ومن التهم التي وجهت إلى البابا أثناسيوس السكندري 296-373، نعرف مدى المكانة الدينية والدنيوية التي بلغها رؤساء الكنيسة في مصر أمام مكانة الإمبراطور نفسه في القسطنطينية، فإنه اتهم بمنع تصدير القمح وافتتاح كنيسة بغير إذن الإمبراطور! ونقل المؤرخ جبون من أخباره أنه لم يكف عن مناضلة قسطنطين وقسطنطينيوس ويوليان وفالنس، وكان يوليان المرتد يسميه بالمشاغب والبغيض، ويبادله التهم مبادلة الند بالند! وسأله قسطنطينيوس مرة: لم لا تأذن بإقامة الكنيسة الآرية في الإسكندرية؟ فكان جوابه: إنني سآذن بها يوم تأذن بإقامة كنيسة أرثوذكسية في أنطاكية!
وغني عن القول: أن المفكرين الدينيين الذين نشئوا في صدر المسيحية، كانوا يعرفون فلسفة اليونان، وكان منهم من يحاول أن يوفق بين الدين وهذه الفلسفة، ومن يفهم قدم العالم وقدم الإله المنزه عن المادة أو الهيولي على مذهب أرسطو تارة، وعلى مذهب المعرفيين أو مذهب الأفلاطونية الحديثة تارة أخرى، وكان من هؤلاء المفكرين يونانيون ومصريون ينظرون إلى المسائل من جانبها الفلسفي، ولا يجنحون بها إلى فريق الحاكمين أو المحكومين، وهذه الآراء العقلية تنجم في كل عصر وفي كل أمة، وتتصل بالسياسة العامة أو لا تتصل بها على حسب الظروف.
ولكن اللازمة التي لا فكاك منها تبرز على الأثر كلما اجتمعت الأسباب اللاهوتية والأسباب القومية في جانب، وهذه القوة المتجمعة من غير الدين وحماسة القومية هي التي اعتصم بها المصريون زمنا في وجه الدولة الرومانية، قبل إيمان هذه الدولة بالمسيحية، وبعد هذا الإيمان.
وقد اضطهد المصريون قبل إيمان الدولة الرومانية بالمسيحية، وبعد إيمانها بها في أيام قسطنطين، وكان من مضطهديهم قياصرة كالفيلسوف ماركوس أورليوس، وقياصرة لا يفقهون ولا يفكرون مثل كاراكلا ودقلديانوس، ووقع الاضطهاد في عهد النقيضتين فوقاس وهرقل، ووقع من العواهل المتدينين وغير المتدينين! ولم يكن هذا الاضطهاد الديني قط خلوا من شوائب السياسة وعوامل الثورة القومية، فلما وجدت للمصريين كنيسة قائمة كانت هي الدين والدولة في وقت واحد، أو كانت هي الزعامة التي لا تلتف بها الأمة وتثبت فيها كيانها ومشيئتها في وجه القوة المفاجئة.
ولم يسع حكومة القسطنطينية إلا أن تعترف بهذه الحقيقة الواقعة، فأرادت أن تستفيد منها لإرضاء الشعب المحكوم واتقاء التمرد من ولاة الرومان الطامحين، فكانت تفصل أحيانا بين سلطان الإدارة وسلطان الجيش، وكانت تقسم معسكرات الدفاع بين مصر العليا ومصر السفلى، وكانت تمنح بعض الزعماء المصريين حقوق الرعاية الدينية والرئاسة الحكومية؛ لأنها بمثابة الاعتراف بالضرورة التي لا محيد عنها، وبالحيلة التي تصلح لتفريق القوى ومنعها أن تتجمع في ناحية واحدة للتمرد عليها، وكانت تستعظم قوة البطرق الوطني أحيانا، فترسل إلى مصر بطرقا على مذهبها يدير كنيسته إلى جانب الكنيسة الوطنية، ويتبعها المسيحيون من اليونان والرومان غير الوطنيين، كما يتبعها بعض الوطنيين الذين يميلون إلى عقيدتها ورأيها، أو يتزلفون للدولة الحاكمة طمعا في المناصب والحظوة النافعة.
وكان الوضع الديني في أوائل القرن السابع محدودا مقررا بين الكنائس الثلاث في المشرق والمغرب والإسكندرية.
كان الأساقفة المصريون قد تمكنوا من بسط آرائهم في مجمع نيقية برئاسة البابا الإسكندر وتلميذه الكبير أثناسيوس، فأقروا العقيدة المسيحية كما اتفق عليها الأساقفة الذين شهدوا المجمع، وحرصوا على رعايتها في القطر المصري وفي بلاد القيروان وما حوله من المدن الإفريقية، ثم نفس عليهم رؤساء القسطنطينية هذا النفوذ، وأرسلوا آريوس إلى الإسكندرية بأمر الإمبراطور، فقاطعه الشعب المصري وأوصد في وجهه أبواب كنائسه، وفعل مثل ذلك مع البطرق جريجوريوس الذي أقامه الإمبراطور مقام البطرق أثناسيوس المصري بالإسكندرية، فلم يحضر صلواته ولم يعترف بوجوده وأهمله حتى مات في عزلة بين رعاياه! وكان أثناسيوس في هذه الأثناء قد استعان بكنيسة رومة على كنيسة القسطنطينية فأعانته، وبرأته من التهم المنسوبة إليه، فعاد إلى الإسكندرية وكاد يقتل فيها غيلة بدسيسة من الإمبراطور يوليان!
ثم انعقد مجمع خلقيدونية، ورجحت فيه كفة رومة والقسطنطينية، وأهملت فيه كنيسة الإسكندرية أشد الإهمال، فوقع الانقسام بين الملكيين أي: التابعين لمذهب الإمبراطور وبين المصريين التابعين لمذهب كنيستهم، وقيل عنهم يومئذ: إنهم «يعقوبيون»؛ لأنهم تلقوا من يعقوب البرادعي - تلميذ البطرق المصري - تفصيل العقيدة التي يؤمن بها ويوصي باتباعها، وكان هذا البطرق المصري «ديسقورس» قد حكم عليه بالنفي لمقاومته قرارات المجمع الخلقيدوني على الرغم من تزكية الإمبراطور!
ولكن التفرقة الصحيحة بين المذهبين هي التفرقة بين القول بطبيعة واحدة للإله، وبين القول بطبيعتين إحداهما إلهية والأخرى إنسانية. ولما استعصى على الدولة أن ترغم المصريين على اتباع مذهبها، توسط بعض الرؤساء الدينيين في حسم الشقاق بترك الخلاف على الطبيعة والطبيعتين، ووصف الإله بأنه ذو مشيئة واحدة، وقدروا أن القول بهذا المذهب يرضي المصريين؛ لأنه يرادف القول بالطبيعة الواحدة، ولا يسخط أصحاب القول بالطبيعتين؛ لأنهم يقولون: إن الطبيعتين تتفقان في المشيئة الإلهية.
غير أن هذا التوفيق لم يحسم الشقاق، ولم تكن له من نتيجة غير تجديد المناقشة في صورة أخرى، وإثارة الخلاف على الفرق بين الطبيعة والمشيئة مما عاد بالمسألة كلها سيرتها الأولى!
نامعلوم صفحہ