.
صفحہ 2
* المقدمة
* بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم ونستعين بك ، ونصلي على جميع أنبيائك ورسلك لا سيما حبيبك وصفيك المبعوث بالهدى رحمة للعالمين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وصحبه الميامين.
وبعد ، قارئي الكريم. كنت وأنا في صباي قد قرأت عمارا أكثر من مرة ، ثم قرأته في مطلع شبابي كذلك ... وها أنا اليوم أكتبه إليك :
قرأت فيه الوعد الحق (1) الذي وعد الله سبحانه أولياءه وما كان الله مخلف وعده حيث يقول : « ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ... » (1).
فلقد نشأ عمار رضي الله عنه حليفا مستضعفا مع والديه ياسر وسمية ، حتى إذا بزغ فجر الإسلام الزاهر بادروا إلى اعتناقه فواجهوا في سبيل ذلك أقسى وأعتى ما يتصور من صنوف العذاب والإمتهان من طاغوت مكة آنذاك أبو جهل بن هشام ، ولم يكونوا وحدهم في تلك المواجهة الصعبة ، بل كان
صفحہ 3
لهم رفقاؤ كثر من المؤمنين ، أمثال بلال بن رباح ، وأبي فكيهة ، وخباب بن الأرت كل يواجه المحنة من سيده ، حتى استشهد من إستشهد ، ومن الله على من بقي منهم بالنصر والظفر ، فرفعهم من مصاف الدهماء والضعفاء ، إلى سدة القادة والأمراء ، حيث اصبح عمار بعد ذلك أميرا على الكوفة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
وقرأت فيه بعد ذلك « حليف مخزوم » (1) مرسوما بالألوان من نوع آخر ، أبدعته ريشة فنان ماهر ، ومفكر مبدع ، حرص كل الحرص على تحويل فكرته إلى لوحة ناطقة معبرة ، تلتقي فيها براعة الفن وجماله بجلال الفكر وهيبته ، فكنت أراه وكأنه ماثل نصب عيني بقامته الفارعة ، وساعديه المفتولين بطلا من أبطال بدر والخندق وصفين ، كما كنت أرى فيه المهابة والوقار والصبر وطول الآناة وهو يحاور ويخاصم بالحكمة وبالموعظة الحسنة ، داعايا إلى سبيل ربه من شذ ونأى عنه.
أجل ، قرأته أكثر من مرة ، لذلك حين قررت أن أكتبه وقفت طويلا وتأملت مليا ، متسائلا مع نفسي ، ماذا سأقول ، وماذا سأكتب؟؟ بعد كل ما قيل وما كتب عن هذه الشخصية الفذة.
ولئن فات غيري الإلمام والإحاطة بظروف « حياة عمار » وملابساتها ، فلن يفوتني ذلك ، فحياة عمار ارتبطت بتأريخ حقبة طويلة من عمر الإسلام ، وإن شئت فقل غير مبالغ : إن حياة عمار شكلت تأريخا لجزء من تلك الحقبة كان لا مناص لنا من تتبعها والخوض فيها لنصل إلى نتيجة واضحة مرضية.
ففي حياة عمار تساؤلات عدة تطرح نفسها وتتطلب منا الإجابة!
لماذا اختار عليا بعد الرسول (ص)...؟ ولماذا نقض على عثمان وعارضه ...؟ ولماذا كانت حروب الردة ... والجمل ... وصفين ... والتي كانت مواقفه فيها معلنة مشهودة.
صفحہ 4
هذه التساؤلات المطروحة كلها ترتبط إرتباطا وثيقا بحياة عمار ومبادئه ، لذلك كان لا بد من عرضها والمجاولة فيها ، ومن ثم سنقرأ استطرادا مواقف عمار بشكل سهل مبسط لا يدع القارئ في حيرة ، وبذلك نفهم وندرك مدى عمق أهداف هذه الشخصية الفذة في تأريخ الإسلام ، ومن الله نستمد العون والتوفيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
صفحہ 5
* شهادات
** عن عائشة :
ما من أحد من أصحاب رسول الله (ص) أشاء أن أقول فيه إلا قلت ، إلا عمار بن ياسر ، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول : ملئ عمار إيمانا إلى أخمص قدميه!
