والأمثلة لا تقع تحت الحصر والعدد، إذا أردت أمثلة لما يقترفه المعاصرون من إثم معاصريهم، وقد يتاح للزمن بعد ذلك أن يصحح آثامهم، ولكنه كذلك قد يغفل فتضيع موهبة الموهوب في التراب مع رفاته، وإن الإنسان ليأخذه العجب كيف جرؤ المعاصرون لعبقريات تطير بأصحابها إلى أجواز السماء أن يحاولوا إطفاء تلك الشموس الساطعة، كيف جرؤ أهل أثينا على مهاجمة سقراط حين ضاقت به صدورهم، فحاكموه وأعدموه، مع أن الرجل لم يصنع بمواطنيه سوى أن يفتح أعينهم لتشهد النور! كان الناس بمن فيهم أدعياء العلم، يملئون أشداقهم بألفاظ ضخمة، كل في ميدانه، فرجل القانون يتشدق بالعدل، ورجل الأخلاق ينادي بالفضيلة، وصانع الفن أو قائد الحرب أو القابض على زمام الحكم لا يشكون في دقة معرفتهم بالفن أو بالحرب أو بالحكم، فإذا بسقراط في حواره معهم على النحو الذي نعرفه جميعا يفضح جهلهم بما ظنوا أنفسهم يعلمونه أكمل العلم وأوضحه.
كنت قد وقعت يوما على مجموعة خطابات خاصة كتبها عالم النفس الذي يعرفه اليوم حتى رجل الشارع، وهو «فرويد» صاحب النظرية المعروفة في التحليل النفسي، أقول إنني كنت قد وقعت على خطابات أرسلها فرويد إلى أحد أصدقائه أيام أن كان فرويد عضوا في هيئة التدريس بجامعة فيينا بالنمسا (في النصف الثاني من القرن الماضي).
وأذهلني أن أجد فرويد يشكو إلى صديقه في خطاب بعد خطاب من أن الجامعة تضطهده ولا تريد أن ترفعه إلى درجة الأستاذية بها، فانظر إلى رجل يعد الآن رابع أربعة كبار، هم صناع هذا العصر من الناحية الفكرية، انظر وقد تعمد معاصروه من زملائه أن يخمدوا شعلته حتى لا تتوهج، وقريب من هذا المثل ما حدث في حالة الفيلسوف البريطاني «ديفيد هيوم» الذي هو بغير شك في طليعة الطليعة من فلاسفة بريطانيا (عاش في القرن الثامن عشر)، فهو أيضا قد حورب في عصره على صورة تثير فينا الدهشة، فمن ناحية حرمت أقسام الفلسفة في جامعة أكسفورد على طلابها شغل أنفسهم بمؤلفاته؛ لأن أساتذتها لم يروا فيها قيمة تذكر، ومن ناحية أخرى حورب في حصوله على كرسي الأستاذية في جامعة أدنبره باسكتلندا (وهيوم اسكتلندي)، وأظن أن الذي فضلته عليه الجامعة من زملائه يومئذ هو آدم سمث، صاحب المؤلف المشهور في مادة «الاقتصاد السياسي»، (وكان الاقتصاد يوصف دائما بكلمة «السياسي» فيما قبل عصرنا) مع أن الأستاذية المطلوبة كانت لفلسفة الأخلاق، وعلم الرغم من أهمية آدم سمث، الذي يعرفه كل دارس للاقتصاد حتى اليوم، فلا أظن مؤرخا واحدا يؤرخ للفكر البريطاني يتردد لحظة في ترجيح هيوم على آدم سمث من حيث عمق الأثر، لا في بريطانيا، بل وفي عالم الفكر في كل أرض بها للفكر حياة.
أمثلة لا تعد ولا تحصى لما يكيد به المعاصرون لمعاصريهم، مما يدعو إلى التفهم والتسامح، حين نتجه بأبصارنا إلى حياتنا نحن المعاصرة في جوانب الفكر والفن والأدب، فإن نظرة واحدة سريعة، تتعقب بها ما يسمونه ب «المعارك» الثقافية، سواء كان ذلك في الجيل الماضي، أو في هذا الجيل الحاضر، لتكفي للدلالة على أنها حياة ملطخة بالدماء نابا ومخلبا، هي حياة سادها الإجحاف وندر فيها الإنصاف، وحتى إذا رأيت أحد الأعلام في تلك الميادين قد ظفر بما يستحق من ثناء وتمجيد، فسوف تدرك بعد الفحص الدقيق المتأني أن لذلك الموقف علة، وقد تكون هذه العلة هي ما قام به ذلك العلم من ضروب النشاط الاجتماعي التي لا شأن لها بمجال إنتاجه الثقافي، لكن لها الشأن كل الشأن بجذب انتباه الجمهور، وكذلك قد تكون العلة فيما يؤديه من أجله أنصاره، لقتل من أرادوا قتله، أكثر مما هو للإشادة به حقا وتمجيدا حقا.
وأعود بذاكرتي إلى مرحلة الشباب، وقد كنت في شبابي متابعا لكل ما يحدث في حياتنا الثقافية، سواء أكانت ذات صلة بموضوع تخصصي أم لم تكن. أعود بالذاكرة إلى تلك الأيام فأذكر ليلة كنت أذاكر فيها دروسي وقد تقدم الليل، وإذا بصوت بائع الصحف يدوي في الشارع، فيحطم جدران السكون، مناديا بالعدد الخاص من جريدة «السياسة الأسبوعية» الذي خصص نفسه للاحتفال بتنصيب أحمد شوقي أميرا للشعراء، فهرولت إلى بائع الصحف لأظفر بالعدد الذي كان موعد ظهوره هو صباح اليوم التالي، ولما عدت إلى مكاني من مسكني آثرت أن أنفق بقية الليل في قراءة ما نشره الكاتبون عن شوقي، وكان أول ما اخترت أن أقرأ له هو المازني: فإذا أول جملة يستهل بها الكاتب مقالته، كما أذكرها حتى اليوم هي: «ليس شوقي بشاعر ولا شبه شاعر»؛ لأن الشاعر إما أن يكون شاعرا، وإما ألا يكون شيئا، ولا وسط بين الطرفين.
