القسم الأول: العالم القطبي
1 - العالم القطبي في عالم متغير
2 - الصفات العامة للعالم القطبي
3 - الشمال السوفيتي
4 - الشمال الكندي
القسم الثاني: نورديا1
مقدمة
1 - الأوضاع الجغرافية
2 - الأوضاع الحضارية
3 - الدنمارك
4 - السويد
5 - النرويج
المراجع الأساسية
القسم الأول: العالم القطبي
1 - العالم القطبي في عالم متغير
2 - الصفات العامة للعالم القطبي
3 - الشمال السوفيتي
4 - الشمال الكندي
القسم الثاني: نورديا1
مقدمة
1 - الأوضاع الجغرافية
2 - الأوضاع الحضارية
3 - الدنمارك
4 - السويد
5 - النرويج
المراجع الأساسية
العالم القطبي ونورديا
العالم القطبي ونورديا
دراسة جغرافية
تأليف
محمد رياض
القسم الأول
العالم القطبي
الفصل الأول
العالم القطبي في عالم متغير
يمر الكثير من الدراسات في الجغرافيا الإقليمية على الإقليم القطبي مر الكرام؛ أي دون إجراء دراسات تفصيلية له، وليس ذلك دون سبب، فإن الإقليم الواقع في أقصى شمال العالم وجنوبه هو أكثر أقاليم العالم معاداة للحياة الإنسانية في صورته الحالية؛ ولذا فهو أقل مناطق العالم كثافة في السكان، ومن أكثرها تبعثرا في السكن، وفي الوقت نفسه فإن موارد العالم القطبي كانت حتى فترة ليست بعيدة محدودة جدا، وبالقياس إلى هذا كله نجد أن الجغرافيا الإقليمية توجه نفسها إلى دراسات مستفيضة عن الأقاليم ذات الثقل الموزعة فوق الكرة الأرضية، وخاصة الأقاليم التي تحتل العروض الوسطى، وإلى حد ما أقاليم العروض الدنيا، بل إن الجغرافيا كانت تدرس بالتفصيل أقاليم مشابهة للعروض الشمالية والقطبية من حيث قلة محتواها السكاني وتخلخل وتبعثر نمط السكن فيها مثل الإقليم الجاف الموجود في العالم القديم: أقاليم الصحراء الأفروآسيوية.
ولكن لهذا الأمر أسبابه أيضا، ذلك أن العالم الجاف - وإن شابه العالم البارد في جفافه - إلا أن علاقات الموقع مختلفة، فالعالم الجاف يحتل منتصف العالم القديم، ويقع على كل الطرق التي تربط مناطق الكثافة السكانية العالية في أوروبا وآسيا الجنوبية والشرقية وأفريقيا المدارية، بينما يقع العالم القطبي في هامش المعمور الشمالي لأوروآسيا، ومن ثم تجنبه الناس والشعوب، ولم يدخله إلا المجموعات القبلية التي دفعت إليه دفعا بواسطة مجموعات أقوى، وفوق ذلك فإن العالم الجاف صالح للسكن البشري في كل ظروفه المناخية في حالة وجود مصدر دائم للمياه ، وتظهر المصادر المائية في العالم الجاف في مناطق عديدة مبعثرة في صورة الينابيع والمياه الجوفية الجديدة التي كونت مئات الواحات الكبيرة، كما أن أطراف العالم الجاف تنتهي إليها أحيانا مياه أنهار قصيرة أو طويلة تنبع من خارج العالم الجاف فتكون سكنا دائما على مر الآلاف المؤلفة من السنين، ومن أمثلة ذلك النيل والدجلة والفرات وسرداريا وأموداريا، وقوس النيجر الشمالي والسنغال الأدنى والسند الأدنى والأردن والعاصي وعشرات الأنهار القصيرة في سوريا وإيران وأفغانستان وسنكيانج ومنغوليا.
وقد أدت الواحات والوديان النهرية المختلفة بالإضافة إلى علاقات الموقع الجغرافي في العالم إلى أن تصبح مناطق العالم الجاف أكثر مناطق العالم المعروف توسطا وأهمية في الانتقال العالمي، ولظروف كثيرة لا داعي للإفاضة فيها فقد كان العالم الجاف المهد الأول للحضارات العليا القديمة منذ العصر النيوليتي - الحجري الحديث، ففي هضاب إيران إلى دلتا النيل كان الكشف الأول عن الزراعة - حسب المعلومات الراهنة التي تمدنا بها دراسات حفريات ما قبل التاريخ، وفي هذه المنطقة أيضا كان استئناس الحيوان، وفي هذه المنطقة أيضا نشأت عشرات الحضارات العليا في فترات لاحقة لاكتشاف المعادن: حضارة مصر فيما قبل الأسر وفي العهود الفرعونية، حضارات العراق القديمة من أكاد إلى سومر إلى بابل وآشور، الحضارات الفينيقية المختلفة وحضارات السند القديمة.
وفوق كل هذا زادت أهمية العالم الجاف بعدا رابعا بكونها المهد الأول للديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.
ولم تقف أهمية العالم الجاف عند ذلك، بل إن العصر الحديث بما فيه من تقدم تكنولوجي قد كشف عن أن العالم الجاف يقع فوق بحيرات عديدة من البترول الذي يكون أحد أهم مصادر الطاقة في عالم القرن العشرين، وهكذا تضافرت جميع العوامل الطبيعية والبشرية والاقتصادية والدينية لتجعل من العالم الجاف مجالا هاما في الدراسات الإقليمية الجغرافية.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذن نهتم بدراسة العوالم القطبية والباردة؟ قد يبدو لأول وهلة أن الإجابة على هذا السؤال صعبة، وهي حقا صعبة وذلك لأن كثيرا مما سنقوله يقع في عالم الغد، فإلى جانب أن الدراسة الجغرافية للأقاليم الباردة في العروض العليا تمثل الأهمية الضرورية للمعرفة العلمية لجزء من سطح كوكبنا الأرضي، فإن العالم القطبي قد أصبح يبرز على خريطة العالم بروزا واضحا منذ الخمسينيات من هذا القرن، وقد بدأ بروزه يتضح من خلال عوامل جيوبوليتيكية تعود إلى نمو عصر الطيران بعد الحرب العالمية الثانية وظهور عصر الفضاء والصواريخ.
لقد ترتب على الحرب العالمية الثانية نزول القوى العالمية الأولى في أوروبا الغربية - الإمبراطوريتان الإنجليزية والفرنسية، وقوى المحور الأوروبي الأوسط ألمانيا وإيطاليا - إلى المرتبة الثانية، بينما صعدت قوتان جديدتان إلى المرتبة الأولى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وتواجه هاتان القوتان بعضهما - ليس عبر الطريق التقليدي العادي الذي يخترق أوروبا والمحيط الأطلنطي الشمالي - إنما مواجهة مباشرة عبر العالم القطبي الشمالي، الولايات المتحدة بامتدادها إلى ألسكا ومناطق نفوذها في جرينلاند وشمال كندا، أصبحت تواجه سيبريا السوفيتية التي تطوق المحيط الشمالي فيما يشبه نصف حلقة كاملة، وفيما بين الكتلتين المتواجهتين تحتل سكندنافيا الأوروبية (فنلندا - السويد - النرويج - أيسلندا) جزءا مهما في المواجهة العالمية للقطبين السياسيين الكبيرين، ولكنه صغير، وهذه الأهمية ترجع إلى: أولا: إن هذا الجزء الأوروبي من العالم الشمالي يمثل المدخل الأساسي الواسع بين المحيط الشمالي والأطلنطي الشمالي - المدخل الذي يتحكم فيه مثلث يرتكز على: (1) سواحل النرويج، (2) أيسلندا، (3) جزر سفالبارد. ثانيا: إن هذا المدخل هو الذي يمثل البحر المفتوح طوال السنة نتيجة تأثيرات مشتركة من تيار الخليج الدافئ وكتل الهواء الجنوبية الغربية التي تدور حول منطقة أعاصير أيسلندا، بينما تتجمد مياه المحيط الشمالي ومضيق برنج ومداخل الأرخبيل الهندي وبحار جرينلاند، ومن هنا تتضح أهمية الجزء الأوروبي في العالم القطبي من الناحية الجيوبوليتيكية بالنسبة لعالم الكتلتين الشرقية والغربية المعاصر، وعالم الصواريخ العابرة للقارات وعصر الطيران القطبي وعصر الفضاء، وإلى جانب ذلك فإن العالم القطبي الأوروبي هو - حتى الآن - أكثر مناطق العروض العليا سكنا وسكانا ونشاطا اقتصاديا وحضارة، ومن ثم كانت الأهمية التي تدعونا إلى دراسته بالتفصيل كجزء له ثقله الخاص في إقليم العروض الشمالية والقطبية.
وإلى هنا تنتهي الأسباب الواقعية في أهمية العالم القطبي وبداية بروزه على خريطة العالم الحديثة، وهي في حد ذاتها أسباب مقنعة لكي نفرد لهذا العالم دراسة خاصة.
ولكن هناك أسبابا أخرى، معظمها مستقبلي، تدعونا إلى دراسة هذا العالم أيضا، وتنحصر هذه الأسباب في المستقبل الاقتصادي والحضاري لعالم العروض العليا، وأقرب أشكال المستقبل الاقتصادي للتحقيق هي الاكتشافات الكبيرة للثروة المعدنية في أجزاء متفرقة من العالم القطبي: حديد نوربوتن في شمال السويد وحديد شبه جزيرة نبرادور في شمال شرق كندا وفحم شغالبارد ونونازميليا وذهب ألسكا وسيبيريا وبترول سيبيريا وألسكا والنحاس والمواد المشعة في مناطق مختلفة من سيبيريا وشمال كندا، وهذه وغيرها من الكشوف المعلنة وغير المعلنة والمستقبلة قد أصبحت تعطي للعالم الحديث نقط ارتكاز جديدة داخل العروض الشمالية العليا تمثل قواعد ثابتة لغزو هذا العالم المنعزل وضمه إلى قائمة الأراضي المستغلة بصورة أو بأخرى.
ومن أهم الأمثلة على ذلك نشأة مدن التعدين الرئيسية، وأقدمها كيرونا في السويد التي يزيد سكانها عن 20000 شخص، وفي المنطقة السوفيتية مدن حديثة ارتفع عدد سكانها بصورة مذهلة مثل كيروفسك التي أنشئت عام 1930 وأصبح عدد سكانها أكثر من 50000 شخص الآن، ومدينة إيجاركا التي أنشئت بعد عام 1935 ويبلغ عدد سكانها أكثر من 25000 شخص، ومدينة فركوتا التي أنشئت عام 1943 ويبلغ عدد سكانها نحو أربعة آلاف شخص، ومدينة أوختا، ونجني يانسك وأوست كويجا ... إلخ.
ولا يمثل التعدين كل المستقبل الاقتصادي للعالم القطبي، بل إن مشروع دفع حد الزراعة الشمالي إلى العروض العليا، الذي تعنى به الأجهزة والسياسة الزراعية الاستيطانية السوفيتية على وجه الخصوص، يعطي أملا في إمكان الحصول على بعض الأغذية من داخل العروض العليا، وفي سبيل ذلك تقوم معاهد أبحاث كثيرة بنجاح في الحصول على بذور مؤهلة للنمو في ظل الظروف القاسية الموجودة في المناطق القطبية، تتكيف تماما مع نظام المناخ والضوء القطبي، وقد استطاع السوفيت فعلا القيام بمشروعات زراعية صغيرة في العروض العليا السيبيرية بواسطة هذه البذور المؤهلة، وبعد استصلاح التربة بإزالة الأحجار وحقن التربة بالجير والبكتيريا وتوفير المخصبات.
وقد استطاع السوفيت نقل وإسكان حوالي مليون شخص في مناطق العروض العليا من بلادهم خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وقد تم ذلك بخلق بيئة صناعية تستخدم فيها الأشعة فوق البنفسجية والمساكن ذات العوازل والغذاء المطعم بالفيتامينات من أجل مكافحة أثر المناخ القاسي، وهذا دليل على انتصار تكنولوجية كفأة وقوية - لكنها مكلفة بدون شك، وبطبيعة الحال، فإن استخدام هذه الوسائل على نطاق واسع أمر مشكوك فيه حتى الآن ولكنه يتم لأغراض خاصة، ولا ريب أن اهتمام السوفيت أكثر من اهتمام غيرهم من الدول المشاركة في العروض العليا مثل النرويج أو كندا، بسبب كثرة السكان الهائلة بالقياس إلى بقية دول العالم القطبي، وبسبب وجود المساحات الضخمة السهلية والتخطيط الاقتصادي المركزي في الاتحاد السوفيتي.
وعلى هذا النحو الكامل تتكامل لدينا ثلاث مجموعات من الأسباب التي تدعونا إلى تخصيص هذه الدراسة للعالم القطبي والعوالم الشمالية الباردة.
المجموعة الأولى تتركز حول زيادة المعرفة الجغرافية بجزء من العالم كان إلى وقت قريب جدا نطاقا هامشيا، وما زال معاديا للسكن البشري إلى حدود كبيرة، ولعل أقرب المعارف التي تزيد حجما معلوماتنا عن المناخ ودراسات أخرى جيوفيزيقية.
المجموعة الثانية تتعلق بالأهمية الجديدة التي يحتلها العالم القطبي الشمالي اليوم من النواحي الجيوبوليتيكية في مجال الصراع السياسي الدولي الراهن على ضوء التغيرات الحديثة في تكنولوجية الحرب والاستراتيجية.
المجموعة الثالثة تدور حول مستقبل المناطق القطبية في المجالين الاقتصادي والسكني، وليس المقصود هنا استغلال الموارد التعدينية التي بدأت تظهر وتحتل مكانة واضحة نتيجة الأبحاث الجديدة، ولكن المقصود أيضا إمكانية الحصول على موارد غذائية تنتج داخل العالم القطبي لتدعم سكن أعداد من البشر أكبر بكثير مما هو عليه عدد سكان هذا العالم في الوقت الحاضر.
الفصل الثاني
الصفات العامة للعالم القطبي
(1) العالم المعادي للسكن
لا شك أن العالم القطبي هو أبسط العوالم الحضارية والبيئية في العالم أجمع من الناحيتين الطبيعية والبشرية، والنشاط الاقتصادي في هذا العالم محدود جدا نتيجة القسوة الظاهرة في الظروف الطبيعية العامة المسيطرة على الإقليم، كذلك فإنه قد ترتب على ذلك أن أعداد السكان ضئيلة للغاية لتسيطر عليها أنماط معيشة شديدة الإمساك مما يضطر السكان إلى أن ينتشروا في مساحات كبيرة للحصول على ما يسد أودهم.
ولهذه الأسباب فإن الكثيرين من الجغرافيين والإنتروبولوجيين يرون أن العالم القطبي هو أكثر العوالم التي تظهر فيها سيادة الظروف الطبيعية على الإنسان.
وبالفعل يظهر العالم القطبي لغير سكانه على أنه عالم تتضافر فيه كل العوامل الأيكولوجية لتعادي السكن البشري إلى أكبر حد، فإن هذا العالم لا توجد فيه إلا سهول خالية من الأشجار ومغطاة بالجليد معظم السنة، أو جبال وهضاب عالية تكسوها غطاءات الجليد الدائم، وحتى مياه هذا العالم المتمثلة في المحيط الشمالي والبحار المختلفة التي تكون جزءا من هذا المحيط تتغطى بالجليد الدائم في معظم أجزائها، وتتعرض للجليد الطافي المتحرك في كل أرجائها، وبرغم كل هذا فإن الإنسان الذي سكن المناطق القطبية قد استطاع أن يطور شكلا بسيطا من أشكال الحياة متفقا تماما مع أيكولوجية الجليد، وهذا الشكل البسيط من الحياة مرتبط باختيار ضيق جدا في مجالات التفضيل والاعتبارات البشرية، مما أدى إلى وجود نمط أو اثنين من أنماط الحياة البشرية الاقتصادية ينتشر على مساحات هائلة من الأرض، وهذا النمط أو الآخر من أشكال الحياة أصبح - نتيجة الاختيار الضيق - قالبا يلتزم به الناس، ولا يمكن استحداث تغيرات فيه إلا بواسطة المبتكرات العلمية الحديثة التي وفدت إلى الإقليم من خارجه.
ولهذا فإن قوالب الحياة والنشاط الاقتصادي في العالم القطبي، قد ظلت دون تغيير لآلاف السنين، وتصبح دراستها هي دراسة حقيقية للتفاعل البسيط الحاصل بين الإنسان وقوى الطبيعة، فيستطاع التعرف إلى صورته الأصلية التي كان عليها عند بداية نشأة الإنسان الحديث على سطح الأرض. (2) أقسام العالم القطبي وحدوده
نظرا لاتساع الإقليم القطبي اتساعا هائلا، فلقد نجمت عن ذلك اختلافات محلية بين شمال النرويج وسيبيريا، وبين ألسكا وجرينلاند، ومن ثم نجد تغيرات محلية في طرق صيد الأحياء البحرية أو استخدام الحيوان - الكاريبو والرنة - أو في طريقة صنع الأسلحة وغيرها من الأدوات من مجموعة إلى مجموعة أخرى، ومن مكان إلى آخر.
لكن مجموع هذه التغيرات تؤدي إلى إمكان تقسيم العالم القطبي إلى منطقتين رئيسيتين: (1)
العالم القطبي الأوروآسيوي. (2)
العالم القطبي الأمريكي.
ولكل من هذين القسمين صفاته الأساسية التي يمكن أن نلخصها في أن سكان العالم القطبي الأوروآسيوي في مجموعهم يمارسون الرعي المتنقل، بينما يمارس سكان العالم القطبي الأمريكي صيد الأحياء البحرية، وفي داخل هذين القسمين الرئيسيين سوف تؤدي الدراسة التفصيلية إلى تمييز أقاليم أخرى أصغر ذات صفات مختلفة - طبيعية وبشرية.
والآن، ما هي حدود العالم القطبي؟ إن هناك مفهومات كثيرة مترابطة تحدد ماهية العالم القطبي، فإن مجرد الاسم يربط هذا العالم بالمنطقة القطبية الشمالية والجنوبية من الكرة الأرضية من الناحية الفلكية، وهو كذلك يوحي بمفهوم مناخي لهذا العالم أوضح مؤثراته المناخية البرودة الشديدة المؤدية إلى امتداد غطاءات الجليد على سطح الأرض معظم أيام السنة، وظهور الصقيع دائما طوال السنة في عدة مناطق من هذا العالم.
لكن يجب علينا أن نوضح أيضا أن استخدام كلمة «العالم» مضافة إلى الصفة «القطبية» يؤدي بنا فورا إلى تحديد جلي لما نقصده من مكان هذه الدراسة، فالعالم هنا يشير إلى الأرض المأهولة والمعمورة - بعبارة أخرى يشير إلى المناطق القطبية التي توجد فيها حياة بشرية، وبهذا فإن العالم القطبي يقتصر على دراسة المنطقة القطبية الشمالية من الكرة الأرضية؛ لأن المنطقة الجنوبية غير مأهولة بسكان دائمين يعيشون على الموارد المحلية التي تقدمها الأرض التي عليها يعيشون، ومع ذلك فلا بأس من التنويه بالنطاق القطبي الجنوبي في حينه.
وإذا كان الأمر كذلك فما هي الحدود الجنوبية للعالم القطبي الشمالي؟ هل هي حدود مناخية أم نباتية طبيعية أم هما معا؟ هل هي حدود بشرية حضارية؟ هل هي الحد الشمالي للزراعة؟ أم الحد الشمالي للتوغل الحضاري الصناعي في المنطقة القطبية؟
إن الإجابة على هذا التساؤل صعبة ومركبة، ففي المناطق المختلفة تتفاعل مجموعات الحدود المشار إليها أو يسيطر حد واحد منها لكي يعطينا الحدود الجنوبية للعالم القطبي الشمالي، وفي المجموع وبصفة عامة فإنه يمكننا أن نقول: إن الحد الجنوبي في العالم القطبي الأمريكي هو الحد الفاصل بين الإسكيمو والأمريند - الهنود الحمر، ولكن إن كان هذا هو الحد في شمال كندا وألسكا، إلا أنه ليس هو الحد تماما في منطقة لبرادور وكوبيك وجنوب خليجي هدسن وجيمس، فهنا تتداخل الظروف الطبيعية والمناخية على وجه الخصوص لتمد الحد الجنوبي للعالم القطبي إلى كل لبرادور وشمالي كوبيك.
أما في أوروبا فإن الحد الجنوبي قد يكون الحد الفاصل بين الاسكندنافيين والروس، وبين المجموعات القديمة كاللاب والساموئيد، وفي آسيا يصبح الحد هو ذلك الفاصل بين سكان التنيجا - الغابات المخروطية السيبيرية، وسكان التندرا السوفيتية، ولكننا نلاحظ هنا تداخلا من جانب العوامل الطبيعية تؤدي إلى تعمق الحدود الجنوبية للعالم القطبي الآسيوي إلى الجنوب في سيبيريا الشرقية - على غرار ما لاحظناه في امتداد الحدود القطبية الأمريكية إلى الجنوب في شرق كندا.
ولعل ظروف المنطقة الغربية في كل من شمال أمريكا وأوروآسيا المناخية آخذة بالتحسن بحيث تؤدي إلى ضيق امتدادات العالم القطبي نحو الجنوب مرتبطة في ذلك بالظروف المتاخمة - إقليم غرب القارات المناخي في العروض الوسطى، بينما تتأثر منطقة شرق القارات بالظروف القارية مما يؤدي إلى تقدم العالم القطبي تقدما محسوسا صوب الجنوب في هذه المناطق الشرقية.
وعلى هذا النحو يبدو أن هناك حدودا طبيعية وبشرية معا للعالم القطبي، ولكن هذه الحدود ليست في الواقع سوى نطاقات وليست خطوطا فاصلة، وفي الوقت ذاته فإن التغلغل الحديث للجماعات الأوروبية والأوروبية الأصل في العالم القطبي الشمالي عامة قد أدى إلى كثير من التداخل وسوف يؤدي ذلك - إذا استمر - إلى غزو حضاري للعالم القطبي، وبذلك تنتهي آخر العوالم الحضارية الكبرى المنعزلة في صحاري التندرا المتجمدة، لكن التعميم بأن التندرا هي العالم القطبي ليس صحيحا فهناك مناطق من التندرا تدخل العالم القطبي مثل جزر الوشيان التي تسكنها قبائل الألوت من الإسكيمو - وهي الجزر الممتدة من ألسكا إلى كمتشكا في شمال المحيط الباسيفيكي. (3) الظروف الطبيعية في العالم القطبي
يتميز العالم القطبي بأن سواحله كثيرة التعرج والتداخل مع اليابسة، فهنا أشباه جزر كثيرة جدا نذكر منها شبه جزيرة كولا وكانين في شمال أوروبا، وشبه جزيرة يامال - غربي مصب الأوب، وتايمير في شمال سيبيريا، وشبه جزيرة تشو كشي على مضيق بيرنج، وأكبر أشباه الجزر القطبية قاطبة هي كمتشكا.
وفي أمريكا يمكن مع التجاوز اعتبار لبرادور شبه جزيرة هائلة المساحة، لكن أشباه الجزر الحقيقية هي ملفيل بين شمال خليج هدسن وجزيرة بافن
Baffin
وشبه جزيرة بوثيا إلى الغرب مباشرة من ملفيل، شبه جزيرة سيوارد في وسط ساحل ألسكا الغربي وشبه جزيرة ألسكا في الساحل الجنوبي الغربي لألسكا، والتي تمتد امتدادا كبيرا داخل المحيط الباسيفيكي، وفضلا عن ذلك فهناك أشباه جزر عديدة أصغر مثل كناي إلى الشرق من شبه جزيرة ألسكا، وأشباه الجزر مع جزر الأرخبيل الكندي الشمالي، وخاصة في جزيرة بافن التي تمتلئ بأشباه الجزر (ميتا أنكوجنيتا - هال - كمبرلاند - بوردن - بوردير - فوكس) وأكبر شبه جزيرة في جرينلاند هي شبه جزيرة هيز
Hayes
التي تقع في شمالها الغربي، وأكبر شهرة لها أنها تحتوي على مدينة (تجاوزا) توليه وسيروبالوك
Sioropaluk, Thule - وهما أكثر مدن العالم تطرفا نحو الشمال (حوالي درجة 77,30 شمالا).
