ونسأل عن المسلم الجديد كيف نريد له أن يكون؟ فقل لي بالله ماذا يكون سوى أن يسعى إلى قوة العلم في أحدث صوره، يسعى إليه من أبوابه ومن نوافذه ومن كل ثقب إبرة يوصله إلى تلك القوة، وعندئذ يسود الدنيا كما يسودها آخرون، أما علماؤنا فيما هم فيه اليوم، فبرغم فضلهم وتحصيلهم ومؤهلاتهم ومؤلفاتهم فهم لم يحققوا أمرين بغيرهما يتعذر علينا الوصول إلى ما نبتغيه، الأمر الأول هو أنهم في أكثر الحالات حافظون لما صنعه سواهم، ينقلونه من مراجعه نقلا أقرب إلى التكديس والتجميع منه إلى التفكير المبتكر الأصيل، ولا فرق بين أن يكون المنقول عنهم هم أجدادنا نحن أو أبناء الغرب وثقافته وحضارته، والأمر الثاني هو أنهم يحفظون ما يحفظونه وينقلون ما ينقلونه دون أن يتغير عند أكثريتهم الغالبة ذرة من حيث منهج التفكير، فيظلون ينظرون إلى الدنيا كما كانوا ينظرون.
إنك إذا أردت تعريفا - أدق تعريف للعلم - فلن تجد ذلك التعريف مستمدا من مضامين الموضوعات التي يبحثها العلماء؛ وذلك لأن لكل عالم منهم موضوعا مختلفا كل الاختلاف عن موضوع زميله، فواحد يبحث في الضوء وقوانينه، وثان يبحث الجينات التي عن طريقها تتم الوراثة، وثالث يبحث في عوامل سقوط الدولة الأموية، ورابع يبحث في كيفية استخراج السماد من الهواء، وهكذا، وكل هذه الحالات هي «علم» فكيف يمكننا تعريف العلم بمادة بحوثه؟ لكن ذلك التعريف ممكن إذا بحثنا في تلك الحالات كلها عن نقطة تشترك فيها جميعا، وسنجد أنها كلها تلتقي في «المنهج» الذي ينتهجه الباحث. وقد أسلفنا لك نبذة غاية في الإيجاز تبين كيف تميزت عصور التاريخ في هذا الصدد بتغير المنهج، فقد كان على صورة معينة رائدها أرسطو، ثم أصبح إمام النهضة الأوروبية على صورة ثانية (أضيفت إلى الصورة الأولى)، وكان أبرز من مارس تطبيقها هو إسحاق نيوتن، ثم جاء عصرنا بصورة ثالثة قامت على استخدام الأجهزة، وأحلت الاحتمالية محل الحتمية في قوانين العلم، ووقع هذا كله في ظل النسبية التي كان أينشتين رائدها، ومعنى هذا كله هو أن تعريف العلم إنما يكون بمنهجه لا بمادته، فليكن موضوع البحث أيا كان، فهو علم ما دام قد انتهج منهج العلوم، أما أن نقف عند موائد الآخرين لننقل عنهم ما قد انتهوا إليه، ثم ننتهج في جوانب حياتنا طريقة ليست هي طريقة العلماء؛ فذلك هو التلفيق والترقيع والإفلاس.
ونعود بعد هذا العرض إلى المسلم الجديد وما يراد له وما يراد منه، ولقد أسلفنا لك الرأي بأن الذي يراد له ومنه إنما هو علم بمعناه الحديث ومزيد من العلم ثم مزيد من المزيد، وبهذا العلم ينفتح أمامه السبيل إلى القوة وإلى السيادة وإلى المشاركة في موكب العصر، فلقد سمعت ذات يوم مسئولا كبيرا - كبيرا جدا - وهو يقول في اجتماع رسمي يخطط فيه الحاضرون لمستقبل شبابنا، سمعته يقول ما معناه إن في الدنيا الآن حضارة جديدة، وعلينا أن نزيد من تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليقاوموا تلك الحضارة، وكان الأصوب أن يقول إن علينا أن نزيد من تحفيظ شبابنا القرآن ليستطيعوا المشاركة في حضارة عصرهم، وفي هذه الجملة الأخيرة بيت القصيد.
