إنك يا صاحبي تأكل في غذائك أرزا ولحما وخضرا وخبزا وفاكهة ليتحول ما يتحول من هذا كله إلى دماء تجري في شرايينك فتكون لك الصحة التي تحيا بها وتدرس وتفكر.
وشيء كهذا تماما هو المطلوب إذا نحن اغترفنا من تراثنا واغترفنا من نتاج العصر، لننسج ما اغترفناه نسيجا حيا في رءوسنا وفي مشاعرنا وفي مواقفنا السلوكية جميعا، ولكي أضرب لك أمثلة مجسدة على هذا الذي نريده استعرض معك بعض ما صنعناه بالفعل، وجاء محققا للصيغة الجديدة المنشودة، خذ - مثلا - من دنيانا الأدبية مسرحيات أحمد شوقي، وتوفيق الحكيم، أو روايات نجيب محفوظ، ثم حاول أن ترسم - في أي عمل من تلك الأعمال - خطا فاصلا يجعل ما أخذه هؤلاء الأدباء من التراث في ناحية، وما أخذوه من الغرب في ناحية أخرى، فهل تستطيع؟ لم يكن في تراثنا الأدبي الشكل المسرحي، ولا الشكل الروائي، في الإبداع الأدبي، فأخذ مبدعونا تلك الأشكال من الغرب، ثم ملئوها بمضمون من حياتنا نحن، فهذه قصة الحب بين قيس وليلى، وهذه قصة أهل الكهف، وتلك قصة الحياة المصرية كما تطورت خلال ثلاثة أجيال، لكن المضمون الحيوي الذي ملأنا به الشكل الأدبي المأخوذ من الأدب المعاصر في الغرب، قد اندمج مع الشكل بحيث أصبحنا أمام كائن عضوي واحد.
وخذ مثلا آخر، من دنيا العلوم الطبيعية هذه المرة، وهو ما يحاوله علماؤنا في مراكز البحوث المختلفة من إيجاد حلول لبعض مشكلاتنا، فكيف نستزرع مساحات معينة في الصحراء؟ وماذا يمكن الإفادة منه في صنوف الأعشاب التي تنبت في أرضنا؟ وأي الأساليب أفضل في معالجة المرضى بأمراض توطنت في شعبنا؟ وهكذا، إنها مشكلات في حياتنا نحن لكننا تعلمنا من علوم العصر كيف نجري عليها الأبحاث العلمية التجريبية لعلنا نجد لها حلولا مناسبة، فإذا ألقيت نظرة إلى واحد من هؤلاء العلماء وهو قائم بعمله العلمي، فأنت عندئذ إنما تنظر إلى تراث ومعاصرة تجسدا في إنسان؛ لأن ذلك الإنسان الباحث مليء في داخله بعقيدة دينية ولغة عربية وأعراف وتقاليد، ولم يمنعه شيء من ذلك من أن يكون عالما؟ وإذا شئت فانظر إلى أحد العلماء في الميدان الذي أسميته أنت ب «العلوم الوجدانية» (!) انظر إليه وهو يحلل نصا في وثيقة تاريخية أو أدبية أو فلسفية، أو أثرية أو غير ذلك، فسوف يدهشك أن ليس في الموقف ذرة من «وجدان»، إنما هو تحليل علمي موضوعي لا نختلف في جوهره عن تحليل الأجسام المادية إلى عناصرها الأولية، وهو موقف مما يمكن أن يقال عنه إنه قد دمج تراثا إلى معاصرة.
والأمثلة في هذا السبيل لا تنتهي؛ لأننا - بالفعل - قد سرنا على الطريق شوطا بعيدا، لولا أن شكوانا ما تزال قائمة، من أننا في معظم الحالات «ناقلون» ولم نضف بعد إلى علوم العصر ما يشار إليه على أنه إضافة عربية ذات شأن، ومع ذلك فقد بقي أمامنا في صنع الصيغة الجديدة جانب هو أشد الجوانب عسرا، ثم هو هو نفسه الذي نعنيه أول ما نعني حين ندعو إلى صيغة ثقافية جديدة، وذلك الجانب الذي أعنيه هو أن ننشئ في أنفسنا «رؤية جديدة»، «وجهة نظر» جديدة أهم ما فيها انتهاج المنهج العلمي السليم حينما كان الموضوع الذي بين أيدينا موضوعا موكولا إلى العلم، ولنتذكر جيدا هنا أن العلم وموضوعاته إنما هو «جزء» واحد من حياة الإنسان، وهنالك غيره أجزاء كثيرة أخرى، ربما كانت أهم منه، لكنها على أية حال لا تنتمي إليه، وإذا نحن أخذنا بالعلم في مجاله أخذا جادا؛ تحتم علينا ألا نلقي بالا لما يناقضه، كما أشار إلى ذلك الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال».
ونعود إلى رسالة الطالب المهندس، فقد ورد فيها أنه حين حاول التطبيق على شخصه في الجمع بين شيء من تراثنا وما يدرسه هو من علوم العصر، بدأ بقراءة صفحات عن أبي حيان التوحيدي، وهي صفحات عرض فيها أبو حيان العلاقة بين «ذكاء» الإنسان و«إرادته»، ويعيد الطالب في خطابه نموذجا لما قرأه عند أبي حيان التوحيدي، ثم يشعر بالعبث فيما يطالعه فيلقي به، ولا أدري أين ألقى به، ليعود إلى علومه الهندسية وهي العلوم التي تبنى عليها حضارة العصر كما قال، ويسأل في دهشة بما معناه: أهذا هو ما تريدنا أن نتزود به إلى جانب علوم عصرنا؟
فوجدتني أحق منه بالعجب! إن ما نقله عن أبي حيان التوحيدي عن العلاقة بين ذكاء الإنسان وإرادته، وكيف أنه إذا اشتد الذكاء ضعفت الإرادة، إنما هو من أروع ما يكتبه كاتب، قديما أو حديثا، عربيا أو غربيا، عن الإنسان وفطرته، وقبل أن أعرض هنا مضمون الفكرة التي قدمها أبو حيان التوحيدي فأحدثت القرف والغثيان عند صاحبنا المهندس الصغير (فهو على وشك التخرج) لا يسعني إلا أن أعبر عن أساي وحسرتي كلما وجدت شبابنا الجامعي وحتى الصفوة من ذلك الشباب عاجزا عن القراءة إلى الحد الذي يجد بين يديه كنوزا من كنوز العقل البشري، فيختلط عليه الأمر بين اللآلئ والحصى!