وهناك أيضا جزر ومجموعات جزرية عديدة نذكر منها في أوروبا مجموعة سفالبارد النرويجية والمجموعات السوفيتية (من الغرب إلى الشرق): نوفايا زمليا، وزمليا فرانتزا يوسيفا (فرانز يوسف لاند)، سفرنايا زمليا (الأرض الشمالية) ونوفو سيبيريسكي أوستروفا، وأخيرا جزيرة فرانجليا (رانجل) وهناك في الباسيفيك الشمالي السوفيتي جزيرة سخالين ومجموعة جزر كوريل (التي تحاول اليابان استعادة الجزر الجنوبية منها)، وفي العالم الأمريكي مجموعة هائلة من الجزر الأكبر بكثير من الجزر الأوروآسيوية حجما وعددا، أكبرها قاطبة هي جرينلاند الدنماركية، ثم جزر الأرخبيل الكندي وأكبرها جزيرة بافن، اليزمير وفكتوريا وباتكس وملفيل وديفون، وساوتهامتن التي تقع عند مدخل خليج هدسن، وعلى قدر ما في شمال كندا من جزر فإن شمال ألسكا خال من الجزر، بينما توجد أعداد من الجزر الصغيرة في غرب ألسكا وجنوبها، أشهرها سانت لورنس (جنوب مضيق بيرنج وهي أمريكية - بينما في منتصف مضيق بيرنج بالذات توجد جزيرتان صغيرتان: الشرقية منهما ليتل ديوميد وهي الصغيرة وتابعة للولايات المتحدة، والغربية أوستروف راتمانوفا وهي أكبر بكثير من ديوميد ، وهي تابعة للاتحاد السوفيتي)، وتمتد مجموعة جزر الوشيان في نفس اتجاه شبه جزيرة ألسكا؛ أي في قوس إلى الجنوب الغربي صوب كمتشكا، وفي صورة قوس يمتد جنوبي مضيق بيرنج، وتقسم إلى عدة مجموعات من الجزر هي من الشرق إلى الغرب: مجموعة فوكس، مجموعة الجبال الأربعة، مجموعة أندريانوف، مجموعة رات
Rat ، مجموعة نير
Near
وكل هذه المجموعات أمريكية، وكامتداد للألوشيان توجد مجموعة من الجزر الصغيرة في مواجهة ساحل كمتشكا الشرقي وتابعة للاتحاد السوفيتي، وهي مجموعة جزر كوماندوريسكي وميدني، وفي جنوب ألسكا توجد مجموعة جزرية كبيرة في محاذاة الساحل والفيوردات العميقة تنقسم إلى عدة مجموعات جزرية منها مجموعة أرخبيل ألكسندر في الشمال، وتضم عدة جزر بأسماء روسية مثل بارانوف، وشيكاجوف وكوبريانوف، وهي تشير إلى الملكية الروسية السابقة لهذه الجزر وألسكا معا، ومجموعة جزر كوين شارلوت الإنجليزية.
خريطة رقم (1).
ونتيجة لهذه الجزر وأشباه الجزر، فضلا عن تعرج السواحل القطبية كثيرا، فإن مسطحات المحيط الشمالي، وخاصة المجاورة للكتل القارية قد سميت بأسماء مختلفة، فإلى الشمال من أوروبا يمتد بحر بارنتس بين شمال النرويج وسفالبارد ونوفايا زيمليا، والبحر الأبيض شرقي شبه جزيرة كولا بخلجانه الكثيرة وأشهرها كاند لاكشا في الغرب، وإلى الشمال في آسيا يمتد بحر كارابين سفرنايا زيمليا وشبه جزيرة تايمير، وبحر لابتف بين شمال مصب لينا وبين سفرنايا زيمليا وجزر نوفوسيبيريسكي، وبحر سيبيريا الشرقي بين نوفوسيبيريسكي وفرانجيليا، وأخيرا بحر تشوكشي شمالي مضيق بيرنج، وفيما بين بيرنج وقوس جزر الألوشيان يمتد بحر بيرنج، وفيما بين كمتشكا وسخالين يوجد بحر أوختسك.
وفي العالم الأمريكي يوجد بحر لبرادور بين لبرادور وجرينلاند، وبحر بوفور غربي الأرخبيل الكندي شمال سواحل ألسكا، ويتميز الأرخبيل الكندي ببحار يطلق عليها ممرات أو مضايق أو خلجان مثل مضيق ديفيز العريض بين جرينلاند وبافن، وخليج بافن إلى الشمال منه، ومضيق هدسن بين لبرادور وبافن، وخليج بافن إلى الشمال منه، ومضيق هدسن بين لبرادور وبافن، وخليج بوثيا بين شبه جزيرة بوثيا وبافن، وغير ذلك كثير. (3-1) المحيط الشمالي
ويتصل المحيط الشمالي بمدخلين رئيسيين بالمياه الدافئة: مضيق بيرنج هو أضيق المدخلين وعرضه يبلغ نحو 80 كيلومترا، ويفصل بين ألسكا وسيبيريا، بينما يصل بين المحيطين الشمالي والباسيفيكي، أما المدخل الثاني فهو عريض جدا ويقع بين النرويج في الشرق وجرينلاند - أيسلند في الغرب، ويتراوح اتساعه بين 1200كم (النرويج-أيسلند) وأكثر من 1600كم (النرويج-جرينلاند)، وهذا المدخل هو أكثر المداخل أهمية للمحيط الشمالي؛ لأنه يجلب إليه كتل المياه الدافئة التي تكون نهاية تيار الخليج والمحيط الأطلنطي الشمالي، ويؤدي إلى انفتاح الملاحة طوال العام على الساحل النرويجي الشمالي وساحل شبه جزيرة كولا السوفيتية الشمالي، وفي أجزاء مختلفة من بحر بارنتس.
ولقد كان الكشف عن أسرار المحيط الشمالي عملية قاسية شارك فيها كثير من الرواد من الروس والنرويجيين والسويديين والإنجليز والنمساويين وغيرهم.
ولقد بدأت الكشوف بطبيعة الحال بواسطة سكان الشمال، فلقد قام النورسمن والفايكنج من سكان بحر الشمال برحلات بحرية في القرن العاشر الميلادي من أيسلندا وجرينلاند إلى لبرادور، ولكن هذا الطريق ظل منسيا لفترة طويلة قبل أن يعود إلى أهميته بعد عصر الكشوف الجغرافية الكبرى.
وقد كان للفرنسيين دور هام في الكشوف وتعمير الشمال الأمريكي، فأرسلوا عدد كشافين إلى شمال شرق أمريكا في 1524 و1541، كلها تمركزت في حوض سنت لورنس الأدنى، ولكنها استقرت في حوض سنت لورنس بواسطة نشاط شامبلين الذي أسس كوبيك 1608، ووصل إلى بحيرة هورن في سنة 1615، وأسس الفرنسيون لأول مرة في أمريكا تجارة الفراء المنظمة على ضوء الظروف البيولوجية لحيوان الفراء والمناخ الذي يعيش فيه، وبالتالي كان إنشاء المحطات التجارية في المناطق الشمالية في كل من لبرادور وكويبك، وفي بداية القرن الثامن عشر استولت بريطانيا على أملاك فرنسا في أمريكا الشمالية، وأنشأت شركة خليج الهدسن الإنجليزية في منطقة الخليج وأجزاء من السهول الغربية الباردة في كندا، واستمرت في احتكار تجارة الفراء والأخشاب في هذه المنطقة الواسعة حتى سنة 1869 حينما دخلت أراضيها ضمن التاج البريطاني، وقد أدى هذا النشاط التجاري إلى توسيع المعرفة لشئون تلك المناطق بواسطة التوغل في داخل المناطق الباردة بسرعة.
فإذا كان اكتشاف خليج الهدسن قد تم سنة 1610، فإن جزيرة بافن قد اكتشفت بسرعة عام 1616 بواسطة وليام بافن الإنجليزي، وقام سير ألكسندر ماكنزي عام 1789 باكتشاف وادي نهر ماكنزي في السهول الشمالية لكندا، وقد قامت بعثات كثيرة لاستكشاف المناطق الشمالية القصوى، وكان منهم روبرت بيري الأمريكي الذي قام بعملية ارتياد لجرينلاند 1892 ووصل إلى القطب الشمالي عام 1909، وكذلك قام بيرد وويلكنز برحلات جوية إلى القطب عامي 1926 و1928.
وفي الجانب الأوروآسيوي قامت الكشوف أيضا بواسطة جمع من الناس كان هدفهم الأول تجارة الصيد والفراء، لكن يميز هذا الجزء عن غيره أن الإنجليز والهولنديين حاولوا منذ البداية أن يجدوا طريقا عبر المحيط الشمالي إلى الشرق الأقصى والمحيط الهندي بعد أن احتكر الإسبان والبرتغاليون الطريق الجنوبي السهل، كذلك نجد أن ارتياد هذه المنطقة كان يدفع إليه أيضا التوسع الروسي في سيبيريا وأقاليم الشمال عامة.
وقد تم اكتشاف الروس لبحر بارنتس من القرن الحادي عشر، مثل اكتشاف نوفايا زيمليا، وفي 1596 فقد وصل البحار الهولندي وليام بارنتس إلى سبتز برجن - سفالبارد حاليا، وفي 1610 عبر البحار الروسي تشيلوسكيين شبه جزيرة تايمير شرقي مصب الينسي، وفي 1648 عبر الملاح سيمون ديزينيف رأس الشرق - حاليا رأس ديزينيف - في أقصى شرق سيبيريا على مضيق بيرنج، وفي 1725-1730 جاب البحار الهولندي فيتوس بيرنج والروسي شيريكوف من كمتشكا إلى بحر تشوكشي وسجل - بعد زميله ديزينييف بثمانين عاما - مرة أخرى انفصال آسيا عن أمريكا بواسطة المضيق الذي سمي باسمه عام 1728، وفي عام 1832 عبر الرحالة الروسي فيودوروف جيفوزديف مضيق بيرنج إلى ألسكا.
وقد أدت هذه الكشوف إلى اهتمام بطرس الأكبر بالمنطقة الشرقية والشمالية القطبية؛ فنظمت في الفترة بين 1733-1744 عدة بعثات مكونة من 12 سفينة منها القسم الشرقي الذي تولى قيادته بيرنج وشيريكوف فاكتشفا جزر الموشيان وجنوب ألسكا، وفي عام 1873 قامت بعثة بحرية نمساوية بكشوف في منطقة الجزر التي تسمى الآن بجزر فرانز يوسف - نسبة إلى إمبراطور النمسا - شمالي نوفايازيمليا، وفي عامي 1878-1889 تمت أول رحلة عبر الطريق البحري الشمالي بواسطة السفينة «فيجا» بقيادة الكشاف السويدي نوردنشلد في بعثة سويدية روسية، وفي عامي 1893-1896 جاب النرويجي نانسن المنطقة الوسطى من المحيط الشمالي وسميت باسمه المسطحات المائية الكائنة في شمال شرق جرينلاند، وفي عام 1912 اكتشفت روسانوف الفحم في جزر سفالبارد.
وقد بدأ عهد الاستكشاف القطبي بالطائرات عام 1914 بعد أن قام الطيار الروسي ناجورسكي فوق بحر بارنتس خمس مرات.
وفي عام 1920 دشن أول خط ملاحي منتظم في بحر كارا يربط مورمانسك وأركانجل بمصب الأوب والينسي، وفي عام 1930 قطعت كاسحة الجليد سيبرياكوف الطريق البحري الشمالي في موسم واحد بدلا من موسمين - بدأت من أركانجل ووصلت فلاديفوستك بعد شهرين.
وفي عام 1934 حطمت كتل الجليد الطافية سفينة روسية قرب جزيرة رانجل، ونزل البحارة إلى إحدى الجزر الجليدية الطافية حتى أنقذتهم الطائرات والسفن السوفيتية، وكانت هذه الحادثة هي بداية الطريق للكشوف العلمية التي بدأها العلماء السوفيت بواسطة إقامة محطات أبحاث على مثل هذه الجزر الطافية لمدد قد تصل إلى تسعة أشهر، وأصبحت البعثات تنقل بالطائرات إلى المناطق المختارة للدراسة.
والطيران القطبي ليس عملا سهلا فإن الظلام القطبي والعواصف الثلجية الفجائية والشذوذ المغناطيسي والإعاقات اللاسلكية وتراكم الثلوج؛ كلها عوامل تجعل الطيران داخل المنطقة القطبية أمرا صعبا، وفي صيف 1954 قام الطيران السوفيتي القطبي بمساعدة محطات الدراسة القطبية الكائنة على الجزر الجليدية العائمة، وقد بلغت حمولة ما نقلته الطائرات لهذه المحطات في ذلك الصيف ما يساوي حمولة أربع عربات من عربات السكة الحديدية، كما قطعت ما يقرب من مليون كيلومتر وهبطت على تلك الجزر العائمة مئات المرات.
وقد أدت الأبحاث العلمية الحديثة - الجارية فيما بين عامي 1948-1954 - والخاصة بقاع المحيط وأشكال الحياة المائية والحيوانية والأرصاد الجوية، إلى زيادة هائلة في المعرفة العلمية المتعلقة بالمحيط الشمالي.
وفيما يختص بتضاريس قاع المحيط اكتشف أن هناك حوضين رئيسيين، أحدهما شمال كندا ويسمى حوض كندا وألسكا الشمالي، وتزيد أعماقه عن 2500 متر، أما الحوض الآخر فيسمى حوض أوروآسيا الشمالي، وهو يمتد شمالي بحار كارا ولابتف وجزر فرانز يوسف وتزيد أعماقه عن 4000 متر، وفيما بين الحوضين اكتشف السوفيت سلسلة جبلية تفصل بينهما تمتد من جزر نوفوسيبريسكي إلى شمالي جرينلاند واليزمير، وقد سميت هذه السلسلة باسم أحد العلماء السوفيت: لومونوسوف، وهي ترتفع فوق قاع الحوضين المجاورين إلى ما بين 2500 و3300 متر، كما سجلت الدراسة أن أقل الأعماق البحرية فوق هذه السلسلة يصل إلى (954) مترا تحت سطح البحر، وتدل دراسة بعض صخور هذه السلسلة على أنها حديثة ترجع إلى الزمن الثالث أو الثاني على أبعد الفروض، وإلى الشمال من بحر تشوكشي وبموازاة ساحل أمريكا الشمالية، تمتد سلسلة أخرى إلى شمالي جرينلاند تتكون من صخور أركية في الغالب.
كذلك أثبتت الدراسات أن مياه الحوض الكندي أكثر إملاحا وحرارة وأقل أسماكا من مياه حوض أوروآسيا، وبذلك تتضح أهمية الفاصل الجبلي الذي تكونه سلسلة لومونوسوف، ويضاف إلى ذلك أنه ثبت أن نفاذ مياه المحيط الهادي إلى المحيط الشمالي أكبر مما كان متصورا من قبل.
وعلى عكس ما كان سائدا من اعتقاد، فإن البعثات المختلفة أثبتت وجود حياة متنوعة عديدة في داخل المنطقة القطبية المتجمدة إلى أبعاد كثيرة عن السواحل القارية، فقد وجدت دببة بيضاء وثعالب قطبية وأنواع عديدة عن الفقمات وسباع البحر والبط والنورس، ولوحظت أسراب من الطيور المهاجرة إلى بعد من 1500 كيلومتر عن السواحل، فضلا عن أربعين نوعا من أنواع البلانكتون البحري.
والمنطقة الوسطى من المحيط الشمالي ليست كتلة ضخمة متماسكة من الغطاء الجليدي المتشابه، بل هناك أنواع متباينة من الجليد في أعمارها وقوتها، وقد عرف أيضا أن نسبة ذوبان الجليد في الوسط وبحار شمال كندا القطبية أقل من نسبة تزايده، بينما يذوب الجليد بسرعة في بحر تشوكشي ومدخل الأطلنطي بسرعة أكثر.
وتخرج الجبال الجليدية من الجزر القطبية الكبيرة في اتجاه الشمال عامة، وقد لوحظ أيضا أن الجليد الطافي في الحوض الكندي وشمال شرق سيبيريا يسير في حركة مماثلة لحركة عقارب الساعة، بينما تسير الجزر الجليدية الطافية في الحوض الأوروآسيوي في اتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة، وفي كلا الحالتين تسير هذه الكتلة ببطء شديد، ويمكن ملاحظة حركتها على مدى أشهر طويلة - تتراوح سرعتها بين 6 و20كم في اليوم وتنخفض بشدة خلال الشتاء، وتخرج بعض الجزر الطافية من المحيط الشمالي في اتجاه الأطلنطي الشمالي، كما تتجه بعض هذه الجزر أيضا إلى ساحل سيبيريا.
وأخيرا فإن الأرصاد الجوية للبعثات والمحطات العلمية قد أصبحت تميل إلى معارضة الفكرة السائدة القائلة بوجود منطقة ضغط جوي مرتفع دائمة فوق المنطقة القطبية، وذلك لثبوت التغيرات السريعة جدا في درجات الضغط وكتل الهواء في مناطق مختلفة، كما ثبت دخول كتل من الهواء الدافئ من فوق المحيط الهادئ إلى منطقة المحيط الشمالي حيث تسير فوق كتلة الهواء البارد التي يبلغ سمكها 250 مترا، وينتشر الهواء الدافئ إلى ارتفاع يتراوح بين 6 و8 كيلومترات فوق كتلة الهواء القطبية الباردة. (3-2) الأراضي المحيطة بالمحيط الشمالي
تحد المحيط الشمالي بصفة عامة سواحل متعرجة وسهول منبطحة أو هضاب ساحلية منخفضة، ولا تظهر الجبال إلا في مناطق متفرقة وخاصة سكندينافيا وسيبيريا الشرقية ولبرادور وبافن، أما جرينلاند فهي هضبة عالية لا تكاد تترك سهلا ساحليا إلا في مناطق محدودة.
ومعظم أراضي المنطقة القطبية حديثة جيولوجيا: رسوبات دلتاوية وسهول رسوبية، كما أن الصخور القديمة في سيبيريا الشرقية وسكندينافيا وغيرهما قد نعمتها التعرية الجليدية، وهي خالية من التربة لكثرة التعرية بالجليد أو بالفيضانات التي تحدث في موسم الصيف القصير الأمد.
ولأن معظم المنطقة تغطى بالجليد طوال السنة أو معظم أشهرها، فإن المياه السطحية غير قادرة على التوغل داخل باطن الأرض، مما يؤدي إلى تكوين مستنقعات شاسعة تظل خلال موسم الفيضان فقط، أو مستنقعات دائمة، كما يؤدي ذلك أيضا إلى كثرة وجود البحيرات الضحلة.
والمجاري النهرية في العالم القطبي الشمالي بطيئة للغاية، وخاصة في سهول كندا وسيبيريا الغربية، وتتثنى مسارتها كثيرا بين البحيرات والمستنقعات مما يجعلها غير صالحة إلا للملاحة الخفيفة، كما أنها لا تفيد كثيرا في نقل الأخشاب، ومع ذلك فإن هذه الأنهار ووديانها كانت بمثابة الطرق التي استخدمها الأوروبيون في اختراقهم للتندرا ووصولهم إلى هذه المناطق الشمالية.
أما بالنسبة لسكان المنطقة فإن أهمية هذه الأنهار تنحصر في أنها تجلب إليهم الأخشاب التي تنقلها المياه طبيعيا نتيجة سقوط وتكسر الأشجار في النطاق الغابي المخروطي، وهي بذلك تجلب إليهم شيئا ثمينا لانعدام نمو الأشجار تماما في إقليم التندرا، ولكن إلى جانب ذلك فإن فيضان الأنهار يضايق سكان هذه المناطق؛ لأنه يصعب الانتقال ويزيد من الهاموش والبعوض.
هذا؛ ويمكن أن تقسم أراضي المنطقة القطبية - حسب التجمد واستخدام الناس لها - إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: (1)
البحر = ماء إلى جليد حسب الموسم والمكان الجغرافي. (2)
الجليد الداخلي = مناطق الهضاب والمرتفعات المغطاة بالجليد الدائم. (3)
التندرا = سهول ومناطق حجرية وصخرية خالية من الجليد الدائم. (3-3) المناخ في الأقاليم القطبية
نظرا لأن المناخ يعتبر العنصر الأساسي في تكوين العالم القطبي، فأشكال الحياة جميعها - الحياة في البحر وحياة النبات والحيوان والإنسان على اليابسة - مرتبطة تماما ومتأقلمة بنوع المناخ السائد، ورغم قسوة مناخ العالم القطبي إلا أنه متعادل طوال العام مع حدوث تغيرات حرارية تدريجية، وهو لا يشكل أبرد مناطق العالم التي توجد في شمال سيبيريا إلى الجنوب من العالم القطبي، كذلك فإن تساقط الثلج في العالم القطبي لا يمثل أكثر مناطق العالم تساقطا، بل هناك مناطق جبلية مثل النرويج وغرب كندا وشمال غرب الولايات المتحدة التي يسقط فيها الثلج بكمية أكبر من العالم القطبي، وهناك مناطق أخرى من العالم يظهر فيها السحاب والضباب بكميات أكبر من العالم القطبي، ومع ذلك فإن متوسط الحرارة في العالم القطبي أكثر انخفاضا منه في أي منطقة أخرى من العالم، ولكن المدى الحراري بين الصيف والشتاء ليس كبيرا كما هو في النطاقات المعتدلة أو الصحاري.
صيف العالم القطبي القصير المعتدل الحرارة هو عبارة عن نهار دائم، ونظرا لميل أشعة الشمس بشدة فإنها تخترق طبقة سميكة من الجو وتفقد جزءا كبيرا من طاقتها الحرارية، ومعظم ما يصل من أشعة الشمس يتبدد في إذابة الجليد وتبخير الماء، ومع تبخير الماء يتكاثف الضباب مما يؤدي إلى ضعف الرؤية، والشتاء موسم طويل من الظلام وشبه الظلام، في نقطة القطب لا تظهر الشمس مدة ستة شهور على الإطلاق، وتقل هذه الفترة كلما توغلنا جنوبا حتى تصل إلى يوم واحد لا تظهر فيه الشمس على الإطلاق عند الدائرة القطبية الشمالية ، ويعوض ذلك ضوء القمر اللامع نتيجة قوة انعكاس الجليد .
والصيف القصير المعتدل والشتاء الطويل البارد لا يظهران بهذه الصورة بالنسبة لكل الأنواع الثلاثة من أقسام العالم القطبي (البحر - الأرض المتجمدة دائما - الأرض الخالية من الجليد «التندرا»)، فالأرض المتجمدة دائما مثل جرينلاند تتميز ببرودة دائمة صيفا وشتاء، ومثل هذه تسمى أراضي الصقيع الدائم، وكذلك غطاءات الجليد الدائمة فوق بعض المناطق من المحيط الشمالي عبارة عن مناطق بدون صيف، ومع ابتعادنا عن هذه المناطق يبدأ الفارق بين الصيف والشتاء في الظهور، في بعض المناطق سجلت حرارة 25°م شمال الدائرة القطبية، وفي فرخويانسك هناك مدى حراري سنوي يصل إلى (66°م) في الصيف 16°م والشتاء −50°م (أقصى مدى سجل هو 99°م في هذه المحطة).
لقد اعتاد سكان العالم القطبي على الحياة في هذه الظروف المناخية، يتجنبون المناطق ذات الصقيع الدائم في الصيف، ونادرا ما يغامرون داخل الجليد البحري، ويبقون معظم الوقت في التندرا، ويصبح الشتاء موسم الاحتفالات والطقوس والزيارات، وهذا الموسم غريب بالنسبة لغير أبناء العالم القطبي، ليس فقط من حيث العادات والطقوس، ولكن أيضا نتيجة للظروف الطبيعية الغريبة التي يمر بها العالم القطبي شتاء، مثلا تصبح الرؤية ممكنة على بعد قد يصل إلى 100كم أو سماع أصوات على بعد 15كم أو أكثر، أو رؤية العديد من التجمعات النجمية بوضوح غريب، ولكن الظلام المستمر يضايق الغريب كثيرا ويجعله في حالة ضجر نفساني.
وبرغم قسوة الشتاء فإن الصيف أكثر إقلاقا للراحة، ففي مقدمة الصيف تهب عواصف ثلجية عنيفة أشد لذعا في بردها من هدوء الشتاء المتجمد، كذلك يقاسي الإنسان والحيوان من لذع البعوض الجائع الذي يهجم على صورة موجات متلاحقة كالسحب.
