عامل التحويلة
عامل التحويلة
عامل التحويلة
عامل التحويلة
تأليف
تشارلز ديكنز
ترجمة
محمد حامد درويش
مراجعة
شيماء طه الريدي
عامل التحويلة
«هااااي! يا من بالأسفل!»
عندما سمع صوتا يناديه هكذا، كان واقفا عند باب كشكه، يحمل في يده راية ملتفة حول صاريتها القصيرة. لربما ظن المرء - نظرا لطبيعة المنطقة المحيطة - أنه لم يكن من الممكن أن يخالج الشك الرجل بشأن الجهة التي جاء منها الصوت؛ ولكن بدلا من أن ينظر إلى أعلى؛ حيث كنت أقف على قمة مجرى القطار المنحدر الذي كان فوق رأسه تقريبا، استدار ونظر على امتداد شريط السكة الحديدية. كان ثمة أمر لافت للانتباه في طريقته في القيام بذلك، وإن كنت لم أستطع، على الإطلاق، أن أتأكد من كنه هذا الأمر. لكنني أعرف أنه كان أمرا لافتا للانتباه بما يكفي لجذب انتباهي، على الرغم من أن هيئته كانت غائمة وغير واضحة المعالم، بالأسفل في الأخدود السحيق. أما أنا فكنت فوقه، يغمرني وهج غروب أحمر ساطع جعلني أظلل عيني بيدي قبل أن أراه من الأساس. «هااااي! يا من بالأسفل!»
تحول بناظريه من امتداد شريط السكة الحديدية، واستدار ثانية، ورفع عينيه لأعلى، فرآني واقفا فوقه. «أثمة درب يمكنني أن أسلكه لأنزل وأتحدث إليك؟»
نظر إلى أعلى نحوي دون جواب، ونظرت إلى الأسفل نحوه دون أن أتعجل تكرار سؤالي الذي لم يلق جوابا. عندئذ، وقعت موجة اهتزاز مبهمة في الأرض والجو، وسرعان ما تحولت إلى دق عنيف، واندفاع دان جعلني أجفل راجعا إلى الوراء، كما لو كانت تلك الموجة بها من القوة ما يجعلها تقوى على سحبي إلى الأسفل. عندما مر بي البخار الكثيف، الذي ارتفع من ذلك القطار السريع إلى المستوى الذي كنت عنده، وانجرف مبتعدا في الأفق، نظرت إلى الأسفل ثانية، ورأيته يعيد لف الراية التي كان قد أظهرها بينما كان القطار مارا.
كررت سؤالي. وبعد صمت، بدا خلاله أنه يرمقني بانتباه ثابت لا يتزحزح، تحرك ممسكا برايته الملفوفة باتجاه نقطة عند مستواي تبعد نحو مائتين أو ثلاثمائة ياردة وأشار بيده. صحت وأنا أنظر إلى الأسفل نحوه قائلا: «حسنا.» واتجهت صوب تلك النقطة. وهنالك، عن طريق النظر بإمعان فيما حولي، وجدت دربا متعرجا ينحدر إلى الأسفل، وكان ذلك هو الدرب الذي سلكته.
كان مجرى القطار عميقا للغاية، ومنحدرا على نحو غير معتاد. كان محفورا عبر أرض حجرية رطبة تصير طينية ومبللة أكثر كلما هبطت إلى الأسفل. ولهذه الأسباب، وجدت الطريق طويلا بما يكفي ليمهلني بعض الوقت كي أستحضر في ذهني لمحة غريبة من تردد أو اضطرار كانت لديه عندما أشار إلى الدرب.
عندما نزلت إلى الأسفل على الطريق المنحدر المتعرج بما يكفي لأن أراه مجددا، رأيته يقف بين القضبان على الطريق الذي مر به القطار منذ قليل، بوضعية توحي بأنه كان ينتظر ظهوري. كان واضعا يده اليسرى على ذقنه، بينما استقر مرفقه الأيسر على يده اليمنى مارا أمام صدره. كان سلوكه ينطوي على ترقب وانتباه، حتى إنني توقفت هنيهة، متعجبا مما أراه.
استأنفت السير هبوطا عبر الطريق المنحدر، ورأيت وأنا أخطو على مستوى السكة الحديدية وأقترب منه أكثر أنه رجل ذو بشرة داكنة شاحبة، ولحية داكنة وحاجبين كثيفين نوعا ما. كان موقعه في أكثر الأماكن التي رأيتها عزلة وكآبة؛ فعلى كلا الجانبين سور رطب من حجارة خشنة، يحجب المشهد كله باستثناء شريط من السماء؛ فكان المشهد من أحد الاتجاهين مجرد امتداد مقوس لهذا الحصن الهائل؛ والمشهد الأقصر في الاتجاه الآخر ينتهي بضوء أحمر كئيب، وكان المدخل الأكثر كآبة مؤديا إلى نفق مظلم، اصطبغت بنيته المعمارية الضخمة بأجواء كئيبة وبربرية ومنفرة. لم يجد سبيلا إلى هذه البقعة سوى قليل من ضوء الشمس، حتى إنها كانت ذات رائحة ترابية مميتة. وكان قدر كبير من الرياح الباردة يندفع عبرها، حتى إنها أصابتني برعشة، كما لو كنت قد غادرت العالم الطبيعي.