ولم يكن هذا الرأي جديدا علينا كل الجدة، فمنذ عدة سنوات قبل ذلك الموعد كان العقاد والمازني يسعيان جهدهما في النقد الأدبي ليخرجا أحمد شوقي من زمرة الشعراء، وكتابهما «الديوان» يشتمل على كثير مما كتباه لهدم شوقي (ولهدم المنفلوطي أيضا)، ولقد كنت في شبابي وما بعد شبابي متأثرا بهما في هذه النظرة، مشايعا لهما في الحكم، لكنني أدخلت لنفسي تعديلا أساسيا في فهم الشعر وتقويمه، وليس هذا مكان الحديث في ذلك، ولكنه مكان أسأل فيه: هل يعقل أن يقال عن شوقي وعلى ألسنة أقدر النقاد في عصرهم إن شوقي لا هو شاعر ولا شبه شاعر؟ إلى هذا الحد يبلغ ظلم المعاصرين للمعاصرين؟!
ولقد كان ظلم المعاصرين للعقاد أقسى وأفدح، ولست أنسى ساعة قابلت فيها ناقدا مرموقا، أعفي نفسي من ذكر اسمه، «وكان ذلك سنة 1964م وبعد وفاة العقاد بقليل»، فكان حكم ذلك الناقد على العقاد أنه «لم يقدم شيئا»، وأنه «بغير قيمة أدبية على الإطلاق»، وأذكر أني أجبته في هدوء قائلا: إن هذه الأحكام الشاملة لا تنفع أحدا، وخير لك ولنا أن نتناول العقاد في ميادينه المختلفة، واحدا واحدا؛ فنحكم عليه شاعرا (وله عشرة دواوين) ونحكم عليه كاتبا سياسيا، ونحكم عليه كاتبا لتراجم الأبطال، ونحكم عليه ناقدا أدبيا، وهكذا، فعندئذ قد نجد أن الحكم على العقاد في ميدان معين ليس هو بذاته الحكم عليه في ميدان آخر، ولكن إلى هذا الحد يبلغ ظلم المعاصرين للمعاصرين.
ومن أظلم ما يحارب به المعاصرون معاصريهم في حياتنا نحن، هو أن يوجه الناقد إلى خصمه أحد سهمين، أو أن يوجه إليه السهمين جميعا؛ فهو يرميه إما بالكفر - والعياذ بالله - وإما أن يرميه بتهمة الخيانة للوطن والعمالة للأعداء، وكثيرا ما يرميه بالتهمتين معا، ولست أريد المقارنة بيننا وبين سوانا من الشعوب - والمتقدمة منها بوجه خاص - لكنني أشعر الآن بفائدة أن أنبئ القارئ بأنه يندر جدا أن يقع على إحدى هاتين التهمتين موجهة من ناقد إلى كاتب أو مفكر، أما نحن فأهون وأسرع ما يلجأ إليه الناقدون الحاسدون هو قتل العدو بهاتين التهمتين ارتكانا إلى حقيقة يعرفونها جيدا، وهي ضعف القدرة النقدية عند الجمهور المتلقي، وبالتالي كان من العسير عليه أن يفرق بين الصواب والخطأ فيما يكيله الناس بعضهم لبعض من تهم في المجال الثقافي بصفة عامة، وأقل ما يقال في تعليل ذلك هو أن الجمهور كثيرا ما يسمع الأحكام ويصدقها دون أن يكون قد قرأ سطرا واحدا مما كتبه المتهم في عقيدته أو في وطنيته.
إبان الخمسينيات أصدر مؤلف مصري كان معروفا - على الأقل بسبب ارتفاع مناصبه - كتابا يبين فيه أثر الاستعمار في حياتنا الفكرية، ولقد رضي له ضميره بأن يوجه تهمة خيانة الوطن والخروج على الدين معا إلى ثلاثة رجال - هم: طه حسين، وعلي عبد الرازق، والفقير لله كاتب هذه السطور - أقل ما يقال فيهم إنهم بذلوا كل ما يستطيعونه من جهد في إثراء الحياة الثقافية وترشيدها، وبعد ذلك فمن حق من شاء أن يقول عن أحدهم أو عن جميعهم إنهم أخطئوا في هذا وفي ذاك مما عرضوه من أفكار، أما أن يقال عنهم إنهم عملاء للمستعمر، وإنهم مارقون على دينهم فذلك - في الحق - مما يشكك في نزاهة المؤلف، أكثر مما يشكك في قيمة هؤلاء الرجال، ولكنه ظلم المعاصرين للمعاصرين.
على أن أفتك سلاح يحارب المعاصرون به معاصريهم ليس هو قذفهم بمخالفة الدين وخيانة الوطن؛ لأن ذلك لا ينطلي إلا على السذج، وإنما هو سلاح الإهمال والصمت عمن يريدون إخماد أنفاسه حتى يموت، وذلك فيما يبدو هو ما صنعه أصحاب الفقيه المصري الإمام الليث بن سعد، الذي قال عنه الإمام الشافعي عبارته التي أسلفت ذكرها، والتي رسخت في ذاكرتي منذ عرفتها، وهي تقفز إلى ذهني كلما مررت بمسجد الليث: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.» ترى كم ليثا في حياتنا المعاصرة خذله معاصروه؟!
نامعلوم صفحہ