كمية المطر والثلج الساقط في الأقاليم القطبية 25سم مكعب مثل الصحاري، ولكن انخفاض الحرارة يجعل هذه الكمية كافية لإبقاء الأرض في حالة مستنقعية أو ترابة، ولا تنصرف هذه المياه داخل الأرض؛ لأن الجليد الدائم تحت التربة يمنع هذا التسرب، كما أنها لا تتبخر لقلة الحرارة على مدار السنة، والثلج لا يسقط في صورته الخفيفة المعروفة في المناطق المعتدلة والباردة، ولكن في صورة إبر صلبة من الجليد يسهل على الرياح نقلها من مكان لآخر، ولهذا تتكوم الثلوج الصلبة هذه في المناطق المواجهة لهبوب الرياح، وتتركز فوق المناطق القطبية مشكلة كتلا من الهواء البارد الثقيل طوال الشتاء يجعل منها ستارا ثقيلا يعيق وصول الرياح الجنوبية الدافئة، كما أنها تمنع تساقط المطر، وبعض الجزر الشمالية وشمال جرينلاند خالية من الجليد؛ لأنها تقع تحت طائلة كتل الهواء الباردة الجافة طوال السنة، وهذا الهواء الجاف يعتبر نعمة للرحلات الجوية عبر القطب.
ويحدث الطقس الرديء نتيجة غزو كتل الهواء الدافئة للعالم القطبي في شمال الأطلنطي والباسيفيك، ويحس به سكان جزر الوشيان وأيسلندا، ويترتب على هذا الطقس سقوط كميات غزيرة من الثلوج.
هذا؛ ويتراكم الجليد في صورة غطاء مستمر فوق جرينلاند، وهو غطاء سميك يحجب الجبال والهضاب، ولكنه يتراجع على بعد 70-100كم من الشاطئ ويترك المجال لأنهار الجليد المتحركة ببطء شديد وسط التضاريس الصخرية باتجاهها إلى البحر حيث تتكسر جبال الجليد لتسقط في البحر، في صورة جبال الجليد الطافية التي تهدد الملاحة أحيانا، وتوجد غطاءات جليدية دائمة على مجموعات الجزر الروسية، ولكنها أصغر وأقل سمكا من غطاء جرينلاند.
أما جليد المحيط فيختلف عن الجليد الأرضي، فهو يتكون من تجمد مياه البحر المالحة بينما جليد اليابسة فهو من الثلوج الساقطة، وتتجمد مياه المحيط في الشتاء فتكون طبقة سماكتها 180-200سم، وفي الشتاء الثاني تزداد السماكة حتى تصل إلى 250سم، وهي أكبر سماكة للجليد البحري الطافي
Floe ice
ويظل الماء تحت الجليد معزولا عن البرودة الشديدة فلا يتجمد، ولكن جليد البحر لا يظل بدون أن تظهر عوامل تساعد على ذوبانه وتكسره، مثل المد - الرياح - التيار البحري - الموج، وتتدافع هذه الكتل الطافية لتكون جليدا متماسكا قرب الشواطئ بحيث يتماسك ويزداد سمكا إلى 10-12 مترا، ونتيجة للضغط الحاصل تظهر التواءات جليدية إلى ارتفاع 30 مترا، ونتيجة لفقدان التضاغط مع الحركة الدائمة في البحر، ينفلق الجليد ويتصدع، وتزيد سماكة الجليد في أبريل ومايو ثم يبدأ في الذوبان، وفي الشتاء يغطي الجليد الطافي نحو 90٪ من سطح المحيط الشمالي، وفي الصيف تنكمش مساحته إلى 75٪ من سطح المحيط، وهناك مناطق محدودة خالية من الجليد تمر فيها السفن، وخاصة قرب الشواطئ، أما التندرا فهي خالية من الجليد الدائم. (3-4) أيكولوجية الحياة في العالم القطبي (1)
النبات : في هذا المناخ القاسي أنواع قليلة من النباتات تستطيع الحياة، ومعظمها يتركز في التندرا، أما في منطقة الغطاء الجليدي والجليد البحري فهناك أنواع محدودة فقط من الألجا «الطحالب
Algae »، وبرغم التجمد الدائم تحت التربة في التندرا، وبرغم قصر الصيف، فإن نباتات التندرا الصيفية غزيرة، فبين يونيو وأغسطس يغطي التندرا فجأة غطاء من الأزهار، ومعظمها نباتات متكيفة مع المناخ بواسطة سطح جلدي أو شمعي أو صوفي على الأوراق لحفظ الرطوبة، مثل نبات الصحاري، وبعضها يطور جذورا طويلة تمتد في مساحات كبيرة من الأرض السطحية فوق الأرض التحتية المتجمدة دائما، وهذه النباتات جميعا قصيرة أو تلقي بنفسها على الأرض تجنبا للرياح، ولكي تحصل على عدد أكبر قدر من حرارة الأرض المرتدة خلال الصيف القصير، كما أنها تقلل كثيرا نسبة الحرارة المشعة منها خلال الليل وحتى لا تموت إذا ما داهمتها الرياح الجافة، وقد استطاعت أنواع من البتولا
Ash Brich
والدردار والصفصاف
Willow
وغيرها من الأشجار المخروطية، التأقلم خارج نطاق التاييجا فقصرت ونمت متجمعة في أحواض صغيرة، والعشب ينمو بكثرة في السهول، ولكنه أيضا ينمو مجتمعا في مناطق محدودة، وهناك أيضا أنواع من الطحالب الأشنيات توجد في المناطق المفتوحة الأكثر برودة، ونباتات مائية وشبه مائية في المستنقعات، وتنمو نباتات التندرا ببطء شديد لهذا الحجم ليس دليلا على العمر. (2)
الحيوان : تقل الحياة الحيوانية في مناطق الجليد الدائم، بينما تعيش أنواع لا بأس بها عدديا من الحيوانات في كل من التندرا والبحر، وتمتلئ مياه البحر القطبية بحيوانات كثيرة بالقياس إلى البحار المدارية، والبلانكتون هو أساس الحياة - تجمع لحياة دقيقة من فئات «ألجا» وحيوانات ميكروسكوبية تسمى
، ويكون البلانكتون غذاء القشريات والأسماك، وكلها تكون غذاء لحيوانات أكبر مثل الحوت وفيل وعجل البحر - الفقمة. والثعلب القطبي يعيش على بقايا طعام الدب القطبي المعتبر أساسا من عجل البحر، ومع انفتاح البحار صيفا تفد إلى المنطقة القطبية أعداد هائلة من الطيور البحرية التي تقيم أعشاشها على وليمة ضخمة أساسها الحشرات أو الأسماك في المياه الضحلة.
ويشابه نبات التندرا البلانكتون في دوره الأساسي بالنسبة للحياة في محيطه، ولهذا فإن نوع وغزارة النبات إذا كان صالحا للأكل هما ضابط الحياة الحيوانية في التندرا، ولهذا فمن الطبيعي أن تكون التندرا الجنوبية أغزر نباتا وحيوانا، وأن تكون التندرا الشاطئية أقلها بالنسبة لتنوع الحياة.
وحيوانات التندرا قليلة التنوع ولكنها أساس النشاط البشري، وكما شاهدنا أيكولوجية الحياة البحرية في صورة دورة تنتهي بغذاء الدب القطبي فإن هناك أيضا دورة حياة تبدأ في التندرا باعتماد الحيوانات العشبية على النبات، تتكون هذه الحيوانات من الأرنب البري بصفة دائمة وأعداد مهاجرة من الرنة - أوراسيا، والكاريبو وثور المسك - أمريكا، وعلى هذه الحيوانات العشبية تعيش رتبة أكلة اللحوم من الثعالب والذئاب والفاقم «الأرمين
Ermine »، وتهاجر هذه الحيوانات جميعها مع الطيور إلى الشمال خلال الصيف وذلك بالإضافة للدب القطبي المتوطن في الإقليم.
وتتكيف هذه الحيوانات بصور شتى مع حياة القطب، بعضها ذو فراء أو ريش أبيض وطبقة شحمية كبيرة لتلك التي تظل في العالم القطبي، وعدد قليل منها يقوم بعملية البيات الشتوي، ولكن في نهاية الصيف تهاجر أعداد كبيرة من الحيوانات والحشرات والطيور جنوبا، وبعض الطيور تلتجئ إلى المشتى في المناطق المدارية، الكاريبو يلجأ إلى التاييجا ووراءه الذئب آكله الرئيسي.
أما بالنسبة للإنسان فأهم أشكال الحياة الحيوانية هو الرنة والكاريبو؛ لأنهما مصدر ممتاز للحم والجلود، وحين يستأنس يستخدم أيضا لجر الزحافات، وبين اللاب تحلب الرنة مما يعطيها وظيفتي البقر وحيوان الجر معا. (4) حضارات العالم القطبي
في هذه الظروف الطبيعية القاسية قد تبدو حضارات سكان العالم القطبي بدائية وخاضعة لهذه الظروف خضوعا تاما، ولكن الباحث المدقق يجد أن حضارة هذه المناطق تميزت بابتكارات كثيرة في استغلال القليل الذي تركته الطبيعة، ولكن مع ذلك فمستوى الاستغلال بالمقارنة بالتكنولوجيا الحديثة هو فعلا ضئيل، فإن النمط الحضاري السائد لم يستغل الموارد المعدنية أو الطاقة المائية، والسبب الرئيسي هو العزلة الحضارية الجغرافية التي عاشها سكان العالم القطبي آلاف السنين؛ ولهذا لم يستفيدوا مما استفاد به سكان العوالم الأخرى من احتكاك ونقل حضاري.
خريطة رقم (2): توزيع السكان الأصليين في العالم القطبي: (1) الإسكيمو. (2) المغول القدماء الشرقيين. (3) مجموعة الياكوت التركمانية. (4) مجموعة مغول التنجوس. (5) المغول الغربيين. (6) الفنوكاريلي واللاب والأست. (7) مناطق سكن الأوروبيين في العالم القطبي.
وهناك تشابه كبير بين حضارة العوالم القطبية في كل من أوروآسيا وأمريكا، وهذا التشابه راجع إلى تشابه الموارد الطبيعية وتعددها بالإضافة إلى حصول هذا التشابه الحضاري، ولقد لوحظ سرعة انتشار الاختراعات والأفكار الجديدة، ولا عجب لأن سكان الإقليم يقومون بزيارات وانتقالات مستمرة خلال الشتاء الطويل.
ويعتمد سكان المنطقة القطبية على الحيوان، ولا يستخدمون النبات لا في الغذاء ولا كمصدر لعمل الجدائل، ويلبسون ملابس متشابهة ويسكنون مساكن متشابهة، ويستخدمون أدوات قريبة الشبه من بعضها البعض، ويستخدمون الزحافات في الانتقال، ولا تضايقهم نظم أو قوانين سياسية واقتصادية معقدة، بل يعيشون في مجتمعات قبلية بسيطة ويعملون في مجتمعات صغيرة، ولا يتميز عمرانهم باستقرار مديني ولا دائم، فهم يتنقلون دائما في مجموعات صغيرة العدد وراء الصيد، وهذه الحياة المتنقلة مع البيئة الفقيرة لا تقيم أود عدد كبير من السكان.
ويتشابه سكان العوالم القطبية من الناحية السلالية، فكلهم من السلالة المغولية ذوي شعر أسود وبشرتهم ليست بيضاء، ولكنهم متفرقون من ناحية اللغة، وهناك أشياء أخرى تفرقهم عن بعضهم غير اللغة، فإلى جانب التشابه العام نجد لكل مجموعة منهم نمط حضاري خاص بها، ويمكن أن يقسموا عموما إلى قسمين: الأول؛ العالم الأمريكي، والثاني؛ الأوروآسيوي، والفارق الكبير بين هذين العالمين هو أن حضارة الأوروآسيويين تقوم أساسا على الصيد البري ورعي الرنة، بينما سكان العالم الأمريكي هم صيادو حيوانات بحرية، لهذا يولي سكان أوروآسيا ظهرهم للبحر، بينما نجد العكس في أمريكا، ولا شك أن هناك استثناءات، ويعطينا ذلك أثر الاختيار الإنساني في هذه البيئة الصعبة الفقيرة، وبذلك فإن أثر هذه البيئة، حتى في أبسط العوالم الحضارية، ليس هو الأثر الوحيد المسيطر. (4-1) العالم الأوروآسيوي
يمتد من النرويج إلى أقصى شرق سيبيريا داخل التندرا، وفي هذه المساحة والمسافة الكبيرة توجد عدة مجموعات متناثرة من القبائل مثل اللاب في شمال النرويج والسويد والساموئيد في شمال أوروبا والأوستياك عند مصب الأوب والتنجس في شمال سيبيريا الغربية والوسطى والياكوت في حوض لينا واليوكاجير شرقي اللينا والتشوكشي في أقصى شمال شرق سيبيريا، وعددهم على وجه التقريب حوالي 30 ألفا، ويتجنب معظمهم الساحل البارد الكثير الضباب، ويتنقلون صيفا من شمال التندرا إلى الحدود الشمالية للتاييجا شتاء، ويسكنون صيفا خياما من الجلد، وفي الشتاء يسكنون حفرا يسقفونها جيدا بالحجارة في مناطق محمية من البرد والعواصف، في الشتاء يجمعون جذورا ودرنات وثمارا، ويجمعون أخشابا يستخدمونها في صنع الأدوات، ويقومون برحلات شتوية وصيفية طويلة على الزحافات.
خريطة رقم (3).
وأهم مميزات حضارة هذه المنطقة تربية الرنة، وهي مصدر هام ومتحرك للغذاء والملبس فضلا عن استخدامها للجر والركوب، والكثير من أوجه استخدام الرنة عبارة عن استعارة حضارية من رعاة الخيل والبقر إلى الجنوب من هذه الأصقاع الشمالية، ويختلف استخدام الرنة من مكان لآخر، واللاب أكثر الناس تطورا في استخدام هذا الحيوان، فهم يحلبونها إلى جانب الاستخدامات الأخرى الكثيرة، وفي شمال سيبيريا تستخدم الرنة للنقل وكوسيلة لصيد الكاريبو البري، وفي شرق سيبيريا ترعى الرنة نصف البرية في قطعان كبيرة، وتستعمل كمصدر للحم والكساء كلما دعت الحاجة، ومن ثم فإن حركة السكان ترتبط بحركة الرنة الفصلية من التندرا المفتوحة صيفا إلى ملاجئ التاييجا شتاء، تماما كما يفعل الرنة أو الكاريبو البري، وفيما يلي نقوم بدراسة مفصلة لقبيلة اللاب في سكندينافيا لتوضيح الظروف الأيكولوجية القطبية على نمط الحياة.
اللاب: رحل الشمال
من الشائع أن البداوة أو الترحل مرتبطة بالمنطقة شبه الجافة في أفريقيا وآسيا، حيث يضطر الإنسان إلى الالتجاء إلى حياة اقتصادية قوامها الرعي؛ لأن الزراعة غير ممكنة - باستثناء الواحات.
لكن البداوة ليست قاصرة على هذا النطاق من العالم، ففي العروض العليا في شمال أوروبا وآسيا تكونت حضارة رعوية نتيجة ظروف البيئة الطبيعة، فالصقيع يمنع الزراعة تماما كما يمنع الجفاف الزراعة في النطاق الجاف، وعلى هذا فبرغم اختلاف البيئة الطبيعية في كل من النطاق الجاف والنطاق دون المداري، إلا أن نمط الرعي المتبدي متشابه وموجود، وبدلا من الجمل والماعز في النطاق الجاف يقوم اللاب برعاية الرنة.
ويمتد وطن اللاب في شمال سكندينافيا من درجة العرض 62 حتى درجة العرض 71، ومن سواحل النرويج الشمالية إلى شبه جزيرة كولا، وعلى هذا تنتشر لابلند في النرويج والسويد وفنلندا والاتحاد السوفيتي، وتنتهي حدود لابلند في سواحل النرويج عند إقليم ترومسو
Tromso ، وفي السويد تحتل لابلند إقليمي نوربوتن فستربوتن، وهناك حد جنوبي يسمى «لاب مارك» حد اللاب، لمنع المزارعين السويديين من التوغل في السويد الشمالية اللابية ومزاحمة اللاب، ومع ذلك يسمح للاب بالمرور جنوب هذا الحد وإلى ساحل البحر، ولهم وحدهم حق الصيد البري وصيد السمك داخل حدودهم.
وسوف نقصر الكلام أساسا على لابلند السويدية، وحدودها الغربية وهي السلسلة الجبلية التي تكون عظمة سكندينافيا الفقرية، وتنحدر هذه السلسلة شرقا في إقليم هضبي يطلق عليه
Fjeld
أي الهضبة، وتقطعه أنهار كثيرة، ومظهره المورفولوجي يسيطر عليه أثر التعرية الجليدية بوضوح، وتسقط الأنهار من الجبال في صورة شلالات أو تعترضها مندفعات مائية أو تهبط من منسوب بحيرة إلى منسوب بحيرة أدنى في شكل سلمي، وقد كونت الأنهار وديانا تزداد في العرض في اتجاه خليج بوثنيا، وتتبعثر على سطح لابلند كثير من الجلاميد والصخور الكبيرة في صورة ركامات جليدية عدلتها مسارات الأنهار العديدة.
والشتاء هو الموسم المسيطر على لابلند، والإقليم يسوده الثلج والجليد، وتتراوح حرارة الشتاء فيه بين 9°م و15°م، ويحدث أن تنقص بعض المناطق عن ذلك كثيرا، والشمس لا تظهر إلا لماما شمال الدائرة القطبية، والربيع قصير ولكنه يحدث تغيرا هائلا، فالجليد يبدأ في الذوبان والأنهار تبدأ في الحركة، والصيف قصير في موسمه لكنه طويل إذا قيس بعدد ساعات النهار الطويل، الذي يمتد عبر الأربع والعشرين ساعة لليوم الواحد في عدد معين من الأيام، وفي الصيف ترتفع الحرارة إلى حوالي 18°م-20°م، وبرغم ذلك فإن الغطاء الجليدي لا يتخلى عن المناطق المرتفعة، ثم يأتي الخريف بأولى موجات الصقيع، ولكنه مع ذلك هو الموسم الذي يتلون فيه الإقليم بظهور مساحات كبيرة من نباتات التندرا والأشجار المخروطية الصغيرة في مناطق معينة منه، وفي خلال سبتمبر يكون الشتاء قد بدأ يحل في المنطقة.
وفي لابلند السويدية يمكن أن نميز ثلاثة نطاقات: نبات التندرا ونطاق البتولا والنطاق المخروطي أو التنوب، ويمكن للإنسان أن يلاحظ تتابع هذه النطاقات إذا تتبع خط حديد كيرونا الممتد من الساحل حتى الحدود النرويجية، ففي البداية تغطي الغابات المخروطية المنطقة الشرقية مع تركز للتنوب على المناطق الجبلية، وتركز للشربين الاسكتلندي على ضفاف الأنهار ووديانها، والثغرات الوحيدة التي تظهر في هذا النطاق المخروطي تتكون من سهوب مستنقعية، ومع توغل الخط الحديدي شمالا يبدأ التداخل في النطاق المخروطي ونطاق البتولا التي تظل تكثر حتى تسود النطاق الثاني قرب الدائرة القطبية، ويظهر الانتقال بصورة أسرع في المناطق المرتفعة، وشمال درجة العرض 67 تبدأ كثافة الأشجار في التخلخل، ويأخذ شجر البتولا الطويل الباسق بالصغر في الحجم والارتفاع إلى أن يصبح بتولا قزمية تنمو متجمعة في نقط محدودة، وعلى مسارات الأنهار تنمو أشجار صفصاف قزمية (50-100سم)، وقرب نقطة الحدود النرويجية على ارتفاع 500 متر تصل إلى حد النمو الشجري، ويحل المنظر المكشوف الذي تسوده الصخور العارية والغطاء الجليدي ونبات التندرا محل أشجار البتولا.
وعدد اللاب 33 ألفا ثلثاهم يعيشون في النرويج، سبعة آلاف فقط في السويد، وألفان في كل من فنلندا والاتحاد السوفيتي، وينقسم لاب السويد إلى قسمين: لاب الغابات ولاب الجبال، والقسم الأول يعيش على الصيد وصيد الأسماك، أو الاستقرار في مزارع صغيرة، وهم يعيشون في مساكن دائمة، وبرغم أن الرنة قوام حياتهم إلا أنهم نصف رحل؛ لأن قطعانهم ترعى طوال السنة في الغابات، أما لاب الجبال فما زالوا يمثلون اللاب الرحل تماما.
وتدور حياة اللاب الرحل حول الرنة، ولهذا فهم يهاجرون مع الرنة في مواسم هجراته الطبيعية، وفي الشتاء يقيم اللاب الرحل معسكره مع قطيعه من الرنة داخل نطاق التنوب والمخروطي، وأول مراحل الانتقال تحدث في المرحلة الانتقالية بين الشتاء والربيع، حيث يتم إعداد العدة للهجرة، وبعد انكسار الجليد ترتفع الحرارة نهارا، ولكنها في الليل تظل تحت الصفر، مما يكون طبقة من الثلج على الأرض قد لا تذيبها حرارة النهار التالي، ويقوم الرنة - بحافره الشبيه بالمعول - بكسر الجليد للحصول على الأشنيات النامية تحت طبقة الجليد، ولكن سمك الجليد قد يقف عائقا دون الحيوان وطعامه، وتجعل حاجة الحيوان إلى الغذاء مع اقتراب موسم الولادة، الحيوان والقطيع كله في حالة عدم استقرار وهدوء، وتعجلا للهجرة شمالا إلى نطاق البتولا والتندرا حيث يتجمد الجليد متأخرا عن نطاق التنوب ويذوب مبكرا عنه.
وقطيع الرنة الكبير لا يتكون كله من حيوانات تامة الاستئناس؛ ولهذا، ومع قدوم الربيع يصبح من الصعب إحكام الرقابة على القطيع فغريزة الهجرة تصبح أقوى، ولهذا يتحرك القطيع وعلى الراعي ملاحقته وإلا فقد قطيعه، ولهذا أيضا يقوم الرعاة بتخطيط الهجرة وتحريك القطيع قبل أن يتحرك بغريزته، ومن بين الإعداد للرحلة تحميل المعسكر وإعداد الزحافات وحيوان الجر، وتبدأ الرحلة في أول أبريل.
والقطيع المهاجر يتخذ شكل مثلث على رأسه أحد ذكور الرنة يقوده لابي فوق زلاجة أو على قدميه، ويلي ذلك ذكر رنة قوي مدرب على أن يتبع القائد دون أن يمسك قياده أحد، وهذا الذكر مهم جدا؛ لأنه المثال الذي يحتذيه بقية القطيع، تلي ذلك مجموعة أخرى من الذكور والإناث المدربة تتبعها بقية القطيع دون تدريب؛ لأنها تسير بعد ذلك بغريزة اتباع المجموعة القائدة، وفي قاعدة المثلث تأتي مجموعة الحيوان المتمردة التي تظل ضمن القطيع بواسطة عدد من كلاب الرعاة المدربة على منع أي حيوان من التسلل بعيدا عن القطيع.
أما الرنة المستأنسة جدا فتستخدم في جر الزحافات وتكون مجموعة منفصلة، ولكل أسرة صفان من الزحافات - كل صف ست زحافات - عليها أمتعتهم وأملاكهم، ويتم ربط الحيوان إلى الزحافة بشريط واحد من الجلد، ويتم توقيف الحيوان بجعل هذا الشريط ينتقل من الجانب الأيمن للحيوان إلى الجانب الأيسر.
وتتم الرحلة صعودا مع الأودية النهرية في اتجاه الشمال الغربي، وأحيانا يظل التحرك حتى ساحل النرويج، ومدى الرحلة في المتوسط 350كم، وهي رحلة متعبة؛ لأن الأرض خشنة جبلية صاعدة، والعواصف والضباب يزيدان من صعوبة الإبقاء على كل القطيع دون خسائر، وتستغرق الرحلة من عشرة إلى عشرين يوما للوصول إلى معسكر الصيف في نطاق البتولا الشمالي أو العلوي.
ومعسكر الربيع يتكون إما من أكواخ قمعية من الحشائش أو أكواخ من الخشب أو مساكن عادية، ويرعى القطيع على المنحدرات السفلى للجبال، وعند مقدم الصيف يقل تبعثر القطيع ويزداد التصاقا ببعضه لمقاومة الناموس، ويدخل الرعاة القطيع إلى حظائر خشبية مستديرة، ويدفع الناموس والحر القطيع إلى التقدم نحو التندرا العليا حيث تخف وطأة الحرارة فوق حد الشجر.