قبل أن يتحرك، كنت قد اقتربت منه بما يكفي حتى إنني كنت أستطيع أن ألمسه. وحتى في هذه اللحظة لم يحدث أن حادت عيناه عن عيني، وتراجع خطوة واحدة إلى الخلف ، ورفع يده.
كان المكان موحشا معزولا تصعب الإقامة فيه. هكذا حدثت نفسي، وهو ما لفت انتباهي عندما نظرت إليه حين كنت هناك بالأعلى. كان مجيء زائر حدثا نادرا، حسبما أظن؛ وكنت آمل ألا يكون حدثا مزعجا. لقد رأى في مجرد رجل محاصر داخل حدود ضيقة طوال حياته، والذي صار لديه - بعد أن تحرر أخيرا - صحوة اهتمام مستجدة بهذه الأعمال العظيمة. ولهذا الغرض تحدثت إليه، ولكني غير متأكد إطلاقا من الكلمات التي استخدمتها؛ لأنني، إلى جانب أنني لا يسعدني الخوض في أي محادثة، كان ثمة أمر بشأن هذا الرجل أصابني برهبة تجاهه.
صوب نظرة تنم عن كثير من الفضول نحو الضوء الأحمر القريب من فوهة النفق، وأجال النظر فيه، كما لو كان ثمة شيء ينقصه، ثم نظر نحوي.
كان ذلك الضوء جزءا من مسئوليته، وكان هذا سؤالي له.
أجاب بصوت خفيض: «ألا تعلم أنه كذلك؟»
خطر ببالي هاجس مخيف، وأنا أنعم النظر في العينين الثابتتين والوجه الكئيب، بأن هذا المخلوق شبح، وليس بشرا. وأخذت أخمن حينئذ ما إذا كان عقله قد أصابته لوثة.
تراجعت بدوري إلى الخلف، ولكن في أثناء ذلك، رصدت في عينيه خوفا كامنا مني، وهو ما جعل ذلك الهاجس المخيف يتبدد.
قلت متصنعا الابتسام: «إنك تنظر إلي كما لو كنت تخشاني.»
أجاب: «ظننت أنني رأيتك من قبل.» «أين؟»
أشار نحو الضوء الذي كان ينظر إليه.
قلت: «هناك؟»
أجاب وهو يراقبني باهتمام (ولكن دون صوت) أن أجل. «أيها الرفيق الطيب، ما شأني بهناك؟ ومع ذلك، أيا كان الأمر، لم أكن هناك قط، يمكنك أن تثق بذلك.»
أجاب: «أظن ذلك. نعم. إنني متيقن من ذلك.»
صار سلوكه متبسطا كحال سلوكي؛ فأجاب على ملاحظاتي بسهولة، وبكلمات منتقاة بعناية. هل كان ثمة الكثير مما يتعين عليه فعله هناك؟ نعم؛ أي كان لديه ما يكفي من المسئوليات لتحملها، لكن كان مطالبا بأن يكون دقيقا ويقظا، ولم يكن مطالبا إلا بقدر ضئيل جدا من العمل الفعلي؛ وأعني بذلك العمل اليدوي. كان تغيير تلك الإشارة ، وتهيئة تلك الأضواء، وإدارة هذا المقبض الحديدي بين الحين والآخر، هو كل ما عليه فعله. أما عن تلك الساعات الطوال الموحشة التي يبدو أنني هولت من أمرها، فلم يزد على أن قال إن روتين حياته قد تشكل بهذه الصورة، وأنه اعتاد عليه. وقد علم نفسه لغة وهو هنا بالأسفل، لو أمكن أن نسمي معرفتها بالنظر، وتشكيل أفكار بسيطة عن طريقة نطقها، تعلما لها. كان أيضا قد اجتهد للتعامل مع الكسور والأعداد العشرية، وجرب القليل من الجبر؛ لكنه لم يكن بارعا فيما يتعلق بالأرقام، وكان كذلك في صباه أيضا. أكان من الضروري له أثناء الدوام أن يبقى دوما في هذا التيار من الهواء المشبع بالرطوبة؟ ألم يكن في وسعه على الإطلاق أن يرتفع نحو نور الشمس من بين تلك الأسوار الحجرية العالية؟ كان ذلك يعتمد على الأوقات والظروف؛ ففي بعض الحالات تكون المخاطر أقل منها في حالات أخرى، والأمر نفسه ينطبق على ساعات معينة من النهار والليل. وفي الطقس الصحو المشرق، كان يختار بالفعل أوقاتا للارتقاء قليلا فوق هذه الظلال الدنيا، ولكن نظرا لكونه في جميع الأوقات عرضة للاستدعاء بواسطة جرسه الكهربي، وملزما بالإنصات إليه بتوتر مضاعف عندما تحين تلك الأوقات؛ كانت الراحة أقل مما يمكنني أن أتصور.