إن كتاب المسلم هو القرآن الكريم، الذي يحث المؤمن حثا لا ينقطع على أن يتفكر في خلق السموات والأرض، وبهذا أصبح التفكير فريضة إسلامية (وقد جعل العقاد هذه العبارة عنوانا لكتاب له) فماذا وكيف يكون التفكير في خلق السموات والأرض إلا أن يتقصى المسلم كل شيء يستطيع أن يتقصاه ليعرف سره وليستخرج قوانينه، وتلك هي العلوم وما تصنعه بمنهاجها، ربما توهم من توهم أن المراد بالتفكير هو أن يجلس على كرسيه شاخصا ببصره إلى لا شيء سارحا بخواطره السائبة فيما ليس يدري هو نفسه إلى أي شيء تؤدي به تلك الخواطر، لا وألف مرة لا، فليست لفظة «التفكير» رمزا بغير معنى، بل هو لفظ عربي له في اللغة معناه، ثم حدد له المناطقة ذلك المعنى تحديدا لم يترك لنا خيارا في طريقة فهمه، فلأن «تفكر» لا بد لك - أولا - من مشكلة مطروحة عليك لتجد لها حلا «بالتفكير» في طريقة الخروج منها، أو قل إنه لا بد لك من «سؤال» ملقى ينتظر الجواب ممن يستطيع أن يجيب، فإذا ظننت مرة أنك «تفكر» فعليك أن تقدم لمن يسألك أو أن تقدمه لنفسك «السؤال» الذي تسعى بتفكيرك ذاك إلى الإجابة عنه، إذا فكر الطبيب في علة مريضه فهو بمثابة من يسأل نفسه ماذا عساه يزيل عنه المرض؟ إذا فكر الجغرافي في علة الخماسين فهو بمثابة من يسأل ماذا كانت العوامل المناخية والطبيعية التي حركت الهواء وأثارت الغبار؟ وإذا فكر فقيه في حكم الشرع في الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال المودعة فيها، كان بمثابة من يطالب نفسه بالبحث عن الأسانيد التي تثبت هذا وتنفي ذاك، التفكير - إذن - موقف فيه سؤال عن شيء ما ثم البحث له عن جواب، وقد يكون السؤال نابعا من المفكر ذاته، وكذا قد يأتي السؤال من شخص غير الشخص الذي سيتلقاه ليبحث له عن جواب.
التفكير في خلق السموات والأرض فريضة إسلامية لا تؤدى وأنت متربع على مقعدك، شاخصا ببصرك إلى فراغ، سارحا بخواطرك إلى غير هدف. كلا، ولا هي فريضة تؤدى بتكرار الآيات الكريمة التي تحض المسلم على أدائها، فما من مشكلة طرحها العلم أو سوف يطرحها إلى يوم الدين، إلا وهي خاصة بجزء معين من خلق السموات والأرض. ولقد اضطلع السلف بكثير من التفكير في الكون وكائناته وظواهره؛ فكان منهم علماء الفلك وعلماء الطب وعلماء الكيمياء وعلماء الطبيعة في هذه الظاهرة أو تلك، كما كان منهم علماء الحيوان وعلماء النبات والرحالة الذين يجوبون اليابس والماء، ومع ذلك كله فلا يسعنا إلا أن نلحظ في أمرهم نقطتين، الأولى هي أن معظم جهودهم العلمية قد اتجهت نحو فقه الدين واللغة وعلوم الكلام والفلسفة وغير ذلك مما يدور كله حول «الكلمة» في شتى أوضاعها، وأما الكون وكائناته فلم يظفر منهم إلا بالجزء الأقل في جملة اهتماماتهم، والأمر الثاني هو أن العلوم الطبيعية بصفة عامة لم يكن قد آن أوانها من حيث مراحل التاريخ العلمي؛ فلقد برع القدماء في علوم الرياضة بصفة خاصة وتعليل ذلك هو أن «المنهج» الذي كان سائدا هو منهج الاستنباط الذي يستولد من مقدمة لغوية أو رياضية نتائجها التي كانت كامنة في رموزها، فلم يكن للبحث في ظواهر الطبيعة إلا نصيب أقل من القليل.
