ليست المسألة مسألة حضارة أساسها الأخلاق وحضارة أخرى أساسها العلم، لو كان الأمر كذلك لهان الأمر، فما على العالم من سبيل إذا اكتسب أخلاقا معينة وهو يجري التجارب في معمله، أو وهو يحاضر طلبته، أو وهو ينشر علمه بين الناس، ما عليه من سبيل لأنه يجمع بين أشياء يمكن الجمع بينها.
المسألة تتمثل في صعوبة الجمع بين عقلية وعقلية، وبين منهج ومنهج، إنها عقلية الغيب في مقابل عقلية المشهود، وهي عقلية غير المنظور في مقابل عقلية المنظور، عقلية الغيب بكل «قوانينه» إذا كان للغيب قوانين، وعقلية الحاضر المشاهد، الذي يخضع للتجريب والملاحظة والاستنباط، إنها عقلية الغيب بكل شطحاته وتهويماته ودروشاته، إنها العقلية التي تعتبر الأبله وليا «يعلم الغيب» وينطق بالحكمة، ومن ثم يتبرك الناس به.
يا سيدي إن تفسير حادث السيارة على أنه قضاء وقدر، غير تفسيره على أنه ناشئ عن أسباب أخرى، وربما تتصل بالسيارة أو بنظام المرور أو بالسائق أو بها مجتمعة، والأمر على العكس في عقلية الحاضر المشهود، الخاضع للتجربة والملاحظة والاستنباط، بل والتنبؤ بالسلوك كلما وضعت الظاهرة في نفس الظروف.
وإذن فهي ليست حضارة قائمة على الأخلاق في مقابل حضارة قائمة على العلم، بما يستلزم عدم التنافر عند الجمع، أو الازدواج.
وأكتفي بهذا القدر من رسالة الأستاذ محمد محمد القاضي؛ لأن كل ما ورد فيها غير ذلك إنما هو أمثلة وتفريعات، تزداد بها وضوحا، لكن الفكرة الأساسية تظل هي الفكرة، وأعتقد أن شيئا مما رددت به على ما جاء في «خطاب من مجهول» يبقى هو نفسه أساسا للرد على رسالة الأستاذ القاضي (والروح بينهما شديدة التجانس)، وذلك الأساس الذي أعنيه هو الوقوع في مغالطة «إما كذا وإما كيت» عندما يكون في حدود الإمكان أن يجتمع «كذا» و«كيت» معا في شخص واحد، كأن تقول - مثلا - إما أن يكون فلان أستاذا في الجامعة وإما أن يكون محبا لرياضة المشي، فيتوهم السامع بأنه إذا ثبت أن فلانا المقصود أستاذ في الجامعة، فيلزم بالضرورة ألا يكون محبا لرياضة المشي، في حين أن إمكان الجمع بين الطرفين جائز وقريب الحدوث.
والآن فلننظر فيما أوردناه عن رسالة الأستاذ القاضي، فمحور حديثه هو المفارقة بين عقلية وعقلية (على حد تعبيره) عقلية الغيب وعقلية المشهود، فكأنما يريد القول بأنه إذا شغل إنسان بالبحث في ظاهرة من ظواهر العالم المشهود؛ فلم يعد أمامه فائض من حياته يشغل فيه بالغيب، وها هنا نقع في المغالطة التي ذكرناها، وذلك لأن السامع هنا قد يتوهم بأنه لا جمع بين أن يشغل الإنسان بما هو مشهود وبما هو غيب في شخصية واحدة، لا، بل إن الموقف في هذه الحالة أقوى حجة وأشد وضوحا من الموقف الذي مثلناه بإمكان الجمع في شخص واحد بين الأستاذية الجامعية وحب رياضة المشي؛ وذلك لأنه في نفس اللحظة التي يقوم فيها عالم بالبحث في ظاهرة معينة، بحثا يقيمه على تجربة وملاحظة، ويكون ملتزما أمام ضميره العلمي بطائفة من «القيم»؛ إذ لا بد له أن يكون «أمينا » في بحثه و«صادقا» في إعلان نتيجته، والأستاذ القاضي يعلم أن أشياء ك «الأمانة» و«الصدق» وما إليهما، لا تقع في أسرة المنظور، فالأمانة والصدق صورتان من صور «الأخلاق» يستعيرها رجل العلم من جانبه الآخر الذي هو فيه مؤمن بالغيب، وإلا فلماذا لا يلتزم الباحث العلمي أن يكون «مزورا» وأن يكون «كاذبا» في إعلان نتائج بحثه؟ فإذا قلنا إنه من الممكن للعربي أن يجمع أخلاقه الدينية إلى اضطلاعه بالبحث العلمي وبمنهج ذلك البحث، لم يكن هناك محل للاعتراض بأن هذه عقلية وتلك عقلية أخرى، وأقصى ما يمكن أن يقال في هذا الصدد، هو أن الإنسان الواحد - وأعني كل إنسان - فيه الجانبان معا، وهما جانبان يجوز لنا أن نفرق بينهما عند التحليل لنزداد فهما ووضوحا، لكن ذلك التحليل النظري لا يعني أن الإنسان يمكنه الحياة حياة كاملة بأحد الجانبين دون الجانب الآخر، كأن يترك نفسه بأجمعها ليستغرقها الواقع المشهود وحده، أو أن يتركها ليستغرقها الغيب وحده، إلا إذا استطاع الطائر أن يطير بجناح واحد، نعم إن هنالك من لا ترى عيناه إلا محسوسات الواقع، فيتساءل: وهل هناك شيء آخر غير هذا الواقع؟ كما أن هنالك من ينعم في وجدان قلبه بتأمل الغيب فيتساءل: وهل هنالك ما يستحق الاهتمام غير هذا الغيب؟ لكن كلا الرجلين سرعان ما يجنح به إسرافه إلى حياة مريضة تحتاج إلى من يتولاها بالعلاج لترتد حياة سوية تمكن صاحبها من الجمع بين شهادة وغيب، بين عمل وإيمان، بين علم ودين.
يقول الأستاذ القاضي - فيما يورده من أمثلة توضح الفرق بين عقلية وعقلية (كما جاء في حديثه) - إن تفسير حادث السيارة على أنه قضاء وقدر غير تفسيره على أنه ناشئ عن أسباب أخرى. وإني لأسأله: غيره عند من؟ ثم أتبرع له بالجواب عن سؤالي، فأقول: إن ذلك التفسير غير هذا التفسير عند المتعجل الذي لا يريد أن يعقل الأمور ليفهمها، ولكي نرى الأمر هنا على حقيقته، يجب علينا أولا أن نفهم كلا من اللفظين: «قضاء» و«قدر» مستقلا أحدهما عن الآخر، إذ لو كان اللفظان بمعنى واحد، لكان لفظ واحد منهما يكفي، ففي كلمة «القضاء» معنى المشيئة التي شاءت لشيء أن يقع، وأما كلمة «قدر» فتضيف إلى ذلك الحكم جانب «التقدير» أي جانب «المقدار» أي الجانب «الكمي» - بلغة العلوم - وفي هذا الجانب الكمي يكون تحديد «نقطة» الحدوث أين، وتحديد «لحظة» الحدوث متى، فإذا قلنا عن حادث إنه «قضاء وقدر» فكأننا أضمرنا سلسلة الأسباب التي تتصل بنقطة الحدوث وبلحظة الحدوث، وإذن فلا فرق بين عقلية وعقلية (بتعبير الأستاذ القاضي) وإنما الفرق هو بين من أضمر الأسباب ومن أفصح عنها، والموقفان لا يتناقضان، بل إن من أضمر يستطيع هو نفسه أن يتعلم كيف يفصل ما أضمره إذا أراد ذلك.
إنه إذا كانت الأديبة سهير إبراهيم عليوة في تعليقها على كتابي «شروق من الغرب» قد جمعت لنا أمثلة كثيرة من حياتنا الحاضرة، لتبين بها من أوجه مختلفة كم أصبح في حياتنا الراهنة من «غروب» بعد أن كانت فيما مضى دائمة الشروق، وإذا كان الأستاذ محمد محمد القاضي قد ضرب لنا من حياتنا تلك أمثلة يوضح بها كم تبعد «عقلية» جمهورنا عن «عقلية» أبناء الغرب في عصرنا بحيث يتعذر الجمع بين الطرفين في كيان واحد، فليس ذلك من طبائع الأشياء، نزل بنا ليبقى، بل هو كظلام الليل، لا يلبث أن ينقضي، وإنني لعلى يقين بأن للشمس شروقا بعد كل غروب.
نامعلوم صفحہ