اصطحبني معه إلى كشكه، حيث كانت توجد نار للتدفئة، ومكتب عليه دفتر رسمي كان عليه أن يسجل فيه مدخلات معينة، وآلة تلغراف مزودة بقرص اتصال وإبر، والجرس الصغير الذي تحدث عنه. ومن منطلق ثقتي بأنه سيلتمس لي العذر على الملاحظة التي أبديتها حول كونه على قدر عال من التعليم، وربما كان تعليمه يفوق الوظيفة التي يشغلها (وكنت آمل أن أتمكن من قول ذلك دون إساءة)، أشار إلى أن أمثلة التناقض الطفيف دائما ما تكون موجودة بين فئات كبيرة من البشر، وأنه قد سمع أن الأمر كذلك في الملاجئ، وبين قوات الشرطة، وحتى في الجيش - ذلك الملتجأ اليائس الأخير - وأنه عرف أن الأمر كذلك، بدرجة ما، بين العاملين في أي محطة سكك حديدية كبيرة . لقد كان في شبابه (لو تسنى لي أن أصدق أنه كان شابا في يوم ما، بعد أن رأيته يجلس في ذلك الكوخ) يدرس الفلسفة الطبيعية، وكان يحضر محاضرات؛ لكنه كان متمردا، ولم يحسن استغلال الفرص التي أتيحت له، وتدهور به الحال، ولم ينهض ثانية قط. لم يكن ناقما إزاء ذلك؛ إذ كان هو من صنع حياته على ذلك المنوال واستقر به الحال هكذا، وفات أوان أن يصنع حياة ومستقبلا جديدين.
كل ما أوجزته هنا قاله هو بهدوء بينما كانت نظراته الجادة الكئيبة مقسمة بيني وبين نار التدفئة. كان يخاطبني بكلمة «سيدي» من وقت لآخر، خاصة عندما أشار إلى شبابه، كما لو كان يناشدني أن أفهم أنه لا يدعي أنه أي شيء غير ما وجدته عليه. قاطعه الجرس الصغير مرات عديدة، وكان عليه أن يقرأ الرسائل على جهاز التلغراف، ويرسل الردود. وفي إحدى المرات، اضطر للوقوف على باب الكشك، وهو يلوح برايته لقطار كان يمر، وأن يتواصل شفهيا مع السائق. في اضطلاعه بواجبات عمله، لاحظت أنه يتسم بدقة ويقظة ملحوظتين؛ إذ كان يقطع حديثه معي عند مقطع ما، ويظل صامتا حتى ينتهي مما كان عليه الانتهاء منه.
بعبارة موجزة، كان علي أن أصنف هذا الرجل باعتباره واحدا من أكثر الرجال موثوقية الذين يمكن توظيفهم في تلك الوظيفة، لولا ما حدث أثناء حديثه معي عندما قطع كلامه مرتين ووجهه يكسوه الشحوب، واستدار بوجهه ناحية الجرس الصغير بالرغم من أنه «لم» يكن يدق، وفتح باب الكوخ (الذي كان يبقيه مغلقا ليدرأ الرطوبة المؤذية)، وتطلع خارجا نحو الضوء الأحمر بالقرب من فوهة النفق. في كلا هذين الموقفين، عاد إلى نار التدفئة يعلو وجهه ذلك الانطباع المبهم الذي كنت قد لاحظته، دون أن يتسنى لي تحديد ماهيته، عندما كنا متباعدين للغاية.
قلت وأنا أهم واقفا لأتركه: «إنك تكاد تجعلني أظن أنني التقيت برجل راض بمصيره.» (يؤسفني أن أقر بأنني قلت هذا لأستدرجه كي يواصل حديثه.)
أجاب بالصوت الخفيض الذي كان قد تحدث به في المرة الأولى: «أعتقد أنني كنت كذلك، ولكني الآن مهموم يا سيدي، مهموم.»
وبعد أن قال عبارته تلك، بدا وكأنه ود لو استطاع أن يسحبها، إلا أنه كان قد قالها بالفعل، وأسرعت أنا بالتقاطها والرد عليه. «بماذا؟ ما الذي يزعجك؟» «إنه أمر يصعب الإفصاح عنه يا سيدي، والحديث عنه صعب جدا جدا. إن تسنى لك أن تزورني مرة أخرى، فسوف أحاول أن أخبرك.» «ولكني أنوي صراحة أن أزورك مرة أخرى. قل لي، متى يمكن ذلك؟» «إنني أغادر في الصباح الباكر، وسأعود إلى العمل مجددا في العاشرة من مساء الغد يا سيدي.» «سآتي في الحادية عشرة.»