الإستيعاب 2 / 478
** عن خالد بن الوليد ، قال :
كان بيني وبين عمار كلام فأغلظت له ، فشكاني إلى النبي (ص).. فرفع رسول الله رأسه فقال : من عادى عمارا عاداه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله.
الإصابة 2 / 512
** عن رسول الله :
ما لهم ولعمار ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي.
أخرجه ابن هشام مرفوعا. الغدير 9 27
صفحہ 6
شاهد الحق!
أعجب ما يدور في خلد إنسان أن يدلي شاهد بشهادته أمام التأريخ على أمر سوف يقع ، يختصر الأعوام بلحظة والحوادث بكلمة!
وأعجب من ذلك أنه بشهادته تلك يلمح إلى أن هناك حربا سوف تقع بين طائفتين من المسلمين ، ثم يعطي الحكم الفاصل بينهما قبل أن يكون هناك خصام وقبل أن يكون هناك قتال.
لكن العجب سرعان ما يزول حين يدرك السامع أن ذلك المتكلم الشاهد إنما كان يغرف من بحر الغيب ، وأنه رسول الله.
لقد قال رسول الله (ص): تقتل عمارا الفئة الباغية (1).
إن هذه الشهادة من الرسول في حق عمار تكررت غير مرة في أكثر من مناسبة وبصيغ مختلفة.
فمثلا : حين أخذ النبي (ص) في تشييد مسجده المبارك في المدينة المنورة جعل المسلمون يحملون لبنة لبنة ، وجعل عمار يحمل لبنتين لبنتين ، فجعل النبي (ص) ينفض التراب عن رأسه ، ويقول : ويحك يا بن سمية ، تقتلك الفئة الباغية.
صفحہ 7
وتمضي فترة من الزمن تأتي بعدها غزوة الخندق وبينما المسلمون منشغلون بحفر الخندق ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعاطيهم حتى اغبر صدره وهو يقول :
اللهم إن العيش عيش الآخرة
فاغفر للأنصار وللمهاجرة
إذ يجيىء عمار فيلتفت إليه النبي (ص) ويقول : « ويحك يا بن سمية ، تقتلك الفئة الباغية » وفي مناسبة أخرى يقول (ص): عمار على الحق حتى يقتل بين فئتين إحدى الفئتين على سبيلي وسنتي والأخرى مارقة عن الدين خارجة عنه (1).
إن هذه الشهادة لم تصدر من النبي (ص) على نحو المداعبة لابن ياسر ، ولا على نحو الإخبار المجرد ، وإنما صدرت منه على سبيل الإعلام ، وكأنه يرمز من خلالها إلى أمرين مهمين.
** الأول
الصحابة من إخوانه.
** الثاني
بين طائفتين منهم إحداهما باغية على الأخرى وظالمة لها. وبالتحديد : الفئة التي تقتل عمار بن ياسر : ورب تلميح أبلغ من تصريح!
ثم إن المألوف لدى المؤرخ حينما يتناول حياة علم من أعلام الإنسانية أو بطل من أبطالها العظماء هو التركيز على الجوانب الهامة التي تمتد عبر حياته وما يتصل فيها من النواحي الإجتماعية والثقافية وغيرها مما يؤمن للإنسانية بشكل عام مزيدا من المعطيات الخيرة والمفيدة في مسيرتها الطويلة.
والمألوف أيضا أن سيرة أي واحد من هؤلاء العظماء تنتهي بالمؤرخ إلى
صفحہ 8
نقطة أخيرة من حياتهم تكون فيها الخاتمة .. خاتمة الموضوع بخاتمة الحياة.
