إن للكلمة دورا، هذا صحيح. ولكن دورها يأتي عادة قبل المعارك، قبل «الفعل» فهي «فعل» ما قبل الفعل. إن دورها أن تجسد الأماني حقيقة، دورها أن تقرب المستحيل، دورها أن تحرض، أن تتغنى بالعمل المقبل، أن تجعله محط الآمال والرجاء. كانت التقاليد عندنا في جيوشنا القديمة أن يخاطب القائد جنده قبل المعركة، وقد ذهبت بعض هذه الخطب من فرط ما فيها من بلاغة وصدق، مذهب القطع الفنية النادرة والأمثال. للكلمة دور في إعداد الشعوب لمعارك المقاومة ونفض الغاصب. للكلمة دور في إذكاء روح المقاومة حتى بعد بدء المقاومة. ولكن ماذا يمكن أن يكون للكلمة من دور، والعمل العظيم كله قد تم ويتم؟ إن أي تمجيد للتضحية، بعد عمل التضحية، شيء لا بد يدعو للإضحاك، أي تمجيد لروح القتال والقتال قد نشب وانتهى. شيء يأتي بعد أوانه كالفاكهة بعد الأوان لا لون لها ولا طعم ولا اشتياق. وأيضا لا بد أن للكلمة دورا أثناء المعارك والقتال، أقصد لا بد للكاتب من دور. ولكن هذا الدور لا يمكن أن يؤدى بالسماع أو بالراوية. إن الإنسان الكاتب لا يمكن أن ينفعل إلا إذا أحس، وهو لا يحس إلا إذا عاش التجربة نفسها، لا يمكن أن يحس بالخطر المروي إحساسه بالخطر يحيط به هو، لا يمكن أن يشيد بلحظة فداء إلا وقد ذاقها نفسه. ولقد كان الملوك والولاة يصطحبون الشعراء إلى معاركهم، بأنفسهم يعيشون ويعايشون ويشهدون؛ ليتولوا بعد ذلك الإنشاء والإنشاد والرواية. أما أن أجلس إلى جوار بطل أو جريح يروي لي قصة دوره أو دور زملائه، فقد يبهرني الحديث هذا صحيح، وقد أتتبعه بشغف زائد، ولكني أفعل هذا بإحساس الشاهد أو ربما بإحساس القارئ الذي يلتهم القصة الرائعة ذلك الالتهام السلبي الممتع. ولنتصور أن يحاول بعض الكتاب كتابة قصص مستوحاة من قصص قرءوها أو سمعوها، لنتصور كم ستبدو مثل هذه القصة شاحبة شحوب الرواية الثانية المنقولة أو المقروءة أو المبنية على أساس مقروء!
إن التسجيل الحقيقي، أو بمعنى أدق التسجيل الدرامي الفني لأحداث 6 أكتوبر كان لا يمكن أن يأتي إلا لإنسان عاش المعركة، مقاتلا كان بالبندقية، أو مقاتلا كان بالقلم أو الكاميرا. وفي كل جيوش العالم وحتى أساطيله يوجد سلاح للتصوير السينمائي والتسجيلي. فأي معركة يخوضها هذا الجيش - أو حتى مناورة - هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الجيش، وبالتالي الشعب وتراثه، وهي ملك لمن خاضوها وحضروها مثلما هي ملك لبقية الشعب الذي لم يحضر، بل ملك لأجياله القادمة ومستقبله الطويل.
وهكذا رحت أقرأ الأخبار المحمومة المتحمسة عن الزيارات للجبهة بغير نيران، وعن نوايا الكتاب العظيمة في تسجيل وكتابة بطولات 6 أكتوبر أو حتى إضافة فصول عنها إلى قصصهم وأقلامهم، وأنا مذهول حائر لهذه القدرة الهائلة على عمل أي شيء، وكأن الكتابة والفن مجرد كلام في كلام، وكأن الكتابة عن المعارك مسائل يمكن أن تحس وتستعمل كالمراهم من الظاهر. في الحرب العالمية الأولى وفي الحرب الثانية، في حروب المقاومة في إسبانيا وفيتنام، في أي حرب قامت أو تقوم، كان الكتاب هناك في المعركة في أعمق أعماقها وداخلها، بأنفسهم، بوجدانهم، بكل خلجة إحساس من أحاسيسهم، بكل أحاسيسهم، بكل ما يملكون من قدرة على الانفعال والشعور. موجودون ليس كمتفرجين حتى أو كمشاهدين، وإنما كمشاركين أساسيين في المعركة، سلاحهم الكلمة الطلقة، والانفعال المتفجر. موجودون قرونا للاستشعار المقدس يملكها الشعب وبها يحس وبها ينفعل وبها أيضا يكون هو نفسه كجماهير عريضة واسعة قد خاض المعركة وعاشها وتنفسها. ولم أدهش أبدا وأنا أقرأ في اتحادات الكتاب وتجمعاتها في موسكو ولندن وباريس قوائم بعشرات، بل أحيانا بمئات، من الشعراء والكتاب والصحفيين ومصوري السينما استشهدوا وهم يؤدون واجبهم الفني الأعظم ضمن كتائب جيوشهم وقواتهم.