شكرني، وخرج معي من الباب.
قال بصوته الخفيض الغريب: «سأرفع لك مصباحي ذا الضوء الأبيض يا سيدي، إلى أن تجد الطريق إلى أعلى. عندما تجده، لا تناد. وعندما تصل إلى القمة، لا تناد.»
بدت لي طريقته وكأنها تجعل المكان يزداد برودة فجأة، ولكني لم أقل أكثر من «حسنا».
قال: «وعندما تنزل ليلة الغد، لا تناد! اسمح لي أن أسألك سؤالا أخيرا: ما الذي جعلك تصيح الليلة: «هااي! يا من بالأسفل»؟»
قلت: «الله أعلم. لقد صحت بشيء من هذا القبيل ...» «ليس شيئا من هذا القبيل، يا سيدي. تلك كانت الكلمات بالضبط. إنني أعرفها جيدا.» «أقر بأن تلك كانت الكلمات بالضبط. لقد قلتها، دون شك، لأنني رأيتك بالأسفل.» «ألم يكن ثمة سبب آخر؟» «وأي سبب آخر يمكن أن يكون لدي؟!» «ألم تشعر بأنها نقلت إليك بطريقة ما خارقة للطبيعة؟» «كلا.»
تمنى لي ليلة طيبة، ورفع مصباحه عاليا. سرت بمحاذاة شريط السكة الحديدية (وبداخلي شعور مزعج للغاية بأن ثمة قطارا قادما من خلفي)، حتى وجدت السبيل. كان الصعود أسهل من الهبوط، وعدت إلى النزل الذي كنت أقيم به دون أن أمر بأي مغامرة.
وفي الموعد المحدد تماما، وضعت قدمي على أول ثلمة في الطريق المتعرج في الليلة التالية، بينما كانت عقارب الساعة البعيدة تشير إلى الحادية عشرة. كان ينتظرني عند القاع، حاملا مصباحه ذا الضوء الأبيض. قلت، عندما اقترب أحدنا من الآخر: «لم أناد. هل يمكنني أن أتكلم الآن؟» أجاب: «بكل تأكيد يا سيدي.» قلت: «طابت ليلتك إذن، وها هي ذي يدي ممدودة.» قال: «طابت ليلتك يا سيدي، وها هي يدي.» وهكذا - بعد أن تصافحنا - سرنا جنبا إلى جنب نحو كشكه ودلفنا إليه، وأغلقنا الباب، وجلسنا بالقرب من النار.
ما إن جلسنا حتى استهل حديثه، وهو يميل إلى الأمام، متحدثا بنبرة تفوق الهمس قليلا، وقال: «لقد عقدت العزم يا سيدي، على ألا أضطرك إلى أن تسألني مرتين عما يكدرني. لقد حسبتك شخصا آخر مساء أمس. وهذا ما أزعجني.» «أتقصد ذلك الخطأ في التعرف على هوية الشخص؟» «لا، بل أقصد ذلك الشخص الآخر ذاته.» «ومن هو؟» «لا أعرف.» «أيشبهني؟» «لا أعرف، لم أر وجهه مطلقا؛ فهو يغطي وجهه بذراعه اليسرى، ويلوح بذراعه اليمنى. يلوح بعنف، هكذا.»
تابعت حركته بعيني، وكانت عبارة عن حركة ذراع تشير بأقصى انفعال وقوة تعني: «بالله عليك أفسح الطريق!»
قال: «في إحدى الليالي المقمرة، كنت جالسا هنا، حين سمعت صوتا يصيح: «هااي! يا من بالأسفل!» فجفلت ونظرت من هذا الباب، ورأيت ذلك الشخص يقف بجوار الضوء الأحمر بالقرب من النفق، ملوحا مثلما أريتك للتو. بدا الصوت أجش من أثر الصراخ، وصاح: «احترس! احترس!» ثم عاد يقول: «هااي! يا من بالأسفل! احترس!» أمسكت مصباحي، وأشعلته على اللون الأحمر، وهرعت صوب هذا الشكل وأنا أنادي: «ما الخطب؟ ماذا حدث؟ أين؟» كنت واقفا خارج ظلمة النفق بالضبط. تقدمت مقتربا منه للغاية، حتى إنني تساءلت عن السبب وراء جعله كمه أمام عينيه. جريت حتى أصبحت أمامه مباشرة، ومددت يدي لأزيح الكم، وعندئذ اختفى.»
قلت: «في النفق.»
قال: «لا. لقد ركضت في النفق لمسافة خمسمائة ياردة، ثم توقفت ورفعت مصباحي فوق رأسي، ورأيت أشكال أرقام المسافة المقاسة التي ذكرتها للتو، ورأيت البقع الرطبة تنسل نزولا على الجدران وتتقاطر عبر القوس. ركضت خارجا ثانية بسرعة تجاوزت سرعتي عند الدخول (إذ اعتراني اشمئزاز شديد من المكان)، وأجلت النظر في أرجاء المنطقة المحيطة بالضوء الأحمر مستعينا بمصباحي ذي الضوء الأحمر، وارتقيت السلم الحديدي صعودا إلى الدهليز الذي يعلوه، ونزلت ثانية، وجريت عائدا إلى هنا. أبرقت إلى كلا اتجاهي السكة: «ثمة إنذار قد صدر. هل ثمة خطب ما؟» فعاد الجواب من الاتجاهين: «كل شيء على ما يرام».»