أما أن تكون النهاية هي البداية ، فهذا أمر نادر قلما يحصل ، إلا أن يكون مثل عمار بن ياسر! إننا حينما نتناول سيرة هذا الصحابي الجليل والجوانب الهامة في حياته ، تطالعنا ولا شك صور ندية مفعمة بكل معاني الخير ، فهو بالإضافة إلى إيمانه القوي وعقيدته الراسخة وفنائه في ذات الله ، إنسان يتمتع بأنبل صفات الإنسانية من الشجاعة والكرم ، والخلق الرفيع والتسامح وكل السجايا الحميدة ، ونقرأ ذلك كله في سيرته وسلوكه منذ نعومة أظفاره ومصاحبته للنبي (ص) قبل البعثة وبعدها .. حتى إسلامه ومعاناته وهجرته .. إلى استشهاده.
ولكن لا ينتهي الأمر بنا عند استشهاده إلا ويفتح لنا باب جديد نرى أنفسنا ملزمين باقتحامه وأن نقف متأملين نجيل الفكر فيما يفضي إليه ذلك الباب ، فالوقوف عند موت عمار واستشهاده ليس أقل أهمية من سيرة حياته. لما يترتب على ذلك من آثار هامة في تأريخ امة بأكملها على صعيد ما تدين به. إذ أن دين الإسلام لم ولن ينتهي بانتهاء حياة الرسول. كما وأن المسلمين لم ولن يتركوا بدون قائد! ومن هنا كانت الفتن التي مزقت جسم الأمة.
غير أن ذلك لا يعني ضياع الحق وفقدان القائد ، فالقائد موجود والحق قائم وأن تعامت عنه عيون وصمت عن ندائه آذان.
وإن من دواعي التأمل أن يقرن التأريخ إسم محمد (ص) بأبي سفيان! وعلي بمعاوية بل ويزيد بالحسين!!
فأبو سفيان قائد أول حرب عسكرية ضد الرسول (ص) ورسالته ، وليست آخر حرب.
ومعاوية قاد الحرب الظالمة في صفين ضد ثاني قديس في الدولة الإسلامية بعد الرسول. ثم تلاه ولده يزيد فقتل الحسين ( سيد شباب أهل
صفحہ 9
الجنة ) ومعه رهط من آل محمد في كربلاء.
وما أروع ما قاله الشاعر :
آل حرب أوقدتم نار حرب
ليس يخبو لها الزمان وقود
إن معاوية بدهائه ومكره إستطاع أن يجند بلاد الشام ونواحيها لحرب علي بن أبي طالب ولم يكن ذلك بالأمر السهل بتاتا لو لا أن ولايته التي دامت ثمانية عشر سنة تقريبا هي التي ساعدته على ذلك.
ففي سنة 15 هجرية ولاه عمر بن الخطاب الأردن ، وفي سنة 17 هجرية مات أخوه يزيد بن أبي سفيان الذي كان واليا على الشام من قبل عمر فولاه إياها ، وحين تولى عثمان الخلافة في سنة 23 هجرية أقره على عمله وضم إليه ولاية حمص وفلسطين والجزيرة ، وبذلك مد له في أسباب السلطان إلى أبعد مدى مستطاع (1).
إن هذه السنين الثمانية عشر كافية في إنشاء قاعدة قوية ينطلق منها أمير كان يطمح للملك وأن يبسط سلطانه على الدولة الإسلامية سيما إذا إصطبغ بلون شرعي ينطلي على البسطاء من العامة ، ككاتب الوحي ، وقرابة الرسول ، وخال المؤمنين والمولى من قبل الخلفاء الراشدين ، بل بإمكاننا التصور أن هناك جيلا كاملا لم يعرف واليا ولا مرشدا له غير معاوية ، أما الزعماء والقادة فكانوا يعيشون في بحبوحة من الترف والبذخ حياة فارهة بما أعطى الله المسلمين من الفيء ، وبذلك وطد أركان ملكه حتى أنه قال عن نفسه : « أنا أول الملوك! ».