ويعود القطيع والرعاة إلى معسكر الربيع في منتصف أغسطس بعد انخفاض الحرارة وقلة أعداد الناموس، ويبدأ موسم التزاوج في سبتمبر وينتهي في أواخره، وفي أكتوبر أو أوائل نوفمبر تبدأ نباتات التندرا في الموت ويسقط الثلج ويبدأ تكون الجليد على البحيرات والأنهار، ومع حدوث ذلك تبدأ العودة جنوبا إلى نطاق التنوب والمخروط في منتصف ديسمبر إلى السهول السفلى. (4-2) العالم القطبي الأمريكي
يسكن هذا الإقليم القطبي جماعات الإسكيمو، ويسمون أنفسهم إينويت
Inuit ، بينما اسم إسكيمو أطلقه عليهم الأمريند المجاورون بمعنى أكلة اللحم النيء، ويمتدون في أقصى شمال شرق سيبيريا وإلى لبرادو وجرينلاند، وفي هذه المساحة يوجد نحو 43 ألف شخص، لكنهم يتكلمون لغة واحدة رئيسية ويتشابهون حضاريا على خلاف أوروآسيا، ولأنهم أساسا صيادون، وخاصة صيادو بحر، فإنهم يتجمعون في جماعات صغيرة على طول الساحل وفي الجزر أيضا، وفي شبه جزيرة
Etah
في شمال غرب جرينلاند مجموعة من الإسكيمو هم أكثر البشر تطرفا إلى الشمال في مساكنهم، ويختلف الإسكيمو عن الأوروآسيويين ليس فقط في سكنهم الملاصق للبحر، بل في أنهم لم يستأنسوا أيا من الحيوان سوى الكلب، فحياتهم مرتبطة بما يحصلون عليه من البحر، وخاصة عجل البحر وفيل البحر، وهذا يعطيهم الغذاء والزيت والجلد والعظام والعاج، ولكي يحصل على هذا يجب أن يبقى الإسكيمو حيث تبقى أحياء البحر، ومن ثم لا يغامر الإسكيمو بالتوغل داخل اليابس إلا في حالة صيد الكاريبو؛ لكي يحصل من جلوده على خامة الملبس.
وعلى هذا النحو فالإسكيمو متنقلون خاضعون للدورة السنوية لهجرة الحياة، وهم شتاء يلجئون إلى دفء مساكنهم الحجرية المبنية في تجمعات صغيرة، وعمليات الصيد تتم فردية ويقطعها كثيرا الجو السيئ أو العاصف، ويقضون معظم وقتهم داخل البيوت في النوم أو في أكل كميات كبيرة من الدهون ولحوم نيئة مجمدة وأحيانا فاسدة، ولكنهم يقومون بنشاط رياضي واجتماعي كبير خلال هذا الفصل الطويل الأمد، وليس من المستغرب أن يسافر الواحد منهم مئات الكيلومترات من أجل زيارة الأصدقاء والأقارب، وفي خلال هذه الرحلات الطويلة يقوم الإسكيمو بتشييد «الإيجلو»
Igloo
أو بيت الثلج المشهور عنهم بسرعة غريبة لقضاء ليلتهم ثم يتركونه.
ومع بزوغ الربيع تدب الحياة الجادة بين الإسكيمو: فتظهر الفقمة وفيل البحر والحوت، وتصل طيور الماء، التي يكون بيضها طعاما ذا مذاق متغير من أكل الشتاء الممل، ومع ظهور الصيف تهجر المساكن الحجرية، وتفضل الخيام الجلدية التي يمكن نقلها مع الحركة المستمرة وراء الصيد، ويجمع الناس الأخشاب القادمة مع الفيضانات وذوبان الجليد، وتقوم مجموعات صغيرة بالجري إلى داخل السهول لمقابلة الكاريبو القادم شمالا وصيده، وحينما يحل الشتاء يكون الإسكيمو بعيدين عن المكان الذي قضوا فيه الشتاء الماضي؛ فيقومون بإنشاء بيت حجري جديد وينتظرون الشتاء بفارغ الصبر هربا من الناموس وفرحا بقدوم فصل الحفلات والزيارات.
وبالرغم من أن الإسكيمو لم يرثوا حضاريا عن مواطنهم الأصلية في شمال آسيا ما يساعدهم على حل إشكالات حياتهم في بيئتهم الجديدة، فإنهم قد طوروا أدوات وطرقا لحل هذه الإشكالات ببراعة، فهم لم يربوا الحيوان ولكن التجئوا إلى البحر، وصنعوا قواربهم الجلدية الممتازة
Kayak, Umiak
واستفادوا من الحيوان استفادة كبرى في عمل الأدوات والأسلحة، وابتكروا «لمبة» الزيت الحجرية وفكرة القبو في بناء سقوف منازلهم الجليدية. (4-3) الاتصال الأوروبي بالعالم القطبي
أول ما عرف العالم عن العالم القطبي كان عام 325ق.م بعد الرحلة الجريئة التي قام بها بثياس المسالي
وكان أول من شاهد شمس منتصف الليل، لكن أحدا لم يصدقه، وأصبحت أسطورة، وظل العالم القطبي مجهولا حتى القرن الثامن الميلادي حينما بدأت عمليات كشف واستقرار صغيرة ، عندما حاولت جماعة أيرلندية الاستيطان في أيسلندا، وقام إيرك الأحمر الاسكندنافي وابنه ليف
Lief
بالهجرة إلى أيسلندا ثم قام ليف بالهجرة إلى سواحل جرينلندا، وربما إلى سواحل أمريكا الشمالية أيضا، وانقطعت أخبار العالم القطبي مرة أخرى حتى القرن 15م، حينما وجد في جرينلند عدد من الإسكيمو المختلطين بدماء النورسمن، وهم بقية هجرة إريك وليف وجماعتهما.
وحينما أخذ الأوروبيون يبحثون عن طريق الهند اصطدموا بأمريكا، وحتى أواخر القرن التاسع عشر لم يكن باستطاعة أحد أن يصل إلى آسيا عن طريق الممرات البحرية الشمالية حتى قام نوردنشلد
Nordenskiold
بسفينته
Vega
برحلة بحرية عام 1878-1879 بحذاء سواحل أوروآسيا الشمالية، أما المرور أمام السواحل الأمريكية الشمالية فلم يتم إلا بعد رحلة
Amundsen
بسفينته بين عام 1903-1906.
وكان اهتمام أوروبا بالعالم القطبي متقطع ومحدود، آخذا صورة موجات من الحماس لا تلبث أن تفتر، يقوم بها الرحالة أو رجال الإرساليات أو التجار أو الصيادون أو المعدنون أو المغامرون أو السماكون أو العلماء، وهذه الاتصالات القصيرة بالعالم القطبي قد جلبت أضرارا كبيرة على هذا العالم؛ لأن معظم القائمين بهذه الاتصالات كانوا يرجون الكسب السريع، ولهذا أصيبت الحيوانات البرية والبحرية بدمار شديد، كما أن سكان العالم القطبي بدءوا يكتسبون عادات ضارة مثل تعاطي الخمور واستخدام الأسلحة النارية.
ولكن ليست كل الاتصالات الأوروبية ذات آثار ضارة، وخاصة في جرينلاند نتيجة للسياسة التي اتبعتها الدنمارك، والتهجين الذي حدث بين الإسكيمو والنورسمن كما سبق القول.
وأماكن الاستقرار الأوروبي الدائمة في العالم القطبية محدودة وقليلة في العالم الأمريكي، فهي عبارة عن مراكز تجارية صغيرة أو إرساليات دينية أو محلات لصيادي الأسماك + مراكز الدفاع الحديثة «شبكة الرادار
Distant Early Warning “DEW”
وقواعد الطائرات الذرية»، أما العالم القطبي الأوروآسيوي فقد أنشئت فيه حديثا عدة مدن صغيرة معظمها عند مصبات الأنهار ووظيفتها كمواني تصدير لمنتجات إقليم التاييجا إلى الجنوب من التندرا، أو كمدن صناعية للخامات المحلية. (5) أنتاركتيكا: قارة القطب الجنوبي
وقبل أن نبدأ بدراسة تفصيلية لبعض جهات العالم القطبي الشمالي يحسن بنا أن نشير إشارة خفيفة إلى المنطقة القطبية الجنوبية.
على عكس المنطقة الشمالية لا نجد في منطقة القطب الجنوبي محيطا مماثلا للشمال، بل كتلة قارية ضخمة تصل مساحتها إلى حوالي 15 مليونا من الكيلومترات المربعة، لكنها ليست مأهولة على الإطلاق، هذه هي قارة القطب الجنوبي التي تتكون من هضبة عالية لا نعرف عن تضاريسها سوى النذر اليسير، فسواحلها متعرجة أيضا، وأكثرها تعرجا وتداخلا مع البحر تلك المنطقة التي تقع جنوب أمريكا الجنوبية وجنوب نيوزيلندا حيث توجد بحار ودل وبلنجهاوزن وروس على التوالي، وإلى الشمال من بحر ودل تمتد بعض الجزر في اتجاه أمريكا منها جزر شتلند الجنوبية وأوركني الجنوبية وكلها معتمدية فالكلاند البريطانية.
ولم تعرف في هذه القارة أية منطقة يمكن أن ينمو فيها النبات، كما أن مصادرها من المعادن والوقود غير معروفة، والخلاصة أن القارة ككل غير ذات قيمة اقتصادية معروفة في الوقت الراهن، والأهمية الوحيدة المعروفة حاليا هي وجود قواعد لسفن الصيد في المنطقة وخاصة سفن صيد الحيتان، وحتى هذه القواعد ليست على سواحل أنتاركتيكا، إنما هي موجودة في الجزر المحيطة بها مثل سوث أوركني وساوث ساندويتش وجزيرة دسبشن، وكلها بالقرب من جراهم لاند وشبه جزيرة أنتاركتيكا.
وفيما يبدو أيضا أن القيمة الأساسية للقارة الجنوبية مرتبطة بمحطات الأرصاد والأبحاث العلمية التي تعطي تنبؤات جيدة عن الطقس.
وبرغم القيمة المحدودة، فإن توقعات المستقبل اقتصاديا واستراتيجيا قد جعل بعض الدول تعلن ادعاءات ملكية على جزء من أراضي أنتاركتيكا منذ مطلع هذا القرن في صورة قطاعات مثلثة الشكل تبدأ كلها من نقطة القطب الجنوبي وتنتهي بساحل عريض أو ضيق، وتدعي بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا ملكية حوالي نصف القارة، وللنرويج ادعاء على جزء كبير وفرنسا ادعاء على شريط صغير، وهناك مناطق أخرى تدعيها الأرجنتين وشيلي، وأحيانا تنشب نزاعات حول هذه الادعاءات كان يمكن أن تؤدي إلى نزاعات عسكرية.
وفي عام 1925 أعلنت الأرجنتين ادعاءها بوضع اليد على قطاع جنوبي الأطلنطي وأمريكا الجنوبية برغم أنه كان ادعاء بريطانيا باسم معتمدية فالكلاند ، وفي عام 1940 أعلنت دولة شيلي ادعاء مماثلا على قطاع جزء كبير منه تحت الادعاء الأرجنتيني والإنجليزي.
وقد تأسست معظم الادعاءات على ملكية أراضي أنتاركتيكا على الكشف الجغرافي، فحين يقوم كشاف بارتياد منطقة تعلن دولته أنها أصبحت جزءا من أملاكها، لكن الادعاء الأرجنتيني قد انبنى على إنشاء محطة أرصاد منذ عام 1904 على جزيرة قريبة من ساحل القارة، أما الادعاء الذي تقدمت به شيلي فقائم على أساس محطة صيد الحيتان التي أنشأتها في جزيرة دسبشن منذ عام 1906، وكلتاهما ليستا على ساحل القارة، وقد أخذت شيلي والأرجنتين مؤخرا في إدارة محطات رصد سنوية على أرض القارة ذاتها في محاولة لتدعيم ادعاءاتهما، وكذلك فعل الإنجليز في شبه جزيرة بالمار في القطاع نفسه الذي تدعيه الدول الثلاث.
وفي خلال السنة الدولية الجيوفيزيقية 1957-1958 اشتركت دول كثيرة في الدراسة العلمية منها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وقد عقدت عام 1959 معاهدة أنتاركتيكا وقعت عليها اثنتا عشرة دولة هي: الأرجنتين - أستراليا - بلجيكا - شيلي - فرنسا - بريطانيا - اليابان - نيوزيلندا - النرويج - جنوب أفريقيا - الاتحاد السوفيتي - الولايات المتحدة.
وتنص معاهدة أنتاركتيكا على إعلان «موراتوريوم» - وقف لكل الادعاءات من أجل التملك في القارة الجنوبية لمدة ثلاثين عاما في المنطقة الممتدة جنوب درجة العرض 60 جنوبا، فيما عدا أعالي البحار، وتنص أيضا على أن يكون استخدام هذه القارة من أجل الأغراض السلمية والتعاون الدولي في مجالات الأبحاث، والمحافظة على الموارد الحية الموجودة حاليا، ومنع التفجيرات الذرية وتخزين الأسلحة الذرية أو نفايات المواد المشعة فيها، كما اتفقت أيضا على رقابة تفتيش دولي مشترك لمنع النشاطات العسكرية وتنفيذ بنود هذه الاتفاقية.
الفصل الثالث
الشمال السوفيتي
(1) الظروف الطبيعية
يمتد الإقليم القطبي وإقليم العروض العليا في الاتحاد السوفيتي من حدود فنلندا في الغرب عند إقليم كارليا إلى كمتشكا في الشرق، وتتنوع الظروف العامة في هذا الإقليم الطويل تنوعا واسعا في المنظر العام والصفات الطبيعية.
فإقليم كارليا لا يختلف كثيرا عن فنلندا من حيث كونه جزءا من الرصيف الروسي القديم التكوين من الصخور البلورية، ولا يرتفع إلى أكثر من 500 متر إلا في أحوال نادرة، وأثرت عليه التعرية الجليدية تأثيرا واضحا، وتنتشر فوقه البحيرات الكثيرة التي وصلت ببعض بواسطة الأنهار التي أقيمت عليها محطات توليد الطاقة، وإلى الشمال من كارليا تمتد شبه جزيرة كولا التي ترتفع فوقها سلسلة جبال خيبيني إلى 1300 متر والغنية بالثروة المعدنية، والساحل الشمالي لشبه الجزيرة مليء بالفيوردات، وأهمها الفيورد الذي يقع عليه ميناء مورمانسك، أما بقية السواحل القطبية فهي منخفضة مليئة بالمستنقعات.
وفيما بين كارليا وكولا من ناحية وجبال الأورال من ناحية أخرى يمتد إقليم سهلي مستنقعي غالبا، مكون من الصخور الرسوبية التي أثرت عليها التعرية الجليدية، والنظام النهري في هذا الإقليم يتكون من نهري ديفينا الشمالي وبتشورا، وتفصل بينهما سلسلة جبال تيمان المنخفضة، وتمتد المنطقة الشمالية من جبال الأورال شمالا إلى جزر نوفايازمليا.
وفيما بين الأورال وهضبة سيبيريا الوسطى يمتد سهل واسع مستنقعي يكاد لا توجد فيه مظاهر طبيعية متغيرة تكسر حدة التشابه، ومثل هذا السهل نظيره قليل في العالم، وقد لا تكون من الإرسابات النهرية والجليدية الحديثة، ويسيطر نهر الأوب-أيرتش على تصريف هذا السهل، وإن كان هذا التصريف ليس كاملا، فانحدارات هذا النهر ضعيفة جدا، ومن ثم فإن بطء التيار قد أدى إلى انحناءات كثيرة - مياندر - في مجرى النهر تؤدي إلى انسداد المجرى بالرسوبات خاصة في موسم الفيضان الربيعي، ونتيجة لذلك كله، تحولت المنطقة بما فيها من مجاري نهرية إلى ما يشبه مستنقعا واحدا ضخم المساحة، ومن ثم فإن الملاحة النهرية غير ممكنة عمليا إلا في المجاري العليا.
أما نهر الينسي فإنه يسير موازيا لحافة الهضبة السيبيرية الوسطى وهو بذلك يسير في مجرى شبه مستقيم، ومن ثم فإنه أكثر قيمة من الأوب في الملاحة والنقل، وخاصة لوجود الأخشاب الجيدة في هذا الإقليم من سيبيريا الوسطى، وينتهي الينسي إلى بحر كارا كالأوب، وهو - بالمقارنة بالبحار التي توجد شرق شبه جزيرة تايمير - يعتبر بحرا خاليا من الجليد خلال شهري الصيف.
ويكون نهر الينسي خط تقسيم هام في الشمال السوفيتي، فإلى الغرب منه سهول لا يعتريها الصقيع الدائم - برمافروست ، ولكن السطح مكون من صخور لينة مشبع بالرطوبة، وإلى الشرق من الينسي تمتد هضاب سيبيريا المكونة من الصخور الصلبة، قطعتها أودية الأنهار العميقة، وهي منطقة البرمافروست الرئيسية، وتتميز بنقص في الرطوبة، وهذا الجزء الشرقي يمكن أن يقسم إلى قسمين بواسطة مسار نهر لينا.
وتمتد الهضبة السيبيرية الوسطى بين الينسي ولينا متكونة من صخور صلبة وتكوينات لافا سميكة، وترتفع في المتوسط إلى 700 متر، وتقطع أودية الأنهار سطح الهضبة فيما يشبه الخوانق - كانيون، وإلى الشرق من مدينة المعادن نوريلسك تبدأ سلسلة جبال بوتوراما لترتفع إلى حوالي 2000 متر، والانحدار العام لهضبة سيبيريا الوسطى هو انحدار تدريجي إلى الشرق نحو السهل الفيضي لنظام لينا النهري.
ونهر لينا واحد من الأنهار الطويلة في الاتحاد السوفيتي، لكنه يتجمد من أكتوبر إلى يونيو وينتهي إلى بحر لابتف المتجمد بدلتا واسعة تغطيها الثلوج كثيرا حتى الصيف، ونظرا لأن مسار لينا يقع كله في منطقة الصقيع الدائم فإن فيضان الربيع يؤدي إلى سرعة كبيرة في تيار النهر مما يؤدي إلى كوارث كثيرة.
وفيما بين لينا والباسيفيك يتغير المنظر الطبيعي تماما، فالمنطقة تتكون من جبال ألبية حديثة شديدة الوعورة والتضرس ترتفع إلى أعلى من 3000 متر في أحيان كثيرة، وليس لهذه الجبال اتجاهات ثابتة بل هناك عشرات الاتجاهات مما يجعل المنطقة صعبة الاختراق، وتصرف عدة أنهار من المنطقة، أهمها كوليما وأنديجركا اللذان ينتهيان إلى السهول المستنقعية، في الشمال الشرقي من سيبيريا، وهنا تتدافع الكتل الجليدية بكثرة مما يجعل الملاحة في هذا الجزء من الساحل الشمالي شديدة الخطورة، وأخيرا فإن شبه جزيرة كمتشكا تكون عالما فريدا في الاتحاد السوفيتي فهي مليئة بالبراكين - أعلاها كلوشفسكايا سوبكا +5500 متر - والينابيع الحارة والنافورات الساخنة التي بدئ في استغلال طاقتها الحرارية في الجنوب، وهي في الواقع جزء من حلقة الباسيفيكي التي تتعرض للبراكين والزلازل بشدة. (1-1) المناخ
يتضح من الرسوم البيانية المرفقة أن المناخ وإن تميز عامة بسيادة النمط القطبي فيما يختص بكمية المطر القليلة الساقطة سنويا، إلا أنه يختلف من مكان إلى آخر بالنسبة لنمط الحرارة السنوية ، ويرتبط ذلك ارتباطا وثيقا بموقع المكان وخصائص هذا الموقع المحلية، بالإضافة إلى خصائصه العامة.
ويمكن أن نتبين من محطات الرصد المختلفة عدة أنماط حرارية في الإقليم القطبي السوفيتي، ويلاحظ أن الحرارة بالذات هي عامل مؤثر في اختلاف مناخ منطقة عن أخرى؛ لأن أي تغير، ولو طفيف في هذه المنطقة التي تتميز بمتوسط حراري منخفض جدا طوال العام، يكون له آثار بعيدة المدى على أيكولوجية الحياة النباتية والحيوانية، ويترتب عليها مؤشرات هامة أمام التخطيط السوفيتي من أجل إقامة قواعد ثابتة للحياة في هذه الأقاليم المتطرفة، مبنية على الزراعة المحلية والرعي الحديث.
وأول ما يمكننا تمييزه من الرسوم البيانية أن هناك تقسيما عاما للنطاق إلى منطقتين رئيسيتين، هما النطاق الساحلي الذي يتأثر بالبحر حتى ولو كان ذلك المحيط الشمالي البارد، والنطاق الداخلي حتى ولو كان ذلك لا يبعد كثيرا عن البحر.
وفي هذين القسمين الرئيسيين نلاحظ أن المدى الحراري السنوي يختلف اختلافا كبيرا، ففي المناطق الساحلية لا يزيد المدى الحراري عن 25 درجة مئوية، بينما يرتفع هذا المدى إلى أقصاه في المناطق الداخلية بمتوسط قدره 50 درجة مئوية؛ أي ضعف المدى في المناطق الساحلية.
والملاحظة الثانية أن النطاق الساحلي لا تنخفض فيه درجات حرارة الشتاء عن 20-25 درجة مئوية تحت الصفر كحد أدنى، بينما تنخفض الحرارة الشتوية إلى ما تحت 45 مئوية تحت الصفر في المناطق الداخلية، والملاحظة الثالثة أنه بالمثل لا ترتفع درجات حرارة الصيف في النطاق الساحلي عن متوسط 5-10 درجات فوق الصفر، بينما ترتفع درجات حرارة الصيف في المناطق الداخلية إلى متوسط عشر درجات مئوية فوق الصفر، وأخيرا نلاحظ أن الصيف أطول في المناطق الداخلية منه في المناطق الساحلية، مما قد يؤدي إلى ظهور مشكلة الجفاف الصيفي بوضوح، وهو على غير ما تشتهي خطط إقامة الزراعة الصيفية في هذه المناطق.
وفي داخل المنطقة الساحلية يمكننا أن نميز مناطق مختلفة نتيجة التأثر بتيارات المياه والهواء الدافئة الجنوبية، ومن ثم فإن ساحل الباسيفيك أدفأ من الساحل السيبيري الشمالي، وبالمثل فإن مناطق بارتنس أدفأ هي الأخرى، وذلك بتأثير تيار الأطلنطي الشمالي الدافئ الذي ينتهي في هذا البحر. (2) الحياة في الشمال الأقصى
إن كلمة «الحياة» في هذا المجال تحمل كل التناقضات التي توجد في أية بقعة من بقاع العالم؛ فإن ظروف المناخ القاسية وحالات التربة تجعل الحياة شديدة القسوة، ما لم تكن مستحيلة، وبرغم ذلك فإن جماعة من الناس قد طوروا طريقة للحياة منذ فترة طويلة، وطريقة الحياة السلفية هذه أيضا قد أصبحت مهددة بالتغير والانتهاء بسبب دخول الحياة الحديثة إلى المنطقة.
وثنائية الحياة في النطاق الشمالي الأقصى من الاتحاد السوفيتي تقوم على الجماعات الأصلية والوافدين الجدد من الروس وغيرهم، وتتكون الجماعات الأصلية من عدة مجموعات قبلية لغوية أهمها التنجوس والسامويد والأوزتياك والياكوت واليوكاجير والتشكشي والكامتشادال، أما الوافدون الروس فيتركزون حول المدن والمراكز العمرانية الجديدة، عند مصبات الأنهار الشمالية غالبا على الطريق البحري الشمالي، وقد أدخلوا معهم طرقا حديثة للحياة من النواحي الاجتماعية والسكنية ووسائل وتكنولوجيات جديدة في استغلال الموارد الاقتصادية، وفي مكافحة العناصر الطبيعية المعادية للسكن البشري. (2-1) المستوطنون الروس
شكل رقم (4): أنماط الحرارة في الإقليم القطبي السوفيتي: 1-12 = الأشهر. (1) محطة أركانجلسك (نمط حراري بحري داخلي). (2) محطة كارماكولي (نمط حراري قطبي محيطي). (3) محطة أولين (نمط حراري باسيفيكي). (4) محطة ديكسون (نمط حراري بحري). (5) محطة بتروبافلوتسك (نمط طري باسيفيكي دافئ). (6) محطة أوست بورت (نمط حراري قاري معدل). (7) محطة ياكوتسك (نمط حراري قاري متطرف). (8) محطة فرخويانسك (نمط حراري قاري شديد التطرف).