أوضحت له - مقاوما اللمسة البطيئة الباردة التي شعرت بها تنتشر على امتداد عمودي الفقري - كيف أن هذا الشكل لا بد أن يكون خداعا بصريا، وأنه من المعروف أن تلك الأشكال - النابعة من علة في الأعصاب الحساسة المسئولة عن وظائف العينين - كثيرا ما تؤرق المرضى، الذين أدرك بعضهم طبيعة مرضه، بل إنهم أثبتوا ذلك من خلال تجارب أجروها على أنفسهم. وقلت: «أما فيما يتعلق بمسألة صرخة خيالية، فقط استمع لبرهة إلى الرياح في هذا الوادي غير الطبيعي ونحن نتحدث بصوت منخفض للغاية، وإلى صوت القيثار العاصف الذي تصنعه من أسلاك التلغراف!»
أجاب بأن ذلك صحيح بقدر كبير، بعد أن جلسنا نصغي لبعض الوقت، ولا بد أنه كان يعرف شيئا عن الريح والأسلاك، وهو ذلك الشخص الذي كثيرا ما كان يمضي ليالي الشتاء الطويلة هناك، بمفرده مراقبا. ولكنه رجاني أن ألاحظ أنه لم يفرغ من حديثه بعد.
اعتذرت له، وأضاف ببطء هذه الكلمات، وهو يلمس ذراعي: «في غضون ست ساعات بعد «الظهور»، وقعت الحادثة المشهودة على هذا الخط، وفي غضون عشر ساعات جيء بالقتلى والجرحى عبر النفق إلى الموضع الذي كان ذلك الشكل يقف عنده.»
دبت في جسدي قشعريرة بغيضة، ولكني بذلت ما في وسعي لأقاومها. أجبت بأنه لا يمكن إنكار أن هذه مصادفة غير عادية، صاغتها الأقدار بتعمق حتى تترك أثرا في عقله. ولكن مما لا شك فيه أن المصادفات غير العادية تحدث فعلا باستمرار، ويجب أخذها بعين الاعتبار عند التصدي لموضوع كهذا، وأضفت (إذ ظننت أنه كان بصدد الاعتراض على ما أقول) أنه من المؤكد - برغم ذلك - أن علي الإقرار بأن البشر من ذوي الحس السليم ما كانوا ليعترفوا بوجود دور كبير للمصادفات في إجراء الحسابات الحياتية العادية.
رجاني مجددا أن ألاحظ أنه لم يفرغ من كلامه.
ومجددا اعتذرت له لانزلاقي نحو مقاطعة حديثه.
قال، وهو يضع يده على ذراعي من جديد، ويحدق بعينين غائرتين: «حدث هذا منذ عام واحد فقط. مضت ستة أو سبعة أشهر، وكنت قد تعافيت من المفاجأة والصدمة. وفي صبيحة أحد الأيام، وقد بدأ ضوء النهار يشق الظلمة، وبينما كنت واقفا عند ذلك الباب، صوبت ناظري نحو الضوء الأحمر، ورأيت الشبح من جديد.» توقف عن الكلام، مثبتا نظره علي. «هل صاح الشيء؟» «لا، كان صامتا.» «هل لوح بذراعه؟» «لا، مال بجذعه في مواجهة شعاع الضوء، وكلتا يديه أمام وجهه. هكذا.»
مرة أخرى، تابعت حركته بعيني. كانت حركة نواح. كنت قد رأيت وضعية من هذا القبيل في تماثيل حجرية على القبور. «هل صعدت إليه؟» «دخلت وجلست، كي أستجمع أفكاري من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه جعلني أشعر بدوار. وعندما توجهت نحو الباب من جديد، كان ضوء النهار غامرا، وكان الشبح قد اختفى.» «ولكن ألم يتبع ذلك شيء؟ ألم ينتج شيء عن ذلك؟»
لمس ذراعي بسبابته مرتين أو ثلاثا، مصدرا في كل مرة إيماءة شاحبة، قائلا: «في ذلك اليوم نفسه، وبينما كان أحد القطارات يخرج من النفق، لاحظت، في نافذة عربة من ناحيتي، ما بدا وكأنه خليط من بضع أيد ورءوس، ولوح شيء ما. رأيته في الوقت المناسب؛ ما سمح لي بأن أشير إلى السائق بأن يتوقف! فأوقف القطار ورفع المكابح، لكن القطار انجرف مارا بهذا الموضع لمسافة مائة وخمسين ياردة أو أكثر. جريت وراءه، وبينما كنت ماضيا في طريقي، إذا بي أسمع صرخات وصيحات مروعة. كانت شابة جميلة قد قضت نحبها للتو بعد سقوطها من إحدى المقصورات، وجلبت إلى هنا، وأرقدت على هذه الأرضية بيننا.»