على ضوء هذا يمكننا الجزم بأن غالبية جنده كانوا مضللين مخدوعين ، وأوضح دليل على ذلك أن عمرو بن العاص كان إذا غضب منه يهدده بما يفسد عليه أهل الشام ، فكان معاوية يبادر إلى استرضائه ، كما سيأتي.
صفحہ 10
إن معاوية إتهم عليا بالهوادة في أمر عثمان وإيوائه قتلته في جيشه وعدم القصاص منهم كل ذلك حتى لا يفلس من الشام لأنه يعلم مسبقا أن عليا لن يقره عليها وأنه إذا استتب له الأمر سيكون في عداد الولاة والأمراء المعزولين وسيخضع لحساب عسير من علي الذي لا يهادن ولا يماري في أمر الله ، وبالفعل فقد جرت وساطات لإقناع علي (ع) في أن يقر معاوية على عمله ، لكنه رفض ، فقد أشار عليه المغيرة بن شعبة بذلك ، فكان رده (ع): « لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا » (1).
لقد كان علي (ع) واضحا في حجته حين كتب إلى معاوية : « إن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار .. الخ » (2).
لكن معاوية كان في أثناء مراسلاته لعلي يهيء للحرب ، فقد استطاع أن يشرب أهل الشام بغض علي مقنعا إياهم أنه هو المسؤول عن دم عثمان وأنه يريد الثأر له فاستجابوا له على ذلك ، بل وصل الجهل بهم أن هددوه بالعزل إن لم يفعل ذلك. هذا إن لم يكن هو الذي أوحى لهم بأن يقولوا ذلك. فكانت صفين.
واحتدمت الحرب بين الفريقين واستعرت نارها ، وهنا كان لا بد من شاهد حق يدحض حجة الباغي ويجدع أنف الباطل ، كان لا بد من شاهد حق يصدم تلك الأدمغة التي أمعنت في غيها وظلالها كي تعود إلى الصواب .. إلى جادة الحق.
لقد كان هذا الشاهد الحق هو عمار بن ياسر ، وبالضبط : شهادة عمار بن ياسر! كلا الفريقين كانا يرويان حديث النبي (ص) في عمار .. في صفين نفسها والحرب على قدم وساق كانت سيرة عمار بن ياسر تدور على
صفحہ 11
ألسنة المتحاربين ، حتى على ألسنة القادة الكبار منهم فعمرو بن العاص الذي يعتبر الدعامة الكبرى لمعاوية كان يروي حديث النبي في عمار ويلتفت إلى معاوية بعد أن لامه هذا الأخير في ذلك ويقول له :
قلتها ولست أعلم الغيب ... وقد رويت أنت فيه مثلما رويت (1)!
حين استشهد عمار بن ياسر دب الرعب والخوف في عسكر معاوية وكثر اللغط فيما بينهم وكادوا ينقسمون على أنفسهم لولا أن معاوية قال لهم : إنما قتله الذي جاء به وألقاه بين رماحنا! محاولا بذلك إقناعهم.
وكان جواب الإمام علي حين بلغه ذلك : إذن إنما قتل رسول الله حمزة لأنه ألقاه بين رماح المشركين!
لقد كان نبأ استشهاد عمار يوازي في أهميته حقبة من الجهاد الطويل المثمر لأنه كان الفاضح لفئة تحارب وتقاتل باسم الحق وباسم الدين ، بينما الحق والدين كانا مع عمار! لقد كان شاهد حق مع علي وأصحاب علي.
وكان في نفس الوقت حربا على معاوية ومن معه من البغاة.
رحم الله أبا اليقظان ، فلقد أعطانا بشهادته عدل ما أعطانا من حياته.
صفحہ 12
من اليمن إلى مكة...
