وتلجلج وهو يكرر قوله: «لقد كنت كبير الأمل ...» وقد رفع بصره إلى ذلك الرجل العظيم الكريم، وفي عينيه دلائل التوسل والذهول.
وقال كبير المنشدين في نغمة مرتفعة تنم عن الجد والقسوة: «صديقي الشاب ...» ثم ساد الصمت بين الجميع: «خذ عني هذه النصيحة.» وهز أصبعه في وجه برنارد: «قبل أن يفوت الأوان، إنها نصيحة طيبة (وأصبح صوته كصوت يرتفع من بين القبور)، أحسن سلوكك يا صاح، أحسن سلوكك أيها الشاب.» ورسم علامة
T
فوقه ثم انصرف، ونادى بصوت آخر: ليننا، عزيزتي تعالي معي.
واقتفت ليننا أثره وهو يخرج من الغرفة، مطيعة له غير باسمة ولا متغطرسة (لأنها لم تدرك ما نالها من شرف)، وتبعهم بقية الضيوف بعد فترة لا بأس بها، وأغلق آخرهم الباب محدثا به ضجيجا، وبقي برنارد وحده.
فاستلقى على أحد المقاعد وقد فقد هيبته، وضاعت كل ثقته في نفسه، وحجب وجهه بيديه وبدأ يبكي، ولكنه بعد بضع دقائق تنبه إلى فكرة طيبة، وتناول أربعة أقراص من السوما.
وكان الهمجي في غرفته بالطابق العلوي، يقرأ مسرحية «روميو وجوليت».
ونزلت ليننا وكبير المنشدين على سطح معهد الغناء، ونادى كبير المنشدين من أبواب المصاعد، وهو شديد القلق قائلا: «أسرعي يا صديقتي الشابة، أقصد ليننا.» وكانت ليننا قد تلكأت لحظة تتطلع إلى القمر، فأغمضت عينيها وأسرعت تعبر السطح؛ كي تلحق به.
فرغ مصطفى مند لحظة يسيرة من قراءة صحيفة عنوانها: «نظرية جديدة في علم الحياة»، وجلس فترة ما، متأملا متجهما، ثم التقط قلمه وكتب في الصفحة الافتتاحية: «إن طريقة المؤلف الرياضية في علاج فكرة «الغرض» حديثة تدل على نبوغ عظيم، لكنها زندقة، وهي - فيما يخص النظام الاجتماعي الراهن - خطرة وقد تكون هدامة.» ثم عقب على ذلك بهذه العبارة: «هذا الكلام لا ينشر.» ووضع خطا تحت هذه الكلمات، ثم أضاف إلى ذلك قوله: «إن المؤلف سوف يبقى تحت الرقابة، وقد يصبح نقله إلى محطة الأحياء المائية بسنت هيلانة أمرا لا مندوحة منه.» ووقع باسمه وهو آسف. لقد كان عملا جليلا، ولكن المرء إذا بدأ يقبل التفسير «بالغرض»، فلا يعلم إلا الله ماذا تكون النتيجة، ذلك نوع من الآراء قد يفسد تكييف أصحاب العقول المذبذبة من أبناء الطبقة العليا؛ فيفقدهم عقيدتهم في أن السعادة هي الخير الأسمى، وتحل محل ذلك العقيدة بأن الهدف أبعد من ذلك مدى، وخارج عن الدائرة الإنسانية الحاضرة، وإن الغرض من الحياة ليس المحافظة على الرفاهية، وإنما هو تعزيز الوعي وتهذيبه، أو توسيع المعارف، وذلك - كما رأى المراقب - أمر ممكن صحيح، ولكنه غير مقبول في الظروف الراهنة، والتقط قلمه مرة أخرى ورسم خطا ثانيا تحت هذه العبارة «لا ينشر»، أغلظ وأشد من الخط الأول سوادا، ثم تنهد، وفكر في نفسه قائلا: «ما أشدها مهزلة لو أن المرء لم يضطر إلى التفكير في السعادة!»
وبعينين مغمضتين ووجه يتهلل بشرا، كان جون يخطب للفضاء قائلا:
نامعلوم صفحہ