، لقد كنت على شيء من الحدة كما أعترف، ولكن بما أنك تريد أن تعرف شيئا عن المصادفة التي رأيتني بها في الزورق الليماني الكبير، فإنني أقول لك: إنني بعد أن شفيت من جرحي بفضل الراهب الصيدلي في الكلية، هاجمتني عصابة إسبانية وخطفتني، فألقيت في السجن ببوينوس أيرس في وقت مغادرة أختي لها، وقد طلبت العود إلى رومة لدى الأب العام، وقد عينت كاهنا عند السيد سفير فرنسة بالآستانة، ولم تمض على قيامي بهذه الخدمة ثمانية أيام، حتى أبصرت وقت المساء غلاما سلطانيا رائع التكوين، وكان الجو حارا جدا، وكان الغلام يريد الاستحمام، فانتهزت هذه الفرصة، وأردت الاستحمام أيضا، وكنت أجهل أن من الجنايات الكبرى أن يوجد نصراني تام العري مع غلام مسلم، ويأمر القاضي بأن أضرب مائة ضربة بالعصا على باطن قدمي، ويحكم علي بالأشغال الشاقة في الليمان، ولا أعتقد فرض ظلم أفظع من هذا، ولكنني أود لو أعرف سبب وجود أختي في مطبخ أمير ترنسلفاني، التجأ إلى الترك.»
وقال كنديد: «ولكن ما حدث حتى رأيتك ثانية يا بنغلوسي العزيز؟»
ويقول بنغلوس: «حقا أنك رأيتني مشنوقا، وكان يجب إحراقي طبعا، ولكنك تذكر أن المطر كان ينزل مدرارا، حينما استعدوا لتحريقي، وكانت العاصفة من الشدة ما قنط معه من إيقاد النار، فشنقت لأنه لم يستطع صنع ما هو أروع، ويشتري جراح جثتي، ويأتي بي إلى منزله ويشرحني، وكان أول ما فعل هو أنه بضع على شكل صليب ما بين السرة والترقوة، ولم يمكن أن يشنق إنسان بأسوأ مما شنقت. أجل، إن منفذ مآثر التفتيش المقدس - وهو شماس - كان يتقن تحريق الآدميين إتقانا عجيبا بالحقيقة، ولكنه كان غير درب بالشنق، وذلك أن الحبل كان مبتلا، فيزلق زلقا رديئا وينعقد.» «والخلاصة أنني كنت لا أزال أتنفس، وكان من فعل البضع على شكل صليب أن صرخت صراخا عظيما، سقط الجراحي به على ظهره، وقد ظن أنه يشرح الشيطان، ففر وهو يكاد يموت من الخوف، وكذلك سقط على السلم وهو هارب، وتهرع امرأته من غرفة مجاورة بفعل الضجيج، فتجدني مستلقيا على المنضدة مع بضعي الذي هو على شكل الصليب، ويعتريها خوف أشد من الذي اعترى زوجها، وتفر وتقع عليه، فلما عاد إليهما شيء من وعيهما، سمعت الجراحية تقول للجراح: «لم عن لك أيها العزيز أن تشرح ملحدا؟ ألا تعلم أن الشيطان يكون في جسم هؤلاء الناس دائما؟ سأسرع في البحث عن قس؛ لقراءة العزائم عليه.» وأرتجف من هذا القول، وأجمع ما بقي لي من قوى قليلة، فأقول صارخا: ارحماني! وأخيرا تشجع الحلاق البرتغالي، فرتق جلدي، حتى إن زوجه عنيت بي، فلما مضى أسبوعان كنت قادرا على المشي مرة أخرى، ويجد الحلاق لي منصبا، أي: يجعلني خادما عند فارس من فرسان مالطة، كان ذاهبا إلى البندقية، ولكن بما أنه لم يكن عند سيدي ما يدفعه أجرة لي، فقد استخدمت لدى تاجر بندقي، واتبعته إلى الآستانة.» «ويعن لي ذات يوم ان أدخل مسجدا، وكان لا يوجد فيه غير إمام شائب، وفتاة تقية باهرة الجمال تقوم بصلواتها، وكانت بادية الجيد، وكان يوجد بين نهديها طاقة رائعة من الخزامى والورد وشقائق النعمان والحوذان والزعفران والأذيني، فتركت طاقتها تسقط، وأجمعها، وأعيدها إليها بتهافت مع عظيم احترام، وأبلغ من تلبثي طويلا في إعادتها ما يغضب الإمام معه، ويرى أنني نصراني فيطلب العون، ويؤتى بي إلى القاضي، فيأمر بضربي مائة ضربة بالعصا على باطن رجلي، ويحكم علي بالأشغال الشاقة في الليمان، وأقيد في ذات المركب الليماني وعلى ذات المقعد مع البارون، وكان يوجد في المركب عينه أربعة شبان من مرسلية، وخمسة قسوس من نابل، وراهبان من كورفو، قالوا لنا: إن مثل هذه الحوادث مما يقع كل يوم، وكان السيد البارون يزعم أنه عانى ظلما أكثر مما عانيت، وكنت أزعم أن إعادة طاقة إلى جيد امرأة أهون كثيرا من الظهور عاريا مع غلام سلطاني. وكنا لا نكف عن الجدال، وكنا نتلقى عشرين ضربة سوط كل يوم، حتى ساقك تسلسل الحوادث في هذا الكون إلى مركبنا، ففديتنا.»
ويقول له كنديد: «والآن يا بنغلوسي العزيز، هل ترى سير كل شيء في العالم على أحسن ما يكون، وقد شنقت، وشرحت، وأوسعت ضربا، وجدفت في المركب الليماني؟»
ويجيب بنغلوس بقوله: «لا أزال على رأيي الأول؛ وذلك لأنني فيلسوف، كما هو حاصل القول، فلا يناسبني أن أناقض نفسي، ولأن ليبنتز لا يمكن أن يخطئ، وذلك ما دام النظام المقدر أحسن شيء في العالم، وما دام هذا النظام بالغا حسن الهيولى والمادة اللطيفة.»
الفصل التاسع والعشرون
كيف لقي كنديد كونيغوند والعجوز؟
بينا كان كنديد والبارون وبنغلوس ومارتن وككنبو يقصون مغامراتهم، ويبرهنون حول الحوادث العارضة وغير العارضة في هذا الكون، ويجادلون حول المعلولات والعلل، وحول الشرور الأدبية والمادية، وحول الإرادة والوجوب، وحول ما يمكن أن يشعر به من سلوان في أثناء الأشغال الشاقة في المراكب الليمانية بتركية، انتهوا إلى منزل أمير ترنسلفانية على شاطئ بحر مرمرة، وأول من بدا لهم كونيغوند والعجوز، اللتان كانتا تنشران مناشف على الجبال، تجفيفا لها.
ويمتقع البارون عند هذا المنظر، ويرتد العاشق الرقيق كنديد ثلاث خطوات، ويرتجف عند رؤيته كونيغونده الحسناء سمراء عمشاء ذاوية الجيد، متكرشة الخدين، حمراء الذراعين، قشراء الساعدين، ثم يتقدم عن مجاملة، وتعانق كنديد وأخاها، ويعانقان العجوز، ويفدي كنديد الاثنتين.
وكانت في الجوار مزرعة صغيرة، فاقترحت العجوز على كنديد أن يشتريها، ريثما يتفق للزمرة نصيب أوفى مما هي عليه، وكانت كونيغوند لا تعرف أنها شنعت، ولم يخبرها أحد بذلك، وتذكر كنديد الطيب بوعوده تذكيرا حازما، لم يجرؤ معه أن يرفضها؛ ولذا فقد بلغ البارون عزمه على الزواج بأخته، ويقول البارون: «لا أطيق صدور مثل هذه الدناءة عنها مطلقا، كما أنني لا أطيق صدور مثل هذه الوقاحة عنك أبدا، ولن أعمل ما ألام به على هذا العار، ولن يمكن أولاد أختي أن يدخلوا محافل الشرف بألمانية، كلا، لن تستطيع أختي غير تزوج أحد بارونات الإمبراطورية.» وترتمي كونيغوند على قدميه وتبللهما بالدموع، فلا تلين له قناة.
ويقول كنديد: «أيها السيد المجنون، لقد أنقذتك من الأشغال الشاقة في المركب الليماني، وقد فديتك بمالي، كما فديت أختك بعد أن كانت تغسل الصحون وهي شنعة، ومن كرمي أن أجعل منها زوجتي، ثم تزعم أنك تعارضني! لو لبيت نداء غضبي لقتلتك ثانية.»
ويقول البارون: «تستطيع أن تقتلني مرة أخرى، ولكنك لن تتزوج أختي ما دمت حيا.»
الفصل الثلاثون
الخاتمة
إذا نظر إلى قرارة نفس كنديد، وجد أنه خال من أية رغبة في الزواج بكونيغوند، غير أن وقاحة البارون حملته على إنجاز عقد الزواج، وتبلغ كونيغوند من شدة الإلحاح عليه ما لم يستطع معه أن ينقض عهده، ويستشير بنغلوس ومارتن والوفي ككنبو.
فأما بنغلوس فقد وضع مذكرة رائعة، أثبت فيها أنه لا حق للبارون على أخته مطلقا، فهي تستطيع أن تتزوج كنديد باليد اليسرى وفق قوانين الإمبراطورية، وأما مارتن فقد رأى أن يلقى بالبارون في البحر، وأما ككنبو فقد أبصر وجوب إعادته إلى الربان التركي، ورجوعه إلى الأشغال الشاقة الليمانية، ثم يرسل بأول سفينة إلى الأب العام برومة.
ويستحسن هذا الرأي، وتوافق العجوز عليه، ولا تنبأ به أخته، وينفذ الأمر بدراهم قليلة، ويسر باصطياد يسوعي، وبمعاقبة خيلاء بارون ألماني.
أجل، إن من الطبيعي أن يتمثل زواج كنديد بحظيته بعد كثير من الكوارث، وأن يعيش مع الفيلسوف بنغلوس والفيلسوف مارتن والفطين ككنبو والعجوز، ما دام قد أتى بألماس كثير من وطن الإنكا، وأن يقضي أطيب حياة في العالم. بيد أن اليهود بلغوا من اختلاسه ما عاد معه لا يملك غير مزرعته الصغيرة، وتصير امرأته أشد بشعا كل يوم، وتغدو شرسة لا تطاق، وتكون العجوز عاجزة، وتبدو أشد شراسة من كونيغوند، ويعمل ككنبو في المزرعة، ويذهب لبيع خضر في الآستانة، فيلعن طالعه، وييأس بنغلوس من عدم تألقه في بعض الجامعات الألمانية، ويقنع مارتن قناعة ثابتة، بأن السوء يلازم الإنسان في كل مكان على السواء، فيرضى بالأمور صابرا.
ويتجادل كنديد ومارتن وبنغلوس حول ما بعد الطبيعة والأخلاق أحيانا، وكان في الغالب، يرى من تحت نوافذ منزل المزرعة مرور سفن مشحونة بأفندية وباشوات وقضاة مبعدين إلى ليمنى ومدلي وأرضروم، كما كان يرى مجيء قضاة وباشوات وأفندية آخرين؛ ليحلوا محل المنفيين، فينفون بدورهم، وكانت ترى رءوس محشوة بالتبن، لتقدم إلى الباب العالي، وكانت هذه المناظر تضاعف المباحثات، وكان السأم يبلغ غايته من الشدة عند عدم الجدال في أمر، حتى إن العجوز أقدمت على قولها ذات يوم: «أريد أن أعلم أي الأمرين شر من الآخر: اغتصاب الإنسان مائة مرة من قبل قراصين الزنوج، وقطع الألية، واحتمال العذاب عند البلغار، والجلد والشنق تنفيذا لحكم تفتيشي، والتشريح، والتجديف في مركب، وابتلاء جميع المكاره التي عاناها كل واحد منا كما هو حاصل الكلام، أو البقاء هنا من غير أن يعمل شيء؟»
ويقول كنديد: «هذه مسألة عظيمة.»
ويسفر هذا الحديث عن تأملات جديدة، ويستنتج مارتن على الخصوص كون الإنسان يولد؛ ليعيش في غم مضطرب، أو في سبات من السأم. ولم يدحض كنديد من هذا أمرا، ولكن مع عدم توكيده شيئا.
وكان بنغلوس يعترف بأنه ألم دائما ألما هائلا، ولكن بما أنه ذهب ذات مرة إلى أن كل أمر يسير سيرا رائعا، فإنه يؤيد هذا في كل حين، وإن كان لا يعتقد منه قلامة.
ويقع أمر يثبت مارتن في مبادئه البغيضة، ويحمل كنديد على الارتياب أكثر مما في أي زمن كان، ويربك بنغلوس، وذلك أنهم رأوا ذات يوم نزول باكت والراهب جيرفله إلى مزرعتهم، وهما في أقصى درجات البؤس، وذلك أنهما استنفدا آلاف القروش الثلاثة على عجل، وأنهما تهاجرا وتصالحا وتنازعا وسجنا وفرا، فتحول الراهب جيرفله إلى تركي في آخر الأمر، وداومت باكت على حرفتها في كل مكان، وعادت لا تكسب شيئا، ويقول مارتن لكنديد: «كنت قد أبصرت جيدا كون عطاياك لا تلبث أن تبدد، وأنها تجعلهما أكثر بؤسا، وكنت أنت وككنبو قد طفحتما بملايين القروش، فلستما أكثر سعادة من الراهب جيرفله وباكت.»
ويقول بنغلوس لباكت: «وي، وي! إذن يأتي الرب بك إلينا هنا، يا بنيتي المسكينة، ألا تعرفين أنك أوجبت ضياع أرنبة أنفي وعين لي وأذن لي؟ فيا لك من إنسان غريب! آه، ما هذا العالم!»
وتحملهما هذه المغامرة الجديدة على التفلسف أكثر مما في أي وقت كان.
وكان يوجد في الجوار درويش مشهور معدود خير فيلسوف في تركية، ويذهبون لمشاورته، ويتناول بنغلوس الكلام ويقول له: «يا أستاذ، أتينا لنرجو منك أن تقول لنا سبب خلق حيوان عجيب كالإنسان.»
ويقول الدرويش له: «ما دخلك في الأمر؟ أمن شأنك هذا؟»
ويقول كنديد: «ولكن يا أبت المحترم، يوجد شر هائل في الدنيا.»
ويقول الدرويش: «وما أهمية وجود خير أو شر؟ إذا ما أرسل صاحب العظمة سفينة إلى مصر، فهل يبالي بكون الفئران في السفينة مستريحة أو لا؟»
ويقول بنغلوس: «إذن، ما يجب أن يصنع؟»
ويقول الدرويش: «أن تقطع لسانك عن الكلام.»
ويقول بنغلوس: «أطمع أن أباحثك قليلا في المعلولات والعلل، وفي أحسن ما يمكن من العوالم، وفي أصل الشر، وفي طبيعة الروح، وفي النظام المقدر.»
فلما سمع الدرويش هذا الكلام، أغلق الباب بعنف في وجوههم.
وفي أثناء هذا الحديث، ذاع خبر قائل بأنه خنق في الآستانة وزيران مع المفتي، وبأنه وضع على الخازوق كثير من أصدقائهم، فأدت هذه النكبة إلى ضجة كبيرة في كل مكان بضع ساعات.
وبينا كان بنغلوس وكنديد ومارتن عائدين إلى المزرعة الصغيرة، لاقوا شيخا ساذجا، يتبرد تحت عريش من شجر البرتقال، قائم عند بابه ، ويسأله بنغلوس - الذي كان محبا للاطلاع، كما كان كثير الاستدلال - عن اسم المفتي الذي خنق، ويجيب هذا الرجل البسيط بقوله: «لا أعرف شيئا عن ذلك، ولم يحدث قط أن عرفت اسم مفت أو اسم وزير، وأجهل جهلا مطلقا ما تكلمونني عنه من خبر، وأظن - على العموم - أن الذين يتدخلون في الشئون العامة يهلكون ببؤس أحيانا، جزاء وفاقا، ولكنني لا أسأل عما يحدث في الآستانة مطلقا، مكتفيا بأن أرسل إليهم للبيع ثمرات الحديقة التي أزرعها.»
قال هذا الكلام، وأدخل الأجانب إلى منزله، وتقدم بنتاه وابناه إليهم أنواعا كثيرة من الشراب، صنعوها بأنفسهم، كما قدموا إليهم قشدة معللة بمربب قشر الترنج، وبرتقالا وحامضا وليمونا وأنناسا وفستقا وقهوة يمانية، لم تخلط قط ببن بتافيا والجزر الرديء، ثم عطرت بنتا المسلم الصالح لحى كنديد وبنغلوس ومارتن.
