وفي الطائرة التي استأجراها لم يكد ينظر إليها، بل لقد جلس منصرفا عنها في صمت، متقيدا بمواثيق قوية لم ينطق بها أحد، ومطيعا لقوانين لم تسر من زمان بعيد، وأحيانا يهتز جسمه كله بغتة جافلا جفولا عصبيا، كأن أصبعا يضرب على وتر مشدود يكاد ينقطع من التوتر.
وهبطت الطائرة على سطح بيت ليننا، وابتهجت وهي تخرج من الطائرة؛ لأن الرحلة قد بلغت نهايتها، وكأن رفيقها كان غريب الأطوار حتى اللحظة الأخيرة، ووقفت تحت مصباح وتطلعت إلى مرآة يدوية، وأخيرا عادت من رحلتها! وكان أنفها يلمع قليلا فنثرت فوقه مسحوقا دقيقا من قرص ناعم كانت تحمله من أجل ذلك، وانتهزت فرصة الفترة التي كان يدفع فيها أجر الطائرة، ونثرت المسحوق فوق أنفها، وأطفأت بريقه، وفكرت في نفسها: «إنه جميل للغاية، وليست به حاجة إلى الخجل مثل برنارد، ومع ذلك ... فلو كان أي رجل آخر غيره لفعل الفعلة من زمان طويل، والآن لقد انتهت الرحلة.» وطالعتها بغتة ابتسامة من ذلك الجانب من صورة وجهها الذي انعكس في المرآة الصغيرة المستديرة.
وسمعت صوتا مختنقا خلفها يقول: «مساء الخير.» والتفتت ليننا خلفها، فإذا به واقف لدى باب الطائرة وعيناه مثبتتان محملقتان، وكان محدقا فيها طوال المدة التي كانت تمسح فيها أنفها بالمسحوق، منتظرا ولكن لماذا؟ أو مترددا ومحاولا أن يصل إلى قرار، وسابحا كل الوقت في الفكر، ولم تستطع أن تتصور ماذا عسى أن تكون تلك الأفكار الشاذة، وكرر قوله: «مساء الخير يا ليننا.» وتقلص وجهه تقلصا غريبا وهو يحاول الابتسام. - «ولكن، جون ... لقد كنت أحسب أنك ... أعني ... ألست ...؟»
وأغلق الباب وانحنى إلى الأمام كي يسر إلى السائق بكلمة، ثم انطلقت الطائرة في الفضاء، وأطل الهمجي من النافذة التي في أسفلها، فأمكنه أن يرى وجه ليننا وقد التفتت إلى أعلى، شاحبا في ضوء المصابيح الضارب إلى الزرقة، وثغرها منفرج وهي تنادي، وقد تضاءل حجمها وهو ينظر إليه من عل، وأخذ يغيب عنه شيئا فشيئا، وبدا له السطح المربع وهو يتناقص حجما كأنه يهوي في الظلام.
وبعد خمس دقائق كان في غرفته، وأخرج مجلده من مخبأه وقد قرضته الفئران، وقلب صفحاته الملوثة المتغضنة كأنه يتصفح كتابا مقدسا، وشرع يقرأ مسرحية «عطيل»، وتذكر أن عطيلا يشبه بطل «ثلاثة أسابيع في الطائرة» - كلاهما أسود.
وعبرت ليننا السطح تقصد المصعد وهي تجفف عينيها، وفي طريقها إلى أسفل نحو الطابق السابع والعشرين أخرجت زجاجة السوما، وقررت أن جراما واحدا لا يكفي؛ فإن الكارثة التي ألمت بها أفدح من أن يزيلها جرام واحد، ولكنها إن تناولت جرامين تعرضت لتأخير يقظتها في صبيحة اليوم التالي، فاتخذت حلا وسطا، وهزت صندوق السوما وأفرغت منه في راحة يسراها، بعدما جعلتها شبيهة بالكأس ثلاثة أقراص زنة الواحد منها نصف جرام.
الفصل الثاني عشر
واضطر برنارد إلى الصياح خلال الباب المغلق، ولكن الهمجي لم يفتحه. - «إنهم جميعا هناك بانتظارك.»
فرد عليه صوت خافت خلال الباب قائلا: «فلينتظروا.» - «ولكنك تعرف جيدا يا جون أنني دعوتهم عمدا للقائك (وكان من العسير أن يكون حديثه مغريا، وهو يتكلم بأعلى صوته).» - «كان ينبغي لك أن تسألني أولا، إن كنت أريد أن أقابلهم.» - «إنك كنت دائما مقدما يا جون.» - «ومن أجل هذا بالذات لا أحب أن أعود.»
فتودد إليه برنارد وجأر قائلا: «تعال كي تسرني، ألا تحب سروري؟» - «كلا.» - «هل أنت جاد؟» - «نعم.»
نامعلوم صفحہ