قال زياد بن عبد الله الحارثي (1) يصف بلاد اليمن : أما جبالها ، فكروم وورس * 1 وسهولها بر وشعير وذرة.
وقال الأصمعي : أربعة أشياء قد ملأت الدنيا ولا تكون إلا باليمن : الورس ، والكندر والخطر ، والعصب * (2).
وقد يحن بعض الأعراب إلى بلاد اليمن ، فيقول :
وإني ليحييني الصبا ويميتني
إذا ما جرت بعد العشي جنوب
ونستمع إلى آخر وقد إستبد به الشوق إليها حتى صار يحن إلى برقها ، فهو يقول :
صفحہ 13
وسميت بلاد اليمن باليمن الخضراء ، وذلك لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها ، وكانت لها قبل الإسلام مكانة ميزتها عن الكثير من بلاد العالم ، مكانة حضارية وإقتصادية وثقافية ، فهي بالإضافة إلى كونها متاخمة للمحيط الهندي كانت ذات مدائن عامرة ومعابد ، وكان سكانها من بني حمير ذوي فطنة وذكاء وعلم ، كشف عن ذلك إقامتهم للسد المسمى بسد ( مأرب ) حيث تم لهم بواسطته الإستفادة من مياه الأمطار التي كانت تذهب في البحر ، وإن ما كشف وما لا يزال يكشف عنه حتى اليوم من آثار هذه الحضارة الحميرية في اليمن ، ليدل على أنها بلغت في بعض العصور مكانا محمودا ، وأنها ثبتت لقسوة الزمان ، في عصور قسا على اليمن فيها الزمان.
غير أن الحياة الدنيا لا تستقيم على حال ، فلقد تغير وجه اليمن الحضاري المشرق ، وبدأت الكآبة تترك بصماتها واضحة فيه ، أخاديد مهزوزة غمرها الجفاف بعد أن غمرتها الحياة ، فلقد قوض ذلك السد الهائل الذي كان يمنح الخضرة والنظرة والبهاء لأرض اليمن ، وبذلك إنتهى أول مصدر حيوي لها. ومعه بدأت الحضارة بالتقلص والإنكماش ، وبدأ البؤس والشقاء بالتمدد ، بؤسا وشقاء يوغلان في العباد والبلاد ، وبذلك عادت اليمن إلى مصاف شقيقاتها من أصقاع شبه الجزيرة العربية ، لكنها مع ذلك إستطاعت أن تحتفظ بموقعها التجاري الذي يربط بين فارس والروم ، ولكن لفترة غير طويلة ، فقد رأى ملك الروم أن اليمن موطن نزاع بينه وبين فارس ، وأن تجارته مهددة من جراء هذا النزاع ، فأمر بتجهيز أسطول يشق البحر
صفحہ 14
ويذكر في هذا الصدد ، أن قبيلة أزد هاجرت إلى الشمال ، ويختلف المؤرخون في سبب تلك الهجرة. فبعضهم يعزوها إلى إضمحلال التجارة في بلاد اليمن ، والبعض الآخر يعزوها إلى إنقطاع سد مأرب واضطرار كثير من القبائل إلى الهجرة مخافة الهلاك.
وبالطبع فإن هجرة القبائل عادة تكون إلى أقرب منطقة يكثر فيها العشب والكلأ والماء ، يجدون فيها مرعى خصبا لإبلهم ومواشيهم.
أما الإفراد ، فإنهم غالبا ما كانوا يقصدون الحواضر والمدن العامرة بألوان التجارة ، فكان أقرب تلك المدن إلى اليمن وأوفرها عيشا البلد الأمين مكة ، موطن الرخاء للسادة والدعة والسلام.