ويقول كنديد للتركي: «لا بد من وجود أرض واسعة رائعة لك؟»
ويجيب التركي: «لا أملك غير عشرين فدانا أزرعها مع أولادي، فالعمل يدفع عنا ثلاثة شرور كبيرة: السأم، والرذيلة، والعوز.»
ويعود كنديد إلى مزرعته، ويقوم بتأملات عميقة حول كلام التركي، ويقول لبنغلوس ومارتن: «يبدو لي أن ذلك الشيخ الصالح اختار لنفسه نصيبا أفضل من نصيب الملوك الستة، الذين كان لنا شرف العشاء معهم.»
ويقول بنغلوس: «يرى جميع الفلاسفة، أن المقامات العالية خطرة جدا، فمما وقع أن ملك المؤابيين عجلون قتل من قبل أهود، وأن أبشالوم علق من شعره، وطعن بنبال ثلاث، وأن الملك ناداب بن يربعام قتل من قبل بعشا، وأن الملك أيلة قتل من قبل زمرى، وأن أحزيا قتل من قبل ياهو، وأن عثليا قتلت من قبل يهوياداع، وأن الملوك يهوياقيم ويكنيا وصدقيا صاروا عبيدا.» «وهل تعرف كيف هلك كريزوس وأستياغ ودارا ودنيس السرقوسي وبروس وبرسوس وأنيبال وجوغورتا وأريوفستوس وقيصر وبونبي ونيرون وأوتون وفيتليوس ودومسيان وريشارد الثاني الإنكليزي وإدوارد الثاني وهنري السادس وريشارد الثالث وماري ستوارت وشارل الأول والهنريون الفرنسيون الثلاثة والإمبراطور هنري الرابع؟ وأنت تعرف ...»
ويقول كنديد: «وأعرف أيضا أنه يجب أن تزرع حديقتنا.»
ويقول بنغلوس : «الحق معك؛ وذلك لأن الإنسان عندما جعل في جنة عدن، جعل فيها ليعمل «فليفلحها ويحرسها»، ويثبت أن هذا الإنسان لم يولد للراحة.»
ويقول مارتن: «لنعمل من غير برهنة، فالعمل هو الوسيلة الوحيدة التي تطاق بها الحياة.»
أخذت تلك الجماعة الصغيرة كلها تطبق هذا المشروع المحمود، وأخذ كل واحد يمارس مواهبه، فصارت المزرعة الصغيرة تأتي بدخل كثير. أجل، كانت كونيغوند بشعة كثيرا في الحقيقة، غير أنها غدت حلوانية بارعة، وتطرز باكت، وتعنى العجوز بالبياضات، حتى إن الراهب جيرفله يقوم بخدمة، فقد صار نجارا ماهرا، وأصبح رجلا صالحا أيضا، وكان بنغلوس يقول لكنديد أحيانا: «إن جميع الحوادث آخذ بعضها برقاب بعض في أحسن ما يمكن من العوالم؛ وذلك لأنك لو لم تطرد من قصر جميل بضربات رجل في عجزك من أجل غرامك بالآنسة كونيغوند، ولو لم تؤخذ من ناصيتك في محكمة التفتيش، ولو لم تطف في أمريكة ماشيا، ولو لم تطعن البارون بالسيف طعنة نجلاء، ولو لم تفقد جميع كباشك التي أخذتها من البلد الطيب إلدورادو؛ ما أكلت هنا ترنجا مرببا وفستقا.»
فيجيب كنديد: «هذا قول حسن، ولكن يجب علينا أن نزرع حديقتنا.»
الجزء الثاني
الفصل الأول
كيف انفصل كنديد عن زمرته؟ وما نشأ عن ذلك
يسأم الإنسان كل شيء في الحياة، فالثروات تتعب من يملكها، وإذا ما أشبع الطمع لم يترك غير الندم، ولا تبقى ألطاف الغرام ألطافا زمنا طويلا، ولم يلبث كنديد - الذي خلق ليعاني جميع تقلبات الطالع - أن سئم زراعة حديقته فقال: «أيها الأستاذ بنغلوس، إذا كنا في أحسن ما يمكن من العوالم، فإنك تعترف لي - على الأقل - بأنني لا أتمتع بحصة ملائمة من السعادة الممكنة، ما عشت مجهولا في هذه الزاوية الصغيرة من بحر مرمرة، غير مالك من الوسائل سوى ذراعي اللتين قد تعوزانني ذات يوم، وما دمت لا أنال من المتع غير ما لدي من الآنسة كونيغوند الدميمة جدا، والتي أرى السوء كل السوء في كونها زوجا لي، وما دمت لا أفوز بغير صحبتك التي أملها أحيانا ، أو صحبة مارتن التي تجعلني حزينا، أو صحبة جيرفله الذي هو حديث عهد بالصلاح، أو صحبة باكت التي تعلم ما تنطوي عليه من خطر كثير، أو صحبة العجوز التي ليس لها غير ألية واحدة، والتي تقص أحاديث مملة.»
وهنالك يتناول بنغلوس الكلام ويقول: «تعلمنا الفلسفة، أن الذرات الحية القابلة الانقسام إلى ما لا حد له تنتظم بذكاء عجيب لتكوين مختلف الأجسام التي نلاحظها في الطبيعة، فالأجرام السماوية هي ما يجب أن تكون عليه، وهي تقوم حيث يجب أن تكون قائمة، وهي ترسم من الدوائر ما يجب أن ترسم، ويتبع الإنسان من الميل ما يجب أن يتبع، وهو كائن على ما يجب أن يكون عليه، وهو يفعل ما يجب أن يفعل، أنت تتوجع يا كنديد؛ لأن ذرة روحك الحية تسأم، غير أن السأم تحويل للروح، وهذا لا يمنع كل شيء من أن يكون على أحسن حال لك وللآخرين، ولما رأيتني مستورا بالبثور، لم أك متحولا عن رأيي قط؛ وذلك لأن الآنسة باكت لو لم تذقني ملاذ الحب وسمه، ما لاقيتك في هولندة، وما كنت أتيح للتعميدي جاك فرصة القيام بعمل يثاب عليه، وما كنت أشنق في أشبونة من أجل تهذيب القريب، وما كنت هنا لإمدادك بنصائحي، وجعلك تموت على مذهب ليبنتز، أجل يا كنديدي العزيز، إن كل شيء آخذ بعضه برقاب بعض، وكل شيء ضروري في أحسن ما يمكن من العوالم، ويجب أن يهذب برجوازي منتبان الملوك، وأن تنتقد حشرة كنبر كرنتن، تنتقد، تنتقد، وأن يصلب الواشي بالفلاسفة في شارع سان دني، وأن يقطر متحذلق الريكوله، وكاهن سان مالو الحقد والافتراء في جرائدهما النصرانية، وأن تتهم الفلسفة أمام محكمة ملبومن، وأن يداوم الفلاسفة على تنوير البشر، على الرغم من نهيق البهائم المضحكة، التي تغوص في مناقع الآداب، وأن تطرد من أجمل القصور بضربات رجل على ألييك، وأن تتدرب عند البلغار، وأن تجلد، وأن تعاني مجددا نتائج غير هولندية، وأن تعاد إلى أشبونة؛ فتجلد ثانية تنفيذا لأمر التفتيش المقدس، وأن تعاني عين الأخطار لدى البادر والأوريون والفرنسيين، وأن تكابد أخيرا، جميع ما يمكن من البلايا، وعلى ما أنت عليه - مع ذلك - من عدم فهم لليبنتز كما أفهمه، يجب عليك أن تذهب إلى أن كل شيء حسن، وأنه على أحسن ما يكون، وإلى الهيولى والمادة اللطيفة والانسجام المقدر والذرات الحية أروع ما في العالم، وأن ليبنتز رجل عظيم حتى عند من لم يفقهوه.»
ولم يجب كنديد - الذي هو أكثر من في الطبيعة حلما - عن هذا القول الجميل بكلمة، وإن قتل ثلاثة رجال كان بينهم قسيسان. ولكنه - وهو الذي سئم الدكتور ورهطه - انطلق عند فجر الغد حاملا بيده عصا بيضاء، وذلك من غير أن يعرف إلى أين، باحثا عن مكان لا يسأم منه، عن مكان لا يكون الناس فيه أناسا، كما هو الأمر في البلد الصالح إلدورادو.
وصار كنديد أقل شقاء؛ لرغبته عن كونيغوند كما تقدم، وأخذ كنديد يقوم أوده بكرم مختلف الأمم غير النصرانية، مع إيتاء زكاة، ووصل كنديد - بعد سير طويل شاق جدا - إلى تبريز الواقعة على حدود فارس، إلى هذا المصر المشهور بالفظائع، التي مارسها الترك والفرس مناوبة.
أضناه التعب، وعاد لا يكون صاحبا لثياب غير ما هو ضروري لستر عورته، التي يدعوها الرجل محل حيائه، وكان كنديد لا يميل إلى رأي بنغلوس، عندما دنا منه فارسي بأدب جم، راجيا منه أن يتفضل بتشريف منزله، فقال كنديد: «أنت تهزأ، فأنا شخص ترك منزلا هزيلا له على شاطئ بحر مرمرة، وأنا تزوجت الآنسة كونيغوند بعد أن صارت دميمة جدا، وصرت أسأم، والواقع أنني لم أخلق قط لتشريف منزل أحد، وأنا لست شريفا والحمد لله، ولو كان لي فخر الشرف، لدفع البارون ثندر تن ترنك غاليا ثمن ما أنعم به علي من ضربي على أليي برجله، وإلا لكنت أموت خجلا، وهذا ينطوي على شيء من الفلسفة، وهذا إلى أنني جلدت جلدا شائنا من قبل التفتيش المقدس، ومن قبل ألفي بطل، يقبض كل واحد منهم ثلاثة أفلس مياومة، أعطني ما تشاء، ولكن لا تشتمني على بؤسي بسخرية تبطل بها جميع إحساناتك.»
ويجيب الفارسي: «سيدي، قد تكون سائلا، وهذا ما يدل عليه حالك، بيد أن ديني يأمرني بالقرى، ويكفي أن تكون إنسانا تعسا، حتى يكون إنسان عيني سبيل قدميك، فتفضل وشرف منزلي بوجودك المنير.»
ويجيب كنديد: «سأصنع ما تريد.»
ويقول الفارسي: «ادخل، إذن.»
دخلا، ولم يمل كنديد من الإعجاب بما يبديه له مضيفه من العناية المقرونة بالاحترام، كأن يقوم العبيد برغباته قبل أن يعرب عنها، ولم يبد جميع المنزل إلا عاملا على نيل رضاه، وقال كنديد في نفسه: «إذا دام هذا لم تسر الأمور سيئة في هذا البلد.»
ومرت ثلاثة أيام، دام فيها كرم الفارسي كالعادة، فبدأ كنديد يقول: «أيها الأستاذ بنغلوس، كنت أشك دائما في وجود الحق بجانبك، فأنت فيلسوف عظيم.»
الفصل الثاني
ما وقع لكنديد في ذلك المنزل، وكيف خرج منه؟
أحسن غذاء كنديد ولباسه، وذهب عنه الملل، فلم يلبث أن صار ورديا ناضرا جميلا كما كان في فستفالية، ويرتاح مضيفه إسماعيل راغب إلى هذا التحول، وكان إسماعيل هذا بالغا من الطول ست أقدام، وكان ذا عينين صغيرتين حمراوين إلى الغاية، وكان ذا أنف ضخم متبرعم،
1
يدل دلالة واضحة كافية على مخالفته شريعة محمد، وقد اشتهر في الإقليم أمر شاربيه، فكانت الأمهات ترجو أن يكون لأبنائهن مثلها، وكان راغب ذا أزواج؛ لأنه غني، ولكن نفسه كانت تسول له ما هو كثير الشيوع في الشرق وفي بعض كليات أوروبا، ويقول الماكر الفارسي للبسيط كنديد، وهو يدغدغ ذقنه ذات يوم دغدغة خفيفة: «أنت يا صاحب السعادة أجمل من النجوم، ولا بد من أن تكون قد فتنت كثيرا من الأفئدة، وقد ولدت لتلقي السعادة ولتلقاها.»
ويجيب بطلنا: «واها! لم أك غير نصف سعيد خلف حاجز، حيث أزعجت كثيرا، وكانت الآنسة كونيغوند ناضرة في ذلك الحين ...»
ويقول الفارسي: «الآنسة كونيغوند! ويح عليك يا طاهر! اتبعني يا مولاي.»
فاتبعه كنديد، ويصلان إلى محل منزو رائع واقع في أقاصي غابة، حيث يسود السكون والشهوة، ففي ذلك المكان يعانق إسماعيل راغب كنديد عناقا ناعما، ويعرب له بإيجاز عن حب شديد له، كالحب الذي أعرب عنه ألكسيس الجميل في جرجيات فرجيل، ولم يكن ليذهب عن كنديد دهشه، فصرخ قائلا: «كلا، لن أنقاد لمثل هذا العار! يا لها من علة ومعلول فظيعين! الموت أحب إلي من هذا.»
ويقول إسماعيل غاضبا: «ستموت إذن، ماذا؟ أيها الكلب النصراني؛ ذلك لأنني أريد أن أمنحك بأدب لذة ... فإما أن تعمل على إرضائي، وإما أن تموت شر موتة.»
ولم يتردد كنديد زمنا طويلا، وما أدلى به الفارسي من برهان كاف جعله يرتجف، ولكنه خشي الموت كفيلسوف.
ويتعود كل شيء، ولم يكن كنديد ليضجر من حاله مطلقا، ولا غرو، فقد أحسنت تغذيته والعناية به، ولكن مع حصره، وما كان يلاقي من طيب العيش، وما كان يبديه له عبيد إسماعيل من ضروب التسلية عد هدنة لغمومه، وكان لا يلازمه الشقاء إلا حين يفكر - شأن معظم الرجال.
وفي ذلك الحين عاد من الآستانة أحد زعماء مذهب الفرس المجتهدين، وأعلم أئمة المسلمين، والتام الاطلاع على العربية، والواقف على اليونانية، التي يتكلم بها اليوم في وطن ديموستن وسوفوكل، صدر الديوان الأكرم، وإلى الآستانة كان هذا الصدر قد ذهب، لمباحثة محمود إبراهيم الأكرم في كون النبي قد نتف الريشة التي استخدمها لكتابة القرآن من جناح الملك جبريل، أو كون جبريل قد قدمها إليه، وقد جادل في هذا ثلاثة أيام وثلاث ليال بحماسة خليقة بقرون الجدل الجميلة، فعاد الإمام قانعا بأن محمدا نتف الريشة - كما يعتقد جميع أشياع علي - وبقي محمود إبراهيم قانعا - كبقية أتباع عمر - بأن النبي أجل من إتيان هذه الغلظة، فالملك هو الذي قدم إليه الريشة بلطف بالغ.
ويروى أنه كان في الآستانة زنديق أشار إلى وجوب البحث - في البداءة - عن صحة الرواية القائلة: إن القرآن كتب بريشة الملك جبريل، بيد أنه رجم.
وأدى وصول كنديد إلى ضجيج في تبريز، وأخذ كثير من الناس الذين سمعوه يتكلم عن المعلولات الحادثة وغير الحادثة، يظن أنه فيلسوف، ويحدث صدر الديوان الأكرم عنه، فيساوره فضول رؤيته، فيأتي به إليه راغب، الذي لا قبل له برفض طلب هذا الرجل العظيم الجاه، ويظهر رضاه البالغ عن الوجه الذي تكلم به كنديد عن الشر المادي والشر الأدبي، وعن العلة والمعلول، ويقول هذا الورع الأكرم: «أدرك أنك فيلسوف، وهذا يكفي، فلا يناسب أن يعامل رجل عظيم مثلك بما يشين كما روي لي، وأنت أجنبي، وليس لإسماعيل راغب حق عليك، وسآتي بك إلى البلاط حيث يحسن قبولك، ويحب الصفوي العلوم، وأنت يا إسماعيل، سلم إلي هذا الفيلسوف الشاب، وإن لم تفعل غضب عليك الأمير، وحلت عليك نقمة الله وأوليائه خاصة.»
وترهب هذا الكلمات الأخيرة ذاك الفارسي الخالع العذار، فيوافق على كل شيء، ويحمد كنديد الرب وأولياءه، ويخرج في اليوم عينه من تبريز مع الإمام المسلم، ويسلكان طريق أصبهان، حيث وصلا إليها مغمورين ببركات الشعب وصنيعه.