أما الوافدون من الروس على الساحل القطبي فيكونون في الواقع تجمعات مركزة حول المدن الجديدة الموجودة على الساحل، وهذه المدن تكاد تنعزل تماما عن العالم الخارجي معظم الأشهر التسعة التي يشملها الشتاء، وتصبح أجهزة الراديو هي الوسيلة الرئيسية للاتصال بالعالم، أما أشهر الصيف فتصبح فرصة ذهبية للتنقل والسفر والاتصال الفعلي، والواقع أن إقامة هذه المدن الصغيرة قد استدعت تكلفة باهظة وتكنولوجية عالية كفأة من أجل إنشاء مزارع صغيرة حول هذه المدن لإمدادها بالمواد الغذائية.
وقد كان لهذه المراكز أثر كبير على الجماعات الأصلية، بعضها التحم تماما بالمدن الجديدة والبعض الآخر ظل يعيش في ظلها فقط، ولأول مرة في الشمال الأقصى يصبح الاتجاه نحو البحر الشمالي حقيقة واقعة، خاصة في الصيف حين تتوافد السفن السوفيتية المختلفة الحجوم إلى ... ومنتجات الحضارة الصناعية. (2-2) السكان الأصليون
سكان شمال أوروآسيا يتكونون أساسا من المجموعات التي نسميها «الآسيويين القدماء»
أو «المغول القدماء»، وهم في مجموع تركيبهم الحضاري يتشابهون كثيرا مع أمريند شمال أمريكا الشمالية، وهذا التشابه راجع إلى أن المغول القدماء الذين سكنوا شمال آسيا منذ فترة طويلة قد عبروا مضيق بيرنج إلى أمريكا الشمالية، كما دلت الدراسات الأثنولوجية الحديثة على وجود هجرات أحدث زمنا عبر هذا المضيق تتمثل على طول الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية.
ومصطلح «المغول القدماء» أو «الآسيويون القدماء» ما زال مصطلحا عموميا؛ لأن تحديده ليس واضحا، فهو يضم مجموعات مختلفة من الناس داخل هذا التصنيف، ولكن الاتفاق عام على أن هؤلاء الناس قد هاجروا إلى شمال آسيا منذ فترة طويلة، وتدل الدراسات الأركيولوجية على أن هذه الجماعات المختلفة قد وصلت إلى مواطنها الحالية في هجرة عامة حصلت حوالي نهاية القرن العاشر الميلادي، وأنهم كانوا يمارسون السماكة - صيد الأسماك، وأن حضارة هذه الجماعات قد تلت حضارة العصر الحجري الحديث مباشرة، ولكنهم سرعان ما انتقلوا إلى الصيد البري، وبنوا مساكن دائمة من الحجارة والأخشاب، وتتميز هذه المساكن بأن أرضيتها دائما تحت مستوى سطح الأرض بحيث لا ترتفع جدران المسكن كثيرا فوق سطح الأرض المجاورة، وفي وسط السقف توجد فتحة تسمح للدخان بالخروج كما أنها تستخدم مدخلا للبيت، وكل هذه الجماعات تمارس صناعة الفخار ببراعة كبيرة، ويمثل الكلب الحيوان المنزلي الوحيد.
وهم يلبسون جميعا أردية مصنوعة من فراء الحيوانات القطبية، لكنها مفتوحة فقط من الرقبة وتلبس وتخلع من أعلى، وهي بذلك تعطي تدفئة ممتازة، أما حذاء الثلج - زحافة قصيرة عريضة - المستخدم من قبلهم جميعا وخاصة في تجوالهم وراء الصيد، فيبدو كأنه جاءهم متأخرا نسبيا، وكذلك من الراجح أن انتقالهم إلى رعي الرنة جاء هو الآخر متأخرا - حوالي القرن الحادي عشر - نتيجة التأثر بجماعات التنجوس الذين زحفوا إلى أواسط سيبيريا والسامويد الذين زحفوا إلى الشمال الغربي، قادمين من مناطق سيبيريا الجنوبية.
ونتيجة لتوغل وتغلغل التجار الروس والصينيين منذ فترة طويلة دخل إلى المنطقة استعمال الأوعية والأواني المعدنية - جنبا إلى جنب مع الأوعية الفخارية، ويرى بعض الباحثين أن لجوء سكان شمال سيبيريا إلى الصيد البري لم يكن تطورا داخليا من أجل الحصول على مزيد من الغذاء، وإنما ارتبط بتجارة الفراء التي يحتاج إليها سكان المناطق الحضارية في كل من الصين وأوروبا والبحر المتوسط.
وسكان هذا النطاق القطبي يتكونون من المجموعات التالية انظر الخريطة رقم (3) .
المجموعة الشرقية (1)
الإسكيمو الموجودون في أقصى شرق سيبيريا على الساحل المواجه لألسكا ومنطقة رأس ديزينيف وجزر الألوشيان. (2)
الجلياكن أوتيفخن في منطقة مصب نهر آمور وساحل سخالين المواجه. (3)
إيتلمن أو الكمتشدال الذين يحتلون كل شبه جزيرة كمتشكا. (4)
الكورياك الذين يحتلون عنق كمتشكا وسواحل خليج سيلخوفا - بين كمتشكا وأوختسك. (5)
اليوكاجير وهم على الساحل الشمالي في منطقة مصبات أنهار كوليما وأنديجاريانا. (6)
التشوكشي وهم أكثر هذه الجماعات عددا، ويمثلون المنطقة الممتدة بين اليوكاجير غربا والإسكيمو شرقا والكورياك جنوبا.
ويلاحظ أن هناك تشابها بين لغة اليوكاجير ولغة الساموييد في شمال الأورال ولغات أخرى قريبة من مصب الأوب، وهذه اللغة الساموييدية تعتبر فرعا من مجموعة اللغات الأورالية أو الفنو-أوجرية.
المجموعة الغربية (1)
اليوراك أوننتزن ويسكنون غربي خليج الأوب والساحل الشمالي الأوروبي شمالي الأورال. (2)
الأوستياك-ساموييد أوسلكوب وهم في حوض ينسي الأوسط. (3)
ساموييد ينسي أو أنزن ويسكنون شرقي خليج أوب إلى الينسي الأدنى. (4)
تاوجي ساموييد أو نجاناسان ويعيشون في شبه جزيرة تايمير. (5)
الأوستياك أو خانت ويعيشون في حوض الأوب الأوسط. (6)
الفوجول أو مانس يعيشون عند التقاء أيرتشي وأوب، وهم معروفون في التاريخ والوثائق الروسية، من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر، وكانوا يعيشون غربي جبال الأورال، لكن تقدم الروس من ذلك التاريخ أدى إلى زحزحتهم شرقا حتى منطقة الأوب، وذلك حوالي القرن الرابع عشر.
المجموعة الوسطى
وهذه المجموعة قد زحفت إلى شمال سيبيريا متأخرة عن المجموعتين السابقتين آتية من جنوب سيبيريا ومنطقة سهول الأمور ومنشوريا ومنغوليا، ويمكن أن نطلق عليها في مجموعها اسم مجموعة التنجوس فيما عدا مجموعة الياكوت التركية الأصل . (1)
التنجوس: ويسمون أنفسهم إيفنك ويحتلون في سيبيريا الشمالية القسم الشمالي من هضبة سيبيريا الوسطى فيما بين وادي الينسي ولينا الأدنى، كما أن لهم مجموعة قوية أخرى تمتد في الجنوب من وادي آمور ومنشوريا إلى أعالي ينسي ولينا وشمال بايكال، وهم يعيشون أساسا كمجموعة من صيادي حيوان الفراء ويستأنسون الرنة ويستخدمونها كحيوان حمل وجر. (2)
الدولجان: أقرباء التنجوس، ويعيشون في الشمال على الساحل الشرقي لشبه جزيرة تايمير حتى مصب لينا. (3)
لاموت أو أيفين: أيضا أقرباء التنجوس ويعيشون على السواحل الشمالية لبحر أوخستك، ولكن اللاموت قد تأثروا كثيرا بمجموعة الياكوت التي تعيش إلى الغرب منهم. (4)
قبائل تنجوسية عديدة جاءت من منطقة الساحل الضيق بين نهر آمور ومضيق تاتارسكي الذي يفصل سخالين عن اليابس الآسيوي، ومن أهم هذه المجموعات الأوروك، نجيوال أولتش، ناناي أوروتش، أوريهي.
مجموعة الياكوت
قدمت هذه المجموعة التركية الأصل من أواسط آسيا وشمال بحيرة بايكال بعد دخول التنجوس إلى سيبيريا، واحتلت منطقة واسعة في حوض لينا الأوسط وروافده العديدة، وقد أدخلت هذه المجموعة معها حرفة رعي الرنة، التي يمكن أن يقال عنها: إنها أكثر مناطق الرعي تطورا في كل الشمال السوفيتي قبل أن يبدأ الرعي العلمي الحديث.
مجموعة الأينو
هذه المجموعة التي تسكن سخالين وجزيرة هوكايدو اليابانية وجزر الكوريل الجنوبية ليست في الواقع من المجموعات المغولية الصرفة، بل إن إجماع آراء الأنتروبولوجيين على أن الأينو جماعة قوقازية انفصلت وانعزلت في هذه الجزر البعيدة، لكنها لم تسلم من تأثير المحيط الآسيوي المغولي الكائن حولها، والمعتقد أيضا أن الأينو كانوا يسكنون جزيرة هنشو اليابانية، لكنهم وقعوا تحت التأثير الشديد للمغول وكونوا شعب اليابان الحالي.
مجموعات الشمال الأوروبي السوفيتي
وأخيرا فإن مجموعة الكومي (الفنو-أوجرية) والننتسي (المغولية) واللاب (المغولية) كانت وما زالت تعمر الأجزاء الشمالية من تندرا أوروبا السوفيتية، مع تداخل كبير من المهاجرين الروس. (3) النشاط الاقتصادي التقليدي
تلعب السماكة وصيد الأحياء البحرية الدور الرئيسي في حياة القبائل التي تعيش على ساحل الباسيفيك وكمتشكا، وكذلك نجد صيد الأسماك من نهري الأوب والينسي وروافدهما من أهم الأنشطة الاقتصادية من أجل الحصول على الغذاء عند المجموعة الغربية لسكان سيبيريا، ويتخصص التشوكشي والكورياك والأيتلمن في أقصى شمال شرق سيبيريا - بالإضافة إلى القليل من الإسكيمو، في صيد الأحياء البحرية الكبيرة مثل الفقمة وعجل البحر وفيل البحر وأحيانا الحوت، ويتم صيد هذه الحيوانات البحرية بالرمح المسنن - الهاربون، والصيادون داخل قواربهم الجلدية الخفيفة - كاياك، أما معظم مجموعة ساحل الباسيفيك فلا تعرف الكاياك وإنما تستخدم قوارب خشبية.
ويتم صيد الأسماك من الأنهار الصغيرة بواسطة سدة توضع في مجرى الماء ثم يصطاد السمك بالرمح أو بواسطة الأوعية، كما يستخدم الجيلاك والأوستياك وسيلة طرق الطبقة الجليدية غير السميكة التي تغطي الأنهار خلال الشتاء مما يؤدي إلى قتل الأسماك التي تقضي الشتاء في المياه غير المتجمدة أسفل الغطاء الجليدي.
وتؤكل الأسماك نيئة أو مسلوقة أو مشوية، أما الصيد البري فيتم بالقوس والسهم بالنسبة للحيوانات الصغيرة، أو تركيب السهم في مكان غير ظاهر مع ربطه إلى حبل، وحين يحرك الحيوان الحبل المشدود على الأرض ينطلق السهم فيصيبه، كذلك تستخدم أشكال مختلفة من الفخوخ التي تؤدي إلى ربط الحيوان وعجزه عن الحركة، وخاصة بالنسبة لحيوانات الفراء الثمينة - خوفا من أن يقطعها السهم فتهبط قيمتها، وأحيانا يستخدم سهم ذو رأس غير مدبب لكي يفقد الحيوان الصغير وعيه، أما الطيور فتصاد أساسا بالشباك، ولكن التشوكشي يصطادون الطيور أيضا بالمقلاع، أما الدببة فتقتل بالحربة القصيرة.
ويستخدم الصيادون حذاء الثلج في عمليات الصيد الشتوي وأوائل الربيع لصيد الحيوانات السريعة العدو مثل التياتل والرنة، وتتم عمليات الصيد هذه بشكل جماعي وليس فرادى.
وتتفاوت المجموعات القبلية في درجة رعي الرنة من الصيد البري إلى التربية والرعي بالمعنى المتعارف عليه، فالتنجوس يمتلكون قطعانا صغيرة من الرنة من أجل الحصول على اللبن وكحيوان ركوب وحمل وجر، ولا يذبح من أجل الغذاء إلا نادرا، أما سكان التندرا الشمالية فيمتلكون أعدادا كبيرة من الرنة من أجل اللبن واللحم والدهن واستخدام العظام والقرون في أدواتهم الكثيرة، وتؤدي تربية قطعان الرنة إلى حركة السكان بصفة دائمة من أجل الحصول على مرعى الحيوان، وكذلك من أجل التجاء الرنة شتاء في منطقة الغابات حيث تنمو الطحالب المختلفة التي يتغذى بها خلال هذا الفصل.
ومساكن المجموعات الرعوية المختلفة في التندرا وسيبيريا هي الخيمة الجلدية أو المصنوعة من الفراء على هيكل خشبي، وخيام التنجوس والساموييد وبعض الأوستياك، قمعية الشكل وتترك فتحة علوية عند التقاء أخشاب الهيكل، لتصبح مخرجا للدخان، أما عند التشوكشي والكورياك وغيرهم في الشرق فإن الخيمة أسطوانية في جزئها الأسفل وقمعية في جزئها الأعلى، ويصل ارتفاع الخيام عادة بين 5-8 متر عند نقطة الوسط، والبيت الحجري الذي كان منتشرا في الماضي، لم يعد يظهر كثيرا إلا في المناطق الصخرية، وكان مكان البيت يختار في حفرة طبيعية أو جوار جدران صخرية، وتصبح له فتحة في السقف للدخول والخروج وتستخدم أيضا كمدخنة، وفي بعض المناطق تقفل فتحة السقف لمنع تسرب الهواء البارد، وتفتح فتحة جانبية ذات ممر أعمق من مستوى أرض البيت لكي يتراكم فيها الهواء البارد ولا يدخل الحجرة السكنية، وقد حل محله في أحيان كثيرة استخدام الخيمة عند الحفر الطبيعية أو بجوار الجدران الصخرية. (3-1) الياكوت كمثال للتغير الحديث
تحتل جمهورية ياكوتيا الذاتية جزءا كبيرا من سيبيريا الشرقية، وتبلغ مساحتها 3 مليون كيلومتر مربع، لكن سكانها لا يزيدون عن نصف مليون شخص، وهذه الجمهورية هي أكثر بقاع العالم قاطبة تطرفا في المناخ القاري المتطرف، فالمتوسط الحراري السنوي هو −11° مئوية، ومتوسط حرارة يناير −45° مئوية، وترتفع الحرارة بشدة في الصيف إلى أن تبلغ أحيانا +40°م، ولكن لا توجد أكثر من مائة يوم ترتفع فيها متوسطات الحرارة إلى أعلى من عشر درجات مئوية.
والياكوت جماعة تنتمي إلى المجموعة التركية-المغولية، تطرفت في سكناها إلى هذه المنطقة الشديدة القسوة لأسباب غير معروفة - ربما بداعي الغزو، وقد طرد الياكوت جماعات التنجوس واليوكاجير إلى الشمال والشمال الشرقي حينما احتلوا هذا الإقليم، ويكون المستوطنون من الروس نحو 10٪ فقط من مجموع السكان.
وفي عام 1923 عثر على خام الذهب في رمال وادي نهر ألدان، ثم اكتشفت أيضا مصادر الفحم مما وجه الأنظار إلى هذا الإقليم الشديد الفقر.
وبالرغم من أن الاستغلال المعدني لم يكن واسعا وعدد المستوطنين الروس قليل نسبيا إلا أن أهم النتائج إنما كانت التحول الكبير في حياة الياكوت السلفية، فلقد نظم الرعي والصيد تنظيما علميا ممتازا ودخلت التعاونيات والمزارع الجماعية - الكولخوز - المنطقة، وأقبل عليها السكان إقبالا كبيرا مما أدى إلى توقف الرعي المترحل للرنة، وأصبحت هناك مناطق مخصصة لصيد حيوان الفراء، بل ومزارع لتربية بعض هذه الحيوانات والصغيرة أيضا.
وابتداء من عام 1930 دخلت السيارة والجرارات ياكوتيا، وأدخلت الأبقار إلى حوض لينا الأوسط لأول مرة في صورة مزارع جماعية لتربية الحيوان، وكذلك نظمت حياة مستخرجي الذهب تنظيما تشرف عليه الدولة بعد أن كان في البداية مرتبطا بعمليات فردية.
ولا شك أن هذا التحول الكبير قد جاء نتيجة لدخول المواصلات الحديثة إلى الإقليم، فالأنهار التي يبلغ طولها قرابة عشرين ألف كيلومتر لا يمكن استخدامها إلا في خلال الصيف القصير، وتستخدم أساسا في نقل الأخشاب المقطوعة شمالا بالإضافة إلى نقل بعض البضائع، وإلى جوار الأنهار كانت هناك الطرق غير المعبدة، والنية متجهة إلى مد خط حديدي بين أركوتسك على بحيرة بايكال وياكوتسك عاصمة ياكوتيا، وقد وصل هذا الخط إلى كيرنسك على أعالي لينا، وبذلك يكون قد قطع حوالي ثلث المسافة إلى ياكوتسك، لكن المواصلات الحديثة الحالية تتمثل في خطوط الطيران التي أصبحت ياكوتسك مركزا هاما لها في سيبيريا الشرقية، وهناك عدة طرق مرصوفة تنتهي إلى سيبيريا الجنوبية أو إلى ميناء ماجادن على بحر أوختسك في الشرق، وتمثل ياكوتيا في الواقع منطقة صعبة الارتياد والسكن تتضافر فيها كل العوامل الطبيعية لمعاداة السكن والاستيطان، لكن الثروة الطبيعية الممثلة في الذهب والماس والفحم، والأخشاب وحيوان الفراء، قد أدت إلى استحداثات جديدة في طرق الحياة برغم التكلفة المرتفعة، وسيجيء اليوم الذي تقل فيه التكلفة بعد إعداد شبكة نقل برية وحديدية منتظمة، ولكن ذلك مرتبط أساسا بالاهتمام باستغلال فحم ياكوتيا الذي ما زال حتى الآن احتياطيا عظيما للمستقبل في الاتحاد السوفيتي، طالما أن مصادر الفحم السوفيتية الأخرى الكائنة قرب مراكز الصناعة ما زالت في حالة استخدام جيد. (4) النمو السكني في الشمال السوفيتي
منذ أكثر من ألف عام والمنطقة الشمالية الأوروبية تعتبر خلفية أساسية للروس، فهي بذلك ليست أرضا جديدة، وقد كانت هذه المناطق الشمالية مصدرا للفراء الفاخر الذي يتجه في تجارته جنوبا إلى حوض البحر المتوسط، وفي خلال القرن الرابع عشر عبر الروس الأورال الشمالية، ومنذ ذلك الحين أصبحت التاييجا الأوروبية حتى الأورال المصدر الأساسي للأخشاب والثروة لإمارة موسكو، وفي خلال القرن السادس عشر ونظرا لتحكم السويد وبولندا في البلطيق، كان على موسكو أن تتجه شمالا بحثا عن مخرج بحري لها، وقد تم ذلك بعد وصول سفن إنجليزية إلى ديفينا الشمالي عام 1553، وبذلك أصبحت أركانجل نافذة لإمارة موسكو على العالم الخارجي حتى بداية القرن الثامن عشر، وقد توالت بعثات الكشف الروسية في سيبيريا حتى وصلت إلى الباسيفيك في النصف الأول من القرن السابع عشر، وفي تلك الفترة أنشئت المدن الروسية القديمة في سيبيريا مثل توبلسك وياكوتسك وفرخوياتسك، ولكن الاهتمام بسيبيريا والشمال قل كثيرا بعد عام 1700 نظرا لسقوط البلطيق في يد الروس، وإنشاء مدينة لننجراد الحالية، ونمو مركز الثقل الصناعي من موارد الطاقة المتمثلة في الأخشاب الشمالية إلى فحم الأورال وأوكرانيا خلال القرن التاسع عشر.
وقد ظلت منطقة مورمانسك ميناء صيد صغير إلى أول القرن العشرين حين بدأ الاهتمام بها، ومد إليها الخط الحديدي الذي وصلها قبيل الثورة البولشفية مباشرة، ومنذ تلك الثورة بدأت العناية توجه إلى الشمال مرة أخرى، وفي هذه المرة كان الدافع هو البحث عن المعادن، وفتح طريق الشمال البحري لأول مرة في أوائل الثلاثينات، وأصبحت السفن تمر من أركانجل إلى فلاديفستوك خلال الصيف، لكن معظم السفن كانت تقوم بنقل الأخشاب من ميناء إيجاركا الجديد على مصب الينسي إلى مورمانسك وساحل الأطلنطي.
وقد اكتشف الذهب في حوض كوليما وألدان، وبنيت طرق لكل الأجواء لتصل إليها من ميناء ماجادن على بحر أوختسك ومن خط حديد سيبيريا عند بحيرة بايكال، كما ثبت وجود احتياطي كبير من الفحم تحت أرض الصقيع الدائم، واستغل بكميات صغيرة، واكتشفت مناجم النيكل الغنية عند نوريلسك قرب مصب الينسي، وبدأ تشغيلها عام 1940، كما استغل الحديد والنيكل والأباتيت في شبه جزيرة كولا والبترول بكميات محدودة في وادي بتشورا الأسفل، وإلى جانب ذلك نمت صناعة صيد الأسماك في كل من بحر كارا وكمتشكا على السواء. (5) الأوضاع الاقتصادية الحالية
يمتلئ الشمال السوفيتي بمشروعات اقتصادية عظيمة، لكن التكلفة العالية، وقلة وسائل النقل، ووجود عقبتين أساسيتين: ندرة الزراعة لإعطاء ثبات محلي للسكان، وقلة الأيدي العاملة، كلها عوامل تقف أمام تنفيذ هذه المشروعات.
كذلك يلعب المكان الجغرافي دورا هاما في تنشيط أو بطء النشاط الاقتصادي، فالشمال السوفيتي الأوروبي، بقربه المكاني من المدن والأسواق قد نشطت فيه اقتصاديات قطع الأخشاب وصيد الأسماك، أما الشمال السيبيري فإن النشاط قد اقتصر فيه - إلى حد كبير - على استغلال المعادن النادرة ذات القيمة الثمينة مما يستدعي الانفاقات المالية الكبيرة، أما حقول الفحم الواسعة في سيبيريا الشمالية، بالإضافة إلى مواردها الخشبية الرائعة، فستظل بعيدة عن الاستغلال لفترة غير معروفة نظرا لوجود بديل لها في أماكن أخرى أقل تكلفة في النقل وأقرب إلى أماكن استهلاكها، أما مصادر الغاز الطبيعي واحتمالات البترول الكبيرة في شرق سيبيريا فقد أصبحت الآن مشروعات سوفيتية ضخمة مطروحة للاستغلال بالاشتراك مع الاستثمارات العالمية واليابانية بصفة خاصة. (5-1) التعدين والطاقة
تدل الدراسات التي قام بها الباحثون على أن ثلثي احتياطي الفحم السوفيتي يوجد في منطقة الصقيع الدائم في شمال سيبيريا شرقي الينسي، ولكن مساهمة هذه المنطقة في إنتاج الفحم السوفيتي حتى الآن ما زالت في حدود 1٪ فقط، وحقل الفحم الشمالي الوحيد الذي له أهميته في الاستغلال الحالي هو ذلك الذي يوجد حول فركوتا
Vorkuta
في داخل إقليم التندرا الأوروبية - حوض البتشورا، وهذا الحقل هو المصدر الأساسي لفحم الكوك لمصانع شربوفتس
Cherepovets
التي تورد الصلب إلى لننجراد - تقع شربوفتس على الفولجا الأعلى عند التقاء خط يمتد إلى الشرق من لننجراد، وخط يمتد إلى الشمال من موسكو، وقد بدأ العمل في فحم فركوتا عام 1942 حين وصلتها السكة الحديدية ، وبعد أن سقط فحم الدونابس في جنوب شرق أوكرانيا في يد الألمان، وبذلك أصبح لحقل فركوتا أهمية حيوية لثلاثة أعوام، لكن موقعها الآن في مناطق الصقيع الدائم وبعدها عن السوق، وارتفاع أجور العمالة، ووصول أنابيب الغاز الأرضي إلى شربوفتس، كلها عناصر مناهضة للتوسع في إنتاج فحم فركوتا، لكن فركوتا تمتلك خطا حديدا، وهو عنصر حاسم في بقاء إنتاجها إلى الآن رغم المصاعب المذكورة، خاصة مع الدراسات التي تدل على غنى وجودة احتياطي الفحم في هذا الحقل.