إن الكلمة، إن الفن، لا يمكن أن يكون له دور «الكومبارس»، وخاصة حين يجيء تمثيله بعد انتهاء الرواية، يبدو أن نظرتنا للفن وللثقافة عامة في حاجة إلى تغيير شامل عميق تعيد له مكانته القيادية والريادية، وتحترم دوره سواء في معارك جيوشنا أو في معارك سلامنا وحضارتنا. فحرب الحرب، أو حرب السلام هي أولا وأساسا ملك للشعب كله، لأجياله الحاضرة والقادمة، وحتى من مات من أجياله. إنها حياته، يحياها بالحرب حينا وبالسلام. ونحن لسنا كائنات من حديد أو حجر، نحن بشر، وحين خلق الله البشر خلق لهم الفن ليكونوا بشرا، ولتكون لحياتهم قيمة أسمى ومعنى أكبر من مجرد ملء البطون بالطعام وملء الأرض بالنسل.
أما من تغيير حقيقي يعيد لكلمتنا دورها، ولفننا قيادته، وللثقافة والفكر أهميتها القصوى لشعب بالفن عاش، وبالفن خلد وجوده وحضارته؟
الخناقة على الطريقة المصرية
لا شك أن المصريين أعقل شعوب الأرض قاطبة، ولقد حيرني هذا الأمر طويلا وكثيرا، وخاصة حين كنت أسافر وأختلط بكثير من شعوب الدنيا، ثم وأنا أدري - وحتى دون أن أدري - أبدا أقارن بيننا وبينهم؛ فأجد لكل شخصية من شخصيات الشعوب نوعا من جنونها الخاص أو غرابتها أو شذوذها، ثم أعود للقاهرة، وبعيون جديدة أحاول أن أعثر لشعبنا أو لشخصيته على هفوة غرابة أو بادرة جنون من أي نوع، دون جدوى.
وحين أقول إننا أعقل شعوب الأرض، لا أعني بالطبع أننا كذلك لأننا أكثرها حكمة أو علما أو تأدبا، في الحقيقة أعني أننا أكثره تعقلا. والفرق بين الحكمة والتعقل هو أن الحكمة تأتي بعد إعمال عميق للتفكير، ومقارنة بين الاحتمالات الكثيرة والحلول، ثم اختيار قائم على تفضيل الأحسن بالنسبة للشخص أو للشعب. أما نحن هنا، فنحن نتعقل أولا وبادئ ذي بدء، بمعنى أننا بالتلقاء والسليقة نختار أقرب الحلول للسلامة وحفظ الذات والإفلات من الموقف، ولو كان هذا على حساب النتيجة في المدى الطويل.
قارن مثلا بين خناقة إنجليزية وخناقة مصرية. تبدأ الخناقة الإنجليزية بخلاف بين صديقين أو عدوين هادئة، ثم تتصاعد إلى مستوياتها الدرامية العليا، ويحدث كل هذا دون ضجة أو زعيق، بل بكلمات تتصاعد في حدة معناها وليس في طريقة إلقائها حتى يبلغ الأمر حتمية أو ضرورة الالتحام، وهنا تجد الاثنين قد انتحيا ركنا أو خرجا من المشرب، وفي منتهى الهدوء المجنون بدآ يصفيان الحساب جسديا متصارعين أو متلاكمين أو متلاحمين، يكيل كل منهما للآخر ضربات هائلة في الصميم، ينالها الآخر ولا يتوجع لها إنما بكل العنف يتحين الفرصة وينقض على الآخر بضربة أقسى وأوجع. المارة لا يقفون ولا يتفرجون؛ فهم يعرفون أن ما يدور مجرد عملية جسدية لتصفية حساب «أيديولوجي» بين اثنين من الناس لا شأن لهم بهما، بل من المستحسن أن تتم هذه التصفية دون شهود عيان، إذ حين يوجد شهود العيان تتعرق عملية التصفية ويتحول المتعاركان إلى «ممثلين» يضعان الجمهور في حسابها ويستشهدانه، وفي هذا نوع من «التظاهر» أي الخداع لا يليق بقضية لا تخص أحدا بقدر ما تخص طرفيها، وبقدر ما تخص ما يكيله أحدهما للآخر من لكمات.
وهذا في الخناقة الإنجليزية الأنجلوساكسونية، يصفي الخناق عضويا بعدما عجز الخناق «الأيديولوجي» عن أن يصفيها نفسيا وتناقشيا.
نامعلوم صفحہ