الفصل الثالث
قبول كنديد في البلاط، وما عقب ذلك
لم يلبث صدر الديوان الأكرم أن قدم كنديد إلى الملك، ووجد صاحب الجلالة لذة عجيبة في سماعه، ووضعه بين كثير من علماء بلاطه، فعده هؤلاء العلماء مجنونا جاهلا غبيا، فساعد هذا على إقناع جلالته بأنه رجل عظيم، وقد قال صاحب الجلالة لهم: «بما أنكم لا تدركون شيئا من براهين كنديد، فإنكم تهينونه، ولكني - وإن كنت لا أفوقكم فهما له - أوكد لكم أنه فيلسوف عظيم، وأقسم على هذا بشاربي»، ففرضت هذه الكلمة الصمت على العلماء.
ويسكن كنديد القصر، ويعطى عبيدا لخدمته، ويلبس ثوبا فاخرا، ويأمر الصفوي بألا يقدم أحد على إثبات خطئه مهما قال، ولم يقف صاحب الجلالة عند هذا الحد، فما فتئ الورع الأكرم يلحف عليه نفعا لكنديد، فجعله من المقربين إليه في آخر الأمر.
قال الإمام مخاطبا كنديد: «الحمد لله، والصلاة على نبيه الكريم، وبعد، فإني آتيك بخبر سار، فيا لك من سعيد يا كنديدي العزيز! ويا لكثرة الحساد الذين سوف تجعلهم لنفسك! أنت تسبح في نعمة، ويمكنك أن تطمح إلى أرفع مناصب الدولة، ولا تنسني يا صديقي العزيز، واذكر أنني أنا الذي نال لك ما سوف تتمتع به من الحظوة عما قليل، ولتكن البهجة طالع وجهك! وذلك أن الملك سينعم عليك بلطف تشرئب إليه الأعناق، وذلك أنه سيكون لك من المنظر ما لم يتمتع البلاط به منذ عامين.»
ويسأل كنديد: «ما الذي يكرمني به الأمير؟»
ويجيب الورع عن هذا بقوله: «إنك ستضرب بالسوط خمسين ضربة على باطن قدميك أمام صاحب الجلالة، والآن سيحضر الخصيان الذين عينوا لتعطيرك، فاستعد لاحتمال هذه المحنة الصغيرة قرير العين، واجعل نفسك خليقا بملك الملوك.»
ويصرخ كنديد غاضبا قائلا: «ليحتفظ ملك الملوك بجوده إذا ما وجب علي لنيله، أن أتلقى خمسين ضربة سوط.»
ويقول الإمام ببرودة: «وهذه هي عادته نحو من يريد أن يعمهم بنعمه، وأحبك كثيرا لما تروي لي من إبائك، وسأجعلك سعيدا على الرغم منك.»
وهو لم ينفك يتكلم عن وصول الخصيان، وعن تقدم منفذ ملاذ جلالته، الذي كان من أطول سادة البلاط وأكثرهم قوة، وقد ذهب ما قال كنديد وما صنع أدراج الرياح، فقد عطرت ساقاه ورجلاه وفق العادة، ويأتي به أربعة خصيان إلى المكان المعد للاحتفال بين صفين من الجنود، وعلى صوت آلات الموسيقا والمدافع وضجيج مساجد أصبهان، وكان الصفوي قد حضر، ومعه أهم رجال البلاط وأعظمهم وجاهة، ويمدد كنديد من فوره على مقعد صغير مذهب كله، ويستعد منفذ أدق الملاذ للقيام بعمله.
ويقول كنديد - وهو يبكي ويصرخ بما أوتي من قوة: «لو كنت هنا يا بنغلوس الأستاذ، يا بنغلوس الأستاذ»، وكان يعد هذا البكاء مع الصراخ مخالفا للأدب، لو لم يوكد ذاك التقي أن محميه سار على هذا الأسلوب زيادة في تسلية جلالته، والواقع أن هذا الملك الكبير كان يضحك كالمجانين، حتى إنه بلغ من التلذذ بمنظر الجلدات الخمسين ما أمر معه بخمسين جلدة أخرى، غير أن وزيره الأول عرض عليه بجرأة غير مألوفة، كون هذه الحظوة التي لم تسمع بمثلها أذن، مما قد يحول قلوب رعاياه، فألغى أمره، وأعيد كنديد إلى مأواه.
ويوضع على السرير بعد أن غسلت رجلاه بالخل، ويأتي العظماء لتهنئته واحدا بعد الآخر، ثم يأتي الصفوي لا لمد يده إلى كنديد ليقبلها - على حسب العادة - فقط، بل ليضربه على أسنانه بجمع كفه أيضا، ويحزر رجال السياسة أن كنديد ينال حظا لا مثيل له تقريبا، ولم يخطئوا في ظنهم، وإن كان عدم الخطأ نادرا عند رجال السياسة.
الفصل الرابع
ما ناله كنديد من حظوات جديدة، ارتقاؤه
ويشفى بطلنا، فيدخل على الملك ليقدم إليه شكره، ويحسن هذا العاهل قبوله، ويلطمه مرتين أو ثلاث مرات في أثناء الحديث، ويقوده إلى قاعة الحرس راكلا ألييه عدة مرات، ويكاد الندماء يموتون حسدا، ولم يحدث منذ أخذ صاحب الجلالة يضرب المقربين إليه، أن نال أحد شرف ضربه بمقدار ما نال كنديد.
وتمضي ثلاثة أيام على هذه المقابلة، فينصب كنديد واليا على خوزستان، مع سلطان مطلق، ينصب فيلسوفنا الذي كان يجن بما يلاقي من لطف، ويجد كل شيء يسير إلى سيئ، ويزين بقلنسوة من فرو، أي: بما يعد علامة امتياز في فارس، ويودع الصفوي الذي ينعم عليه بألطاف أخرى، ليسافر إلى السوس التي هي مقر ولايته، وما فتئ أعاظم المملكة يأتمرون بكنديد ليهلكوه منذ ظهوره في البلاط، ولم تؤد الألطاف المتناهية التي غمره بها الصفوي إلى غير تكبير الزوبعة التي تفقس على رأسه، ومع ذلك فقد سر بطالعه، وابتعاده على الخصوص، وقد تذوق - مقدما - ملاذ المقام الرفيع، وكان يقول في قرارة نفسه: «من السعادة البالغة أن يبتعد الرعايا عن مولاهم!»
ولم يكد كنديد يبتعد عن أصبهان عشرين ميلا، حتى أغار عليه وعلى زمرته خمسمائة فارس مدجج بالسلاح، ويعتقد كنديد دقيقة أن هذا لإكرامه، ولكن الرصاصة التي حطمت ساقه أخبرته بالحقيقة، ويلقي رجاله سلاحهم، وينقل وهو بين الحياة والموت إلى حصن منعزل، ويغنم الغالب أمتعته وجماله وعبيده وخصيانه البيض وخصيانه السود والنساء الست والثلاثين اللائي أنعم الصفوي عليه بهن لاستمتاعه، وتقطع ساق بطلنا خشية الغنغرة، وتحفظ له حياته، كيما يصاب بموت أشد فظاعة. «أي بنغلوس، أي بنغلوس! ما يصبح تفاؤلك إذا ما أبصرتني ذا ساق واحدة بين يدي أقسى أعدائي، وذلك بينما كنت أسلك سبيل السعادة، بينما كنت أبدو حاكما، أو ملكا لأهم ولايات الإمبراطورية، لمادي القديمة، بينما كنت أملك جمالا وعبيدا وخصيانا بيضا وسودا وستا وثلاثين امرأة لاستمتاعي، ستا وثلاثين امرأة لم أتمتع بهن بعد ...»
فبهذا الأسلوب، كان يتكلم كنديد منذ استطاع أن يتكلم.
وبينا كان غارقا في الحزن حالفه حسن الطالع، وذلك أن الوزير نبئ بالاعتداء الذي أصيب به، فأرسل - على عجل - كتيبة من المقاتلين لتعقب العصاة، وأمر التقي صدر الديوان أتقياء آخرين بأن يذيعوا أن كنديد من صنع الله؛ لأنه من صنع الأتقياء، ومن كانوا على علم بهذا الاعتداء كشفوه بهمة؛ لما كان من توكيد أئمة الدين باسم محمد، أن كل من أكل لحم خنزير، أو شرب خمرا، أو قضى عدة أيام من غير غسل، أو أتى نساء في أيام حيضهن، خلافا لنصوص القرآن الصريحة، يغفر له حتما إذا ما أخبر عن المؤامرة، ولم يلبث سجن كنديد أن كشف، فاقتحم وأبيد المغلوبون وفق الشريعة، ما دامت المسألة مسألة دين، ويسير كنديد على كتلة من القتلى، متفلتا من أعظم خطر عرض له متغلبا عليه، مستأنفا مع حاشيته طريقه إلى حكومته، حيث استقبل كصاحب حظوة، أكرم بخمسين ضربة سوط على أخمص قدميه أمام ملك الملوك.
الفصل الخامس
كيف كان كنديد أميرا كبيرا، ولكن مع عدم رضاه عن هذا
توحي الفلسفة إلينا بأن نحب أمثالنا، وبسكال - وحده تقريبا - هو الفيلسوف الذي أراد أن يجعلنا نكره أمثالنا، ومن حسن الحظ أن كنديد لم يقرأ بسكال، فكان يحب الإنسانية المسكينة من جميع قلبه، وقد أدرك رجال الخير ذلك، فابتعدوا عن رسل الرب، ولكنه لم يصعب عليهم أن يجتمعوا عند كنديد، وأن يساعدوه بنصائحهم، ويضع أنظمة حكيمة لتشجيع الزراعة والتناسل والتجارة والفنون، ويكافئ من يقومون بتجارب نافعة، ومن لم يؤلفوا غير الكتب، وكان يقول - بسلامة نية فاتنة: «قد أكون راضيا إذا رضي الناس في ولايتي على العموم.»
وكان كنديد غير مطلع على النوع البشري؛ وذلك أنه أبصر ثلب الناس له في أهاجي مرجفة، وأنه افتري عليه في كتاب اسمه «صديق الناس»، وأنه لم يصنع غير ناكري الجميل، مع أنه يسعى لإيجاد سعداء، ويقول كنديد صارخا: «آه! ما أصعب الحكم في هؤلاء الناس الخالين من الريش والطالعين على الأرض! ولم لم أبق على شاطئ بحر مرمرة، في صحبة الأستاذ بنغلوس، والآنسة كونيغوند، وبنت البابا أوربان العاشر التي ليس لها سوى ألية واحدة، والراهب جيرفله، والفاجرة باكت!»
الفصل السادس
ملاذ كنديد
في مرارة من الألم، كتب كنديد كتابا مؤثرا إلى صدر الديوان الأكرم، وصف فيه حاله النفسية وصفا بلغ من القوة ما حمله به على إقناع الصفوي بأن يعفي كنديد من خدمه، ويريد صاحب الجلالة أن يكافئه على خدمه، فيمنحه راتبا عظيما جدا، وإذ أعفي فيلسوفنا من وطأة الجاه، بحث في ملاذ الحياة، عن تفاؤل بنغلوس، وقد عاش حتى هذا الحين في سبيل الآخرين، ناسيا أنه كان صاحب سراي - كما يظهر.
وقد ذكر ذلك مع كل ما توحي به هذه الكلمة من إحساس، ويقول لخصيه الأول: «ليعد كل شيء حتى أدخل عند نسائي»، ويجيب الرجل مخافتا: «مولاي، الآن تستحق يا صاحب السعادة لقب الحكيم، فلم يكن الرجال الذين عملت في سبيلهم كثيرا أهلا ليشغلوا بالك، وأما النساء ...» ويقول كنديد متواضعا: «ربما.»
وكان يقوم في أقصى حديقة، حيث كان الفن يساعد الطبيعة على إنماء محاسنها، بيت صغير على طراز بسيط مع هيف، ويختلف هذا البيت بذلك عن البيوت التي ترى في ضواحي أجمل مدينة بأوروبا، ولم يدن كنديد منه إلا محمر الوجه، وكان الهواء حول هذا المنزل الهادئ الفاتن ينشر عطرا لذيذا، وكانت الأزهار المتشابكة تشابكا غراميا تسير عن غريزة اللذة كما يظهر، وكانت تحتفظ هنالك بمختلف جواذبها لزمن طويل، ولم يكن الورد ليخسر هنالك رواءه، وكان منظر الصخرة - التي ينحدر عنها السيل بهدير أصم مبهم - يدعو النفس إلى تلك السوداء العذبة، التي تسبق الشهوة، ويدخل كنديد - وهو يرتجف - بهوا يسوده الذوق والبهاء، فتجذب الحواس فيه بسحر خفي، وتقع عيناه على تلماك، الشاب الذي يتنفس على الغزل بين حوريات بلاط كلبسو، ثم يحول عينيه إلى ديانا نصف العارية، والفارة إلى ذراعي أنديميون الناعم، ويزيد ارتباكه عند نظره إلى فينوس، المنقولة عن فينوس الإيطالية نقلا صادقا، وإنه لكذلك إذ قرع أذنيه نغم إلهي؛ وذلك أن فرقة من الفتيات الكرجيات مرت مستورة ببراقعها، فتؤلف حوله رقصا غنائيا، أصدق من الرقصات الشهوانية التي ما فتئت تعرض على المسارح الصغيرة منذ موت القيصرين والبونبيين.
ويؤتى بإشارة متفق عليها، فتسقط البراقع، وتزيد السحنات المملوءة معنى في حرارة اللهو، ويبدي هؤلاء الحسان أوضاعا فاتنة، ولكن على غير سابق خطة كما يلوح، فلا تعرب إحداهن بلواحظها عن غير هوى لا حد له، ولا تظهر الأخرى غير تراخ لين، ينتظر ملاذ من دون أن يبحث عنها، وتنحني ثالثة وتنهض حالا لتشاهد أثر مغرياتها الساحرة، التي يعرض الجنس اللطيف مثلها بباريس في وضح النهار، وتفتح رابعة ثوبها قليلا، كشفا لساق لها تستطيع إلهاب رجل رقيق، وينقطع الرقص، وتبقى الحسان ساكنات.
ويدعو الصمت كنديد إلى نفسه، وتشتعل لواعج الهوى في فؤاده، ويسرح ناظريه المولعين في كل ناحية، ويقبل شفاها ملتهبة وعيونا ندية، ويضع يده على كرات أبيض من المرمر، فترتد بحركة هذه الكرات العاجلة، ويعجب بنسبها، ويبصر براعم قرمزية مشابهة لبراعم الورد، التي لا تنتظر لتتفتح غير أشعة الشمس المحسنة، ويقبلها بوجد، ويبقى فمه لاصقا بها.
ويعجب فيلسوفنا حينا بقامة فارعة، بقامة هيفاء ناعمة، ويحرقه التوق، فيلقي منديله على حورية، لم يرتد طرفها عن هذا الذي يلوح أنه يقول لها: «علميني السبب في ارتباك لا عهد لي به»، والذي يحمر وجهه، إذ يريد قول هذا، فتبدو أكثر ملاحة ألف مرة، ويفتح الخصي من فوره باب غرفة خاصة بأسرار الغرام، ويدخلها العاشقان، ويقول الخصي لسيده: «ستكون سعيدا هنا»، ويجيب كنديد: «آه! هذا ما أرجو.»
وكان سقف هذه الغرفة الصغيرة وجدرانها مستورة بالمرايا، وكان يوجد في وسطها مضجع راحة من أطلس أسود، ويلقي كنديد عليه الفتاة الكرجية، ويعريها بسرعة لا تصدق، وتدعه هذه الغادة يفعل، ولم تقاطعه إلا لتمن عليه بقبلات حارة، وتقول له بتركية صحيحة: «سيدي، يا لسعادة أمتك! يا لإكرامها بهيجانك!» وتصف جميع اللغات قوة الإحساس في فم من هم مفعمون به، ويفتن هذا الكلام القليل فيلسوفنا، وعاد لا يعي عن وجد، وكان كل ما يرى غريبا عنه، ويا للفرق بين كونيغوند، التي سباها أبطال من البلغار واغتصبوها، والكرجية البالغة من العمر ثماني عشرة سنة من غير أن تغتصب! وكانت هذه أول مرة يتمتع بها الحكيم كنديد، وكان ما يلتهم ينعكس على المرايا، فيرى على الأطلس الأسود في كل جهة يلقي نظره عليها أجمل ما يمكن من الأجسام وأبيضها، فيكتسب بتضاد الألوان رونقا جديدا، ويشاهد فخذين راسختين سمينتين، وهبوط خصر عجيب، ويشاهد ... أراني ملزما باحترام ما تنطوي عليه لغتنا من حياء زائف، وأكتفي بقولي: إن فيلسوفنا ذاق غير مرة ما يمكن أن يذوق من نصيب في السعادة، وإن الفتاة الكرجية أصبحت في قليل زمن داعيه الكافي.