بحركة لا إرادية مني، دفعت مقعدي إلى الوراء، بينما كنت أنظر إلى الألواح التي أشار إليها. «صدقا يا سيدي. صدقا. هذا ما حدث بالضبط، مثلما أرويه لك.»
لم أتمكن من التفكير في شيء يقال، وكان فمي في غاية الجفاف. وتابعت الريح والأسلاك سرد الحكاية بنحيب حزين طويل.
استطرد قائلا: «والآن، يا سيدي، أنصت إلى ما سأقوله، واحكم على مدى اضطراب عقلي. لقد عاد الشبح، منذ أسبوع مضى. ومنذ ذلك الحين، وهو موجود هناك، من حين لآخر، على نحو متقطع.» «عند الضوء؟» «عند ضوء الخطر.» «ماذا الذي يبدو أنه يفعله؟»
كرر، ربما بانفعال وقوة متزايدين، حركة الذراعين السابقة تلك التي تعني «بالله عليك أفسح الطريق!»
ثم مضى في حديثه قائلا: «لست أشعر بالراحة أو السلام. إنه يناديني لدقائق عدة دون انقطاع، بطريقة معذبة: «يا من بالأسفل! احترس! احترس!» إنه يقف ملوحا لي. إنه يدق جرسي الصغير ...»
عند ذلك التقطت طرف الحديث، وقلت: «هل دق جرسك مساء البارحة عندما كنت هنا، واتجهت أنت نحو الباب؟» «مرتين.»
قلت: «عجبا، انظر كيف يضللك خيالك. لقد كانت عيناي مسلطتين على الجرس، وكانت أذناي مصغيتين إلى الجرس، وأقسم إنه «لم» يدق في هاتين المرتين. لا، بل لم يدق في أي وقت آخر، عدا عندما دق دقاته الطبيعية المألوفة عند تواصل المحطة معك.»
هز رأسه قائلا: «إنني لم أخطئ قط فيما يخص هذا الشأن يا سيدي. ولم أخلط قط بين دق الشبح للجرس ودق البشر له. إن دق الشبح للجرس عبارة عن اهتزاز غريب في الجرس لا يتأتى من أي شيء آخر، ولم أزعم أن الجرس يتحرك أمام الأعين. لست مندهشا أنك عجزت أن تسمعه. لكنني سمعته.» «وهل بدا أن الشبح كان هناك، عندما نظرت إلى الخارج؟» «لقد كان هناك بالفعل.» «في كلتا المرتين؟»
كرر بنبرة قاطعة: «في كلتا المرتين.» «أيمكنك أن تأتي معي إلى الباب، وتفتش عنه الآن؟»
عض على شفته السفلى كما لو كان غير راغب في ذلك، ولكنه نهض. فتحت الباب، ووقفت على الدرج، بينما وقف هو في المدخل. هنالك، كان ضوء الخطر. وهنالك، كانت فوهة النفق الكئيبة. وهنالك، كانت الجدران الحجرية العالية الرطبة لمجرى القطار. وهنالك، كانت النجوم في السماء فوق ذلك كله.
سألته، وأنا أراقب وجهه بتمعن: «أتراه؟» كانت عيناه جاحظتين ومتوترتين؛ ولكن لعلهما لم تكونا أكثر جحوظا وتوترا بكثير من عيني عندما كنت أصوبهما بجدية نحو الموضع ذاته.
أجاب قائلا: «لا، ليس موجودا هناك.»
قلت: «متفقان.»
دلفنا إلى الداخل ثانية، وأغلقنا الباب، وجلس كل منا في مقعده. كنت أفكر في أفضل طريقة لتحسين هذه الميزة - إن كان يمكن أن ندعوها كذلك - عندما باشر الحديث على نحو طبيعي، مفترضا بذلك أنه ليس بيننا سوء تفاهم حول الوقائع، مما جعلني أشعر أنني في موقف ضعيف للغاية.
قال: «بحلول هذا الوقت ستفهم تمام الفهم يا سيدي أن ما يكدرني على هذا النحو الفظيع هو السؤال ما الذي يقصده الشبح؟»
أخبرته أنني لست متأكدا أنني فهمت تمام الفهم.
قال، متأملا، وعيناه مسلطتان على النار، ولا يحولهما نحوي إلا أحيانا: «ما الذي يحذر منه؟ ما الخطر؟ أين الخطر؟ ثمة خطر محدق، في موضع ما على شريط السكة الحديدية. سوف تحدث كارثة مروعة. لا ينبغي أن يكون الأمر موضع شك في المرة الثالثة، بعد ما جرى من قبل. هذا الأمر يعذبني بقسوة. ماذا بوسعي أن أفعل؟»
أخرج منديله، ومسح القطرات من فوق جبهته المستعرة.
