وإلى جوارها جيش من العمال يرتدون الأسود والكاكي، منهمكين في إعادة تزجيج سطح طريق الغرب الكبير، وكانت إحدى البوتقات الضخمة تقرع وهما يطيران فوقها، ويصب الحجر المنصهر في مجرى يعبر الطريق من جانب إلى آخر ويتوهج توهجا يبهر العين، وأسطوانات الاسبستس (وهو مادة لا تحترق) تتحرك جيئة وذهابا، وفي ذيل عربة للري معزولة، كانا يريان البخار يرتفع على هيئة سحب بيضاء.
وعند برنتفورد بدا مصنع شركة التلفزيون كالمدينة الصغيرة.
قالت: «لا شك أنهم يغيرون الدور.»
وتجمع البنات من طراز «ج» اللائي كن في خضرة أوراق الشجر، وأنصاف المعتوهين السود، حول المداخل كما تتجمع الندوات العسلية أو النمال، ووقف بعضهن في صفوف؛ كي تأخذ كل منهن مكانها بدورها في عربات الترام، التي تسير على قضيب واحد، أما الأشخاص من طراز «−ب» الذين كانوا في لون التوت، فكانوا يسيرون جيئة وذهابا بين الجمهور المحتشد، وكان سقف البناء الرئيسي يموج بحركة الصعود في طائرات الهلكبتر والرحيل على متنها.
قالت ليننا: «كم أنا مسرورة لأني لست من الطراز «ج».»
وبعد عشر دقائق بلغوا ستوك بوجز، وبدءوا الشوط الأول من لعبة جولف الموانع.
2
أسرع برنارد إلى الجانب الآخر من السطح، وعيناه في أكثر الوقت منكستان، وإذا وقعتا على زميل ما تحولا عنه بغتة وخلسة، وكأنه رجل مطارد، يقتفي أثره أعداء لا يحب أن يراهم؛ خشية أن يظهروا له أشد عداوة مما كان يحسب، وخشية أن يزيد إحساسه بالإثم وبالعزلة التي ليس له فيها معين.
هناك مثلا بنتو هوفر، ذلك الرجل البشع، كان رجلا حسن النية، ولكن ذلك كان يزيد الأمر سوءا من ناحية ما، فإن أولئك الذين حسنت نياتهم كانوا لا يختلفون في سلوكهم عن أولئك الذين ساءت نياتهم، ولقد كان يقاسي حتى من ليننا، وتذكر تلك الأسابيع التي لازمه فيها الجبن والتردد، حينما كان يتطلع ويتشوق، ولكنه يائس من التشجع على سؤالها، هل كان يجرؤ على مواجهة الخطر الذي ينشأ عن إذلاله برفض مشوب بالازدراء؟ ولكنها إن قالت نعم شاع في قلبه السرور، والآن ها هي ذي تقول نعم، ولكنه لا يزال بائسا حزينا؛ لأنها رأت مساء ذلك اليوم خير الأمسية للعبة جولف الموانع، فهرولت للقاء هنري، ولأنها حسبته رجلا غريب الأطوار؛ لأنه لم يرد أن يتحدث علنا في أخص شئونهما. إنه - بعبارة أخرى - بائس؛ لأنها سلكت كما تسلك أية فتاة إنجليزية صحيحة البدن، ولم تسلك سلوكا آخر شاذا غير عادي.
وفتح باب محبسه ونادى خادمين مسترخيين من طراز «−د»، وطلب إليهما أن يدفعا طائرته إلى الخارج فوق السطح، وكان يقوم بالعمل في حظائر الطائرات جماعة بوكانوفسكية واحدة، والرجال هناك توائم متشابهون، صغار الحجوم، سود يبعثون التقزز والاشمئزاز. وألقى برنارد أوامره في نغمة حادة، تشف عن الاستعلاء بل والاعتداء، وهي النغمة التي يتحدث بها الرجل، إذا لم يكن مطمئنا إلى سموه على غيره، وكان برنارد دائما يشعر بالضيق الشديد عند التعامل مع أفراد الطبقات الدنيا؛ لأن تركيبه الجثماني - لسبب ما - لم يكد يتفوق على التركيب الجثماني للفرد المتوسط من طراز «ج» (ويحتمل جدا أن تكون الإشاعة السائدة عن وجود الكحول في دمه صحيحة؛ لأن أمثال هذه الحوادث قد تقع). كان طوله ينقص ثماني سنتيمترات عن رجل أصيل من الطراز «أ»، وكان نحيفا نسبيا، وكان اتصاله بالأفراد من الطبقات الدنيا دائما يذكره بهذا النقص الجثماني ويؤلمه، وكان يردد في نفسه هذا القول: «وددت لو لم أكن كما أنا.» وكان إحساسه بنفسه شديدا وباعثا على الضيق، وكلما التقى برجل من طراز «د»، ورأى أنهما في مستوى واحد، وأنه لا ينظر إليه من عل، أحس بالذلة والخنوع، وتساءل هل يعاملني هذا المخلوق بالاحترام الواجب لأبناء طبقتي؟ وكان هذا السؤال يؤرقه في كل حين ، وله في ذلك المعذرة؛ لأن «ج ، د، ه» قد تكيفوا إلى حد ما على ربط ضخامة الجسم بعلو المكانة الاجتماعية، وفي الحق: إن شيئا من الإعجاب بالضخامة كان شائعا من أثر الإيحاء أثناء النوم، ومن ثم كان النساء اللائي يتقرب إليهن يسخرن منه، وأضرابه من الرجال يهزءون به، فكان من أثر السخرية يحس بأنه رجل غريب، ويدفعه هذا الإحساس إلى أن يسلك سلوك الغريب، فكان ذلك يزيد من التحيز ضده، ويقوي الاحتقار والازدراء والعداوة، التي تثيرها عيوبه الجثمانية، وهذا بدوره يزيد من إحساسه بالغرابة والعزلة، وتولد لديه خوف دائم من استخفاف الناس به، فكان يتحاشى أضرابه، ويقف ممن دونه موقف الرجل، لا يفارقه الإحساس بكرامته، وكان شديد الحسد للرجال من أمثال هنري فستر وبنتو هوفر - أولئك الذين لا يشعرون بضرورة الصياح للناس من طراز «ه»، كي يطاع لهم أمر، أولئك الذين لا يفكرون في مراكزهم، أولئك الذين يتحركون وسط هذا النظام الطبقي، كما تتحرك السمكة في الماء، فهم مطمئنون أشد الاطمئنان حتى إنهم لا يدركون وجود أنفسهم، ولا يدركون العناصر النافعة المريحة التي نشئوا في أحضانها.
نامعلوم صفحہ