فلم يكن قصور أسلافنا في مجال العلوم الطبيعية - أعني القصور النسبي - راجعا لعجز في قدراتهم، ولكن المرحلة التاريخية التي جاءت حياتهم فيها لم تكن قد شهدت إلا بوادر يسيرة من ذلك الوليد الذي كتب له أن تجيء ولادته الكاملة في أوروبا عند نهضتها، ومنذ ولد العلم الطبيعي وولد معه المنهج الذي يلائمه. مرت على الدنيا أربعة قرون أو ما هو أكثر من ذلك قليلا، حدث خلالها من التطور في أساليب الحياة ما لم يحدث مقدار ذرة منه خلال تاريخ بشري امتد قبل ذلك أكثر من ثمانين قرنا، بل إنك إذا أحصيت في يومنا هذا عدد العلماء، وأعني علماء الطبقة الأولى ممن جعلوا مجالهم العلوم الطبيعية، لوجدت عددهم في الجيل الواحد الحاضر يفوق بكثير عدد علماء العلوم الطبيعية خلال تلك القرون الثمانين، على أنه لا بد لنا أن نلاحظ هنا أن الأمر في ذلك ليس أمر تفاوت في القدرات العقلية بين أهل الحاضر وأهل الماضي، بل هو مجرد اختلاف في الاهتمامات، فلو كان أفلاطون وأرسطو - مثلا - من أهل العصر الحاضر، لكان الأرجح جدا ألا يتجها بعبقريتيهما نحو المسائل الفلسفية، بل يتجهان بهما نحو فرع من فروع العلم الطبيعي، ولو كان الخليل وسيبويه من أبناء عصرنا لكان الأرجح جدا كذلك أن يتجها بذكائهما الخارق لا إلى دراسة اللغة، بل إلى علوم الذرة والكهرباء، فلكل عصر اهتماماته التي استقطبت قدرات أبنائه، وليس الفرق بين عصر وعصر فرقا في درجة النبوغ عند أبناء هذا وأبناء ذاك. والمسلم الجديد مطالب كما طولب المسلم القديم بالتصدي لعلوم عصره، إنه مطالب بقراءة الكون فيما يعرضه أمام حواسنا من صفحات، لكنها صفحات كتبت بلغة الصوت والضوء والمغناطيسية والكهرباء. ولقد أراد الإسلام للمسلم أن يكون قويا، وللقوة هي الأخرى قنوات مختلفة باختلاف العصور وظروفها، وعصرنا قوته في علومه، فليسأل المسلم الجديد نفسه: كم كان نصيبه لا من نقل علوم الآخرين وحفظها، بل نصيبه من البحث العلمي الأصيل الذي يقدمه إلى الدنيا قائلا ها أنا ذا؟ فإذا وجد نصيبه في ذلك صفرا أو ما يقرب من الصفر، فكيف يبيح لنفسه بعد ذلك أن تأخذه الدهشة، ومع الدهشة غضب وحسرة حين غفا ثم استيقظ ليجد نفسه في قبضة من ليس ينتمي إلى أمته أو ملته يتحكم فيه كيف شاء مستعينا بعلومه، ولا يقاوم العلم إلا علم مثله، ولا يتأتى للمسلم ذلك إلا إذا أمعن في دراسة كتاب الله، لا ليقاوم به حضارة العصر كما أراد المسئول الكبير، بل ليتشارك بقوته التي يستمدها منه في هذه الحضارة مشاركة الأنداد، فتكون له السيادة كما كانت لأسلافه، وليست هي السيادة على أحد من البشر، بل السيادة المطلوبة هي سيادة على ظواهر الكون بقوة العلم، وبذلك يظفر بالحرية مرتين: حرية القادر على تسخير الطبيعة لصالحه ، وحرية أخرى تفك عنه قبضة من ساده بعلمه فحكمه وتحكم فيه.
الفصل الثامن
رأس الحكمة مخافة الله
عن الحرية المسئولة أتحدث
لا أظنني كنت قد جاوزت الثانية عشرة حين وقعت عيني على هذه العبارة: «رأس الحكمة مخافة الله»، فقد رأيتها أول ما رأيتها في كراسة الخط، وفي أيامنا كان هنالك شيء اسمه دروس الخط العربي، حيث تخصص لها كراسات توزع علينا، كتب في الطرف الأعلى من كل صفحة فيها نموذج مطبوع ليحاول التلاميذ محاكاة ذلك النموذج فيما بقي من بياض الصفحة، وقد يوضع أحيانا على السطر التالي للنموذج، مثيل له مطبوع بالنقط الخفيفة؛ ليسير التلميذ بقلمه على ذلك المثيل المنقوط، لكي تعتدل يده بعض الشيء قبل أن يستقل بذاته في الأسطر التالية، وأظن أن هذا كله لم يعد له وجود في المدارس، وتركت أصابع التلاميذ لتعتدل في الخط أو لتعرج وفق ما تشاء لها المصادفات، وربما كنت مخطئا في ظني هذا، فلست أدري على وجه اليقين ماذا هناك.
نامعلوم صفحہ