لقد كانت مكة قبل البعثة النبوية مهوى قلوب الناس ، وذلك نظرا لموقعها الديني العريق الذي يرتبط ببيت الله وموطن إبراهيم (ع). هذا بالإضافة إلى موقعها الجغرافي ، إذ أنها تمثل نقطة الإرتكاز بالنسبة للقوافل القادمة من بلاد فارس والعراق والشام إلى بلاد الحجاز واليمن والحبشة ، ففيها يجد التجار منتجعا للراحة من وعثاء السفر الطويل المضني ، وسوقا تزدحم بأنواع البضائع والمشتريات ، كما يجد الحجاج فيها مستقرا روحيا يميط عنهم درن الذنوب.
وامتاز أهل مكة في الجاهلية بخصال نبيلة تلتقي مع حنيفية إبراهيم (ع)، فقد كانوا حلفاء متآلفين ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم (ع)، فكانوا يختنون أولادهم ، ويحجون البيت ، ويقيمون المناسك ، ويكفنون موتاهم ، ويغتسلون من الجنابة ، كما تباعدوا في المناكح من البنت ، وبنت البنت ، والأخت ، وبنت الأخت غيرة وبعدا عن
صفحہ 15
المجوسية ، وكانوا يتزوجون بالصداق والشهود ، ويطلقون ثلاثا ، إلى غير ذلك.
ويمكن للقارئ أن يتصور سمو الرفعة التي كانت لأهل مكة على سائر القبائل والأمم ، هذا السمو الذي رشح عليهم من عظمة بيت الله ، فمنحهم إمتيازات كانت لهم دون سائر العرب ، وكانت العرب ، بل وملوكهم يدينون لهم بذلك.
فمن شرف مكة ، أنها كانت لقاحا لا تدين بدين الملوك ، ولم يؤد أهلها إتاوة ولا ملكها ملك قط من سائر البلدان ، تحج إليها ملوك حمير ، وكندة ، وغسان ، ولخم ، فيدينون للسادة من قريش ، ويرون تعظيمهم والإقتداء بآثارهم مفروضا وشرفا عندهم عظيما ، وكان أهلها آمنين يغزون الناس ولا يغزون ، ويسبون ولا يسبون ، ولم تسب قرشية قط فتوطأ قهرا ، ولا تجال عليها السهام ، وقد ذكر مجدهم وعزهم الشعراء فقال بعضهم :
أبوا دين الملوك فهم لقاح
إذا هيجوا إلى حرب أجابوا
أما البيت ، بيت الله قلب مكة النابض ، فقد كان جواره ملتقى للسادة من قريش ، يتحلقون حوله حلقات حلقات ، ينظرون في مشاكلهم ومشاكل الناس من حولهم كما كان ولا يزال مزدحما للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وكان للكثير من الطائفين حول البيت طرق وعادات يستعملونها في طوافهم ، فمنهم من كان يعتقد بأن حجه لا يتم إلا بالصفير ، فهم يقولون لا يتم حجنا حتى نأتي مكان البيت فنمك فيه! أي نصفر صفير المكاء ( طائر صغير )، وقسم منهم كان يرى التصفيق من ضروريات الطواف (1) وقسم منهم كانوا يطوفون عراة حول البيت! إلى غير ذلك مما تمليه عليهم عقولهم القاصرة.