وفي الشمال السوفيتي أيضا أكثر من ثلث إمكانات الطاقة الكهرومائية، وهناك مشروعات ضخمة لإقامة سدود على نطاق لم يعرفه العالم للآن، وأحد هذه المشروعات الضخمة هو إقامة سد على الأوب الأدنى وتحويل منطقة المستنقعات الهائلة في شمال غرب سيبيريا إلى بحيرة هائلة، ومن هذه البحيرة تضخ المياه جنوبا إلى آسيا الوسطى العطشى إلى المياه، لكن ضخامة المشروع، واحتمالات ما ليس في الحسبان، قد أجلت تنفيذ هذا المخطط إلى أجل غير مسمى، وبالمثل هناك مشروع مستقبلي يتضمن إنشاء سد على لينا الأدنى لتوليد الطاقة عند دلتا هذا النهر، وقد أرجئ البت فيه، والمفروض في مشروع لينا أنه سيكون ضعف الطاقة المنتجة حاليا من سدي براتسك وكراسنويارسك - على أعالي نهري إنجارا وينسي على الترتيب، وهما أضخم منتجين للطاقة الكهرومائية حاليا في الاتحاد السوفيتي، والمفترض أن تنقل طاقة لينا الأدنى على خطوط تحميل قوتها 1400 كيلوفولت، وهو مشروع مذهل، لكنه أرجئ إلى الخطة العشرينية التي تبدأ عام 1980.
كذلك هناك مشروعات طاقة أصغر، مثل تحويل جزء من مياه المجرى الأعلى لبتشورا إلى الفولجا بواسطة سد يولد الطاقة أيضا، ولكننا نلاحظ - نظرا لظروف الشمال السوفيتي عامة - أن مشروعا واحدا هاما قد نفذ فعلا في سد ماماكان
Mamakan
أحد روافد لينا العليا - شمالي بحيرة بايكال، وينتج هذا السد الآن نحو سبع كهرباء سد براتسك الضخم، وتستغل الطاقة المنتجة في مناجم الذهب المجاورة وفي أغراض محلية أخرى.
لكن أكثر المناطق القطبية السوفيتية التي صادفت نجاحا واستمرارا في التقدم الاقتصادي هي منطقة كارليا الممتدة من الحدود الفنلندية إلى البحر الأبيض وخليج كندلاكشا، في هذه المنطقة تتحسن الظروف المناخية نسبيا وتوجد انحدارات طبيعية معقولة، وموارد معدنية وخشبية كثيرة، وقد أدت هذه الظروف إلى إنشاء مجموعة من السدود المولدة للطاقة، وخاصة حول خليج كاندلاشكا.
وكذلك بدأ السوفيت مشروعات تجريبية من أجل استخدام طاقة المد والجزر في توليد الطاقة، وخاصة في خلجان البحر الأبيض ومورمانسك، وكذلك استخدام الطاقة الحرارية الأرضية في شبه جزيرة كمتشكا لتوليد الطاقة أيضا.
لكن أكثر مصادر الطاقة إثارة هي البترول والغاز الطبيعي، فالبترول يستغل منذ بضع عشرات من السنين في منطقة أوختا
Ukhta
في حوض نهر بتشورا، لكنه محدود الكمية بالقياس إلى الإنتاج السوفيتي العام.
خريطة رقم (5): الشمال السوفيتي الأشكال الرئيسية للنشاط الاقتصادي الحالي (أ) الحد الجنوبي التقريبي للشمال السوفيتي (ب) مصايد الأسماك (ج) ماس (د) ذهب (ه) بترول (و) غاز طبيعي (ز) فحم (ح) محطات الطاقة المائية (ط) محطات الطاقة الحرارية (ك) مناطق الصناعة الحديثة: (1) منطقة شبه جزيرة كولا (2) منطقة كاريليا أركانجلسك (3) منطقة فركوتا (4) منطقة فوريلسك (5) منطقة ياكوتسك.
ومن الناحية الجيولوجية توجد كل الأسباب التي تشير إلى أن أحواض أوب ولينا هي مناطق يمكن العثور فيها على حقول بترول غنية ومصادر ضخمة للغاز الأرضي، وحتى وقت قريب لم تعط الأبحاث المختلفة نتائج إيجابية، ولكن في أوائل الستينيات كشف التنقيب في منطقة التقاء الأيرتش بالأوب عن حقل بترولي، وكذلك في لينا الأعلى، ووضعت الخطط لمد خطوط أنابيب من هذه الحقول لتكريرها في مصافي أومسك والشرق الأقصى على الترتيب، وكذلك عثر على الغاز الأرضي في منطقة الأوب الأدنى - منطقة بريزوفو، والخطة الحالية ترمي إلى مد خط أنابيب طوله حوالي 500 كيلومتر إلى منطقة الصناعات المعدنية في الأورال الشمالي.
وأغنى حقول الغاز الأرضي هي تلك التي توجد في منطقة مصب نهر تاز
Taz - خليج أوبسكايا الذي يصب فيه الأوب، والتي تبعد نحو 450 كيلومترا غربي منطقة نوريلسك الصناعية عند مصب الينسي، والاتجاه يرمي إلى مد خط أنابيب من هذا الحقل إلى توريلسك.
ولا شك أن الصقيع والمستنقعات في هذه المناطق، بالإضافة إلى مصاعب النقل تجعل التنقيب عن البترول والغاز الأرضي واستغلالهما أمرا شديد التعقيد وكثير المصاعب، وبالإضافة إلى ذلك فإن وجود بديل لمثل هذه المصادر يجعل استغلالها في الوقت الحاضر مقتصرا على مناطق الصناعة المحلية في الشمال الأقصى.
وأكبر مستهلك للوقود والطاقة في الشمال السوفيتي هو التعدين، كما أن التعدين يمثل النشاط الاقتصادي الصناعي الرئيسي في هذا النطاق البعيد.
فالمعادن والخامات توجد بكثرة في مناطق كثيرة، لكن المناطق التعدينية التي لها وزن وثقل بالنسبة للاقتصاد القومي السوفيتي في النطاق الشمالي تتمركز في ثلاثة مراكز هامة هي:
شبه جزيرة كولا
وتحتوي على أكبر مناجم معروفة في العالم كله لتعدين الأباتيت
Apatite
وهو معدن ينتج مخصبات زراعية ذات قيمة عالية، وتنتج منه كميات تستهلك في كل أنحاء الاتحاد السوفيتي.
وفي كولا أيضا مناجم حديد غنية تعتمد عليها صناعة الحديد والصلب الكبيرة في شربوفتس التي تقع إلى الشرق من لننجراد، وكذلك معدن النفليت
Nephelite
من شبه جزيرة كولا، ويستخدم كخامة جيدة لعمل الألومنيوم.
وفي شبه الجزيرة أيضا معادن عديدة غنية كالنيكل والنحاس والتيتانيوم والزركينيوم والمولبدنم، وكثير منها يدخل مع الحديد لعمل أنواع مختلفة من الصلب، وبذلك فإن شبه جزيرة كولا - برغم تطرفها الشمالي - منطقة تعدينية متعددة الجوانب نادرة المثال في الأقاليم القطبية.
منطقة نوريلسك التعدينية
وتقع حول مدينة نوريلسك على حافة هضبة سيبيريا الوسطى شرقي مصب الينسي، وترتبط بهذا المصب بخط حديدي قصير، وهذه المنطقة التعدينية تعد منطقة على جانب كبير من الأهمية في تعدين عدة معادن ذات قيمة استراتيجية وصناعية كبيرة، وعلى رأس هذه المعادن النيكل والكوبالت والبلاتين، ونظرا لوفرة هذه المعادن وأهميتها، فإن نوريلسك تنمو بصفة منتظمة ومستمرة برغم الظروف القاسية المناخية والأيكولوجية التي تحيط بها.
منطقة ياكوتيا
وهذه المنطقة أكثر انتشارا من المنطقتين السابقتين، فإذا رسمنا دائرة مركزها مدينة ياكوتسك وقطرها حوالي ألف كيلومتر نجد مناطق عديدة داخل هذه الدائرة تشتغل في تعدين الذهب والماس، وقد أصبحت هذه المنطقة المتطرفة شمالا أكبر منافس لجنوب أفريقيا في إنتاج هذين المعدنين النادرين، وجعل من الاتحاد السوفيتي ثاني دولة في العالم في إنتاج الذهب والماس.
ويأتي الماس أساسا من وادي نهر فيليوي
Vilyuy
غربي لينا، أما الذهب فينتج من ثلاث مناطق رئيسية هي: منطقة كوليما-أنديجاركا العليا إلى الشرق من ياكوتسك، ومنطقة ألدان، ومنطقة فيتيم إلى الجنوب من ياكوتسك.
وفي هذا الإقليم التعديني الشرقي توجد أيضا مناجم للقصدير والتنجستن في الشمال الشرقي الأقصى من سيبيريا، ومناجم عديدة للميكا في الجزء الجنوبي من ياكوتيا، وفضلا عن ذلك فإن الفحم يوجد في أماكن كثيرة، وهو يستخدم محليا في مناطق التعدين من أجل الحصول على الطاقة اللازمة لعمليات التعدين. (5-2) الثروات النباتية والأسماك والفراء
الأخشاب
تغطي المنطقة الغابات المخروطية الشاسعة التي تسمى «التاييجا»، لكن غالبية الاستغلال الغابي - حوالي تسعة أعشار الإنتاج - يأتي من منطقة الغابات المخروطية الأوروبية، ولا شك أن العامل الأساسي يرجع إلى القرب من أكبر الأسواق الاستهلاكية، ففي القطاع الأوروبي من الاتحاد السوفيتي يتركز جزء كبير من السكان، وتتركز غالبية المدن الكبرى والصناعات، وهناك عامل ثان هو أن غابات القطاع الأوروبي أجود من القطاع السيبيري، ومن ثم فالقيمة أعلى.
وتقطع الأشجار في الجزء الجنوبي من القطاع الأوروبي الشمالي، وترسل بواسطة نهر دفينا الشمالي إلى أركانجلسك التي أصبحت مركزا عظيما لتجميع الأخشاب، والصناعات المرتبطة بقطع الأخشاب والأبلكاش - الخشب الرقائقي - والورق وغير ذلك.
وحرفة قطع الأخشاب منتعشة أيضا في منطقة سيبيريا الوسطى، ويستغل نهر الينسي في نقلها إلى ميناء إيجاركا عند المصب، ومن ثم تنقل الأخشاب بواسطة خط الملاحة الشمالي إلى ميناء أركانجلسك، أو تصدر إلى الخارج.
وهناك مناطق أخرى يرتبط نشاطها الاقتصادي بقطع الأخشاب وتصنيعها، منها منطقة كوتلاس عند التقاء رافدي الدفينا - جنوب أركانجلسك، وسيكتيفكار على الدفينا الأعلى - جنوب أوختا.
أما كاريليا - المتاخمة للحدود الفنلندية، فتمتاز بثروة خشبية جيدة مماثلة لأخشاب فنلندا، وفي المجموع فإن صناعات الأخشاب في الشمال السوفيتي تكاد تكون قاصرة على النشر والتقطيع وعمل الألواح المختلفة، والقليل منها يقوم بصناعة الورق، وهي صناعة موجودة بكثرة في الأجزاء الوسطى من الاتحاد السوفيتي الأوروبي.
الأسماك
وفيما يختص بالأسماك فإن ربع كمية الصيد السوفيتي يأتي من البحار الشمالية ويتركز في عدد من موانئ الشمال، وتتصدر مورمانسك موانئ الشمال في كمية ما يصلها من الصيد البحري الذي يتركز معظمه في بحر بارنتس، ومعظم هذا الصيد من القد والرنجة والهادوك، وبذلك فإن مورمانسك هي الميناء الأول الذي يعمل في الصيد والقاعدة الأساسية لأساطيل الصيد الشمالية.
وفي الجانب الشرقي من الشمال السوفيتي توجد منطقة أخرى هامة في صيد الأسماك، وهي وإن كانت أقل كمية من المنطقة الشمالية، لكنها تكون أهم مناطق الصيد البحري من ناحية النوع، فالسلمون وسرطانات البحر والفقمات المختلفة والحيتان تتركز مصايدها في منطقة شبه جزيرة كمتشكا وجزر كوريل وكوماندورسكي وبحر أوختسك، ففي هذه المنطقة تلتقي تيارات بحرية باردة آتية من منطقة بحر بيرنج لتلتقي بالتيارات البحرية الدافئة الجنوبية - كيروسيفو، ومن ثم فإن غالبية قرى ومدن السواحل الشرقية تقيم أسسها الاقتصادية على الصيد البحري.
أما ساحل سيبيريا الشمالي والأنهار السيبيرية الشمالية فنصيبها من الصيد أقل من المنطقتين السابقتين، وذلك للبعد المكاني عن العمران الرئيسي وعن خطوط المواصلات السريعة، ومع ذلك فإن كمية ما يصطاد من أسماك في هذه المنطقة وأنهارها يستهلك محليا في المدن الجديدة، أو يستهلكه الصيادون أنفسهم كما كان الحال دائما في الماضي.
الزراعة
وفي المجال الزراعي سبق أن ذكرنا أن السوفيت قد قاموا بمجهودات علمية عظيمة في محاولة منهم لدفع حد الزراعة نحو الشمال، ولكن ذلك وحتى الآن ما زال محدودا لعدة أسباب على رأسها: (1)
قلة السكان الذين يمكن أن يكونوا سوقا لاستهلاك محاصيل حقول واسعة. (2)
الظروف الطبيعية القاسية من فقر التربة والمناخ المعادي للإنبات. (3)
الحاجة المستمرة إلى الدراسة العلمية والتجارب الكثيرة للحصول على محاصيل لها من الصفات ما يمكنها من الإنتاج الجيد في مثل هذه الظروف.
ومع ذلك فإننا نجد أن نجاح السوفيت كان كبيرا في منطقتين رئيسيتين تستحقان الجهد ورأس المال المستثمر، المنطقة الأولى هي وادي الدفينا الشمالي حيث توجد سوق رائجة ممثلة في مدن وموانئ قطع الأخشاب وعلى رأسها أركانجلسك وكوتلاس، وفي هذه المنطقة تزرع أنواع من القمح والشيلم والشوفان ويعتني الأهلون بتربية الحيوان، وبذلك أصبحت تكون امتدادا لنطاق الزراعة في الفولجا الأعلى.
أما المنطقة الثانية ففي حوض لينا الأوسط حيث كان الياكوت يقومون برعي الرنة والأبقار، وقد أمكن هنا استنباط أنواع من القمح المقاومة للصقيع، ولكن العقبة الرئيسية هي جفاف الصيف، ومع ذلك فقد تمت عملية استصلاح وزراعة 250 ألف فدان في أواسط ياكوتيا، وإلى جانب ذلك فإن تربية الحيوان في مراعي علمية جماعية واسعة، يمكن أن يعد أكبر نجاح في هذا الإقليم، فلقد استغل السوفيت التقليد الرعوي القديم عند الياكوت، وطعموه بأنواع منتقاة من الماشية، والكثير من الإرشاد العلمي بشأن طرق ووسائل رعي الحيوان، وخاصة الرنة.
وتعيش الرنة بأعداد تبلغ بضعة ملايين في مناطق مختلفة من سيبيريا، وتتجه التنمية الزراعية والخطط الاقتصادية والغذائية إلى الاستفادة من هذه الأعداد الكبيرة استفادة علمية واسعة، وذلك بالإرشاد والتحسين عند الكثير من القبائل من كمتشكا إلى رأس ديزينيف في أقصى الشمال الشرقي، إلى الينسي والأوب في الغرب، بالإضافة إلى مجموعة اللاب السوفيتية في شمال شبه جزيرة كولا.
الفراء
وأخيرا فإن الاتحاد السوفيتي ما زال أكبر مصدر للفراء في العالم، كما كان الحال منذ أزمان بعيدة، ولا يزال حيوان الفراء يكون مصدرا هاما للدخل النقدي عند كثير من قبائل الشمال السوفيتي - الموطن الرئيسي لحيوان الفراء، ولكن نظرا للإسراف الطويل المدى في صيد الحيوانات ذات الفراء الثمين كالثعلب الفضي والقاقم - الأرمين، فإن الدولة قد وضعت سياسة خاصة للمحافظة على هذه الثروة من الانقراض، كما أنشأت مزارع لتربية حيوان الفراء، وقد انتشرت هذه المزارع بكثرة في مناطق عديدة من الشمال السوفيتي. (6) النقل والصناعة في الشمال السوفيتي
إن الاختلافات الجوهرية التي تظهر بين الشمال الأوروبي والآسيوي في الاتحاد السوفيتي تنعكس بوضوح لا مزيد عليه في حركة النقل وكميات البضائع وخطوط المواصلات الحديثة.
فالشمال الأوروبي الآن تغطيه شبكة جيدة من خطوط المواصلات - طبعا بالقياس إلى سيبيريا، ولا شك أن ذلك يرتبط أيضا بكثافة السكان والنشاط الاقتصادي.
في هذه المنطقة راجع خريطة رقم (6)
يوجد خطان حديديان أساسيان هما: (1) خط لننجراد-مورمانسك، (2) خط موسكو-أركانجلسك، وقد اتصل الخطان ببعضهما خلال الحرب العالمية الثانية - أثناء حصار الألمان لمدينة لننجراد - بواسطة خط يمتد جنوبي البحر الأبيض وخليج كندلاكشا، وهذان الخطان هما الشريان الرئيسي الذي ينقل إلى الجنوب الأخشاب والأسماك والمعادن.
شكل رقم (6): الشمال السوفيتي الأوروبي: نمط الاستغلال الزراعي الحديث: (أ) الحد الجنوبي للشمال السوفيتي الأوروبي (على وجه التقريب). (ب) سكك حديدية. (ج) مناطق الزراعة حول المدن (خضروات - بطاطس - ألبان): (1) نطاق رعي وتربية الرنة. (2) رعي الأبقار وزراعة متناثرة حديثة. (3) رعي وألبان كثيفة مع زراعة حديثة جيدة.
ويبلغ طول خط مورمانسك-لننجراد حوالي 1400 كيلومتر، وهو أول خط تم خلال العهد السوفيتي، وقد مد هذا الخط إلى مورمانسك لكي تصبح الميناء الشتوي للننجراد خلال فترة تجمد مياه البلطيق، كما أنه ساعد على تنمية وتنشيط صيد الأسماك من بحر بارنتس، وذلك بفتح أسواق المدن الكبرى الجنوبية للأسماك المصادة، وفي الوقت نفسه فإن هذا الخط الحديدي قد ساعد على استغلال الثروة المعدنية المتعددة الوجوه في شبه جزيرة كولا، وخاصة في منطقة كيروفسك التعدينية الكبيرة، وقد أصبح لهذا الخط عدة فروع داخل إقليم كاريليا لزيادة استغلال موارد المنطقة التي تقع شمالي بحيرة لادوجا وشمال غربي بحيرة أونيجا، وأصبحت بتروزادوفسك مركز مواصلات جديدة هام في كاريليا.
وقد أدى كل ذلك إلى نشأة صناعات عديدة تقوم على موارد البيئة، ففي كاريليا تتركز صناعة الورق حول بحيرة لادوجا وخاصة قرب الحدود الفنلندية، وفي منطقة أونيجا صناعات المخصبات وتعليب وإعداد الأسماك والخضروات والمنسوجات، وفيما بين أونيجا والبحر الأبيض نمت صناعة قطع الأخشاب وإعدادها وصناعة الورق وتصنيع المعادن غير الحديدية، وخاصة بعد إنشاء مجموعة كبيرة من محطات الطاقة المائية على مياه الأنهار القصيرة التي تصل مجموعة البحيرات العديدة في المنطقة، وفي منطقة خليج كندلاكشا وكيروفسك نمت أيضا حرفة قطع الأشجار وتشغيل المعادن غير الحديدية وصناعة الآلات ، وفي منطقة مورمانسك تسيطر صناعة إعداد الأسماك وتعليبها بالإضافة إلى صناعة الآلات.
وفي كاريليا مجموعة من الأنهار التي تصل بين البحيرات، وقد شق السوفيت وعمقوا بعض هذه الأنهار وحفروا قنوات أخرى لكي يتم إنشاء طريق مائي يربط البحر الأبيض - عند خليج أونيجا - ببحيرة أونيجا، وبحيرة لادوجا - على الأصح جنوب البحيرة مباشرة - بنهر نيفا الذي ينتهي إلى لننجراد وبحر البلطيق، كما حفرت قناة أخرى تربط بين أونيجا والفولجا عند شربوفتس، وقد تم حفر الوصلات المائية بين البلطيق والبحر الأبيض عام 1933، وتقوم هذه القناة بمساعدة خط حديد مورمانسك في أعمال النقل، ومعظم البضائع التي تمر بها هي الأخشاب.
أما الخط الحديدي بين موسكو وأركانجلسك فهو قديم؛ إذ أنشئ عام 1897، وهو بذلك تعبير عن أهمية أركانجلسك القديمة بالنسبة لنمو إمارة موسكو واتجاهها صوب الشمال من القرن السادس عشر، قبل أن تحتل واجهتها على البلطيق والأسود «القرن الثامن عشر».
وقد اتصل هذا الخط بخط مورمانسك خلال الحرب العالمية الثانية، كما أدت هذه الحرب أيضا إلى أن يبني السوفيت فرعا آخر يبدأ من كوتلاس بحذاء الدفينا والبتشورا ليصل إلى فحم فركوتا في أقصى الشمال - بعد أن استولى الألمان على فحم أوكرانيا والدوناباس، وساعدت هذه الخطوط الحديدية على نهضة كبيرة في النشاط الاقتصادي، فعلى خط حديد فركوتا ينقل الفحم جنوبا إلى شربوفتس، كما تنقل الأخشاب أيضا، وقد مد خط فركوتا عبر الأورال إلى منطقة الأوب الأدنى، لكن حركة النقل عليه ليست كبيرة في الوقت الحاضر، ولعلها تزيد باستمرار أعمال الكشف عن البترول والغاز الأرضي في الأوب الأدنى.
وتتركز صناعة بناء السفن في أركانجلسك وكوتلاس، إلى جانب الورق والأدوات المعدنية، بينما نشأت في أوختا - على خط فركوتا - صناعة تكرير البترول وعدد من صناعة الأدوات، أما في فركوتا فإن صناعة الآلات والورق - بجانب تعدين الفحم - تسيطر على اقتصاديات المنطقة.
ونهر الدفينا الشمالي نهر صالح للملاحة منذ القدم، وأهميته في تأمين نقل الأخشاب إلى الساحل ما زالت كبيرة لدرجة أن حجم النقل عليه يلي حجم النقل النهري على الفولجا ، أما نهر البتشورا فإنه ينقل كميات أقل من الأخشاب إلى الشمال.
وفيما بين الأوب الأدنى والمحيط الباسيفيكي تمتد مساحة ضخمة قد تبلغ حجم الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يوجد في هذه المساحة سوى خط حديدي واحد طوله حوالي 115 كيلومترا يربط مدينة نوريلسك بنهر الينسي، وقد وضح أن الصقيع الدائم يشكل مخاطر للسكك الحديدية في سيبيريا الشمالية، وبالإضافة إلى ذلك فإن عدد السكان القليل، وكثرة الطرق النهرية الكافية للاحتياجات الحالية للنقل تجعل التفكير في مد الخطوط الحديدية في هذه الأصقاع عملية مكلفة دون داع أو عائد اقتصادي كبير.