ويصرخ كنديد قائلا من غير وعي: «أي أستاذي، أي أستاذي العزيز بنغلوس، إن كل شيء حسن هنا، كما ورد في إلدورادو، والمرأة الحسناء وحدها هي التي تستطيع أن تقضي أوطار الرجل، وأراني سعيدا ما أمكن، والحق بجانب ليبنتز، وأنت فيلسوف عظيم، ومن ذلك أنني أراهن على كونك تميلين إلى التفاؤل، يا بنيتي المحبوبة.»
وتجيب البنية المحبوبة: «يا حسرتا! كلا، لا أدري ما التفاؤل، ولكنني أقسم لك، إن أمتك لم تعرف السعادة قبل هذا اليوم، وإذا كان مولاي يأذن لي، فإنني أقنعه بأن أقص عليه مغامراتي باختصار.»
فيقول كنديد: «أود ذلك، وأراني من الهدوء ما أستمع معه إلى رواية الأحاديث.»
وهنالك تتناول الأمة الحسناء الكلام، وتأخذ في قول ما يأتي.
الفصل السابع
قصة زيرزا
«كان أبي نصرانيا، وكنت نصرانية كما قال لي، وكان صاحبا لصومعة بالقرب من كوتاتيس، وكان يتمتع فيها باحترام المؤمنين لما عليه من ورع شديد، وتقشف تفزع منه الطبيعة، وكان النساء يأتين إليه جماعات لتكريمه، ويتلذذن تلذذا عجيبا بتبخير خلفه، الذي يبرح به كل يوم بضربات ترويض واسعة، ولا ريب في أنني مدينة بحياتي لواحدة من أتقى هؤلاء، وأنشأ في سرداب قريب من حجرة والدي، وأبلغ الثانية عشرة من سني قبل أن أخرج من هذا القبر، أي: قبل أن تزلزل الأرض مع دوي هائل، وتهبط قباب السرادب، وأنتشل من تحت الأنقاض، وأكون نصف ميتة، حينما رأت عيناي النور للمرة الأولى، ويؤويني والدي إلى صومعته كولد مقدر عليه، ويبدو هذا الحادث للناس أمرا عجيبا، ويعتمد أبي إلى المعجز، وكذلك الناس.» «ويطلق علي اسم زيرزا، ومعنى هذا الاسم في الفارسية «بنت القدرة الربانية»، ولم يلبث الناس أن تحدثوا عن مغرياتي الغالبة، وكان قد قل تردد النساء إلى الصومعة، وكان قد كثر مجيء الرجال إليها، ويقول لي أحد الرجال إنه يحبني، ويقول له أبي: «هل أنت أهل لأن تحبها أيها الفاجر؟ هي وديعة عندي من الرب، والرب قد ظهر لي هذه الليلة في صورة ناسك جليل، ونهاني عن التخلي عنها بأقل من ألفي دينار، فاخرج أيها السائل البائس، لكيلا يفسد نفسك الدنس فتونها»، ويجيب بقوله: «ليس عندي غير قلب، ولكن ألا تخجل أيها الغول من اتخاذ اسم الرب وسيلة لإشباع طمعك؟ وبأي وجه تجرؤ أيها اللئيم، على قولك: إن الرب كلمك؟ إن من إهانة خالق الناس أن يزعم تكليمه لأناس مثلك»، ويصرخ أبي قائلا عن غضب: «يا للتجديف! أمر الرب برجم المجدفين»، ويقتل أبي عاشقي التعس، وهو يقول هذا فيتفجر دمه على وجهي، ومع أنني كنت لا أعرف الغرام، فإن أمر هذا الرجل أهمني، فألقاني قتله في غم، بلغ من العظم ما جعلني لا أطيق النظر إلى أبي، فعزمت على تركه، فأدرك ذلك، وقال لي: «أيتها الكنود، أنت مدينة لي بوجودك، أنت ابنتي ... ثم تكرهينني، ولكني سأستحق حقدك بأشد ما تعاملين به»، ويعمل الظالم بقوله عملا وثيقا! وما كانت السنون الخمس التي قضيتها باكية نائحة، وما كان شبابي وجمالي الكابي لتذهب غضبه، فتارة كان يغرز ألوف الدبابيس في جميع أجزاء بدني، وتارة كان يغمر أليي بالدم وفق نظامه.»
ويقول كنديد: «كان هذا أقل إيلاما من الدبابيس.»
وتقول زيرزا: «حقا يا سيدي، وأخيرا هربت من منزل أبي، وإذ لم أبح لنفسي الاعتماد على أحد، فقد أوغلت في الغاب، حيث قضيت ثلاثة أيام بلا طعام، وكنت أموت جوعا، لولا متنمر كان لي شرف نيل حظوة لديه، فيقاسمني صيده، ولكنني كنت شديدة الخوف من هذا الوحش الهائل، الذي كاد ذات مرة أن يسلبني الزهرة التي اغتصبها مولاي بمشقة كثيرة ولذة كبيرة، وأصاب بداء الحفر عن سوء تغذية، ولم أكد أشفى منه، حتى اتبعت نخاسا مسافرا إلى تفليس، حيث كان يوجد طاعون فأصاب به، وما كانت هذه المصائب الكثيرة لتؤثر في ملامحي مطلقا، وما كانت لتمنع خولي الصفوي من شرائي؛ لتتمتع بي، وقد ضنيت في الدموع منذ ثلاثة أشهر، أي: منذ غدوت في عداد نسائك، وكان يخيل إلي وإلى رفيقاتي أننا محل ازدرائك. آه! لو كنت تعرف يا سيدي، مقدار ما عليه الخصيان من إغاظة وعدم صلاح لتسلية من يزدرى من الفتيات ...» «والخلاصة هي: أنني لما أبلغ الثامنة عشرة من سني، وأنني قضيت اثنتي عشرة سنة منها في سجن كريه مظلم، وأنني عانيت زلزلة، وأنني غمرت بدم أول رجل محبوب لاقيته، وأنني كابدت أقسى العذاب في أربع سنين، وأنني أصبت بداء الحفر وبالطاعون، وقد ضنيت بالأماني بين كتيبة من الغيلان السود والبيض، محافظة - دائما - على ما كنت قد أنقذت من صولات متنمر غير ماهر، لاعنة مصيري، وقد قضيت في هذا القصر ثلاثة أشهر، وكدت أموت من اليرقان لو لم تشرفني - يا صاحب السعادة - بعناقك.»
ويقول كنديد: «رباه! أمن الممكن أن تكوني قد لاقيت مصائب هائلة كهذه في مثل عمرك الناضر؟ وماذا كان يقول بنغلوس لو استطاع أن يسمعك؟ غير أن مصائبك قد انقضت كمصائبي، ولا تسير الأمور سيئة الآن، أليس هذا صحيحا؟» يقول كنديد هذا، مستأنفا ملامساته، مستمسكا بمذهب بنغلوس مقدارا فمقدارا.
الفصل الثامن
اشمئزاز كنديد، لقاء غير منتظر
كان فيلسوفنا في سواء سرايه يقسم ألطافه بالتساوي، فيتمتع بملاذ التقلب، ويعود دائما إلى «بنت القدرة الربانية» مع حرارة جديدة، ولم يدم هذا، فهو لم يلبث أن شعر بأوجاع شديدة في الخصر وبمغص أليم، فكان ينحل إذ يصير سعيدا، وهنالك لم يبد له جيد زيرزا أبيض حسن الوضع، ولم تبد ألياها له جاسئتين ولا سمينتين، وتفقد عيناها كل لمعان في نظر كنديد، وتظهر ملامحها له أقل جمالا، وتظهر له شفتاها القانيتان الفاتنتان ذاويتين، ويحس أنها لا تمشي جيدا، وأنها سيئة الرائحة، ويبصر مشمئزا، أنها ذات شامة على جبل زهرة لم يرها من قبل، وتصبح صولات هواها مزعجة، ويلاحظ ببرودة معايب في النساء الأخرى كانت قد فاتته في صولات هواه الأولى، فلا يرى فيهن غير دعارة شائنة، ويستحي من سيره على غرار أحكم الناس، «فيجده أشد مرارة من موت الزوجة.»
وكان كنديد - المحافظ على المشاعر النصرانية دائما - يتنزه في شوارع سوس حين فراغه، وإليك فارسا لابسا ثيابا فاخرة يعانقه معانقة حارة، وهو يناديه باسمه، فيقول كنديد بصوت عال: «أهذا ممكن؟ أأنت سيدي؟ ... هذا غير ممكن، ومع ذلك فإنك تشابه - مشابهة قوية - الكاهن البريغوري.»
ويجيب البريغوري: «أجل، أنا بعيني.»
وهنالك يتأخر كنديد ثلاث خطوات، ويقول بسذاجة: «أأنت سعيد يا سيدي الكاهن؟»
ويجيب البريغوري: «سؤال جميل، إن الخداع القليل الذي صنعته معك لم يؤد إلى غير جعلي محل اعتماد، فقد استخدمتني الشرطة بعض الزمن، ولكن بما أنني اختلفت معها، فقد خلعت الثوب الإكليريكي، الذي عاد غير نافع لي، وقد مررت بإنكلترة، حيث يجزل عطاء رجال حرفتي، وقد حدثت عن كل ما أعرف وما لا أعرف، وتكلمت عن قوة البلد الذي هجرت وضعفه، وقد قلت موكدا على الخصوص: إن الفرنسيين حثالة الأمم، وإن العقل الرشيد لا يتجلى في غير لندن، وأخيرا نلت ثراء، وأتيت هنا لعقد معاهدة في بلاط فارس تهدف إلى استئصال جميع الأوروبيين، الذين يجيئون للبحث عن القطن والحرير في ممالك الصفوي إضرارا بإنكلترة.»
ويقول فيلسوفنا: «إن غرض بعثتك محمود جدا، غير أنك محتال يا سيدي الكاهن، ولا أحب المحتالين مطلقا، وأتمتع بثقة في البلاط، فارتجف ، فقد بلغت سعادتك نهايتها، وستجازى بما تستحق.»
ويصرخ البريغوري قائلا راكعا: «ارحمني يا سيدي كنديد، لقد سيرت إلى السوء بقوة لا تقاوم، كما سيرت إلى الفضيلة، وقد شعرت بهذا الميل المقدر مذ عرفت مسيو والب، وعملت في الأوراق.»
ويقول كنديد: «وما الأوراق؟»
ويقول البريغوري: «هي كراريس ذات اثنتين وستين صفحة مطبوعة، يخاطب الجمهور فيها بالافتراء والهجو والجلف، وهو رجل صالح، يعرف القراءة والكتابة، وهو إذ لم يستطع أن يبقى يسوعيا مدة ما يريد أخذ يقوم بذلك العمل الظريف الخفيف لينال ما يدفع به ثمن مخرمات زوجته، وينشئ أولاده على خشية الله، ويعد من الصالحين من يساعدون ذلك الرجل الصالح على القيام بمشروعه في مقابل دراهم قليلة وبضع قوارير من خمر بري، وكذلك ينتسب مسيو والب إلى ناد لذيذ، يتلهى فيه بجعل بعض السكارى ينكرون الله، أو باختلاس مسكين عن جعله يحطم أثاثه ودعوته إلى المبارزة بدلا، ويؤتى فيه من النكت الطفيفة ما يدعوه أولئك السادة خدائع، فيستحقون بها انتباه الشرطه، ثم إن مسيو والب - البالغ الصلاح، والقائل إنه لم يحكم عليه بالأشغال الشاقة - غارق في سبات عميق، لا يشعر معه بأقسى الحقائق، ولا يمكن انتشاله منه إلا ببعض الوسائل العنيفة التي يحتملها مسلما، وببسالة تفوق كل ما قد يقال، وقد عملت حينا من الزمن تحت إدارة صاحب هذا القلم المشهور، فأصبحت صاحب قلم مشهور بدوري، فتركت مسيو والب لأقوم بالأمر بنفسي، حينما شرفت بزيارتك في باريس.»
ويقول كنديد: «إنك محتال كبير يا سيدي الكاهن، ولكن إخلاصك ذو تأثير في نفسي، فاذهب إلى البلاط، وتوسل إلى صدر الديوان الأكرم، فسأكتب إليه نفعا لك، على أن تعدني بأن تكون رجلا صالحا، وبألا تسعى في ذبح ألوف الناس من أجل الحرير والقطن»، ويعد البريغوري بكل ما يطلب كنديد، ويفترقان صديقين.
الفصل التاسع
كنديد يفقد حظوته، رحلات، مغامرات
لم يكد البريغوري يصل إلى البلاط، حتى استعمل كل ما لديه من حيلة لاستجلاب الوزارة والقضاء على المحسن إليه، فأذاع أن كنديد خائن، وأنه قال سوءا عن شاربي ملك الملوك، وتحكم الحاشية كلها بأن يحرق شيا، غير أن الصفوي ظهر أكثر تسامحا، فحكم عليه بنفي مؤبد، بعد أن يقبل قدمي الواشي به، وفق عادة الفرس، ويذهب البريغوري لتنفيذ هذا الحكم، فيجد فيلسوفنا متمتعا بصحة جيدة، مستعدا للسعادة، ويقول له سفير إنكلترة: «أي صديقي، لقد جئت آسفا لأنبئك بوجوب الخروج من هذه الدولة مع تقبيل قدمي، مكفرا عما اقترفت من جنايات كبيرة.» - «تقبيل قدميك يا سيدي الكاهن، إنك لا تفكر في هذا بالحقيقة، لا أفقه شيئا من هذه الدعابة.»
فهنالك دخل بعض الصم الذين اتبعوا البريغوري، وخلعوا نعليه من فورهم، ويخبر كنديد بضرورة الخضوع لهذا الخزي، أو أن يوضع على الخازوق، ويتذرع كنديد بحرية إرادته، ويقبل قدمي الكاهن، ويلبس ثوبا رديئا من بز، ويطرده الجلاد من البلد صارخا: «هذا خائن! لقد قال سوءا عن شاربي الشاه.»
وما يصنع الورع غير الرسمي تجاه ما عومل به محميه على هذا الوجه؟ لا أعرف شيئا من هذا، ويغلب على الظن كونه تعب من حمايته كنديد، ومن يستطيع الاعتماد على رعاية الملوك والنساك خاصة؟
ويسير بطلنا حزينا في أثناء ذلك، ويقول في نفسه: «لم أقل قط شيئا عن شاربي ملك الفرس، وأهبط في دقيقة من أوج السعادة إلى حضيض الشقاء؛ لأن لئيما خرق جميع القوانين، فاتهمني بجناية مزعومة، لم أقترفها مطلقا، ثم يغدو هذا الوغد، هذا الغول الباغي على الفضيلة ... سعيدا!»
يصل كنديد إلى حدود تركية بعد مشي بضعة أيام، ويتوجه إلى بحر مرمرة، راجيا الاستقرار بشاطئه، وقضاء بقية أيامه في زراعة حديقته، ويبصر وهو يسير في قرية صغيرة جمعا من الناس في شغب، فيسأل عن العلة والمعلول، فيقول له شيخ: «هذا حادث غريب، وذلك أن الغني محمدا طلب الزواج بابنة الأنكشاري زامود، فلم يجدها عذراء، ويسير على مبدأ طبيعي تجيزه الشرائع، فيعيدها إلى أبيها بعد أن يشوه وجهها، ويشتاط زامود غيظا من هذا العار، فيقطع بالسيف - في سورة غضب طبيعي - رأس ابنته المشوهة الوجه، ويثب عليه ابنه البكر، الذي كان يحب أخته حبا جما - وهذا ما يقع في الطبيعة - فيطعنه - كما تقضي الطبيعة - بخنجره الحاد في بطنه عن غيظ شديد، ثم يبدو زامود الشاب كالأسد الملتهب، إذ يرى سيل دم أبيه، فيطير إلى محمد، ويجندل بعض العبيد اللذين يعترضون في سبيله، ويقتل محمدا ونساءه وصبيين في المهد، وهذ أمر طبيعي في الوضع العصيب الذي كان عليه، ثم ينتحر بعين الخنجر الذي يقطر من دم أبيه وأعدائه، وهذا طبيعي أيضا.»
ويقول كنديد صارخا: «ماذا كنت تقول أيها الأستاذ بنغلوس، لو وجدت هذه الأعمال الوحشية في الطبيعة؟ ألا تعترف حينئذ بأن الطبيعة فاسدة، وأن كل شيء ليس ...»
ويقول الشيخ: «كلا؛ لأن النظام المقدر ...»