استمر في حديثه، وهو يمسح راحتي يديه، قائلا: «لو أنني أبرقت إلى أي جهة من الجهتين، أو كلتيهما، بشأن هذا الخطر، فليس بوسعي أن أذكر سببا له. وسوف أتعرض لمتاعب حتما، وبلا أي طائل. سيظنون بي الجنون. هكذا سوف يكون الأمر: برقية: «خطر! خذوا حذركم!» الرد: «أي خطر؟ أين؟» برقية: «لا أعرف. ولكن بالله عليكم خذوا حذركم!» سوف يعفونني من الخدمة. ماذا بوسعهم أن يفعلوا غير ذلك؟»
كانت رؤية ألمه الذهني تبعث على الشفقة إلى أقصى درجة؛ لقد كان عذابا نفسيا لرجل ذي ضمير حي أرهقته مسئولية مبهمة تنطوي على حيوات وأرواح إرهاقا يفوق الاحتمال.
تابع حديثه وهو يمسد شعره الداكن إلى الخلف على رأسه، ويمرر يديه إلى الخارج عبر صدغيه مرارا بأقصى درجات التوتر المحموم، قائلا: «عندما وقف أول مرة تحت ضوء الخطر، لماذا لم يخبرني بالمكان الذي كانت ستقع فيه الحادثة؛ لو أنها أمر محتوم حدوثه؟ لماذا لم يطلعني على كيفية تجنبها؛ لو كان بالإمكان تجنبها؟ عندما أخفى وجهه عند مجيئه للمرة الثانية، لماذا لم يقل لي عوضا عن هذا: «سوف تلقى حتفها. اجعلهم يبقونها بالبيت»؟ ولو أنه جاء في هاتين المناسبتين لمجرد أن يظهر لي أن تحذيراته صحيحة، ومن ثم، يهيئني للثالثة، فلماذا لا يحذرني تحذيرا واضحا الآن؟ إنني - فليعني الرب! - مجرد عامل تحويلة مسكين في هذه المحطة المنعزلة! لماذا لا يذهب إلى شخص ذي شأن، فإذا تحدث كان مصدقا، وذي سلطة تتيح له التصرف؟!»
عندما رأيته في هذه الحالة، رأيت أن ما يجب علي فعله في الوقت الحاضر، لأجل هذا المسكين، ولأجل السلامة العامة أيضا، أن أهدئ من روعه؛ لذا نحيت جانبا كل ما يتعلق بالواقع أو الوهم فيما بيننا، وأوضحت له أن من يضطلع اضطلاعا كاملا بمقتضيات وظيفته تلك عليه أن يؤديها كما ينبغي، وأن عزاءه على الأقل أنه قد فهم واجبه، مع أنه لم يستوعب تلك التجليات الشبحية المحيرة. حالفني النجاح في هذه المحاولة أكثر بكثير مقارنة بمحاولة استخدام المنطق لرده عن قناعته؛ فصار هادئا. ومع مضي الليل، بدأت الشواغل العارضة لوظيفته تتطلب مزيدا من انتباهه، وغادرته في الساعة الثانية صباحا. عرضت عليه أن أبقى وأمضي معه الليل، لكنه أبى أن يسمح لي بذلك.
لا أرى سببا يدعوني لأن أخفي أنني نظرت ورائي أكثر من مرة إلى الضوء الأحمر وأنا أصعد الدرب، وأنني لم أحب ذلك الضوء الأحمر، وأنني كنت سأعاني من نوم سيئ لو كان فراشي أدناه. ولم يرق لي تعاقب واقعتي حادثة القطار وموت الفتاة. ولا أرى سببا يدعوني لأن أخفي ذلك أيضا.
بيد أن أكثر ما جال في عقلي كان التفكير فيما يتعين علي فعله حيال الأمر، بعد أن أصبحت المتلقي لهذه المكاشفة؟ لقد ثبت لي أن الرجل يتمتع بالذكاء واليقظة والمثابرة والدقة، ولكن إلى متى يمكن أن يظل هكذا، في ظل حالته النفسية هذه؟ فمع كونه يشغل وظيفة دنيا، فإنه يحمل مسئولية غاية في الأهمية، وهل يمكن أن أراهن بحياتي (مثلا) على احتمالات استمراره في القيام بها بدقة؟
وفي ظل عدم قدرتي على التغلب على شعوري بأنه سيكون ثمة خيانة في نقل ما أخبرني به إلى رؤسائه في الشركة، دون أن أصارحه أولا وأعرض عليه مسلكا وسطا، عزمت في النهاية على أن أعرض عليه أن أصطحبه (على أن أحفظ سره) إلى أفضل طبيب في تلك الأنحاء، ونأخذ رأيه. كان قد أعلمني أنه سيحدث تغيير في توقيت خدمته في الليلة التالية، وأنه سيكون خارج الخدمة بعد ساعة أو ساعتين من الشروق، وسيعود إلى الخدمة من جديد بعد الغروب بقليل؛ ووفقا لذلك، حددت موعد عودتي.