وتشكل أنهار سيبيريا محاور نقل رئيسية من الجنوب إلى الشمال، ويكون خط حديد سيبيريا المحور الشرقي-الغربي للنقل في الجنوب «بامتداده الجديد إلى أعالي لينا»، أما خط الملاحة الشمالي فيكون محور النقل الشرقي الغربي في الشمال، وبذلك تكتمل شبكة نقل بسيطة في هذه المساحة الهائلة، فضلا عن اختلاف جذري في وسيلة النقل على هذه الشبكة: السفن البحرية خلال أشهر الصيف في الشمال، القطارات الحديدية طوال السنة في الجنوب، والأنهار تربط بينهما خلال الصيف أيضا.
وخط الملاحة البحري الشمالي يمكن أن يمثل الشريان الحيوي للنقل في شمال سيبيريا برغم أنه يكون مفتوحا فقط خلال ثلاثة أشهر، وعلى هذا الخط تعمل سفن تقطع المسافة بين مورمانسك وفلاديفستوك «البالغ طولها 5996 ميلا» في رحلة مستمرة، إلا أن معظم الملاحة الشمالية تتركز فيما بين مورمانسك وأركانجلسك من ناحية الغرب، ومصب الينسي من ناحية الشرق؛ أي في بحري بارنتس وكارا، ولا شك أن وراء ذلك دواع ودوافع، فمنطقة مصب الينسي - بما فيها من ثروة معدنية ذات قيمة عالية في منطقة نوريلسك، تستدعي مثل هذه الكثافة النسبية في النقل البحري.
وفضلا عن ذلك فإن الملاحة الشمالية حول شبه جزيرة نايمير ورأس شيلوسكين تتعرض كثيرا للجليد الطافي، والجليد الركامي، وذلك برغم تشغيل كاسحات الجليد الذرية الحديثة، ومثل هذه الظروف أيضا تسيطر على الملاحة في مضيق بيرنج، وفضلا عن هذا فإن كمية الحمولة في المنطقة الشرقية عامة صغيرة، ومن ثم فإن أحد أغراض الملاحة الشمالية هو تموين المدن الساحلية الشمالية باحتياجاتها وتموين القواعد السوفيتية العديدة الخاصة بالأرصاد والأبحاث العلمية والدفاع.
وبرغم أهمية طريق الشمال الملاحي، إلا أنه يمكن أن يتم تموين المناطق الشمالية بواسطة طرق سيبيريا الجنوبية الحديدية والبرية، ثم بواسطة الأنهار المتجهة شمالا، وإلى جانب ذلك فإن السوفيت قد أنشئوا في الفترة الأخيرة عدة طرق برية من النوع الذي يلائم كافة الأجواء، وخاصة في شرق سيبيريا.
ففي المنطقة التعدينية شقت طرق جيدة من أهمها طرق ألدان الرئيسي الذي يبدأ من الخط الحديدي شمالي قوس نهر آمور، ويتجه شمالا عبر جبال ستانوفوي إلى ألدان، ثم يواصل السير شمالا إلى ياكوتسك، وهناك طريق رئيسي جديد آخر يسمى طريق كوليما الذي يبدأ من ميناء ماجادان في شمال بحر أوختسك ويعبر ممرات جبال كوليما وشيرسكي إلى أعالي كوليما وأنديجاركا، ثم يتجه جنوبا بالغرب ليعبر نهر ألدان ويصل في النهاية إلى ياكوتسك، ويخدم هذا الطريق مناطق تعدين الذهب الهائلة وصناعات الفحم العديدة في أعالي كوليما وأنديجاركا، هذا إلى جانب القصدير والتنجستن.
وتنقل ميناء ماجادان - التي تظل مفتوحة للملاحة طوال السنة بواسطة محطمات الجليد - كل المؤن والمعدات اللازمة لأعمال التعدين العديدة الجارية في الشمال، بالإضافة إلى كميات الوقود لمساحة عدة آلاف من الكيلومترات بواسطة شاحنات ضخمة وسائقين مدربين لمثل هذه الظروف القاسية مناخا والتربة ذات الصقيع الدائم، وعبر طرق غير معبدة بالمعنى المفهوم، وهناك فرع من طريق كوليما عند جبال شيرسكي يمتد شمالا بغرب عبر الجبال إلى وادي نهر يانا - الذي يقع بين أنديجاركا ولينا، وينتهي هذا الخط عند تجني يانسك عند مصب نهر يانا - المسافة بين ماجادان وتجني يانسك 3500كم، ويفتح هذا الطريق المؤقت من نوفمبر إلى مايو ليستفيد من الأرض المتجمدة دون وجود مستنقعات وبحيرات تعوق السير.
وإلى جانب هذه الطرق، هناك طريق آخر يمتد غربا من ياكوتسك إلى فيليويسك حيث مناجم الماس الغنية، وبذلك تصبح ياكوتسك مركزا هاما لتقاطع الطرق الرئيسية في سيبيريا الشرقية - إلى جانب مطارها الكبير، وانتفاعها بنهر لينا الواسع كطريق مائي كبير يقود إلى الشمال حيث ميناء تكسي على بحر لابتف.
وعلى هذا النحو فإن السكك الحديدية والقنوات تكون شبكة نقل هامة في الشمال الأوروبي، بينما يعتمد النقل في الشمال الآسيوي على الأنهار وخط الملاحة الشمالي ومجموعة الطرق البرية في شرق سيبيريا، وتبرز سيبيريا الغربية كمنطقة غير مخدومة كثيرا؛ لكثرة مستنقعاتها، ولقربها من خط حديد سيبيريا الشمالي قربا نسبيا. (7) السكان والمدن (7-1) السكان
برغم ما ذكرنا من نشاط اقتصادي تعديني وصناعي أولي فإن الشمال السوفيتي كله قليل السكان جدا، حقا زادت كثافة السكان كثيرا خلال العهد السوفيتي في عدة مناطق من هذا الشمال إلا أن هناك مساحات هائلة تكاد لا توجد فيها مساكن على الإطلاق.
وربما يبلغ عدد السكان الحاليين قرابة خمسة ملايين، بينما لم يكونوا أكثر من مليونين عام 1926، ومعنى هذه الزيادة أن نسبة الزيادة السكانية في الشمال السوفيتي كانت أعلى من نسبة الزيادة القومية للسكان في كل أنحاء الاتحاد السوفيتي.
ولا شك أن نسبة كبيرة من الزيادة السكانية كانت في البداية تعود إلى الهجرة الجبرية التي توقفت بعد الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة، ولا بد أن نفترض أن عددا كبيرا من الخاضعين للهجرة الجبرية قد فضل البقاء في المنطقة بمحض اختياره فيما بعد.
ومعظم الزيادة السكانية في الشمال تكاد تنحصر في النمو العددي لسكان المدن، ومعظم هؤلاء نراهم قادمين من روسيا وأوكرانيا، وقد ترتب على ذلك تغير شامل في التكوين السلالي لسكان الشمال، ففي 1926 كان عدد الروس لا يزيد عن عدد السكان الأصليين؛ أي إن النسبة كانت 50٪ لكل من المجموعتين أو حوالي مليون لكل منهما، واليوم نجد أن الزيادة السكانية بالنسبة للجماعات الأصلية لم تبلغ حدا كبيرا، وربما ما زال عددهم في حدود المليون، والباقي - أربعة ملايين - هم من الروس والوافدين.
وليس معنى هذا أن النمو السكاني عند السكان الأصليين قد توقف، بل لا شك أن نسبة نموهم قد ارتفعت بعض الشيء نتيجة انتشار الطب الحديث انتشارا لا بأس به في المراكز المدنية الجديدة، لكن الاحتمال الأقوى هو أن عددا من السكان الأصليين قد اندمجوا في المجموعة السكانية الجديدة، ومهما يكن من أمر فإن الوافدين، ومن اندمجوا معهم، أصبحوا يكونون الآن 80٪ من مجموع سكان الشمال.
وأكبر المجموعات الأصلية عددا هي الكومي في غابات بتشورا، والياكوت في حوض لينا، وربما بلغ عددهم معا أكثر من 800 ألف شخص، والكومي - بحكم موقعهم - هم على اتصال دائم بالروس منذ عدة قرون، أما بقية السكان الأصليين فهم يتكونون من أعداد قليلة - الإسكيمو في حدود ألف شخص، التشوكشي في حدود 12 ألفا.
وتدل إحصاءات عام 1959 على أن عدد السكان كان حوالي أربعة ملايين ونصف على النحو التالي:
الإقليم أو الوحدة الإدارية
المساحة ألف ميل مربع
عدد السكان بالآلاف
الكثافة شخص/كم
2
النسبة المئوية لسكان المدن
مورمانسك
56
567
10
92
كاريليا
67
650
10
63
أركانجلسك
229
1278
5
53
كومي
159
804
5
59
مجموع الشمال الأوروبي
551
3299
ياكوتيا
1210
488
أقل من 1
49
ماجادان
468
236
أقل من 1
91
كمتشكا
182
220
10
كراسنويارسك (جزء)
820
19
أقل من 1
نوفوسيبرسك (جزء)
9
20
أقل من 1
تومسك (جزء)
95
30
أقل من 1
تويمن (جزء)
525
186
أقل من 1
مجموع الشمال الآسيوي
3309
1199
مجموع الشمال السوفيتي
3820
4498
يتضح من هذه الأرقام استئثار القسم الأوروبي بحوالي ثلثي السكان برغم أن مساحته لا تتجاوز سدس مساحة الشمال الآسيوي، وهو أمر راجع إلى الموقع الجغرافي واعتدال الظروف المناخية وزيادة النشاط الاقتصادي، وينعكس ذلك كله في ارتفاع نسبة ساكني المدن في مناطق الشمال الأوروبي، وفي مناطق التعدين ياكوتيا وماجادان. (7-2) المدن
عدد سكان المدن الرئيسية في الشمال السوفيتي في عدة سنوات (بآلاف الأشخاص).
المدينة
1926
1959
1962
1964
أولا: مدن القطاع الأوروبي
أركانجلسك
77
256
276
303
مورمانسك
222
245
272
بتروزافودسك
136
142
157
سفرودفنسك
79
97
113
سيكتيفكار
64
79
94
فركوتا
56
60
ثانيا: في القطاع الآسيوي
نوريلسك
109
117
124
بتروبا فلوفسك كمتشاتسكي
86
100
ياكوتسك
74
79
89
ماجادان
62
68
79
يتضح أيضا من هذا الجدول أن معظم المدن يوجد في الشمال الأوروبي، وقد سبق أن قلنا إن نمو السكان في الشمال السوفيتي راجع أساسا إلى نمو كبير لعدد سكان المدن، ففي سنة 1959 كان عدد سكان المدن الكبرى المذكورة بهذا الجدول 1144000 شخص من مجموع قرابة أربعة ملايين ونصف مليون؛ أي حوالي 25٪ من السكان يسكنون هذه المدن الكبرى.
ويوجد الآن في الإقليم الشمالي أكثر من 12 مدينة يزيد عدد سكانها عن خمسين ألف شخص، ومجموعة أخرى من المدن أكثر من 20 ألفا.
ومدن الشمال السوفيتي عامة هي أكثر مدن العالم تطرفا نحو الشمال، وأكثر مدن العالم بعدا عن النطاق الزراعي المعروف، وعلى هذا فهناك عدد من المشاكل تحاول التكنولوجية السوفيتية أن تحلها بزراعة الخضروات وتوفير الأغذية بكافة الطرق حول هذه المدن، فضلا عن تموينها ببعض الأغذية من النطاقات الجنوبية، وفيما يلي عرض سريع لبعض المدن الكبرى.
أركانجلسك
هذه هي أكبر مدن الشمال، ويقترب عدد سكانها الآن من ثلث مليون شخص، وتقع المدينة على رأس خليج الدفينا، وعلى رأس المصب الخليجي الدلتاوي لنهر الدفينا الشمالي، وهي أقدم مدن الشمال قاطبة، وما زالت أكثرها أهمية.
ولقد اكتشفت جماعة من البحارة الإنجليز هذا الموقع بالصدفة، واستخدموا النهر في الصعود جنوبا حتى وصلوا إلى الفولجا ومن ثم إلى موسكو، ومنذ ذلك التاريخ وللمدينة أهمية كبيرة بالنسبة لعلاقات روسيا بالشمال، وتعبيرا عن ذلك فقد مد أول خط حديدي في الأصقاع الشمالية إلى أركانجلسك قرب نهاية القرن الماضي - فموقع المدينة عند نقطة تجميع لمنتجات الغابات المخروطية الشمالية أعطاها سيطرة احتكارية في تجارة الدولة الخارجية لكل من الفراء والأخشاب والكتان.
ولكن مجد أركانجلسك - أركانجل كما كانت تسمى من قبل - لم يطل كثيرا، وذلك بعد أن أسس بطرس الأكبر سان بطرسبورج - لننجراد الحالية، وتدهورت أهمية أركانجلسك خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، بل أصبحت أيضا منفى شماليا.
وحينما تم مد الخط الحديدي إليها بدأت صحوة جديدة لأركانجلسك، فزادت أكثر من عشر مرات عما كانت عليه من حيث الحجم وعدد السكان في القرن التاسع عشر، وتسيطر منتجات الغابات على نشاطها الاقتصادي، وفيها أكبر معامل قطع ونشر الأخشاب في الاتحاد السوفيتي، إلى جانب ترسانة متوسطة لبناء السفن ومعامل متوسطة في تعليب وإعداد الأسماك، ولقد قلت قيمة البحر الأبيض في صيد الأسماك بعد أن تطورت سفن الصيد إلى السفن الحديثة التي تجوب أعالي البحار، وأصبحت مورمانسك الميناء الأول في مضمار السماكة، وقد نمت في المدينة أيضا بعض معامل النسيج، وخاصة نسيج الأكياس المصنوعة من الجوت، وبعض الصناعات الهندسية، وبالرغم من تجمد مياه البحر الأبيض شتاء إلا أن محطمات الجليد تفتح طريقا مستمرا إلى أركانجل وميناء سفيرودفنسك - على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض - خلال الشتاء.
مورمانسك
أكبر مدينة تقع شمال الدائرة القطبية في العالم، وتتمتع مورمانسك بميناء مفتوح طوال السنة على عكس أركانجلسك، وتقع المدينة على رأس فيورد صخري عميق يمتد 65 كيلومترا إلى الداخل، لكن ظروف التندرا المحيطة بالمنطقة وصعوبة الاتصال بالجنوب جعلت أهمية مورمانسك تتأخر كثيرا، وظهورها كمدينة وميناء هام يعود إلى اتصالها بالسكة الحديدية القادمة من لننجراد والتي بدأ العمل فيها عام 1916.
ولقد نمت المدينة بسرعة كبيرة في خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وظهرت أهميتها كمركز رئيسي لأسطول صيد متزايد، وكميناء لبداية خط الملاحة الشمالي، كما كان للمعادن العديدة التي وجدت بالقرب منها أثر كبير على النمو، وفي المجموع تزايد سكان المدينة من لا شيء في أوائل العشرينيات إلى 120 ألفا سنة 1939، حتى تضاعف العدد أكثر من مرتين في 1964.
وتعتمد المدينة في نموها على تزايد سفن أسطول الصيد السوفيتي في البحار الشمالية بصفة مستمرة، مما يؤمن مستقبلها الاقتصادي كثيرا.
بتروزافودسك
تقع على بحيرة أونيجا وعاصمة إقليم كاريليا وعلى الخط الحديدي من لننجراد إلى مورمانسك، وتقع وسط إقليم زراعي غابي، وأضيفت إلى وظائفها الاقتصادي صناعات الآلات والفخاريات، ونمو المدينة العددي مستمر ولكنه ليس سريعا.
أما مدينة سيكتيفكار على الدفينا الأعلى فهي عاصمة إقليم الكومي، وتقع وسط إقليم منتجات الغابات، وتقوم فيها صناعات الأخشاب وإعداد الفراء والجلود كما تصنع سفن النقل النهري، ولم تصلها السكك الحديدية إلا في عام 1960 بعد وصلة من خط كوتلاس-فركوتا، ومدينة فركوتا مركز لإنتاج الفحم في العالم القطبي يستغل استغلالا جيدا.
وفي الشمال الآسيوي نجد نوريلسك أكبر مدن هذا النطاف، وتماثل مورمانسك في أنها هي الأخرى شمال الدائرة القطبية، وتعود نشأتها إلى مناجم النيكل والنحاس وغيرهما من المعادن، وهي مناجم غنية بلا شك حتى إنها أدت إلى نمو سريع جدا لهذه المدينة المنعزلة في أقصى شمال سيبيريا، والممتدة على أرض الصقيع الدائم، ومصدر الطاقة في المدينة يأتي من مناجم الفحم المحلي، وإن كانت هناك مشروعات لتوليد الطاقة من أنهار شبه جزيرة تايمير القريبة، ومد خط أنابيب للغاز الأرضي القريب في وادي نهر تاز. هذا؛ وترتبط نوريلسك بميناء دودنكا النهري على الينسي الأدنى بخط حديدي قصير.
أما ياكوتسك فمدينة تختلف عن نوريلسك كثيرا، فهي مركز تجاري قديم في حوض لينا، وأصبحت مركزا لإقليم تعديني عظيم القيمة، وهي فوق ذلك عاصمة جمهورية ياكوتيا الذاتية، ومركز لمنطقة زراعية واسعة ورعي حديث. (8) ختام
في ختام هذا الفصل يتضح لنا أن هناك في الشمال السوفيتي عدة أقاليم متمايزة فيما بينها، وإن كانت تتشابه إلى حد بعيد في كثير من مقوماتها الطبيعية، وهذه الأقاليم هي: (8-1) الشمال الأوروبي
أحسن أقاليم الشمال السوفيتي من حيث ظروفه الطبيعية والمناخية، كما أن علاقاته المكانية بالبحر المفتوح طول السنة - بارنتس، واقترابه من الكتلة السكنية الرئيسية في الاتحاد السوفيتي، قد جعلته أكثر أقاليم الشمال ارتيادا، ومن ثم أعمقها تاريخا، وبالرغم من أن السكان الأصليين من المغول والفنواجريين - لغويا، إلا أنهم قد تأثروا كثيرا بعملية التحول الحضاري الأوروبي في جملة نشاطهم الاقتصادي، كما حدث بينهم امتزاج كبير مع الروس، ونظرا للأبعاد التاريخية لهذا الإقليم، فإنه صار من أحسن أقاليم الاتحاد السوفيتي في استغلال موارد الغابة بشتى أشكالها - أخشاب وفراء، وزاد عليه الكشف عن كثير من المعادن الهامة في شبه جزيرة كولا، بالإضافة إلى حرفة صيد الأسماك التي تعد هنا أكثر تطورا من غيرها في بقية الدولة، وترتب على ذلك كله انتشار شبكة مواصلات حسنة تربط الإقليم بأكبر مركز بين مدينتين في الاتحاد السوفيتي: ليننجراد وموسكو. (8-2) إقليم شرق سيبيريا وحوض لينا
بالرغم من بعده كثيرا عن قلب الاتحاد السوفيتي إلا أنه استفاد استفادة كبيرة من القواعد الحضارية الممتدة على طول خط الحديد الجنوبي، والمحيط الباسيفيكي والموانئ التي أنشئت عليه، وترتب على هذا المكان الجغرافي إمكانية الاتصال - مع صعوبة واضحة بالبحر المفتوح، ومن ثم أنشئت شبكة من طرق الاتصال البري إلى الموانئ أو خط السكة الحديد السيبيري، والمنطقة هي أغنى مناطق الاتحاد السوفيتي بالذهب والماس والفحم، ولو أن الأخير ما زال يستخدم بقدر يسير من أجل الأغراض المحلية لوفرة الفحم في بقية الاتحاد السوفيتي ، فضلا عن ذلك أصبحت هذه المنطقة تمثل مستقبلا زراعيا ورعويا لا بأس به، وذلك من أجل إقامة أساس دائم للحياة خارج حد الزراعة التقليدية. (8-3) إقليم سيبيريا الوسطى والغربية والشاطئ الشمالي
تمثل هذه المنطقة أقل المناطق تقدما من حيث الاستغلال الحديث، باستثناء منطقة نوريلسك عند مصب الينسي، وهي منطقة غنية بالدرجة التي جعلتها تنمو هذا النمو السريع برغم قسوة الظروف، والسكان معظمهم يعيشون حسب أصول النشاط الاقتصادي القديم، ومع قليل من التعديل، قرب مراكز المدن الحديثة على الشواطئ الشمالية، ونظرا لظروف المنطقة - مستنقعات الأوب الأدنى، والصقيع الدائم شرقي الينسي، فإن المواصلات الحديثة تكاد تقتصر على الملاحة الشمالية الموسمية، والأنهار التي تتجمد أيضا خلال معظم أشهر السنة، ومن ثم فإن مستقبل المنطقة حتى الآن أقل من الإقليمين السابقين.
الفصل الرابع
الشمال الكندي
(1) الظروف الطبيعية
في هذا القسم الهائل من كندا، والذي يمتد في صورة قوس هائل من لبرادور عند التقائها بجزيرة نيوفوندلاند، إلى مصب المكنزي، لا يعيش أكثر من نصف مليون شخص في مساحة تزيد قليلا عن مليونين ونصف المليون من الأميال المربعة.
ويترتب على هذا أن الكثافة السكانية تبلغ حوالي شخص لكل ثمانية أميال مربعة أو
شخص لكل ميل مربع! ولا معنى لهذه الكثافة الشديدة الانخفاض سوى أن هناك مساحات شاسعة غير مأهولة بالفعل.
ونظرا لقسوة الظروف المناخية والطبيعية عامة، فإن النشاط الاقتصادي محدود بصورة شديدة، ويتخذ أساسا صورة النشاط الاقتصادي الأولى: مثل إقامة الفخوخ من أجل الصيد البري، والسماكة - صيد الأسماك، وقطع الأخشاب والتعدين إلى جانب الصيد البحري والمائي عامة الذي يقوم به الإسكيمو المنتشرون قرب السواحل الطويلة لهذا الإقليم الواسع.
وإذا نظرنا إلى أوجه النشاط الاقتصادي السالفة الذكر، فإننا نجد - من وجهة نظر الاقتصاد الحديث - أن قطع الأخشاب والتعدين هما النشاطان اللذان يعبران عن ثروة هذا الإقليم بالنسبة لاقتصاديات النقدية، بينما يكون الصيد والسماكة اقتصاديات الكفاية الذاتية.
ولكن إلى جانب ذلك هناك بعض الإنتاج الغذائي من أجل الكفاية الذاتية متمثلا في نشاط الإسكيمو في الصيد المائي، ويضاف إليه في الوقت الحاضر بعض الزراعة شبه التجارية، ومراع صناعية لتربية حيوان الفراء، التي ظلت الأساس الهام في النشاط التجاري في شمال كندا لفترة طويلة منذ اكتشافها.
وعلى العموم فإن إمكانات التقدم الاقتصادي في هذه المنطقة تحدده بصورة واضحة عدة عوامل جغرافية على رأسها المناخ القطبي، وإلى جانب ذلك فإنه يجب أن يحسب حساب لعامل البعد المكاني مما يرفع قيمة الإنتاج إذا ما تناولته وسائل النقل الشديدة التكلفة في الأقاليم القطبية، ويمكننا أن نضيف أيضا عاملا اقتصاديا يحدد نجاح الاستغلال الاقتصادي في الشمال، وهو عامل الطلب على المنتجات، فالكثير من منتجات المناطق الشمالية لها نظير في أماكن جغرافية أقرب إلى مناطق السوق الكبيرة في جنوب كندا والولايات المتحدة، أو أن هناك نظيرا لهذه المنتجات يمكن نقله بسهولة لتوفر وسائل النقل.
فالشمال الكندي يحتوي على معظم التكوينات الجيولوجية القديمة في أمريكا الشمالية التي تسمى عادة بالدرع أو الرصيف الكندي، وخاصة في لبرادور وكويبك وحول خليج هدسن عامة، وبقية الرصيف يمتد جنوبا إلى حوض سنت لورانس والبحيرات العظمى الأمريكية، ويؤدي هذا التركيب الجيولوجي القديم إلى صلابة الصخور، وقلة التربة الصالحة للنمو النباتي، وقد زاد من فقر المنطقة أنها تعرضت للغطاء الجليدي طوال عصر البليوستوسين، مما أدى إلى تكوين غطاء صخري أجرد وأملس في عدة نواح، وإلى حصول الحفر الواسعة التي تمتلئ بالمياه في صورة مستنقعات، وإلى تكوين البحيرات الصغيرة المتعددة عند نهايات المورين الجليدي.