ويقول كنديد: «رباه، هل أنا مخدوع؟ هل بنغلوس هو الذي أرى؟»
ويجيب الشيخ: «أنا ذاك، لقد عرفتك، ولكني أردت أن أنفذ في مشاعرك قبل أن أكشف عن نفسي، وبعد فلنتكلم قليلا حول المعلولات العارضة، ولنر هل تقدمت في فن الحكمة؟»
ويقول كنديد: «آه! إنك تسيء اختيار وقتك، فأخبرني بما حدث لكونيغوند، وأين الراهب جيرفله وباكت وبنت البابا أوربان العاشر؟»
ويقول بنغلوس: «لا أعلم، فقد غادرت منزلنا منذ عامين للبحث عنك، وقد طفت في جميع تركية تقريبا، وقد كنت ذاهبا إلى بلاط فارس، حيث نلت ثراء كما بلغني، ولم أبق في هذه القرية الصغيرة بين هؤلاء القوم الصالحين إلا لأسترد شيئا من قوتي، فأداوم على رحلتي.»
ويقول كنديد دهشا: «ما أرى؟ أراك قد خسرت ذراعا يا أستاذي العزيز.»
ويقول الأستاذ الأعور الأبتر: «ليس هذا أمرا يذكر، فلا شيء أقرب إلى الطبيعة في أحسن العوالم من أن يرى أناس عور بتر، وقد أصبت بهذا الحادث في رحلة إلى مكة، فقد هجم على قافلتنا جمع من العرب، ويريد حرسنا المقاومة، ويظهر العرب أشد بأسا، فيقتلوننا جميعا بلا رحمة، ويهلك في هذا القتال نحو خمسمائة نفس، كان بينهم اثنتا عشرة حاملا، وأما أنا فقد سلع رأسي وبترت ذراعي، ولم أمت من هذا، فوجدت أن كل شيء يسير على أحسن ما يكون دائما، وأنت يا كنديدي العزيز، ما دهاك حتى أراك ذا ساق من خشب؟»
وهنالك تناول كنديد الكلام وروى خبر مغامراته، ويعود فيلسوفانا إلى شاطئ بحر مرمرة معا، ويسيران على الطريق مسرورين متحاورين حول الشر المادي والشر الأدبي، وحول الإرادة والقدر، وحول الذرات الحية والنظام الأزلي.
الفصل العاشر
وصول كنديد وبنغلوس إلى شاطئ بحر مرمرة، ما رأيا وما وقع لهما
قال بنغلوس: «أي كنديد! لم تعبت من زراعة حديقتك؟ لم لا نأكل ترنجا مرببا وفستقا؟ لم سئمت سعادتك؟ فبما أن كل شيء ضروري في أحسن العوالم، وجب أن تعاني ضرب العصا أمام ملك فارس، وأن تقطع ساقك، لتجعل خوزستان سعيدة، وأن يبتلى كنود الناس، وأن ينال بعض الأشرار ما يستحقون من عقاب.»
وبينا هما يتكلمان هكذا، وصلا إلى منزلهما القديم، وكان أول ما وقف نظرهما رؤيتهما مارتن وباكت لابسين ثياب العبيد، ويقول لهما كنديد بعد أن عانقهما عناق حنان: «من أين أتى هذا التحول؟»
ويجيبان مع شهيق: «آه! عدت لا تكون صاحب منزل، فقد فوض إلى آخر أن يزرع حديقتك، وهو يأكل ترنجك وفستقك، وهو يعاملنا كما يعامل الزنوج.»
ويقول كنديد: «ومن هذا الآخر؟»
ويقولان: «هو أمير البحر، وهو أقل الناس إنسانية؛ وذلك أن السلطان أراد أن يكافئه على خدمه من غير أن يكلفه هذا شيئا، فصادر جميع أموالك، متذرعا بذهابك إلى الأعداء، وحكم علينا بالرق.»
ويضيف مارتن إلى هذا قوله: «والآن يا كنديد، داوم على طريقك، فما فتئت أقول لك: إن كل شيء يسير على أسوأ ما يكون، ويزيد حاصل الشر على حاصل الخير كثيرا، وسافر، ولا أيأس من أن تصبح مانويا إن لم تكنه حتى الآن.»
وأراد بنغلوس أن يبدأ بإقامة دليل شكلا، غير أن كنديد قاطعه؛ ليسأل عن أخبار كونيغوند والعجوز والراهب جيرفله وككنبو، ويجيب مارتن: «فأما ككنبو فهو هنا، وهو يعمل الآن في تنظيف بالوعة، وأما العجوز فقد ماتت بركلة خصي في صدرها، وأما الراهب جيرفله فقد دخل سلك الأنكشارية، وأما كونيغوند فقد استردت جميع سمنها وجمالها، وهي الآن في سراي سيدنا.»
ويقول كنديد: «يا لها من مصائب متسلسلة! أوجب أن تعود كونيغوند حسناء حتى تجعلني ديوثا!»
ويقول بنغلوس: «لا ضير في أن تكون كونيغوند حسناء أو شوهاء، وأن تكون بين ذراعيك أو ذراعي غيرك، فلا يؤثر هذا في النظام العام، وأما أنا فأتمنى لها ذرية كثيرة، ولا يبالي الفلاسفة بمن يضع النساء له أولادا على أن يلدن، فالأهلون ...»
ويقول مارتن: «آه! يجدر بالفلاسفة أن يعنوا بجعل أناس قليلين سعداء، أكثر من حمل الناس على تكثير النوع الوجع ...»
وبينما كانوا يتحادثون سمعوا ضجيجا، فقد كان أمير البحر يتلهى بمشاهدته ضرب اثني عشر عبدا على ألياتهم، ويذعر كنديد وبنغلوس، فينفصلان عن أصدقائهما دامعي الأعين، سالكين طريق الآستانة بأسرع ما يمكن.
وفي الآستانة يجدان جميع الناس في هرج، فقد كانت النار مشتعلة في ضاحية بك أوغلي، وكانت النار قد التهمت ما بين خمسمائة من المنازل وستمائة، وهلك بين اللهب ما بين ألفي إنسان وثلاثة آلاف إنسان.
ويصرخ كنديد: «يا لها من بلية هائلة!»
ويقول بنغلوس: «كل شيء حسن، فمثل هذه الحوادث الصغيرة مما يقع كل عام، ومن الطبيعي أن تلتهم النار ما هو خشبي من المنازل، وأن تحرق من يكون فيها، ثم إن هذا يسفر عن وسائل لبعض ذوي الصلاح الذين يضنون بؤسا ...»
ويقول أحد موظفي الباب العالي: «ما أسمع؟ كيف تجرؤ أن تقول أيها الشقي إن كل شيء حسن، على حين يحترق نصف الآستانة؟ اذهب أيها الكلب، الذي لعنه النبي، اذهب إلى حيث تلقى جزاء وقاحتك!»
يقول هذا، ويمسك بنغلوس من وسطه ويلقيه في اللهب، ويكاد كنديد يموت خوفا، فيجرر نفسه ما استطاع إلى حي مجاور، حيث كل شيء أكثر هدوءا، وحيث نرى ما حدث له، كما في الفصل الآتي.
الفصل الحادي عشر
يداوم كنديد على رحلته، وبأية صفة
يقول فيلسوفنا: «لم يبق لي غير الاختيار بين أن أكون عبدا وأن أكون تركيا، فقد تخلت السعادة عني إلى الأبد، وتفسد العمامة علي جميع ملاذي، وأجدني عاجزا عن التمتع براحة بال في دين مملوء خداعا، فلا أدخله إلا عن منفعة حقيرة، كلا، لا أرضى بالانقطاع عن كوني رجلا صالحا، فلأكن عبدا إذن.»
فلما اتخذ كنديد قراره هذا أخذ ينفذه، فاختار تاجرا أرمنيا سيدا له، وكان هذا الأرمني حسن الخلق، وكان يعد فاضلا ما استطاع الأرمني أن يكونه، ويدفع إلى كنديد مائتي سكوين ثمنا لحريته، وكان الأرمني قد أخذ أهبته للسفر إلى النرويج، فجلب معه كنديد، راجيا أن يكون لفيلسوف مثله نفع له في تجارته، ويبحران، وتكون الريح من الموافقة ما يقضيان معه نصف المدة المعتادة لقطع هذه المسافة، حتى إنهما لم يحتاجا إلى ابتياع هواء من اللابون السحرة، مكتفيين بتقديم بعض الهدايا إليهم، خشية تعكيرهم حسن طالعهما برقيات تعكيرا يصابان به أحيانا إذا ما صدق قاموس موريري.
ولم يكادا ينزلان إلى البر، حتى تزود الأرمني من دهن الحوت، وأوعز إلى فيلسوفنا أن يطوف في البلد ليشتري له سمكا جافا، ويقوم بما أوصي به خير قيام، ويعود مع كثير من الأيائل المحملة من هذه البضاعة، وهو يفكر تفكيرا عميقا في الفرق العجيب بين اللابون وغيرهم من الناس، وتتمنى له لابونية نهارا سعيدا بلطف لا حد له، لابونية بالغة القصر ذات رأس أضخم من جسمها قليلا، وذات عينين حمراوين ملتهبتين، وذات أنف أفطس وفم عريض إلى الغاية.
وتقول له هذه المخلوقة البالغة من الطول قدما وستة قراريط: «أجدك فاتنا يا سيدي الصغير، فتفضل علي بقليل غرام.» قالت اللابونية هذا وأخذت تعانقه، فدفعها كنديد مشمئزا، فصاحت، فحضر زوجها مع كثير من اللابون، ويقول هؤلاء: «ما سبب هذا الضجيج؟»
وتقول القصيرة: «إن هذا الأجنبي ... آه! أختنق ألما، يزدريني.»
ويقول الزوج اللابوني: «أدرك، أيها الجلف الفظ الغليظ القبيح النذل الوغد، أنت تشين منزلي، أنت تصيبني بأعظم خزي، أنت ترفض أن تضاجع زوجتي.»
ويصرخ بطلنا قائلا: «يرميني بثالثة الأثافي، إذن ماذا كنت تقول لو ضاجعت زوجك؟»
ويقول اللابوني غاضبا: «كنت أتمنى لك كل هناءة، ولكنك لا تستحق غير سخطي.» قال هذا، وهو يجرب عصاه على ظهر كنديد بلا رحمة، ويقبض على الأيائل من قبل أقرباء الزوج المهان، ويفر كنديد خشية ما هو شر من هذا، وعدولا عن مولاه الصالح إلى الأبد، وإلا كيف يمثل بين يديه بلا نقد ولا دهن حوت ولا أيائل؟
الفصل الثاني عشر
يداوم كنديد على أسفاره، مغامرات جديدة
سار كنديد طويلا من غير أن يعرف أين يذهب، وأخيرا عزم على قصد الدنيمارك، حيث تسير الأمور على ما يرام كما سمع، وكان حائزا قطعا قليلة من النقود، قدمها الأرمني إليه، فطمع أن يرى خاتمة رحلته بهذا المبلغ الضئيل، ويجعل الأمل بؤسه محتملا، فيقضي أويقات طيبة، ويكون في فندق - ذات يوم - مع ثلاثة سياح، فيحدثونه بحرارة عن الهيولى والمادة اللطيفة، فيقول في نفسه: «حسنا، هؤلاء فلاسفة»، ويقول لهم: «إن الهيولى أمر لا مراء فيه يا سادتي، فلا فراغ في الطبيعة، ويمكن تصور المادة اللطيفة جيدا.»
ويقول له السياح الثلاثة: «إذن، أنت على مذهب ديكارت.»
ويقول كنديد: «نعم، وعلى مذهب ليبنتز أكثر من ذلك.»
ويجيبه الفلاسفة قائلين: «يا لسوء ما أنت عليه! إن ديكارت وليبنتز خاليان من حسن التمييز، وأما نحن فعلى مذهب نيوتن، ونفاخر بهذا، وإذا كنا نتجادل فلتقوية مشاعرنا أحسن من قبل، فكلنا على رأي واحد، ونحن ننشد الحقيقة، مقتفين أثر نيوتن، عن قناعة بأنه رجل عظيم ...»
ويقول كنديد: «قولوا مثل هذا عن ديكارت وليبنتز وبنغلوس، فهؤلاء العظماء يساوون غيرهم.»
ويجيب الفلاسفة قائلين: «أنت وقح يا صديقنا، أتعرف سنن الانحراف والجاذبية والحركة؟ أقرأت الحقائق التي رد بها الدكتور كلارك على أوهام ليبنتزك؟ أتعلم معنى القوة الدافعة والقوة الجاذبة؟ أتدري أن الألوان تتوقف على الكثافات؟ ألديك بعض الاطلاع على نظرية الضياء والتجاذب؟ أعندك وقوف على دور ال 25920 سنة، الذي لا يطابق تاريخ الحوادث؟ كلا، لا ريب، إذ ليس عندك غير أفكار مختلة عن هذه الأمور. إذن، صه أيتها الذرة الحية الحقيرة، واجتنب شتم العمالقة بقياسهم بالأقزام.»
ويجيب كنديد: «لو كان بنغلوس هنا يا سادتي، لحدثكم عن أمور رائعة؛ وذلك لأنه فيلسوف عظيم، وهو شديد الازدراء لنيوتنكم، وبما أنني تلميذ له، فإنني أكون على رأيه أيضا.»
ويشتاط الفلاسفة غيظا، فينقضون على كنديد، ويضربونه ضربا مبرحا فلسفيا جدا.
ويذهب عنهم الغضب، ويطلبون عفو بطلنا عن شدتهم، وهنالك يتناول الكلام أحدهم، ويحسن القول عن الحلم والاعتدال.
وبينما كان يتكلم، مرت جنازة فخمة، فاتخذها فلاسفتنا فرصة للحديث حول بطل الناس السخيف، فقال أحدهم: «أليس من الأصوب أن يقتصر أقرباء الميت وأصدقاؤه على حملهم التابوت المقدر بأنفسهم من غير موكب ولا ضوضاء؟ ألا يؤدي هذا العمل المأتمي - حين يوحي إليهم بفكرة الموت - إلى أشفى الآثار وأكثر المعلولات الفلسفية؟ ألا يسفر التأمل القائل: «إن هذه الجثة التي أحملها، هي جثة صديقي أو قريبي الذي عاد غير موجود، ولا بد من أن أصير إلى ما صار إليه»، عن نقص الإجرام في هذه الكرة الشقية، وعن رد من يعتقدون خلود الروح إلى الفضيلة؟ إن الناس شديدو الميل إلى إقصائهم عن أنفسهم فكرة الموت، فلا يودون أن تلوح لهم صور قوية عنه، ولم إقصاء الأم الباكية أو الزوج الباكي عن هذا المنظر؟ إن في نبرات الطبيعة النائحة، وفي صيحات القنوط الثاقبة تكريما لرفات الميت أكثر من جميع أولئك اللابسين ثيابا سودا من رءوسهم إلى أرجلهم مع نادبات نكدات، ومن جمع الكهنة الذين يرتلون فرحين ما لا يفقهون من الأدعية.»
ويقول كنديد: «هذا قول حسن، ولو كنت تتكلم بمثله دائما من غير أن تضرب الناس لغدوت فيلسوفا عظيما.»
ويفترق سياحنا بإشارات ود واعتماد، وإذ يتوجه كنديد نحو الدنمارك دائما، فإنه يوغل في الغاب، متمثلا جميع المصائب التي أصيب بها في أصلح العوالم، ويزيغ عن الطريق العامة ويتيه، وكانت الشمس تميل إلى الغروب حينما تبين خطأه، وتعوزه الشجاعة، ويرفع بطلنا عينيه إلى السماء حزينا، مستندا إلى ساق شجرة، وينطق بما يأتي: «لقد طفت في نصف العالم، فأبصرت انتصار الغدر والافتراء، ولم أحاول غير خدمة الناس، فاضطهدت، وأكرمني ملك عظيم بحظوة وبخمسين ضربة سوط، وأصل إلى ولاية رائعة بساق واحدة، فأتمتع فيها بلذات، بعد أن ذقت العلقم والغم، ويأتيني كاهن فأحميه، ويلج في البلاط بواسطتي، ثم أحمل على تقبيل قدميه ... ثم ألقى بنغلوس المسكين، وكان هذا، لأراه يحرق ... وأجدني بين فلاسفة، بين هؤلاء الحيوانات الذين يعدون أكثر من على الأرض حلما واعتدالا، فيضربونني بلا رأفة، ومع ذلك فإن كل شيء صواب؛ لأن بنغلوس قال هذا، ومع ذلك فإنني أتعس من في العالم.»
وتقطع تأملات كنديد بصوت حاد خارج من مكان قريب كما يلوح، ويتقدم عن فضول، فيرى فتاة تنتف شعرها عن يأس شديد، فتقول له: «كن من شئت، فاتبعني إذا كنت ذا قلب.»