كان المساء التالي جميلا، وخرجت مبكرا لأستمتع به. لم تكن الشمس قد غربت بعد تماما عندما اجتزت درب الحقل بالقرب من قمة مجرى القطار السحيق. قلت لنفسي إنني سأطيل مدة تريضي ساعة؛ نصف ساعة ذهابا ونصف ساعة إيابا؛ ومن ثم سيكون وقت الذهاب إلى كشك عامل التحويلة قد حل.
قبل مواصلتي التمشية، تقدمت نحو الحافة، ونظرت عفويا إلى الأسفل، من الموقع الذي كنت قد رأيت العامل منه للمرة الأولى. لا يمكنني أن أصف الانفعال الذي تملكني عندما رأيت - بالقرب من فوهة النفق - هيئة رجل، كمه يغطي عينيه، ويلوح بقوة بذراعه اليمنى.
وبعد برهة، زال الرعب الذي لا يوصف الذي عصف بي؛ إذ سرعان ما أدركت أن هيئة الرجل كانت رجلا بالفعل، وأن ثمة مجموعة صغيرة من رجال آخرين يقفون على مسافة قريبة، بدا أنه يكرر حركة الذراع التي قام بها أمامهم. لم يكن مصباح الخطر قد أضيء بعد. وأمام عمود المصباح، كان كوخ صغير منخفض لم تقع عليه عيناي من قبل قد صنع من بعض الدعامات الخشبية والقماش المشمع، وبدا حجمه لا يتعدى حجم سرير.
وبشعور لا يقاوم بأن ثمة خطبا ما - مع خوف خاطف مشوب بلوم للذات من أن يكون ضرر قاتل قد وقع من جراء تركي للرجل هناك، والتسبب في عدم إرسال أحد ليشرف على ما يقوم به أو يصححه - هبطت الدرب المشقوق بأقصى سرعة ممكنة.
سألت الرجال: «ما الخطب؟»
قال: «قتل عامل تحويلة هذا الصباح، يا سيدي.» «أتقصد عامل التحويلة الذي يتبع ذلك الكشك؟» «نعم يا سيدي.» «أتقصد الرجل الذي أعرفه؟»
قال الرجل الذي تكلم نيابة عن الآخرين، وهو يزيح غطاء رأسه بطريقة رسمية ويرفع طرف القماش المشمع: «سوف تتعرف عليه يا سيدي، إن كنت تعرفه؛ لأن وجهه هادئ تماما.»
سألت، وأنا أتحول بناظري من واحد لآخر والكوخ يغلق من جديد: «آه! كيف حدث هذا؟ كيف حدث هذا؟» «أسقطته قاطرة صريعا يا سيدي. لم يكن في إنجلترا رجل أدرى بعمله منه، لكنه على نحو ما لم يتبين القضيب. كان ذلك في وضح النهار. كان قد أشعل عود ثقاب، حاملا المصباح في يده. عندما خرجت القاطرة من النفق، كان ظهره مواجها لها، وأسقطته صريعا. ذلك الرجل كان سائقها، وكان يبين كيف حدث الأمر. اشرح الأمر للسيد النبيل يا توم.»
تراجع الرجل، الذي كان يرتدي رداء داكنا خشنا، إلى مكانه السابق عند فوهة النفق!
قال: «عندما تجاوزت المنحنى في النفق يا سيدي، رأيته عند النهاية، كما لو كنت أراه عبر منظار. لم يكن ثمة وقت لكبح السرعة، وكنت أعرف عنه أنه شديد الحذر. ولما لم يبد أنه منتبه إلى الصافرة، أوقفت الصافرة بينما كنا نقترب منه ونوشك على دهسه، وناديته بأعلى صوت ممكن.» «ماذا قلت؟» «قلت: يا من بالأسفل! احترس! احترس! بالله عليك أفسح الطريق!»
أجفلت. «آه! كان وقتا مريعا، يا سيدي. لم أتوقف مطلقا عن النداء عليه. وضعت ذراعي هذه أمام عيني، كي لا أرى، ولوحت بهذه الذراع حتى النهاية، ولكن دون جدوى.»
دون إطالة القصة أو التركيز على أي من ملابساتها الغريبة دون الأخرى، أود، في الختام، أن ألفت الانتباه إلى مصادفة أن تحذير سائق القاطرة لم يشتمل فقط على الكلمات التي كان عامل التحويلة التعس قد كرر على مسامعي أنها تلاحقه، وإنما اشتمل أيضا على الكلمات التي كنت أنا نفسي - وليس هو - قد قرنت بينها، في ذهني فقط دون أن أجهر بها، وبين حركة الذراع التي كان يقلدها.
نامعلوم صفحہ