قضى عمرو نحو خمس سنوات واليا لمصر في خلافة عمر بن الخطاب يتولى له إدارتها وخراجها والدفاع عنها، ويساعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح في ولاية الصعيد ودفاع النوبة.
وقبض عمر، فقام بالخلافة بعده عثمان بن عفان، فشخص عمرو إلى المدينة يبايعه ويعرض عليه شئون ولايته، ويتلقى أوامره فيها، وكان أكبر همه أن يسأل الخليفة الجديد عزل عبد الله بن سعد من ولاية الصعيد؛ لأنه منافس قوي جسور لا يطيقه رئيس مثله في القوة والجسارة! فعز عليه المطلب، واقترح عليه الخليفة أن يتولى شئون الحرب ويترك لعبد الله شئون الخراج فأبى، ونفرت نفسه من هذه المشاركة، وقال: «إني إذن كمن يأخذ البقرة بقرنيها ليحلبها غيره.» وتعذر التوفيق بين المتنافسين، فانتهى الخلاف بإقالة عمرو وإقامة عبد الله على ولاية مصر، حربها وخراجها، وكان ذلك حوالي سنة سبع وعشرين للهجرة.
والظاهر أن ولاية عمرو في مصر كانت على خطر منذ مبايعة عثمان؛ لأن رأي عثمان في طمع عمرو وسوء الظن به قديم؛ ولأن عبد الله بن سعد كان أخا لعثمان في الرضاع، وهو كفؤ ضليع بالرئاسة حربا وإدارة، وليس من دأب عثمان أن يعزل أقرباءه وإن لم يكن لهم من الكفاية والضلاعة ما كان لعبد الله.
ومما لا ريب فيه أن حاشية عثمان تنفس على عمرو مكانه، وتخشى منه الخطر الأكبر إذا رسخت في الديار المصرية قدمه، وظل فيها قائما بالأمر إلى أن يمعن الخليفة في الهرم ويؤذن عهده بانقضاء، فليس ببعيد إذن أن يستقل عمرو بإمارة الديار أو يطمح إلى الخلافة، وليس ببعيد كذلك أن يشترك في التحذير منه أناس كمروان بن الحكم ومعاوية بن أبي سفيان، ولو لم يكن لهؤلاء المقربين شأن في الكيد لعمرو لكانت محاسبة عمرو على طريقة الفاروق أجدى وأقرب إلى الطمأنينة على الخراج، ولكن مقاسمة الولاة في أموالهم بين حين وحين، شيء يأباه ولاة الدولة الجديدة، فأيسر من مقاسمة عمرو في الخراج أن ينحى عنه أو ينحى عن الولاية برمتها ... وقد كان.
ولعلهم لم يؤجلوا عزل عمرو إلى حوالي سنة سبع وعشرين إلا انتظارا لمصير الفتنة التي نشبت في الإسكندرية، إذ انتقض الروم وجاء المدد بحرا بقيادة منويل الخصي من القسطنطينية، فأهاب أقطاب مصر بالخليفة أن يبقي عمرا على الولاية لدرايته بالقوم وهيبته في نفوس الأعداء، ثم تبين من كفاية عبد الله بن سعد في كفاح الروم بإفريقية ما عزز مقامه وأبطل تلك الحجة فصحت له الولاية، ورشحه للقيام على الخراج وفرة المال الذي جمعه من الديار الإفريقية المفتوحة.
أما أثر العزل في نفس عمرو فلا يصعب إدراكه، ولا حاجة به إلى الأخبار والأسانيد، فليس عمرو بالذي يحتمل هذا العزل أو يستكين إليه! وليس هو بالرجل الذي يثور في غير موضع للثورة، أو يأخذ في انتقام لا يثق بإنفاذه وسلامة عقباه عليه! فقصاراه أن يتربص الدوائر بالعهد كله، وأن يترقب يومه الذي يعلم أنه آت لا ريب فيه! وقد ترقب واختار لنفسه مرصد الرقبة فأصاب اختياره: ترقب في بيته بفلسطين حيث تفترق السبل بين الحجاز ومصر والشام والعراق، وحيث يحرض من يحرض من عابري تلك السبل وهو آمن جهد ما يتاح له الأمان، وربما رحل بين الحين والحين إلى مكة أو المدينة يستطلع ويستوثق ويدفع الحوادث إلى الطريق الذي يرتجيه، ثم يقفل إلى مينائه الأمين كالربان الذي يختبئ بسفينته والرياح عاصفة والأمواج زاخرة جارفة، ريثما تنجلي الغاشية عن مهب الريح أين يتجه على استقرار، فيوليه شراعه ويستدير إليه.
ووشى به الوشاة إلى الخليفة، فاستدعاه وأغلظ في شتمه، وراح يؤنبه ويقول له بأحد لسان وأشده: «يا بن النابغة ... أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بوجه آخر؟» فتنصل عمرو وقال: «إن كثيرا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين.» فعاد الخليفة يقول: «استعملتك على ظلمك وكثرة القالة فيك.» فثار عمرو إلى فخره القديم: «لقد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض.» قال عثمان: «لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت، ولكني لنت عليك فاجترأت.»
ومع هذا كان عثمان يبعث إليه فيستشيره كلما أعيته الحيلة وغلبته الحيرة في حكومته! فكان ينصحه بما يعلم أنه لا يضيره ولا ينفع الخليفة، يقول له: «... أرى أن تلزم طريقة صاحبك - أي الفاروق - فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين، وإن الشدة تنبغي لمن يألو الناس شرا، واللين لمن لا يخلص بالنصح، وقد فرشتهما جميعا باللين!»
وإن عمرو بن العاص لأول من يعلم أن طريقة عمر لا يصلح لها غير عمر، وأنه مكلف عثمان شططا حين يركبه متن هذا الطريق، وهو الذي قال له عثمان يوما: «لقد أمرت عبد الله بن سعد أن يتبع أثرك.» فقال: «لقد كلفته شططا!»
وتدرج في الجرأة على عثمان كلما تدرجت الفتنة في التفاقم والاستفحال، ففي مجلس الشورى الذي جمعه عثمان سأله: «ما رأيك؟» فلم يبال أن يجيبه أمام صحبه: «إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية، فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما ...» ولكنه اجترأ هنا وأبقى للحيطة بقية، فانتظر حتى تفرق المجلس ، وخلا بالخليفة فأقبل يعتذر إليه بينه وبينه: «لا والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك، ولكني قد علمت أن بالباب قوما قد علموا أنك جمعتنا لنشير عليك، فأحببت أن يبلغهم قولي فأقود لك خيرا وأدفع عنك شرا!»
نامعلوم صفحہ