ويسيران معا، ولم يكادا يمشيان خطوات قليلة حتى شاهد كنديد رجلا وامرأة مستلقيين على العشب، وتدل سيماهما على شرف نفسهما وكرم أصلهما، وتنم ملامحهما - مع ما اعتراهما من تشويه بفعل ما يعانيان من ألم - على أمر يقف النظر كثيرا، فلم يستطع كنديد أن يمنع نفسه من التوجع لهما، ومن السؤال بلهف عن علة تحولهما إلى هذه الحال المحزنة، فتقول الفتاة: «إن اللذين ترى هما والدي»، وتلقي الفتاة نفسها بين ذرعانهما مواصلة قولها: «أجل، إنهما سبب أيام بؤسي، وقد فرا اجتنابا لشدة حكم ظالم، وقد فررت معهما راضية كل الرضا عن مقاسمتي شقاءهما، ظانة أنني أستطيع أن أكسب بيدي الضعيفتين ما يحتاجان إليه من غذاء في البراري التي نجوبها، ونقف هنا لننال قسطا من الراحة، وأكتشف هذه الشجرة التي ترى، وأخدع بثمرها ... آه يا سيدي، إنني أكره العالم كما أكره نفسي، ولتتسلح ذراعك انتقاما للفضيلة المهانة، عقابا لمن قتلت والديها! اضرب ... هذه الثمرة ... قدمت منها إلى أبي وأمي، فأكلا ما قدمت طيبي الخاطر، وسررت بالوسيلة التي وجدتها، لإطفاء عطشهما الشديد الذي كان يؤلمهما ... يا لشقوتي! الموت هو الذي عرضته عليهما، هذه الثمرة سم.»
اقشعر جلد كنديد، وسال عرق بارد على بدنه من هذه القصة، وقف شعر رأسه، وبادر بمقدار ما يسمح له وضعه لإسعاف هذه الأسرة التعسة، بيد أن السم تقدم فعله، وما كان أشفى ترياق ليقف النتيجة المشئومة.
ويقول الأبوان المحتضران بصوت عال: «بنتنا العزيزة، أملنا الوحيد! اغفري لنفسك كما نغفر لك، فالحنان البالغ هو الذي ينزع حياتنا ... وأنت أيها الغريب الكريم، تفضل بالتفاتك إليها، فهي عزيزة النفس، محبة للفضل، وهي وديعة، نتركها بين يديك، عادين إياها أثمن من ثروتنا الماضية بمراحل ... أي زنوئيد العزيزة، تقبلي آخر قبلاتنا، وامزجي دموعك بدموعنا. آه! رباه، يا لفتون هذه الأويقات عندنا! لقد فتحت لنا باب السجن المظلم، الذي ما فتئنا نضنى فيه منذ أربعين عاما. أي زنوئيد الحنون نباركك، وهل يمكن ألا تنسي مطلقا ما أملاه حذرنا عليك من دروس، وهل يمكن أن تحفظك هذه الدروس من الورطات، التي نكاد نبصر حدوثها تحت قدميك!»
فاضت روحهما بعد أن نطقا بهذه الكلمات الأخيرة، ولقي كنديد عناء كبيرا في رد زنوئيد إلى صوابها، وكان القمر ينير هذا المنظر المؤثر، وطلعت الشمس قبل أن تملك زنوئيد الغارقة في الغم والحزن حواسها، فلما فتحت عينيها التمست من كنديد أن يحفر قبرا لدفن الجثتين، حتى إنها أعانته بعزم عجيب.
ولما قاما بهذا الواجب، بكت بكاء شديدا، ويبعدها فيلسوفنا من هذا المكان المشئوم، ويسيران طويلا على غير هدى، ويبصران أخيرا كوخا صغيرا واقعا في البرية، يسكنه زوجان مسنان، مستعدان لتقديم كل مساعدة - ضمن طاقتهما الضعيفة - إلى إخوانهما الذين يرثى لهم، وكان ذانك الشائبان مثلما يوصف به فيليمون وبوسيس لنا؛ وذلك أنهما كانا يتمتعان منذ خمسين سنة بلطائف الزفاف مع عدم معاناة لمرارته مطلقا، أي كانا يتمتعان بصحة تامة ناشئة عن القناعة وراحة البال، وبطباع لينة بسيطة، وبكنز من الخلق الصادق لا يفنى، وبجميع الفضائل التي يكون الإنسان مدينا بها لنفسه وحدها، أي بهذه المقومات التي يتألف منها ما أنعم الرب عليهما به من نصيب، وينظر إليهما بعين الاحترام بين الأكواخ الأخرى، التي تغمر ساكنيها سذاجة مباركة، فكانوا يعدون من ذوي الصلاح لو كانوا من الكاثوليك، وكانوا يرون من الواجب ألا يعوز شيء أغاتون وسونام «وكان الزوجان يسميان بهذين الاسمين»، فشمل إحسان هذين ذينك الطارئين.
ويقول كنديد: «آه! إن من الخسر العظيم أن أحرقت يا بنغلوسي العزيز! لقد كنت على حق، ولكن ليس كل شيء خيرا في جميع أجزاء أوروبا وآسيا التي طفت فيها معك، بل في إلدورادو التي يتعذر الوصول إليها، وفي كوخ صغير واقع في أبرد مكان في العالم وأجدبه وأوحشه، ويا لمسرة أفوز بها لو كنت أسمعك تتكلم هنا عن النظام المقدر والذرات الحية! أجل، أود لو أقضي بقية حياتي بين هؤلاء اللوثريين الصالحين، ولكن هذا يقضي بأن أعدل عن حضور القداس، وبأن أعرض لقدح الجريدة النصرانية في.»
وكان كنديد كثير الشوق إلى معرفة مغامرات زنوئيد، ولم يبين لها رغبته هذه عن حذر، وتلاحظه، فتملأ فارغ صبره بحديثها الآتي.
الفصل الثالث عشر
قصة زنوئيد، كيف صار كنديد عاشقا لها، ونتائج ذلك
«إني سليلة أحد البيوت العريقة في الدنمارك، وقد هلك أحد أجدادي من تلك الوجبة التي أعد بها الشرير كرستيرن هلاك كثير من السناتيين، ولم تسفر الثروات والمقامات التي كدست في أسرتي حتى الآن عن غير تعساء مشهورين، وكان أبي من الجرأة ما غاظ معه أحد ذوي السلطان بما أقدم عليه من قول الحقيقة له، فأقيم له متهمون لتسويد صفحته بجرائم خيالية كثيرة، ويضل القضاة، وي! أي قاض يستطيع أن يتفلت في كل وقت من الأشراك التي ينصبها الافتراء للبراءة؟ ويحكم على والدي بقطع رأسه على النطع، وبما أن الفرار يمكن أن يقيه من الهلاك، فقد التجأ إلى صديق، كان يعتقد أنه أهل لهذا الاسم الجميل، ونبقى حينا من الزمن مختفين في قصر يملكه على شاطئ البحر، وكنا نظل مقيمين به لو لم يسئ هذا الطاغي استعمال ما نحن عليه من سوء حال، فيرغب في بيع خدمه بثمن يجعلنا ننظر إليها بعين الازدراء؛ وذلك أن نفس هذا القبيح سولت له أن يفجر بي وبأمي، فحاول الاعتداء على عفتنا بوسائل تعد أبعد ما يكون من الرجل الصالح، فرأينا أننا مضطرون إلى تعريض أنفسنا لأفظع الأخطار اجتنابا لبهيميته، فهربنا للمرة الثانية، وأنت تعرف البقية.»
فرغت زنوئيد من هذه القصة، وبكت مجددا، فمسح كنديد دموعها، وقال لها مسليا: «أيتها الآنسة، إن كل شيء على أحسن ما يكون، فلو لم يمت السيد والدك مسموما لكشف مكانه وقطع رأسه لا محالة، ولماتت أمك حزنا على ما يحتمل، وما كنا في هذا الكوخ الحقير، حيث يقع كل شيء خيرا مما في أجمل ما يمكن من القصور.»
وتجيب زنوئيد قائلة: «آه! يا سيدي، لم يقل لي والدي إن كل شيء على أحسن ما يكون، وكلنا ملك لرب يحبنا، ولكنه لم يرد أن يبعد عنا الهموم التي تلتهمنا، والأمراض التي تقسو علينا، وما لا يحصيه عد من الشرور التي تحزن الإنسانية، وفي أمريكة ينمو السم بجانب الكينا، ويسكب أسعد الناس دموعا، وينشأ عن اختلاط المسار والأكدار ما يسمى الحياة، أي: برهة الزمن المعينة البالغة من الطول عند الحكيم ما يجب معه أن تستعمل دائما فيما فيه خير المجتمع، الذي يتمتع فيه بما صنع الرب القادر من غير أن يبحث بسخافة عن علله، وفي تنظيم الإنسان لسيره وفق ما يوحي إليه ضميره، وفي احترام الإنسان دينه على الخصوص، فيكون كثير السعادة باتباع تعاليمه.» «ذلك ما كان يقول لي أبي الجليل غالبا، وكان يضيف إلى ذلك قوله: ويل للكتاب المتهورين الذين يحاولون اكتناه أسرار الرب القادر، فحول مبدأ يريد الرب أن يمجد به من قبل ألوف الذرات التي أنعم عليها بالحياة، جمع الناس بين الأوهام المضحكة والحقائق المكرمة، فيعبد الدرويش في تركية والبرهمني في فارس والبنز في الصين والتلبوان في الهند ربهم على وجوه مختلفة، ويتمتع هؤلاء - مع ذلك - براحة بال فيما هم غارقون فيه من ظلمات، فمن يحاول نفض الغبار عن هؤلاء لا يخدمهم بشيء، وليس من حب الناس أن ينزعوا من سلطان المبتسرات.»
1
ويقول كنديد: «إنك تتكلمين مثل فيلسوف، فهل أقدم على سؤالك عن دينك أيتها الآنسة الحسناء؟»
وتجيب زنوئيد: «لقد نشئت على اللوثرية، وهذه هي ديانة بلدي.»
ويواصل كنديد قوله: «ينطوي كل ما قلته على قبس من نور أثر في، وقد ملأت نفسي تقديرا لك وإعجابا بك ... وكيف أمكن مثل هذا الذهن أن يستقر بمثل هذا البدن الرائع؟ والواقع أيتها الآنسة، أنني أقدرك، وأعجب بك إلى درجة ...»
ويلجلج كنديد ببضع كلمات أخر، وتبصر زنوئيد ارتباكه، وتتركه مجتنبة بعد الآن أن تكون وحدها معه، ويسعى كنديد بين أن يكونا وحدهما أو أن يكون وحده تماما، ويغرق في سوداء فاتنة له، فقد أولع بزنوئيد، وأراد إخفاء هذا، وكانت نظراته تنم على سر فؤاده، وقد قال: «آه! لو كان بنغلوس هنا لأحسن نصيحتي، فقد كان فيلسوفا عظيما!»
الفصل الرابع عشر
دوام غرام كنديد
كانت سلوى كنديد الوحيدة التي يذوقها محمولا على الاكتفاء بها، هي أن يتحدث إلى زنوئيد الحسناء بحضرة مضيفيهما، وقد قال لها ذات يوم: «كيف احتمل الملك الذي كنتم تزدلفون إليه وقوع الظلم على آلك؟ لديك من الأسباب ما يجعلك تبغضينه.»
وتقول زنوئيد: «وي! من ذا الذي يبغض ملكه؟ ومن ذا الذي يستطيع ألا يحب القابض على زمام الأحكام؟ يعد الملوك صورا حية للألوهية، ولا ينبغي لنا أن ندين سلوكهم مطلقا، وتعد الطاعة والاحترام نصيب الرعايا الصالحين.»
ويجيب كنديد: «يزيد إعجابي بك أيتها الآنسة، وهل تعرفين ليبنتز العظيم، وبنغلوس العظيم الذي أحرق بعد أن كان الشنق قد أخطأه؟ وهل تعرفين الذرات الحية والمادة اللطيفة والأعاصير؟»
وتقول زنوئيد: «كلا يا سيدي، فلم يحدثني أبي عن هذه الأمور قط، وإنما ألقى علي لمحة من الفيزياء التجربية، وعلمني ازدراء جميع أنواع الفلسفات التي لا تؤدي إلى سعادة الإنسان رأسا، والتي تلقي عليه مبادئ مختلة عن واجبه نحو نفسه ونحو الآخرين، والتي لا تعلمه - مطلقا - كيف ينظم أوضاعه، والتي لا تملأ نفسه بغير كلمات جافية وفرضيات جريئة، والتي لا تمن عليه بأي فكر عن صانع المخلوقات أوضح مما يناله مما خلق، ومن العجائب التي تقع كل يوم أمامه.»
ويقول كنديد: «أكرر قولي إنني أعجب بك أيتها الآنسة، فأنت تسحرين قلبي، وتسلبين لبي، وأنت ملك أرسله الرب إلي لإنارة بصيرتي حول سفسطات الأستاذ بنغلوس، يا لي من حيوان مسكين سابقا! يا لاعتقادي أن كل شيء على أحسن ما يكون، بعد أن قاسيت عدة ركلات على أليي، وضربات عصا على كتفي، وضربات سوط على باطن رجلي، وبعد أن عانيت زلزلة، وبعد أن حضرت شنق الدكتور بنغلوس، وشاهدت إحراقه حديثا، وبعد أن اغتصبت اغتصابا شائنا من قبل دميم فارسي، وبعد أن سلبت من قبل صدر الديوان، ورضضت من قبل فلاسفة!» «آه! لقد خاب أملي، ومع ذلك، فإن الطبيعة لم تبد لي بمثل جمالها منذ رأيتك، فجوقات الطيور الريفية تشنف أذني بأنغام لا عهد لي بها، وكل شيء ينتعش، ويلوح طلاء الإحساس الذي يفتنني ذا أثر في جميع الأشياء، ولا أشعر بذلك الفتور الناعم الذي كنت أحسه فيما كان لي من حدائق بسوس، فما توحين به إلي يختلف عن ذلك اختلافا تاما.»
وتقول زنوئيد: «لنكف عن الحديث، فقد تؤذي بقية خطابك رقتي، التي يجب احترامها.»
ويقول كنديد: «سأسكت، ولكن ناري لا تزيد إلا سعيرا»، نطق بهذه الكلمة ناظرا إلى زنوئيد، فأبصر وجهها يحمر، وتمثل أحلى الأماني مثل رجل خبير.
وتجتنب الفتاة الدنماركية تعقب كنديد لها بعض الزمن أيضا، وبينا كان يتنزه ذات يوم بخطا واسعة في حديقة مضيفيه إذ صرخ عن وجد غرامي قائلا: «آه! لو كانت عندي كباشي التي أتيت بها من بلد إلدورادو الصالح! لم أعجز عن شراء مملكة صغيرة؟! آه، لو كنت ملكا! ...»
ويقول صوت يصمي قلب فيلسوفنا: «ما تجعلني؟»
ويقول كنديد راكعا: «أنت هنا يا زنوئيد الحسناء! كنت أظنني وحدي، إن ما نطقت به من كلام قليل يضمن لي السعادة التي أصبو إليها كما يلوح، لن أكون ملكا، ولا غنيا على ما يحتمل، ولكن لو تحبينني ... لا تحولي عني هاتين العينين المملوءتين فتونا، فلأقرأ فيهما اعترافا يستطيع وحده أن يشفي غلتي، أي زنوئيد الحسناء، أعبدك، فافتحي باب الرحمة من فؤادك ... ما أرى؟ أنت تسكبين دموعا! آه! إنني سعيد جدا!»
وتقول زنوئيد: «أجل، إنك سعيد، ولا شيء يلزمني بكتم حناني عمن أعتقد أنه أهل له، إنك لم ترتبط في مصيري حتى الآن إلا بروابط إنسانية، وقد حل الوقت الذي نوثق فيه هذه الروابط بروابط أقدس منها، وقد استشرت نفسي، وعليك أن تنظر في الأمر مليا من ناحيتك، فتمثل - على الخصوص - كونك - إذا ما تزوجتني - ألزمت نفسك بحمايتي، وبتخفيف بؤسي الذي لا يزال الطالع محتفظا لي به على ما يحتمل، ومقاسمتي هذا البؤس.»
ويقول كنديد: «أتزوجك! تدلني هذه الكلمة على الغفلة في سلوكي، آه! يا معبودة حياتي العزيزة، إنني لا أستحق كرمك، فلم تمت كونيغوند ...» - «ومن كونيغوند؟»
ويجيب كنديد بسذاجته المعهودة: «إنها زوجتي.»