صفحہ 16
وهناك صنف كانوا يعقدون حلقات حول البيت يتصدرها الشعراء ، أو من لهم خبرة بالأنساب ، وعلم عن أحوال العرب وتواريخها وأيامها وحروبها ، وبالطبع فإنه كان هناك من له الخبرة الكافية والمعرفة التامة بأحوال مكة وقريش وتأريخها ، فقد كان هذا يحدث المتحلقين حوله عن تأريخ البيت العتيق ، وقصة إسماعيل الذي فداه الله بذبح عظيم بعد أن أمر الله إبراهيم بذبحه ... وأنه عندما كان طفلا تركه أبوه مع أمه هاجر وديعة بواد غير ذي زرع .. ثم حدثهم كيف إشتد الظمأ بإسماعيل الصغير واستحكم الوله والخوف على قلب أمه خشية أن يموت ظمأ حتى صارت ترى السراب بين الصفا والمروة فتحسبه ماء وتندفع نحوه ، وحين لا تجد شيئا ، تعود الى مكانها الذي انطلقت منه ، ثم تعود وترمي ببصرها نحو المروة فيبرق أمامها لمعان السراب ثانية فتحسبه ماء وتندفع نحوه!! تفعل ذلك سبع مرات ، حتى إذا أعياها التعب وداخلها اليأس استغاثت بربها ورب إبراهيم وإسماعيل. وفي هذه اللحظات هفا قلبها نحو مكان ولده إسماعيل ورنت إليه بعينين ذاهلتين يائستين فلمحت طيورا تهوي لترف بجانب ولدها ، فأسرعت نحوه وإذا بها ترى الماء وقد تفجر من تحت قدمي ولدها الظامئ إسماعيل ، فخشيت أن يجف قبل أن يرتوي وترتوي منه ، فجعلت تزم التراب حوله وتقول : زم .. زم (1).
ثم حدثهم كيف استجاب الله دعوة إبراهيم فجعل هذا البلد آمنا ورزق أهله من كل الثمرات وغمره بالخيرات بعد أن كان مغيض جدب لا زرع فيه ولا كلأ ، وكيف صارت قلوب الناس تهوي إليه بعد أن كان مطويا في زوايا الإهمال والنسيان ، حدثهم بهذا وأشباهه إلى أن إنتهى حديثه إلى أجياد وجرهم ، وكيف إنتصرت قطوراء على جرهم ، فقال :
جرهم وقطوراء قبيلتان من اليمن ، نزلا في مكة ، فتزوج إسماعيل من جرهم ، فلما توفي ، ولي البيت بعده ولده نابت بن إسماعيل. ثم ولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي خال أبناء إسماعيل ثم تنافست جرهم وقطوراء
صفحہ 17
في الملك وتداعوا للحرب فانتصرت جرهم وهزمت قطوراء ، وكثرت ذرية إسماعيل وانتشروا في البلاد لا يناوئون قوما إلا ظهروا عليهم في دينهم! ثم إن جرهما بغت في مكة ، فظلموا من دخلها ، وأكلوا مال الكعبة ، وكانت مكة تسمى ( النساسة ) لا تقر ظلما ولا بغيا ، ولا يبغي فيها أحد على أحد إلا أخرجته ، فكان بنو بكر بن عبد مناة ، وخزاعة حلولا حول مكة ، فآذنوهم بالقتال ، فاقتتلوا ، وكان الحارث بن عمرو بن مضاض يرتجز ويقول :
اللهم إن جرهما عبادك
الناس طرف وهم تلادك
فغلبتهم خزاعة على مكة ، ونفتهم عنها ، ففي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وظلت ولاية البيت لخزاعة ثلاثمائة سنة ، حتى كان آخرهم حليل بن حبشة.
أما قريش التي هي صريح ولد إسماعيل ، فلم يكن لها من الأمر شيء ، وكانوا متفرقين حول الحرم بيوتات ومزقا غير مجتمعين ولا متحدين إلى أن أدرك قصي بن كلاب بن مرة وتزوج حبى بنت حليل الخزاعية ، فولدت له بنين أربعة ، وكثر ولده وعظم شرفه.
ثم هلك حليل وأوصى إلى إبنه المحترش أن يكون خازنا للبيت وأشرك
صفحہ 18
معه رجلا يقال له : غبشان الملكاني ، وكان إذا غاب أحجب هذا حتى هلك الملكاني.
وهنا تروى قصة طريفة ، وهي : أن قصيا سقى المحترش الخمر وخدعه حتى إشترى البيت منه بدن خمر وأشهد عليه ، وأخرجه من البيت وتملك حجابته ، وصار رب الحكم فيه. فقصي هذا أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل ، وذلك ، في أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة (1).
