بين علي ومعاوية، فقد أفادت معاوية بالمطاولة والمراوغة أضعاف فائدتها إياه بالنتيجة التي انتهى إليها قرار عمرو وقرار أبي موسى الأشعري؛ لأن تطاول الأيام أعان على تفريق جيش علي وتبديد شمله، وشيوع اللغط بين طوائفه وأصحاب المذاهب المغالية من المتمردين عليه، ولا سيما الخوارج والقائلين بتحريم القتال وكل ما أعان على تفريق جيش علي فهو معين على تعزيز جيش معاوية، وتقريب طلاب المغانم وتباع الفرص من دولته وسلطانه.
وقد اختار معاوية عمرا للتحكيم وهو لا يأمنه كل الأمان، وربما كان اطمئنانه إلى أبي موسى الأشعري صاحب علي أكبر من اطمئنانه إلى صاحبه ووكيله؛ لأن أبا موسى كان يجهر باجتناب القتال واعتزال الفريقين، وكان اختياره على الكره من علي، وعلى هوى الأشعث بن قيس الذي كان متهما بالتخذيل عن علي، وترويج كل رأي يرضاه معاوية، ولا سيما بعد زيارة قيس لمعاوية في إبان معركة صفين.
والذي حدث في أوائل المفاوضات خليق أن يسوغ قلق معاوية واسترابته في نيات صاحبه ووكيله، فإنه قال لأبي موسى: ما يمنعك من ابني عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته؟ فقال أبو موسى: إن ابنك رجل صدق ولكنك غمسته في هذه الحروب غمسا.
وطالت المفاوضة، فأوجس معاوية وعظم خوفه، وجاءه داهية العرب المغيرة بن شعبة فألفاه قلقا يتسمع ويستطلع، فقال له: قد أتيتك بخبر الرجلين، قال معاوية: وما خبرهما؟ قال المغيرة: إني خلوت بأبي موسى لأجلو ما عنده، فسألته: ما تقول فيمن اعتزل عن هذا وجلس في بيته كراهية للدماء! فقال: أولئك خيار الناس، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم وبطونهم من أموالهم ، فخرجت من عنده وأتيت عمرو بن العاص، فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول فيمن اعتزل هذه الحروب؟ فقال: أولئك أشرار الناس، لم يعرفوا حقا ولم ينكروا باطلا.
ثم عقب قائلا: أنا أحسب أبا موسى الأشعري خالعا صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد، وأحسب هواه في عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي عرفته، وأحسبه سيطلبها لنفسه أو لابنه عبد الله، ولا أراه يظن أنك أحق بهذا الأمر منه.
والذي نراه نحن كذلك أن عمرا لم يكن ليظن أن معاوية أحق بالخلافة منه، ولكنه كان أكيس من أن يطلب الخلافة له أو لابنه باتفاق رأيه ورأي أبي موسى الأشعري، دون ما يستلزمه طلب الخلافة من الجند والدولة والعصبية، فماذا عساه أن يغنم بالاتفاق مع الأشعري على المبايعة لابنه عبد الله؟ إنه يخسر عضد معاوية، ولا يكسب أحدا من أنصار علي، ولا يصل هو ولا ابنه عبد الله إلى مأرب، وإنما نعتقد أنه ذكر اسم عبد الله ليغرر بأبي موسى، ويلقي في روعه أنه غير جاد في خدمة معاوية، وأنه يعمل لنفسه ولأعقابه من بعده، وقد أصابت هذه الحيلة محزها، فصدق أبو موسى أن عمرا يخلع معاوية، وأنه إذا قام على المنبر ليخلع عليا، قام عمرو من بعده فخلع معاوية، وترك الأمر شورى ليظفر به ابنه فيما يرتجيه، فلما اتفقا على خلع الاثنين وأن يبدأ أبو موسى بخلع صاحبه، قبل هذا الاتفاق ولم يتردد في إنفاذه، وهو يحسب أن خذلان عمرو لمعاوية غير بعيد، ما دام يطمع فيها لنفسه من طريق الدعوة إلى ابنه.
وإن جهد عمرو في مسألة التحكيم لجهد يسير عليه، ولكنه حقيق من معاوية بجزاء غير يسير.
ولقد تطلع عمرو لهذا الجزاء الذي طال اشتياقه إليه، وهو ولاية مصر جامعة موروثة في عقبه، فماطله معاوية زمنا واستكثر عليه هذه «الطمعة» التي اشتهاها، وأسر في نفسه إذا هو رضخ له بشيء منها أن يرجع فيما أعطاه بذريعة من الذرائع التي لا تعيبه، فكتب في وثيقة تصالحا عليها أن ولاية مصر لعمرو «على ألا ينقض شرط طاعة»، وهو يريد أن يتعلل له بالخروج عن طاعته فيبطل شرطه، وفطن عمرو لما وراء هذا «القيد» المقحم في الوثيقة فأنكره، وكتب: «على ألا تنقض طاعة شرطا ...» يريد أن الطاعة لن تخول معاوية الرجعة فيما اتفقا عليه.
وكان معاوية يتهم عمرا بالعجلة كلما ذكر له مصر وأغراه بالزحف إليها، فجمع خاصته يوما يسألهم: هل تدرون ما أدعوكم إليه؟ قالوا: لا يعلم الغيب إلا الله، فقال عمرو: «نعم ... أهمك أمر مصر وخراجها الكثير وعدد أهلها، فتدعونا لنشير عليك فاعزم وانهض ... في افتتاحها عزك وعز أصحابك وكبت عدوك.» فقال له معاوية: يا بن العاص! إنما أهمك الذي بيننا، يعني طعمة مصر، والتفت إلى صحبه يستشيرهم: ما ترون؟ فوافقوا عمرا، وعاد هذا يقول: «ابعث جيشا كثيفا عليهم رجل حازم صارم تثق به فيأتي إلى مصر، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا، فيظاهره على من كان بها من أعدائنا.» فخالفه معاوية وقال له: «إنك يا بن العاص، بورك لك في العجلة.»
غير أنه لم يلبث أن تلقى من أنصاره بمصر كتابا يستحثه إلى غزوها، ويسأله «أن يتعجل بخيله ورجله، فإن أعداءنا قد أصبحوا لنا هائبين».
نامعلوم صفحہ