إنني عندما قرأت الاقتباس الذي نقله الطالب في خطابه عن التوحيدي ليبرر لي قرفه وغثيانه؛ تذكرت من فوري أن الفكرة نفسها، التي تضمنها ذلك الاقتباس، قد وردت عند «ج. ك. تشسترتون» (توفي 1936م عن اثنين وستين عاما )، وهو أديب إنجليزي يضعه قومه في منزلة عليا من تاريخهم الأدبي، كتب الرواية، لكن مكانته العظيمة استمدت من أدب المقالة عنده، وفي إحدى مقالاته تلك بسطت الفكرة نفسها التي بسطها أبو حيان التوحيدي، والتي أصابت ولدنا المهندس بالنفور، ولقد كنت حين صادفت الفكرة عند «تشسترتون» قد تملكني روعتها ونفاذها وصدقها، حتى ترجمتها إلى العربية لأحفظها عندي بين أعز ما أعتز به من مطالعات، فلما قرأت الاقتباس الحياني في رسالة الطالب، لم أضيع دقيقة واحدة بعد أن فرغت من قراءة الخطاب وقمت لأحاول البحث عما كنت ترجمته عن الأديب الإنجليزي العظيم، ولن أذكر هنا كم ضاقت الدنيا أمامي، حين أخفقت جهودي في العثور على الترجمة، نعم، لقد طالت بيني وبين كتابته الأعوام، لكنني ما زلت أذكر شكل الورقة التي كتبت عليها النص المترجم، أذكرها في وضوح كأنني كتبتها نهار أمس، لكن ماذا يجدي هذا كله أمام مكتبة اختلطت أوراقها، وبصر ضائع لا يكاد يفرق بين ورقة وكتاب؟
لكن الفكرة عند الأديب الإنجليزي هي هي بعينها وبكل تفصيلاتها وحذافيرها الفكرة التي أوردها أبو حيان التوحيدي في المقتبس الذي أرسله إلى الطالب المهندس، ليقيم به الدليل على «تفاهة» تراثنا، وماذا تقول تلك الفكرة؟
يتفق الأديبان معا - العربي والإنجليزي الحديث - على أنه إذا اتسعت المعرفة عند إنسان، واشتد به الذكاء كان بذلك أميل إلى الوقوف عند الأفكار، يحللونها قبل أن يقيموا عليها عملا في دنيا العمل، فما من فكرة مما هو متداول بين الناس، ويظنونه بسيطا وواضحا ومفهوما، إلا وتلك الفكرة نفسها عند من اتسعت معارفه ومداركه واشتد ذكاؤه؛ فاشتدت تبعا لذلك قدرته على التحليل، أقول إن الفكرة نفسها التي رآها عامة الناس بسيطة وواضحة إنما تبدو على حقيقتها لأصحاب المعرفة الواسعة والقدرة على التحليل كثيرة العناصر مركبة التكوين، وليست بكل الوضوح الذي ظنه بها السذج الأبرياء، فماذا يترتب على هذا الفرق بين النظرتين؟ يتوقف عليه أن من قلت معرفته وضعفت قدرته على تحليل فكرة ما، طالما هو لا يرى من تلك الفكرة إلا جانبا واحدا، فإنه يندفع نحو العمل على أساسها. في حين أن العارف الذكي القادر لعلمه بأن تلك الفكرة معقدة بكثرة تفصيلاتها؛ فهو يتردد كثيرا قبل المغامرة بعمل يقيمه على أساسها، وبعبارة أخرى نقول: إن العاجز في جانبه العقلي سريع الإرادة نحو تنفيذ الأفكار التي يحسها واضحة وهي على كثير من الغموض، وأما صاحب القدرة العقلية فالإرادة عنده بطيئة لتردده بين أن يعمل أو لا يعمل بناء على فكرة معينة ليس هو على يقين من نتائجها.
وعلى هذا الفرق بين النمطين من الرجال، تسهل الزعامة على الصنف الأول؛ لأن الزعامة مرهونة بالإرادة، والإرادة عنده سريعة الأداء لتوهمه وضوحا في رؤية النتائج، لكنها - أي الزعامة - تصعب على الصنف الثاني؛ لأنه لا يريد أن ينتقل إلى دنيا العمل إلا بعد أن تتضح له النتائج مقدما، ومثل هذا الوضوح يتطلب منه وقفة طويلة للبحث والتحليل، وبصرف النظر عن الزعامة من يستطيعها ومن لا يستطيعها يمكن التوسع في الفكرة بحيث نقول بصفة عامة إن النجاح في الحياة العملية كثيرا ما يكون لأصحاب المعرفة القليلة والإرادة القوية، قبل أن يكون لأصحاب المعرفة الواسعة والإرادة المترددة، فالنسبة بين العقل والإرادة كما ترى نسبة عكسية، تقل المعرفة فتشتد إرادة التنفيذ، وتتسع المعرفة فتضعف الإرادة بالتردد.
نامعلوم صفحہ