صفحہ 19
* ترجمة زياد بن
* عبيد الله الحارثي
خال الخليفة العباسي عبد الله بن محمد المعروف ب ( أبي العباس السفاح ).
إستعمله السفاح سنة 134 ه واليا على مكة ، والمدينة ، والطائف ، واليمامة. الكامل 5 / 448 وقيل : إنه عزله قبل موته.
ولما ولي أبو جعفر المنصور ، رده إلى عمله. ثم في سنة 141 ه عزله المنصور وولى غيره. الطبري 7 /511 ولعل السبب في ذلك هو إتهامه بالميل لأهل البيت عليهم السلام ، وكان هم المنصور حين استخلف إلقاء القبض على محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، وكان أحد كتاب زياد بن عبيد الله يتشيع ، وكان يبعث إليهما سرا ليتواريا عن الأنظار.
وزياد نفسه كان يمني المنصور ويعده بالقبض عليهما ، إرضاء له. فلما حج المنصور سنة 136 سأل عنهما. فقال له زياد : ما يهمك من أمرهما! أنا آتيك بهما.
لكن الظاهر أنه كان كارها لذلك ، كما كان يدفع عن أبيهما عبد الله نقمة المنصور قدر المستطاع.
فحين حج المنصور سنة140 ، قسم أموالا عظيمة في آل أبي طالب ،
صفحہ 20
فلم يظهر محمد وإبراهيم ، فسأل أباهما عبد الله عنهما ، فقال : لا علم لي بهما ، فتغالظا ، فأمصه شتمه أبو جعفر المنصور حتى قال له : أمصص كذا كذا من أمك! فقال : يا أبا جعفر؟ بأي أمهاتي تمضني؟ أبفاطمة بنت رسول الله (ص) أم بفاطمة بنت الحسين بن علي؟ أم بأم إسحاق بنت طلحة؟ أم بخديجة بنت خويلد؟ قال : لا بواحدة منهن ، ولكن بالحرباء بنت قسامة بن زهير! وهي إمرأة من طيء. فقال المسيب بن زهير : يا أمير المؤمنين ، دعني أضرب عنق ابن الفاعلة! فقام زياد بن عبيد الله ، فألقى عليه رداءه ، وقال : هبه لي يا أمير المؤمنين ، فأستخرج لك ابنيه. فخلصه منه ( الكامل 5 / 185 ) وكان عبد الله هذا قد مات في محبسه في الهاشمية أيام المنصور.
وأراد أبو جعفر أن يزيد في المسجد الحرام بعد أن شكا الناس ضيقه فكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثي أن يشتري المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه ، فامتنع الناس من البيع ، فذكر ذلك لجعفر بن محمد الصادق (ع)، فقال : سلهم! أهم نزلوا على البيت؟ أم البيت نزل عليهم؟ فكتب بذلك إلى زياد ، فقال لهم زياد بن عبيد الله ذلك ، فقالوا : نزلنا على البيت. فقال جعفر بن محمد : فإن للبيت فناءه. فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه. فهدمت المنازل وأدخلت عامة دار الندوة حتى زاد فيه ضعفه. راجع اليعقوبي 2 / 369.
ويقال ، أن زيادا هذا ، كان فيه بخل وجفاء.
ومن طريف ما يروى في ذلك : أن بعض كتابه أهدى له سلالا فيها طعام ، وكانت مغطاة ، فوافقته وقد تغدى ، فغضب وقال : يبعث أحدهم الشيء في غير وقته ، ثم قال لصاحب شرطته خيثم بن مالك أدع لي أهل الصفة أضياف مسجد الرسول من المساكين يأكلون هذا.
فقال الرسول الذي جاء بالسلال : أصلح الله الأمير ، لو أمرت بهذه السلال تفتح ، وينظر ما فيها؟
صفحہ 21