1
ودارت هذه الكلمات العجيبة في رأسه، ورنت في أذنه كالرعد إذا تكلم، أو كالطبل في رقصات الصيف إذا استطاعت الطبول أن تتحدث، أو كالرجال وهم يتغنون بنشيد الحصاد. كان رنينها في الأذن رائعا، تدفع السامع إلى الصياح، كأنها حديث من حديث متسما العجوز، ينطق بكلمات السحر وهو يتزين بالريش، ويمسك بالعصى المنقوشة ويقطع من العظام والحجارة - ويتفوه بألفاظ لا معنى لها، غير أن الألفاظ التي قرأها خير من ألفاظ متسما السحرية؛ لأنها تدل على معان أكثر منها؛ ولأنها تحدثه، وتتحدث بشكل يدعو إلى الإعجاب ولا تفهم كل الفهم، هذه كلمات سحرية جميلة مريعة عن لندا، وهي هناك على فراشها تغط في نومها، وإلى جوار فراشها كأس فارغة ملقاة على الأرض، هذه كلمات عن لندا وبوبي.
واشتد مقته لبوبي، وأدرك أن المرء قد لا يفتر ثغره عن الابتسام وهو وضيع دنيء، يا له من وغد ميت الضمير خائن، داعر غير رفيق، وما معنى تلك الكلمات التي قرأ؟ إنه أدركها إدراكا ناقصا، غير أن سحرها قوي، وما فتئت ترن في أذنه، وأحس كأنه لم يكره بوبي من قبل قط، لم يكرهه لأنه لم يستطع يوما أن يعبر عن مقدار كرهه له، أما الآن فلديه هذه الألفاظ التي تشبه الطبل والغناء والسحر. هذه الكلمات وتلك القصة العجيبة التي اقتبست منها (إنه لم يفهم للقصة مغزى، ولكنها برغم ذلك عجيبة جدا) بررت له كره بوبي، وجعلت كرهه له أمرا حقيقيا، بل جعلت بوبي نفسه شخصا أكثر واقعية في عينيه.
وعاد ذات يوم من اللعب وألفى باب الغرفة الداخلية مفتوحا، ووجدهما مستلقيين على الفراش معا ومستغرقين في نومهما - لندا البيضاء، وبوبي إلى جانبها يكاد يكون أسود اللون، وإحدى ذراعيه تحت كتفيها، واليد الثانية السوداء على صدرها، وإحدى ضفائر شعره الطويل ملقاة حول عنقها، كأنها حبة سوداء تحاول خنقها، وجرة بوبي وإحدى الكئوس ملقاة على الأرض إلى جانب السرير، ولندا تغط في نومها.
وكأن قلبه اختفى وخلف مكانه ثغرة، كان فارغا باردا وكأنه عليل به دوار، فاستند إلى الحائط كي يعتدل، وجال بخاطره أن الرجل ميت الضمير، خائن، داعر ... وتذكر تلك الألفاظ التي تشبه الطبل، أو تشبه نشيد الحصاد، أو السحر، وأخذت الكلمات تدور في رأسه مرة بعد أخرى، واستحالت برودته بغتة إلى حرارة، واحترقت وجنتاه من الدم المتدفق، وغامت الغرفة أمام عينيه وأظلمت، واصطكت أسنانه، وردد قوله: «سوف أقتله، سوف أقتله.» وتذكر فجأة هذه الكلمات: «حينما يكون مستغرقا في نومه ثملا، أو في ثورة من الغضب، أو في متعة الفراش زانيا مع امرأة لا يجوز له أن يقترن بها ...»
إن هذا السحر يشد أزره، وهو سحر يفسر له ما غمض ويصدر له الأوامر بما يصنع، فتقهقر إلى الغرفة الخارجية، وردد هذه العبارة: «حينما يكون مستغرقا في نومه ثملا ...» وكانت سكين اللحم ملقاة على الأرض إلى جانب النار، فالتقطها وسار على أطراف أصابعه نحو الباب ثانية، وردد مرة أخرى: «حينما يكون مستغرقا في نومه ثملا ...» وعبر الغرفة على عجل وطعن الرجل. يا للدماء! ثم طعنه مرة أخرى، وتحرك بوبي من نومه فرفع يده كي يطعنه طعنة ثالثة، ولكن يدا قبضت على معصمه وأمسكت بها ولوتها ليا شديدا، فلم يستطع أن يتحرك، ووقع في الشراك، ورأى عيني بوبي الصغيرتين السوداوين المتقاربتين وهما تحدقان في عينيه، فصرف عنه البصر، ورأى جرحين في كتف بوبي اليسرى، وصاحت لندا قائلة: «انظروا إلى الدماء، انظروا إلى الدماء!» ولم تستطع يوما أن تحتمل رؤية الدماء، ورفع بوبي يده الأخرى كي يضربه - كما ظن جون، فتصلب استعدادا للقاء الضربة، ولكن اليد التي ارتفعت عادت به تحت ذقن الرجل، ولوت وجهه بحيث لم يسعه إلا أن يحدق في عيني بوبي، وبقي على ذلك ساعات طوالا، ثم لم يسعه بعدئذ إلا أن يتفجر بالبكاء، فقهقه بوبي ضاحكا، وقال له باللغة الهندية العجيبة: «اذهب يا أهايوتا، إنك شجاع.» فانطلق إلى الغرفة الأخرى؛ كي يخفي دموعه.
وقال له متسما العجوز باللغة الهندية: «أنت في الخامسة عشرة من عمرك، وأستطيع الآن أن أعلمك كيف تشتغل بالصلصال.»
وجلسا القرفصاء على شاطئ النهر وأخذا يشتغلان معا.
وتناول متسما بين يديه قطعة من الصلصال المبتل، وقال: «لنعمل أولا قمرا صغيرا.» وصنع الرجل العجوز من كتلة الصلصال قرصا، ثم ثنى أطرافه إلى أعلى، فأصبح القمر كأسا ضحلة.
وقلد جون حركات الرجل العجوز الدقيقة ببطء وبغير مهارة.
نامعلوم صفحہ