بقي العاشقان بضع دقائق صامتين، وكانا يودان الكلام، فيتلاشى الكلام على شفاههما، وتغرورق أعينهما، ويمسك كنديد بيديه يدي زنوئيد، ويشدهما على فؤاده، ويلتهمهما تقبيلا، ويجرؤ على وضع يديه فوق صدر خليلته، ويحس أنها تتنفس بصعوبة، ويطير روحه إلى فمها، ويلصق فمه بفم زنوئيد، فيعود بذلك وعي الدنماركية الحسناء إليها، ويظن كنديد أنه يبصر عفوها مكتوبا على عينيها الجميلتين، وتقول له: «أي عاشقي العزيز، إن كدري يدفع ما يسمح به فؤادي من هياج دفعا سيئا، قف إذن، فأنت تضيعني في نظر الناس، وستكون قليل الحب لي إذا ما صرت هدف ازدرائهم، قف واحترم ضعفي.»
ويقول كنديد صارخا: «كيف! ذلك لأن العامي الغبي يقول: إن فتاة تهتك سترها بجعلها سعيدا من تحبه ويحبها، وذلك بسلوكها سبيل الطبيعة الناعم الذي هو في أيام الشباب ...»
ولن نروي جميع هذا الحديث الممتع، وإنما نكتفي بأن نقول: إن بلاغة كنديد التي زخرفت بتعابير الغرام، كان لها أبلغ أثر مأمول في فيلسوفة فتاة حنون.
ولسرعان ما تحولت إلى نشوة دائمة أيام هذين العاشقين التي قضيت في الماضي بين الهم والسأم، فتجري في عروقهما عصارة النعيم اللذيذة، ويحملهما سكون الغاب، والجبال المكسوة بالعوسج والمحاطة بالهوى، والسهول الجامدة والحقول القاحلة المجاورة، على الاعتقاد التدريجي بتحابهما. أجل، لقد عزما على عدم ترك هذه العزلة الهائلة، غير أن القدر لم يتعب بعد من اضطهادهما، كما نرى ذلك في الفصل الآتي.
الفصل الخامس عشر
وصول فلهل، سفر إلى كوبنهاغ
كان كنديد وزنوئيد يتحاوران حول صنع الرب، وما يجب على الناس من عبادته، وحول الواجبات التي تربط بعضهم ببعض، ولا سيما الصدقة التي هي أنفع فضائل العالم، وما كانا ليكتفيا بالكلام الفارغ الخلاب، فقد كان كنديد يعلم الفتيان ما يجب من احترام لأحكام القانون المقدسة، وكانت زنوئيد تعلم الفتيات ما يجب عليهن نحو آبائهن وأمهاتهن، وكان الاثنان متفقين على إلقاء بذور الدين الخصيبة في الأذهان الناشئة، وبينا كانا يقومان بهذه الأعمال الدينية ذات يوم، أنبأت سونام زنوئيد بوصول شريف شائب مع خدم كثير للبحث - لا ريب - عن زنوئيد الحسناء، نظرا إلى الأوصاف التي ذكرها لها، ويتبع هذا الشريف سونام عن كثب، ويدخل في الوقت نفسه تقريبا مكان وجود زنوئيد وكنديد.
ويغشى على زنوئيد عندما رأته، ولكن بما أن فلهل لم يتأثر بهذا المنظر المؤثر، فإنه أمسكها بيده، وجذبها بعنف أعاد وعيها إليها، ولم يكن هذا إلا لتسكب سيلا من الدموع. ويقول لها بابتسامة لاذعة: «أي بنت أخي، لقد لقيتك ضمن عشرة ناعمة، ولا أحار من تفضيلك إياها على الإقامة بالعاصمة، في بيتي، بين آلك.»
وتجيب زنوئيد: «أجل يا سيدي، إنني أفضل الأماكن العامرة بالبساطة وحسن السريرة على مقر الخيانة والخديعة، ولن أرى إلا بنفور ذلك المحل الذي بدأت فيه مصائبي، ذلك المحل الذي قامت فيه أدلة كثيرة على سوء أخلاقك، ذلك المحل الذي ليس فيه أهل سواك.»
ويجيب فلهل بقوله: «تفضلي باتباعي ولو أغمي عليك مرة أخرى.» قال هذا، جارا إياها، آمرا بأن تركب محملا أعد لها، ولم يكن لديها من الوقت غير ما تقول فيه لكنديد أن يتبعها، وغير ما تشكر فيه لمضيفيها، واعدة بأن تكافئهما على قراهما الجميل.
ويرق أحد خدم فلهل للألم الشديد الذي ألم بكنديد، ويظن أنه لا فائدة له من الفتاة الدنماركية غير ما توحي به الفضيلة المعذبة، فيعرض عليه السفر إلى كوبنهاغ، ويسهل له وسائله، ويصنع له أكثر من هذا، وذلك أنه ألقى في روعه إمكان قبوله في عداد خدم فلهل، إذا لم يكن لديه من الوسائل غير الخدمة ما يتخلص به من الورطة، ويقبل كنديد ما عرض عليه، فلما وصل قدمه رفيقه القادم على أنه قريب له ضامنا إياه، ويقول له فلهل: «أيها الخبيث، أود أن أمنحك شرف الاقتراب من رجل مثلي، ولا تنس مطلقا ما يجب عليك من احترام بالغ لإرادتي، وأبصرها مقدما إذا كنت من ذوي البصائر الكافية، واذكر أن رجلا مثلي ينحط إلى مخاطبة بائس مثلك.»
ويجيب فيلسوفنا بتواضع كبير عن هذا الكلام المخالف للأدب، ويلبس في اليوم نفسه مثل ثياب خدم سيده.
ومن السهل أن يتمثل مقدار حيرة زنوئيد وسرورها، عندما علمت أن عاشقها بين خدم عمها، وقد أحدثت لكنديد فرصا عرف أن يغتنمها، وقد تعاهدا على الثبات في كل ابتلاء، وكانت تعتري زنوئيد ساعات ضيق، فتلوم نفسها أحيانا على حبها لكنديد، فتحزنه بأهوائها، غير أن كنديد كان يعبدها، عالما أن الكمال ليس من نصيب الإنسان، ولا سيما المرأة، وكانت زنوئيد تسترد حسن مزاجها بين ذراعيه، وما كانا عليه من قسر زاد ملاذهما، ولا يزالان سعيدين.
الفصل السادس عشر
كيف وجد كنديد زوجته مرة أخرى، وكيف خسر خليلته
لم يكن على بطلنا أن يعاني من العنت غير عتو سيده، ولم يكن هذا ثمنا غاليا لألطاف خليلته، والغرام إذا ما قضي لم يسهل خفاؤه بمقدار ما يقال، فقد عادت عشرتهما لا تخفى على غير عيني فلهل النافذتين قليلا، وصار جميع الخدم يعرفون أمرها، وأخذ كنديد يهنأ بها فيرتعد، وغدا كنديد ينتظر وقوع العاصفة على رأسه، ولم يشك في أن شخصا عزيزا عليه يكاد يعجل مصيبته، ولم تمض بضعة أيام على مشاهدته وجها يشابه كونيغوند، حتى إنه لقي هذا الوجه ثانية في بلاط فلهل، ولكن الرداء الذي ترتديه كان حقيرا، ولم يكن من المحتمل أن تظهر حظية مسلم كبير في قاعة فندق بكوبنهاغ، ومع ذلك فإن هذا الشخص البغيض كان ينظر إلى كنديد مدققا، فيدنو منه بغتة ويمسكه من شعره، ويلطمه لطمة لم يضرب بمثلها في حياته، ويصرخ فيلسوفنا قائلا: «لم أخدع، وي! رباه! من يصدق ؟ ما الذي جاء بك إلى هنا بعد أن سمحت باغتصابك من قبل مسلم؟ اذهبي أيتها الزوجة الخائنة، إنني لا أعرفك.»
وتجيب كونيغوند: «ستعرفني من صولتي، أعرف الحياة التي تقضيها، أعرف غرامك بابنة أخ لسيدك وازدراءك إياي، آه! لقد غادرت السراي منذ ثلاثة أشهر؛ لأنني غدوت غير صالحة لشيء، ويشتريني تاجر لرتق بياضاته، ويحضرني معه في رحلة يقوم بها على الشواطئ، ويشترك في الرحلة مارتن وككنبو وباكت الذين اشتراهم أيضا، ويعد أعظم المصادفات في العالم وجود الدكتور بنغلوس مسافرا في المركب نفسه، ويغرق المركب بعيدا من هنا بضعة أميال، وأفر من الخطر مع الوفي ككنبو الذي أقسم بأن له مثل إهابك صلابة، وأراك ثانية، وأراك ثانية غير وفي، فارتعد واخش امرأة غاضبة.»
بلغ كنديد من ذهوله بهذا المنظر المثير ما صرف معه كونيغوند من غير أن يفكر في تصرفه تجاه من يعرف السر، فلما حضر ككنبو عانقه عناق حنان.
وقد استفسر كنديد عن جميع الأمور التي رويت له، وقد حزن كثيرا من فقد بنغلوس العظيم، الذي غرق شقيا بعد أن شنق وحرق سابقا، وقد تحدثا عنه بصبابة تمليها الصداقة، ولم يقطع الحديث إلا ببطاقة صغيرة ألقتها زنوئيد من النافذة، ويفتحها كنديد، ويجد فيها هذه الكلمة:
اهرب أيها الصب العزيز، فقد كشف كل شيء، ويعد الميل البريء - الذي تسمح به الطبيعة، فلا يؤذي المجتمع مطلقا - جناية في عين البسطاء الجفاة، والآن خرج فلهل من غرفتي بعد أن عاملني بأقصى الغلظة، وهو ذاهب للحصول على أمر تهلك به في سجن مظلم، فر أيها العاشق الأعز، وأنقذ حياة عدت غير قادر على قضائها بجانبي، لقد انقضت تلك الأيام السعيدة حين كنا نتبادل ألطاف ... آه! أي زنوئيد الحزينة! ماذا صنعت مع الرب حتى استوجبت هذه المعاملة القاسية جدا؟ أراني تائهة، اذكر زنوئيدك العزيزة دائما، أيها الصب العزيز، ستبقى حيا في فؤادي إلى الأبد. كلا، إنك لم تدرك قط مقدار حبي لك، أتستطيع أن تتلقى من شفتي المشتعلتين وداعي الأخير وحسرتي الأخيرة! أحس أنني لاحقة بأبي التعس، لا أطيق نور النهار، فهو لا يضيء غير الجنايات ...
ويجر ككنبو الدائم الفطنة والحذر كنديد الذي عاد لا يعي، ويخرجان من المدينة سالكين أقصر الطرق، ولم ينبس كنديد بكلمة، ولم يفارق كنديد سباته الغارق فيه، مع أنهما صارا بعيدين من كوبنهاغ بعض البعد، وأخيرا ينظر إلى ككنبو الوفي، ويقول له ما يأتي.
الفصل السابع عشر
كيف حاول كنديد أن يقتل نفسه من غير أن يفعل وما حدث له في إحدى
الحانات
«أي ككنبو العزيز، أي خادمي سابقا ونظيري حاضرا وصديقي دائما، لقد قاسمتني بعض مصائبي، وقد أسديت إلي بنصائح غالية، وقد شاهدت حبي لكونيغوند.»
ويقول ككنبو: «آه! يا سيدي القديم، إنها هي التي مثلت نحوك هذا الدور الفظيع، إنها هي التي كشفت كل شيء للفظ فلهل، بعد أن علمت من رفقائك أنك تحب زنوئيد كما تحبك.»
ويقول كنديد: «لم يبق لي غير الموت ما دام الأمر هكذا.»
أخرج فيلسوفنا من جيبه سكينا صغيرا، وأخذ يشحذه بدم بارد خليق بروماني قديم أو بإنكليزي.
ويقول ككنبو: «ماذا تريد أن تصنع؟»
ويقول كنديد: «أريد قطع حلقومي.»
ويجيب ككنبو: «فكر حسن، غير أنه لا ينبغي للحكيم أن يعزم قبل تفكير ناضج، ويمكنك أن تقتل نفسك في كل وقت ما دمت تحمل هذا الذهن. والرأي يا سيدي العزيز، أن تؤجل العمل إلى الغد، فكلما أخرت الفعل كان الفعل أكثر دلالة على الشجاعة.»
ويقول كنديد: «تقع براهينك مني موقع الرضا، ثم إنني إذا ما قطعت حلقومي الآن، طعن صاحب جريدة تريفو في ذكراي، هذا ما أراه، ولا أقتل نفسي قبل مرور يومين أو ثلاثة أيام.»
وبينا كانا يتكلمان هكذا، وصلا إلى مدينة إلسنور البعيدة قليلا من كوبنهاغ، والتي هي على شيء من الأهمية، فباتا فيها، وفرح ككنبو بما كان للنوم من الأثر الحسن في كنديد، ويخرجان من هذه المدينة وقت الفجر، وبما أن كنديد فيلسوف مزمن، عن كون مبتسرات الطفولة لا تمحي مطلقا، فقد حاور صديقه ككنبو حول الخير والشر المادي، وحول كلام الحكيمة زنوئيد ، وحول الحقائق الساطعة التي اقتبسها من حديثها، ويقول: «لو لم يمت بنغلوس لكافحت مذهبه منتصرا، وليبعد الرب عني المانوية، وقد علمتني خليلتي احترام الحجاب الخفي الذي يستر الرب به وجه عمله فينا، وقد يكون الإنسان هو الذي ألقى بنفسه في هوة المصائب التي يئن منها، فقد جعل من آكل الثمر حيوانا ضاريا، ولا يأكل المتوحشون الذين رأيناهم غير اليسوعيين، وهم يعيشون على وئام فيما بينهم، ولا ريب في أن المتوحشين المنتشرين في الغاب - فلا يأكلون غير البلوط والعشب - أسعد من أولئك حالا، وقد أوجب المجتمع ظهور أعظم الجرائم، وفي المجتمع يوجد أناس تقضي الحال عليهم بأن يتمنوا هلاك الناس، وما يقع من غرق مركب وحريق منزل، وخسران معركة يوجب ترح فريق من المجتمع، وفرح الفريق الآخر منه، فكل شيء شر يا ككنبو العزيز، ولا معدل للحكيم عن قطع حلقومه بأهدأ ما يمكن.»
ويقول ككنبو: «الحق بجانبك، غير أنني أرى حانة، وأنت عطشان لا ريب، فلنذهب يا سيدي السابق، ولنشرب كوبا، ثم نداوم على أحاديثنا الفلسفية.»
دخلا هذه الحانة، فوجدا جمعا من الفلاحين والفلاحات يرقصون في وسط القاعة على أنغام آلات طرب رديئة، وكانت البهجة تعرف على جميع الوجوه، وكان هذا المنظر جديرا بريشة فاتو، ولما ظهر كنديد أمسكته فتاة من ذراعه، والتمست منه أن يرقص، ويجيب كنديد بقوله: «أي آنستي الحسناء، إذا ما أضاع المرء خليلته، ولقي امرأته، وعلم أن بنغلوس العظيم هلك، لم يمل إلى النطيط قط، ثم إن من الواجب أن أقتل نفسي غدا صباحا، وأنت تدركين أنه لا ينبغي لرجل لم يبق له غير ساعات قليلة، أن يضيع هذه الساعات في الرقص.»
هنالك دنا ككنبو من كنديد وقال له: «يميل عظماء الفلاسفة إلى المجد، وقد قتل كاتون الأتيكي نفسه بعد نوم سليم، وتجرع سقراط الشوكران بعد أن حاور أصدقاءه محاورة ودية، وكثير من الإنكليز من أطلقوا رصاصا على رءوسهم بعد الطعام، غير أنني لا أعلم وجود رجل عظيم قطع حلقومه بعد أن رقص، فهذا المجد قد حفظ لك يا سيدي العزيز، فدعنا نرقص ونقصف، ثم نقتل أنفسنا غدا صباحا.»
ويجيب كنديد: «ألم تلاحظ أن هذه الفلاحة سمراء جذابة إلى الغاية؟»
ويقول ككنبو: «تنطوي سيماها على شيء يقف النظر.»
ويقول فيلسوفنا: «لقد كبست على يدي.»
ويقول ككنبو: «ألم تنتبه إلى نهديها الصغيرين الرائعين، اللذين كشفا بتموج منديلها حين الرقص؟»
ويقول كنديد: «أجل، لقد رأيتهما، دونك! لو لم تملك الآنسة زنوئيد فؤادي ...»
وتقاطع السمراء الصغيرة كنديد، وتكرر التماسها، ويقبل بطلنا، ويرقص بألطف ما يمكن، ثم يقبل الفلاحة الحسناء، وينزوي في مكانه من غير أن يدعو ملكة المرقص إلى الرقص، ولسرعان ما أخذ الناس يتذمرون، وبدا الاستياء على الممثلين والحاضرين من ازدراء ظاهر كذلك، ولم يعرف كنديد خطأه، ومن ثم لم يلح له إصلاحه، ويدنو قروي غليظ منه، ويلطمه على أنفه، ويرد ككنبو على هذا الفظ البدين بركلة على بطنه، ولم تمض دقيقة حتى كسرت الآلات، وحسرت رءوس النساء والبنات، ويقاتل كنديد وككنبو قتال الأبطال، ثم يضطران إلى الفرار بعد وابل من الضربات.
