ووقعت فأسه على حجر، فتوقف عن العمل كي يلتقطه، وتساءل: «أية أحلام تلك التي في نوم الموت ...؟»
وأصبح طنين الطائرات المحلقة فوق رأسه زئيرا، وألفى نفسه في الظل بغتة، فقد كان هناك شيء يحول بينه وبين الشمس، ورفع بصره إلى أعلى مذعورا، وتنبه من فلاحته ومن أفكاره، رفع بصره متحيرا مذهولا، وما برح ذهنه يسبح في ذلك العالم الآخر الأصدق من الصدق، وما فتئ مركزا في محيط الموت والآلهة الفسيح، رفع بصره فرأى قريبا منه مجموعة الطائرات المحلقة، وقد أقبلت كالجراد، ثم بقيت معلقة متزنة، ثم هبطت حوله فوق الخلنج من جميع الجهات، وخرج من بطون هذه الجنادب الضخمة رجال يرتدون الفانلة اللزجة، ونساء يرتدين البيجامات الحمضية الخفيفة (لأن الجو كان حارا) أو سراويل المخمل القصيرة، والقمصان التي بغير أكمام، نصف مفتوحة، وخرج من كل طائرة زوج، وبعد بضع دقائق تجمع منهم عشرات، ووقفوا في حلقة واسعة حول الفنار، يحملقون ويضحكون، مطقطقين بآلات التصوير، يرمون له - كأنه قرد - الفول وحزما من لبان الهرمونات الجنسية وزبد إفرازات الغدد جميعا، وأخذ عددهم يتزايد كل لحظة، وتدفق منهم تيار لا ينقطع عبر هجزباك، وأصبحت آحادهم عشرات، وعشراتهم مئات - وكأنه في حلم مفزع مريع.
وتراجع الهمجي متخفيا، ووقف وقفة الحيوان الآمن المطمئن، ظهره مستند إلى الفنار، ينقل بصره من وجه إلى وجه وهو في فزع، لا ينطق بكلمة كأنه رجل فاقد الرشد.
وأيقظه من هذه الغفوة زيادة إحساسه المباشر بالحقيقة، عندما التصقت بخده ربطة من اللبان أحكم تصويبها، وقد أذهله الألم فاهتزت له أعصابه، فتيقظ يقظة شديدة وثار غاضبا.
وصاح قائلا: «ابعدوا!»
لقد نطق القرد، فانفجروا ضاحكين مصفقين، وقالوا: «مرحبا بك أيها الهمجي العزيز.» وسمع صياحهم: «السوط، السوط!» من خلال الجلبة واللغط.
وعمل الهمجي بما أوحت به هذه الإشارة، فأمسك بطاقة الحبال المعقدة من المسمار الذي كان خلف الباب، وهزها أمام معذبيه.
وكانت هناك صيحة تدل على الاستحسان التهكمي.
وتقدم نحوهم مهددا إياهم، فصاحت إحدى النسوة في جزع شديد، وتخلخل الصف في الموضع الذي تعرض للتهديد المباشر، ثم استقام ثانية، وثبت الواقفون، وقد اكتسب هؤلاء المتفرجون من إحساسهم بالقوة الساحقة شجاعة لم يتوقعها منهم الهمجي، فذعر ووقف ساكنا ثم تلفت حواليه.
وقال: «لماذا لا تتركوني وحدي؟» وكانت في غضبه نغمة تنم عن الشكاة.
نامعلوم صفحہ