ويقول كنديد متوكئا على صديقه ككنبو: «أجد الأذى في كل شيء. أجل، لقد ابتليت بمصائب كثيرة، ولكنني لم أنتظر أن أوسع ضربا؛ لأنني رقصت مع فلاحة، التمست مني الرقص.»
الفصل الثامن عشر
اعتزال كنديد وككنبو في ملجأ. ما لقيا فيه
صار ككنبو ومولاه السابق لا يقدران على التقدم، وأخذ مرض النفس القاتل لجميع الأهليات يجد إلى قلبهما سبيلا، وكان يسقطان خورا ويأسا، لو لم يبصرا ملجأ أنشئ للمسافرين، فاقترح ككنبو دخوله، فاتبعه كنديد، ووجدا فيه ما تقضي به عادة مثل هذا الملجأ من العناية البالغة عن حب للرب، وقد شفيا من جروحهما في وقت قصير، ولكنهما أصيبا بالجرب الذي لا يبرأ منه في أيام قليلة، فملأت فكرته عيني فيلسوفنا دموعا، فقال - وهو يحك: «أي ككنبو العزيز، أنت لم تتركني أقطع حلقومي، وتؤدي نصائحك السيئة إلى غرقي في العار والشقاء، واليوم إذا ما قطعت حلقي، قيل في جريدة تريفو: «هذا جبان، لم يقتل نفسه إلا لإصابته بالجرب»، وهذا ما تعرضني له عن عدم فطنة، إصلاحا لمصيري.»
ويجيب ككنبو: «ليس داؤنا بلا دواء، وإذا ما أخذت برأيي أقمنا هنا إخوانا للملجأ، وعندي علم قليل بالجراحة، وأعدك بأن ألطف سوء حالنا، وأجعله أمرا يمكن احتماله.»
ويقول كنديد: «آه! قتل جميع الحمير، ولا سيما الحمير الجراحون الشديدو الخطر على البشر، لن أطيق انتحالك شيئا لا تتصف به، فهذه خيانة ذات نتائج تخيفني، ثم ليتك تستطيع أن تدرك مقدار ما في خدمتي أخا في ملجأ من مشقة بعد أن كنت نائب ملك في ولاية جميلة، وبعد أن كنت في حال أستطيع بها أن أشتري ممالك رائعة، وبعد أن كنت عاشق الآنسة زنوئيد المفضل.»
ويجيب ككنبو: «أدرك هذا، ولكنني أدرك أن من الشاق أيضا، أن يموت الإنسان جوعا، واعلم كذلك أن من المحتمل أن يكون محل الخدمة الذي أقترحه عليك هو المكان الذي يمكنك أن تلزمه لاجتناب تحريات فلهل الطاغي، وللنجاة من العقوبات التي يعدها لك.»
وبينما كانا يتكلمان هكذا، مر أحد إخوان الملجأ، فوضعا له بعض الأسئلة، فكان جوابه مرضيا، وقد قال لهما موكدا: إن الإخوان يتناولون غذاء جيدا ويتمتعون بحرية كافية، ويعزم كنديد، ويلبس هو وككنبو ثوب الإخوان الذي سلم إليهما حالا، ويأخذ هذان البائسان يخدمان بائسين آخرين.
وبينا كان كنديد يوزع ذات يوم حساء رديئا على المرضى، وقف نظره رجل مسن ذو وجه أزرق، ضارب إلى السواد، وكان يغشى شفتي هذا الشيخ زبد، وكانت عينه نصف مائلة، وكان شبح الموت يبدو على خديه الناحلين، فقال كنديد: «ما أعظم توجعي لك أيها الرجل المسكين! لا بد أنك تألم ألما شديدا.»
ويجيب الشيخ عن هذا بصوت أصحل:
1 «أجل، إنني أشعر بألم شديد، ويقال إنني مصاب بالسل وذات الرئة وبالربو
2
والجدري حتى العظم، فلو صح هذا لكنت مريضا جدا، ومع ذلك فإن كل شيء لا يصير إلى سيئ، وهذا ما يعزيني.»
ويقول كنديد: «آه! لا يوجد غير الدكتور بنغلوس من يستطيع في مثل هذه الحال المحزنة، أن يؤيد مذهب التفاؤل، على حين لا يقول من هم سواه بغير التشا ...»
ويقول الرجل المسكين صارخا: «لا تنطق بهذه الكلمة الكريهة، فأنا بنغلوس الذي تتكلم عنه، فدعني أموت بسلام أيها الخاسر، فكل شيء حسن، وكل شيء على أحسن ما يكون.»
وما بذل من جهد للنطق بهذه الكلمة كلفه آخر سن له بصقها في مقدار كبير من الصديد، ويلفظ نفسه الأخير بعد بضع ثوان، ويبكيه كنديد لسلامة قلبه، ويكون عناده مصدر تأملات لدى فيلسوفنا، ذاكرا مغامراته غالبا، وقد بقيت كونيغوند في كوبنهاغ، وقد علم أنها تزاول هنالك حرفة مرقعة الخرق مع امتياز، وقد فقد كل ميل فيه إلى السفر، وكان الوفي ككنبو يمده بنصائحه، ويؤيده بصداقته، ولم يتذمر كنديد من قضاء الله، فكان يقول أحيانا: «أعرف أن السعادة ليست نصيب الإنسان، ولا مكان للسعادة في غير بلد الإلدورادو، ولكنه يستحيل الذهاب إليه.»
الفصل التاسع عشر
مصادفات جديدة
لم يكن كنديد شقيا ما وجد صديقا حقيقيا، وقد وجد في الخادم الخلاسي ما يبحث عنه في أوروبا حقا، ومن المحتمل أن الطبيعة التي أنمت في أمريكة المفردات
1
الصالحة لأمراض قارتنا البدنية جعلت فيها دواء لأمراضنا القلبية والروحية، ومن المحتمل وجود أناس في العالم الجديد على غير جبلتنا، فلا يعدون عبيدا للمآرب الشخصية، ويعدون أهلا للصداقة الحقيقية، ويا ليته يؤتى لنا ببعض هؤلاء الناس، بدلا من رزم النيلج والقرمز الملطخة بالدم، فتجارة من هذا الطراز تكون ذات نفع عميم للإنسانية، وقد كان ككنبو أثمن لكنديد من اثني عشر كبشا أحمر حاملة حصى من إلدورادو؛ وذلك لأن فيلسوفنا صار يذوق لذة العيش؛ وذلك لأن من عوامل سلوانه سهره على حفظ النوع البشري، وظهوره عضوا نافعا للمجتمع، فكافأه الله على نياته الخالصة بنعمة العافية، كما كافأ ككنبو، فقد زال عنهما الجرب، وكانا يقومان بشئون حرفتهما الشاقة فرحين، غير أن القدر لم يلبث أن نزع منهما ما كانا يتمتعان به من أمان.
غادرت كونيغوند - التي وطنت نفسها على إزعاج زوجها - كوبنهاغ لتتعقبه، وأتت الملجأ اتفاقا، وكان يرافقها رجل عرف كنديد أنه السيد البارون ثندر تن ترنك، ومن السهل أن يتمثل مقدار ما اعتراه من دهش بسبب هذا، وقد أبصر البارون هذا، فقال له ما يأتي:
لم أجدف في المراكب العثمانية طويلا، فقد أنبئ اليسوعيون بمصيبتي، وفدوني حفظا لكرامة الجمعية، وسافرت إلى ألمانية، حيث نلت معروفا من ورثة أبي، ولم آل جهدا في العثور على أختي، فلما علمت من الآستانة أنها سافرت على سفينة غرقت في شواطئ الدنمارك، تنكرت وأخذت كتب توصية إلى تجار من هذا البلد ذوي صلة بالجمعية، وأخيرا لقيت أختي التي تحبك مع أنك غير أهل لها، وبما أنك كنت من الوقاحة ما ضاجعتها معه، فإنني أوافق على الزواج، وذلك على ألا تناولك أختي غير يدها اليسرى، كما يقضي الإنصاف، ما دامت تنتسب إلى أكثر من واحد وسبعين جيلا من أجيال الشرف، وما دمت لا تنتسب إلى أي جيل من أجيال الشرف.
ويقول كنديد: «آه! إن جميع أجيال الشرف في العالم بلا جمال ... لقد كانت الآنسة كونيغوند دميمة إلى الغاية، عندما كنت من القحة ما تزوجتها معه، فلما أصبحت جميلة تمتع بألطافها رجل آخر، ثم تريد أن أمد إليها يدي بعد أن عادت دميمة؟ كلا، يا أبت المحترم! أعدها إلى سرايها بالآستانة، وقد لاقيت منها سوءا كبيرا في هذا البلد»، وتقول كونيغوند وهي تبدي كثير تشنج: «كيف بدوت غليظ القلب، أيها الكنود؟ لا تدع السيد البارون الذي هو قسيس يقتل الاثنين ليغسل العار بالدم، أتظن أنني نقضت وفائي الواجب لك طيبة الخاطر؟ وما كنت تريد أن أصنع أمام ربان وجدني جميلة؟ لم تثنه عن بهيميته الجارفة دموعي ولا صيحاتي، ولما رأيت أن ذلك لا يجدي نفعا، كان لي أن أغتصب بأسهل ما يمكن، وهذا ما تصنعه كل امرأة، وهذه هي جنايتي، وهي لا تستحق غضبك، وأعظم جريمة من هذه - في نظرك - كوني نزعت خليلتك، مع أن هذا الجرم يثبت لك حبي، تعال يا رويحي العزيز، تعال! إذا ما عدت جميلة، إذا ما عاد نهداي الأهدلان مدورين مرنين، إذا ما ... لم يكن ذلك إلا من أجلك يا كنديدي العزيز! لسنا الآن في تركية، وأقسم لك إنني لن أترك نفسي تغتصب.»
لم يكن لهذا القول وقع بليغ في نفس كنديد، فطلب إمهاله بضع ساعات لتعيين السبيل الذي يسلكه، فمنحه السيد البارون ساعتين، استشار في أثنائهما صديقه ككنبو، ويزنان ما للأمر وما عليه، فيعزمان على اتباع اليسوعي وأخته إلى ألمانية، ويغادرون الملجأ ويسافرون معا، لا سيرا على الأقدام، بل على خيل أصيلة، أتى بها البارون اليسوعي، ويصلون إلى حدود المملكة، ويحدق رجل طويل عابس إلى بطلنا، ويقول ناظرا إلى وريقة: «ها هو ذا، فأسألك أيها السيد، من غير كثير فضول: ألا تسمى كنديد؟» - «أجل أيها السيد، إنني أدعى كنديد دائما.» - «يسرني ذلك أيها السيد، والواقع أن لك حاجبين أسودين وعينين عسليتين وأذنين معتدلتين ووجها ورديا مستديرا، ويظهر أنك بالغ من الطول خمس أقدام وخمسة قراريط.» - «أجل، إن هذا هو طولي أيها السيد، ولكن ما أربك بأذني وقامتي؟» - «لا نستطيع أن نكون كثيري التحفظ في القيام بواجبتنا، فاسمح لي أيها السيد، بأن أضع لك سؤالا صغيرا آخر: «ألم تخدم السنيور فلهل؟»
ويجيب كنديد مرتبكا: «حقا، لم أفهم أيها السيد ...» - «وأما أنا فإنني أدرك تماما، أنك أنت الذي أرسلت لي إشارة عنه، تفضل بالدخول بين فوج الشرطة، أيها الجنود، سوقوا هذا السيد، وأعدوا الغرفة السفلى، ونادوا الحداد؛ ليصنع للسيد سلسلة تزن ثلاثين رطلا أو أربعين رطلا، وأنت يا سيدي كنديد، أراك صاحبا لحصان أصيل، وأراني محتاجا إلى حصان بلونه، فسنتفق عليه.»
ولم يجرؤ البارون على المطالبة بالحصان، وسيق كنديد وبكت كونيغوند ربع ساعة، ولم يبد اليسوعي أي حزن بسبب هذه المصيبة، وقد قال لأخته: «كنت أضطر إلى قتله، أو إلى تزويجه بك ثانية، وإذا نظر إلى الأمر من جميع وجوهه، وجد أن ما حدث أحسن بمراحل لشرف آلنا.»
ذهبت كونيغوند مع أخيها، والوفي ككنبو وحده هو الذي لم يشأ أن يترك صديقه.
الفصل العشرون
بقية مصائب كنديد، كيف لقي خليلته ثانية وماذا كانت النتيجة
قال كنديد : «أي بنغلوس! يا للخسران العظيم بهلاكك بائسا! لم تكن شاهدا على غير قسم من مصائبي، كنت أطمع أن أحملك على ترك تلك الفكرة الواهية التي استمسكت بها حتى موتك، لا يوجد في الدنيا إنسان قاسى مصائب أكثر مما قاسيت، ولكن لا يوجد على الأرض من لم يلعن حياته، كما قالت بنت البابا «أوربان» ذلك بشدة، وما يحدث لي يا ككنبو العزيز؟»
فأجاب ككنبو بقوله: «لا أعلم، وكل ما أعلم هو أنني لن أتركك.»
فقال كنديد: «لقد تركتني كونيغوند، آه! لا تعدل المرأة خلاسيا صديقا.»
هذا ما كان يتكلم به كنديد وككنبو في السجن المظلم، وقد أخرجا منه ليؤتى بهما إلى كوبنهاغ، حيث يعرف فيلسوفنا مصيره، وكان يتوقع أن يكون فظيعا كما يتوقع قراؤنا، غير أن كنديد أخطأ كما يخطئ قراؤنا، ففي كوبنهاغ كانت السعادة تنتظره، وذلك أنه لم يكد يصل إليها حتى علم موت فلهل، ولم يوجد من أسف على هذا الجافي، وكل كان يعطف على كنديد، وتكسر قيوده، ويزيد اغتباطه بحريته لما يلقى بها زنوئيد، ويهرع إلى بيتها، ويظلان صامتين وقتا طويلا، ولكن صمتهما كان بليغا، ويبكيان ويتعانقان ويودان الكلام، ويبكيان أيضا، ويسر ككنبو بهذا المنظر الرقيق كإنسان حساس، ويقاسم صديقه ابتهاجه، ويكاد يكون في مثل حاله.»
ويقول كنديد بصوت عال: «أي ككنبو العزيز! أي معبودتي زنوئيد! أنتما تمحوان من فؤادي أثر آلامي العميقة، ألا إن الحب والود يعدان لي أياما صافية وأوقاتا لطيفة! ما أكثر المحن التي مرت علي لأبلغ هذه السعادة غير المنتظرة! أي زنوئيد العزيزة، لقد نسي كل شيء! أشاهدك، أنت تحبينني، كل شيء يسير من أجلي على أحسن ما يكون، كل شيء حسن في الطبيعة.»
جعل موت فلهل زنوئيد سيدة مصيرها، وجعل البلاط لها راتبا عن أموال أبيها التي صودرت، وقد أشركت فيه كنديد وككنبو، وقد أسكنتهما بيتها، وقد أذاعت بين الجمهور سابق تلقيها من هذين الغريبين خدما، فتجد أنها ملزمة بإنالتهما جميع أطايب الحياة وبتلافيها ما أصابهما من ظلم، ومن الناس من علم سبب هذه اليد البيضاء، وكان يسهل هذا لسوء الأثر الذي أسفرت عنه معاشرتها كنديد، وقد لامها أكثر الناس على هذا، ولم يستحسن سلوكها غير بعض المواطنين العارفين بأمور الدنيا.
ولم تكن زنوئيد - الحريصة على نيل رضا الأغبياء - راضية عن وضعها، وما كان من إذاعة مراسلي التجار اليسوعيين في كوبنهاغ لخبر موت كونيغوند، منح زنوئيد وسائل استمالة الناس، فتأمر بصنع شجرة نسب لكنديد، ويجعله واضع هذه الشجرة الماهر سليل إحدى أسر أوروبا العريقة، حتى إنه زعم أن اسمه الحقيقي كان كنوت الذي حمله أحد ملوك الدنمارك، وعد هذا محتملا ما دام تحويل «وت» إلى «ديد» غير ذي بال، ويصبح كنديد شريفا سريا بفضل هذا التعبير الصغير، ويتزوج زنوئيد جهرا، ويعيشان عيش هدوء ما أمكن، وما انفك صديقهما ككنبو يقول مع كنديد: «لا تسير جميع الأمور سيرا حسنا كما في إلدورادو، ولكنها لا تسير كلها سيرا سيئا.»
نامعلوم صفحہ