خريطة رقم (7): كندا: الصورة العامة لاستخدام الأرض: (1) أراضي التندرا. (2) الغابات المخروطية. (3) الاستخدام الزراعي والرعوي. (4) حدود التندرا الجنوبية. (5) حدود الاستغلال الزراعي. (6) الحدود الجنوبية التقريبية للشمال الكندي.
كما أن هذا التكوين للغطاء الصخري، عبر التاريخ الجليدي في البليوستوسين قد أدى إلى أن تكون معظم الأنهار غير عميقة المجاري إلا في مناطق الانكسارات والجيوب، وإلى ضعف خطوط تقسيم المياه نتيجة عدم الارتفاع التضاريسي في معظم الجهات، وإلى تشابك مياه الينابيع في عدد من المناطق لوجود البحيرات الضحلة التي تنصرف مياهها إلى اتجاهين أو أكثر لضعف الانحدار، ومن أهم الأمثلة على ذلك، التصريف النهري في شمال شبه جزيرة لبرادور جنوب شبه جزيرة أنجافا
Ungava
حيث ترتبط المياه المنصرفة إلى خليج هدسن مع تلك المنصرفة إلى خليج أنجافا.
والصورة العامة للتضاريس في المنطقة هي سهل عظيم يحيط بخليج هدسن وخليج جيمس ويمتد على طول السواحل الشمالية وسواحل لبرادور الشمالية، وتضيق مساحة السهول في الشمال الغربي نظرا لاقتراب سلاسل الجبال الالتوائية الحديثة - الكورديليرا - الكندية التي تغطي غالبية السكان، وترتفع إلى ارتفاعات كبيرة في جبال ماكنزي - غربي وادي ماكنزي، وسلسلة بروكس في شمال ألسكا، وكذلك ترتفع الأراضي في منطقة شبه جزيرة لبرادور، لكنها لا تصل إلى الارتفاعات العالية في الشمال الغربي، فمتوسط الارتفاع في وسط شبه جزيرة لبرادور يترواح بين 800 وألف متر، بينما ترتفع المنطقة الجبلية في الشمال الغربي إلى ما بين 1500 متر وأكثر من ألفي متر.
ويتكون الأرخبيل الكندي من عدة جزر كبيرة وصغيرة - أكبرها جزيرتي بافن واليزمير وفكتوريا - معظمها جزء من السهل الشمالي الكندي، لكن ارتفاع منسوب البحر قد فصلها عن اليابس القاري، وتتميز جزيرتا بافن واليزمير بارتفاع عام في مناسيبها الكونتورية، وخاصة في شرق بافن التي ترتفع إلى مناسيب في حدود ألفي متر.
ويمتلئ السهل بمئات البحيرات الكبيرة والصغيرة، وأكبر هذه البحيرات تتركز في المنطقة الغربية والشمالية الغربية من هذا الإقليم: بحيرات جريت بير (الدب الكبير) مساحتها 12 ألف ميل مربع، وجريت سليف (القن الكبير) 11,1 ألف ميل مربع، وأتبسكا 3000 ميل مربع (بالترتيب من الشمال إلى الجنوب)، وكلها تتصل بتصريف نهر ماكنزي الذي ينبع من الكورديليرا الكندية، ويتجه شمالا بغرب إلى أن يصب في بحر بوفور في مسار أوله 2635 ميلا (بالمقارنة بالأنهار السيبيرية التي تبلغ أطوالا أكبر: أوب طوله 4360 ميلا، ينسي 2800 ميلا، ولينا 2652 ميلا). وهناك مجموعة أخرى من البحيرات الأصغر حجما تقع إلى الشرق من حوض ماكنزي أكبرها بحيرة ريندير (بحيرة الرنة) التي تتصل بتصريف نهر تشرشل الذي ينبع من البراري الكندية العليا ويصب في خليج هدسن، وفي شبه جزيرة لبرادور توجد مجموعة من البحيرات ذات المساحة الصغيرة والامتدادات الطويلة، وأكبر تجمع لهذه البحيرات يوجد في هضبة لبرادور الوسطى حيث تتصل البحيرات بعضها ببعض في غالبية الأحيان، وكذلك توجد بحيرات صغيرة عديدة حول خليج هدسن وخليج جيمس.
وباستثناء نهر ماكنزي، فإنه لا توجد هنا سوى أنهار قصيرة مثل تشرشل ونلسون اللذان يصبان على الساحل الغربي لخليج هدسن، ونهر تشرشل الذي ينبع من بحيرات لبرادور الوسطى ويصب في خليج جوس وأترباي الطويل في شرقي لبرادور.
والسواحل الكندية تتراوح بين الاستقامة في منطقة هدسن وأجزاء كثيرة من الساحل الشمالي الغربي، وبين التعقيد والتداخل الشديد في صورة خلجان واسعة وفيوردات عميقة في ساحل لبرادور وبافن واليزمير، ومنطقة كيواتين وبوثيا شمال خليج هدسن.
أما الظروف المناخية فهي مشابهة للشمال السوفيتي من حيث تنوعها في أقسام عديدة من الشمال الكندي، لكنها كلها ذات ظروف مناخية تتسم بالبرودة الشديدة في المتوسط السنوي.
ففي يناير تنخفض معدلات الحرارة عن ناقص 30 درجة مئوية تحت الصفر في منطقة كيواتين وبوثيا والأرخبيل الكندي، وكذلك في منطقة الساحل غربي مصب ماكنزي وجبال بروكس شمال ألسكا.
أما بقية الشمال الكندي فتنخفض فيه درجة الحرارة إلى ما بين 20 وناقص 30 درجة مئوية تحت الصفر، وفي يوليو ترتفع درجة الحرارة كثيرا، ففي منطقة كيواتين والساحل الشمالي الغربي والأرخبيل الكندي تصل الحرارة إلى ما بين حوالي الصفر و10 درجات مئوية فوق الصفر، بينما ترتفع الحرارة في لبرادور ومعظم سهول هدسن وماكنزي إلى ما بين 10 و20 درجة مئوية فوق الصفر.
ومعنى ذلك أن هناك مدى حراري سنوي كبير يتراوح بين 30 و40 درجة مئوية بين حرارة الشتاء والصيف.
وتقع المنطقة كلها تحت تأثير الضغط الجوي المرتفع في الشتاء، ومركز هذا الضغط الجوي منطقة ماكنزي الأدنى، ويؤدي ذلك إلى اتجاه عامة الرياح من الشمال إلى الجنوب مع قلة واضحة في قوة الرياح، وأما في الصيف فإن الضغط الجوي العام يتحول إلى الانخفاض، وتصبح منطقة بافن مركزا لضغط جوي منخفض مما يؤدي إلى كثرة الأعاصير والرياح العاصفة.
خريطة رقم (8): الشمال الكندي: المراكز العمرانية: (1) المراكز الإدارية. (2) عمران مدني قائم على تعدين الخامات. (3) مجتمعات (50 شخصا وأكثر) مستقرة بدون قاعدة اقتصادية حقيقية. (4) الحد الجنوبي التقريبي للشمال الكندي.
ويترتب على ذلك أن معظم كمية المطر الساقط تحدث في خلال الصيف حيث تتراوح كمية المطر الساقطة بين 500 مليمتر في شبه جزيرة لبرادور وجنوب خليج هدسن إلى 125 مليمترا في منطقة ماكنزي، بينما تقل الأمطار عن ذلك في كيواتين والأرخبيل الكندي.
ويمكن أن نقيس قسوة المناخ السنوي بتعداد الأيام التي تخلو من الصقيع أو الأيام التي يمكن أن تعدها صالحة للنمو النباتي، فشمال لبرادور ومنطقة كيواتين والأرخبيل لا تتمتع بأكثر من 50 يوما في المتوسط تكون خالية من الصقيع، وفي الوقت نفسه لا تزيد الأيام الصالحة للنمو النباتي عن خمسين يوما، أما بقية المنطقة فترتفع فيها الأيام الخالية من الصقيع إلى مائة يوم، وكذلك فترة النمو النباتي ترتفع إلى عدد مماثل من الأيام، لكن جنوب لبرادور وجنوب خليج جيمس وهدسن تتمتع بموسم نباتي يصل إلى 150 يوما، ومن ثم فهي مناطق الغابات المخروطية الواسعة الموجودة في هذا الإقليم.
ويرتبط بالنمو النباتي فترات سطوع الشمس، وتدل الدراسات المختلفة على أن متوسط عدد ساعات سطوع الشمس في السنة في منطقتي الأرخبيل وكيواتين غير معروف على وجه الدقة، لكنه قد يكون أقل من 1500 ساعة، وبقية الشمال الكندي تتراوح فيه ساعات سطوع الشمس السنوية ما بين 2000 و1500 ساعة، بينما ترتفع الساعات إلى 2500 ساعة سنويا في جنوب لبرادور وجنوب خليجي جيمس وهدسن.
وقد أدت هذه الظروف المناخية عامة إلى أن منطقة شمال لبرادور وكيواتين والأرخبيل الكندي والساحل الشمالي الغربي هي منطقة مناخ ونبات التندرا الحقيقية، بينما يتمتع بقية الشمال الكندي بظروف مناخية معدلة - ولو أن الشتاء قارس البرد جدا.
ويمكن أن يقسم الشمال الكندي إلى أقسام أو أقاليم رئيسية أربعة هي: (1)
المنطقة الشرقية المرتفعة (شبه جزيرة لبرادور في قسمها الجنوبي والأوسط). (2)
سهول البحيرات الكندية (يمتد حول خليج هدسن بحيث يشمل شمال شبه جزيرة لبرادور)، ويمتد غرب الخليج حتى بحيرة أتبسكا . (3)
الشمال الأقصى الكندي (الذي يمتد من شمال غربي هدسن إلى الساحل الشمال الغربي حتى ألسكا). (4)
الأرخبيل الكندي الشمالي.
أولا: المنطقة الشرقية
تبلغ مساحتها حوالي نصف مليون ميل مربع، ويقدر سكانها بحوالي ربع مليون شخص، ويضم هذا القسم أجزاء من ولايات لبرادور وكوبيك وأنتاريو، ولا توجد في هذه المنطقة مدن كبيرة، بل صغيرة ومتوسطة، وأهم المدن هي تيمنز
Timmins
في ولاية أنتاريو في منتصف المسافة بين خليج جيمس وبحيرة هورون، ويبلغ عدد سكانها نحو 30 ألف شخص تليها روين القريبة منها - لكنها داخل حدود ولاية كويبك، ويبلغ عدد سكانها حوالي 19 ألف شخص، ومجموعة أخرى من المدن الصغيرة التي يقل سكانها عن عشرة آلاف شخص.
والمنطقة عامة تقع شمال حد الزراعة، ولا تزيد المساحة التي يمكن أن تصنف على أنها أرض زراعية على 1,5٪ من مجموع مساحة المنطقة، وأكثر من نصف المساحة مناطق أعشاب تتخللها الكثير من الأشجار، أو خالية من الأشجار، والأشجار كلها في الغالب من النوع المخروطي الإبري الورق، وتبلغ مساحة الغابات حوالي ربع مليون ميل مربع، وأجزاء كثيرة منها تستغل كمورد جيد للأخشاب، خاصة وأن مناطق السوق الواسعة في حوض سنت لورنس والبحيرات العظمى قريبة جدا منها.
وتدل الدراسات الطبيعية على أن الغطاء الجليدي قد استمر في هذه المنطقة فترة طويلة ولم ينقشع إلا منذ حوالي عشرة آلاف سنة، وأنه كان غطاء سميكا - حوالي 3000 متر سمك، ونظرا لحداثة انقشاع الجليد فإن أشكال السطح ما زالت عليها مظاهر الحداثة، فهناك مساحات كبيرة من الصخر العاري عن أي نوع من التربة والنبات، ومساحات أخرى تغطيها طبقة رقيقة من التربة الخشنة، وبقايا المورين الجليدي المتراجع، ويترتب على ذلك أن التصريف النهري معقد وغير منتظم، ولا يكون نظما نهرية رئيسية، وكذلك تظهر أحواض صغيرة منعزلة معظمها مليء بالمياه، وأحيانا تنصرف مياه إحدى البحيرات تماما إلى نظام نهري، وتخلف وراءها مناطق رسوبية مسطحة.
خريطة رقم (9): شرق الشمال الكندي.
وبالنسبة لساحل لبرادور نجد أن الجليد قد أدى إلى تكوين أودية عميقة غرقت فيما بعد وكونت الفيوردات العميقة العديدة المميزة لهذا الساحل، وعند فتحات الفيوردات يوجد كثير من المراكز التجارية التي حلت محل مراكز تجارة الفراء السابقة، وتمثل جوس باي أكبر مدن المنطقة الساحلية ، وهي تقع على رأس فيورد معروف باسمها ويتوغل داخل اليابسة لمسافة تزيد عن 300 كيلومتر، وقد كانت جوس باي، ولفترة محدودة، مركزا هاما لكثير من الطائرات العابرة للأطلنطي، على نحو مماثل لمطار جاندر في جزيرة نيوفوندلاند القريبة، ولكن زيادة مدى الطائرات وسرعتها قد أدى إلى هجر مثل هذه المطارات المتوسطة، ومن ثم تدهورت كل من جوس باي وجاندر، ومع ذلك فإن جوس باي ما زال مستخدما كمطار للطوارئ، وقاعدة حربية خاصة وأن المنطقة لا يتكون فيها الضباب كثيرا مثل جاندر.
وفي منطقة وسط شبه جزيرة لبرادور يوجد أخدود طويل يمتد من خليج أونجافا في اتجاه الجنوب إلى وادي نهر هاملتون، وفي هذا الأخدود تظهر تكوينات كثيرة من الصخور الحاملة لخام الحديد المماثل لحديد جليفار في السويد، وقد عرفت مصادر الحديد هذه من فترة طويلة، لكن بعد المنطقة وعدم وجود مواصلات، وصعوبة إنشاء خط حديدي قد أدت إلى ترك هذه الثروة المعدنية الجيدة دون استغلال لمدة تزيد عن نصف قرن.
ولما جاءت الحرب العالمية الثانية، وانقطع استيراد الحديد السويدي عن الولايات المتحدة، وخوفا من ألا تستطيع مناجم الحديد الأمريكية في منطقة بحيرة سوبيرير إمداد الصناعة الأمريكية بما تحتاجه، فقد بدأ التفكير في استغلال حديد لبرادور بدخول عدة شركات صناعية أمريكية وكندية في شركة واحدة، وتم بناء خط حديدي من شيفرفيل إلى ست أيل عند خليج سانت لورنس - بلغ طوله حوالي 550 كيلومترا، ونقلت أول شحنة من الحديد عام 1954، ومدت خطوط فرعية إلى مناطق تعدينية أخرى بالقرب من الخط الحديدي مثل لبرادور ستي.
وكذلك اكتشف الحديد في جانيون
Gagnon
إلى الجنوب الغربي من شيفرفيل، ومد خط حديدي مستقل منها إلى بور كارتيه القريب من ست أيل، بلغ طوله 300 كيلومتر.
ونظرا لأن عمليات استخراج الحديد تسير وفقا لأحدث الوسائل الآلية، فإن عدد العمال قليل، ومن ثم عدد سكان هذه المدن التعدينية قليل أيضا، فمدينة شيفرفيل يقل سكانها عن ثلاثة آلاف شخص، بينما لا يزيد سكان لبرادور ستي عن 1500 شخص.
وإلى جانب الحديد فإن هناك مناطق تعدينية في الأطراف الجنوبية الغربية من هذا الإقليم مثل خام الحديد والنحاس في منطقة شيبوجامو، والذهب في روين، وفي المنطقة أيضا كانت توجد خامات الكوبالت والفضة، لكنها كادت أن تنفذ لطول فترة تعدينها منذ 1904، ويكون الذهب المادة الخام الأولى في تيمينيز ومنطقة كيركلاند، كما أن الحديد بدأ يعدن أيضا في منطقة كيركلاند.
وعلى العموم فإن المنطقة عامة غنية بالمعادن، وتقدر قيمة المنتج من المعادن فيها بحوالي 40٪ من كل معادن كندا، وتدل قائمة المدن في المنطقة على أن التعدين بصورته الآلية الراهنة، لا يمكن أن يؤدي إلى زيادة في عدد السكان، بل يؤدي هذا العدد القليل من السكان إلى ضيق السوق الذي يمكن أن يستوعب منتجات زراعية؛ ومن ثم فإن التوسع الزراعي غير متوقع في هذا الإقليم، والزراعة الحالية لا تمارس إلا في المناطق الجنوبية القصوى التي تسمح فيها الظروف الطبيعية والمناخية بإمكانية نمو النباتات، فموسم النمو لا يزيد عن ثلاثة أو أربعة أشهر، مما يؤدي إلى إمكانية زراعة بعض الخضروات والقليل من الحبوب المقاومة للبرد وأنواع من النبات الدرنية.
وتزرع هذه الحدائق الصغيرة في أماكن محمية داخل الوديان من أجل تأمين الطعام للمجتمعات التي تعيش على التعدين، والتحطيب ورجال السكك الحديدية، وحيوانات المزارع قليلة العدد، ويمكن أن تعيش على المراعي القليلة التي تنمو خلال الصيف القصير الأمد داخل النطاق الغابي.
ووسائل النقل التجاري في المنطقة محدودة، فهناك خط حديدي ينتهي إلى موسوني على خليج جيمس، ويصل إلى كوشران، ومنها يمتد خط حديدي غربا إلى وينيبج، وجنوبا إلى تورنتو وشرقا إلى كويبك، ومن كوشران أيضا تمتد خطوط حديدية فرعية إلى مناطق التعدين القريبة من شيبوجامو وتيمينز وروين، وكذلك افتتحت شركات قطع الأخشاب عدة طرق خاصة، وذلك للاستفادة قدر الإمكان من الطرق النهرية الموجودة والمتجهة جنوبا إلى منطقة سانت لورنس، حيث يتمركز السوق الأساسي لاستيعاب الأخشاب المقطوعة، وأهم هذه الأنهار هو نهر أوتاوا الذي تقع عليه العاصمة الاتحادية لكندا، وتوجد عليه أيضا مصانع كثيرة لقطع الأخشاب وصناعة الورق.
ثانيا: سهل البحيرات الكندي
تبلغ مساحة هذا السهل حوالي 300 ألف ميل مربع أو نحو مليون كيلومتر مربع، ويبلغ عدد السكان حوالي مائة ألف شخص - وهذا الرقم تقديري وليس إحصائي لنقص وسائل الإحصاء، والمدن قليلة جدا وصغيرة أكبرها:
المدينة
عدد السكان
فلين-فلون (داخل ولاية مانيتوبا)
11000
ذي باس (ولاية مانيتوبا)
4750
تومسون (ولاية مانيتوبا)
2250
ماكموري (ولاية ألبرتا)
1200
خريطة رقم (10): الشمال الكندي.
وهناك عدد آخر من المدن أقل سكانا من المدن الأربع المذكورة، مثال ذلك الدورادو في ولاية ساسكتشوان قرب بحيرة أتباسكا، وكذلك فون دي لاك بالقرب منها، فوراي هاوس إلى الشمال من بحيرة وينيبج في ولاية ماينتوبا، وتشرشل عند مصب نهر تشرشل على خليج هدسن، وكلها يقل سكانها عن ألف شخص.
والمنطقة عامة خارج منطقة الزراعة الممكنة، ولعل 1٪ من مساحة المنطقة يمكن أن يدخل ضمن نطاق الزراعة، وحوالي نصف ذلك حشائش ومراع، والغطاء النباتي الطبيعي يتكون من الغابات المخروطية الإبرية الورق الكائنة في الجزء الجنوبي، وتتدرج إلى غابات مخروطية متناثرة وأقل كثافة في القسم الأوسط، ثم التندرا في الشمال، ويمكن أن يقال: إن نصف المساحة تقريبا من أشجار يمكن أن تستغل اقتصاديا، ولكن الاستغلال الفعلي قليل جدا.
وباستثناء عدم وجود المرتفعات، فإن المنظر الطبيعي في هذه المنطقة يشابه ذلك الذي وصفناه في الإقليم الشرقي، مع وجود نظم نهرية أكبر.
والنشاط الاقتصادي الأساسي يتمركز حول صيد حيوان الفراء الذي ينتشر في كل الإقليم، بالإضافة إلى التعدين الجاري في نقاط محدودة، والمواصلات تعتمد على طرق برية حصوية، وعلى قوارب «الكانو
Canoe » التقليدية خلال فصل الصيف، ودخلت المواصلات الجوية المنطقة لخدمة مراكز التعدين والتحطيب النائية، وبطبيعة الحال لا يوجد بريد بالمعنى المفهوم، وتحل الرسائل اللاسلكية محل الخطابات التقليدية.
وعلى عكس النظم النهرية في الشمال السوفيتي - حيث يمكن استخدامها في النقل بالرغم من العوائق التي سبق ذكرها، فإن أنهار كندا أكثر تعقيدا لحداثة المظاهر الجليدية وكثرة الركامات الجليدية داخل الأحواض المائية.
وهناك خط حديدي يربط ميناء تشرشل على خليج هدسن بمدينة ريجينا في جنوب ولاية ساسكتشوان، وكان هناك هدف قديم من مد هذا الخط الحديدي، وهو إمكانية استخدام ميناء تشرشل لتصدير قمح البراري الكندية خلال موسم الصيف، لكن ذلك لم ينفذ إلا على نطاق ضيق، حتى قبل فتح طريق سنت لورانس الملاحي، وأصبحت أهمية هذا الخط الآن هي نقل منتجات بعض المناطق التعدينية الصغيرة المتناثرة، ومن أهم مناطق التعدين تومسون التي تنتج النيكل، ويوجد بها مصنع لصهر الخام المنتج، وقد مد خط حديدي فرعي من تومسون إلى خط حديد تشرشل، أما الطاقة المستخدمة في معمل النيكل في تومسون فتستمد من محطة الطاقة التي أقيمت على نهر نلسون المجاور عند جراند رابيدز منذ عام 1957.
ويمثل نمو مدينة تومسون مدن الشمال الكندي التي تنمو على أساس استغلال الموارد التعدينية المحلية للمعادن غير الحديدية، فمثلا أنشئت مدينة على بحيرة «لين» عام 1954 لتشغيل النيكل والنحاس والكوبالت، وفي المرحلة الأولى أقيمت مساكن نقلت من مدينة الأشباح التعدينية شيردون، وتتصل المدينة الجديدة بخط حديد رجينا-تشرشل عند مدينة الباس الذي يتجه إلى مدينة فلن فلون التي تعمل في تعدين النحاس والزنك والفضة والكادميوم والسيلنيوم، والتي تنتج الذهب أيضا كإنتاج ثانوي من هذه الخامات، ويمتد هذا الخط الفرعي شرقا أيضا إلى منطقة تعدين جديدة في سنوليك
Snow Lake ، أما مدينة ماكموري - على بحيرة أتباسكا، فتتصل بخط حديدي فرعي إلى مدينة أدمنتون.
وخلاصة القول أن هذا الإقليم فيه إمكانيات تعدينية لا بأس بها، لكن استغلالها يعتمد على فتح طرق الاتصال.
ثالثا: الشمال الأقصى الكندي
المساحة: حوالي مليون وربع المليون من الأميال المربعة - أقل قليلا من أربعة ملايين كيلومترات مربعة، عدد السكان لا يتجاوز 25 ألف شخص، وثلث هؤلاء أوروبيون، والثلثان إسكيمو أو الأمريند، هذا الإقليم خارج تماما عن حدود الزراعة، ولا تزيد المساحة التي تصنف على أنها قابلة للزراعة عن 150 ميلا مربعا فقط، والغطاء النباتي الطبيعي في أساسه تندرا أو تندرا تتناثر فيها بعض الأشجار، أما الغابات التي يمكن أن تستغل اقتصاديا فلا تبلغ أكثر من 2٪ من المساحة العامة للأقاليم.
والقسم الشرقي المطل على خليج هدسن إلى بحيرتي الدب الكبير والعبد الكبير يتكون من الرصيف الكندي ذي الصخور البلورية القديمة، أما حوض ماكنزي فيتبع في تكوينه نمط السهول العظمى الأمريكية الوسطى، وعلى العموم فالمنطقة كلها كانت إلى فترة قريبة تقع تحت وطأة التعرية الجليدية، ومعظم المنطقة يقع تحت الصفر بكثير شتاء وصيفا، وباستثناء بعض الطرق الحديدية والبرية القليلة في أعالي ماكنزي فإن كل الإقليم خالية من وسائل الانتقال، وكذلك لا توجد قرى أو مدن بالمعنى المفهوم إذا استثنينا بعض مناطق التعدين المحدودة وتجمعات الإسكيمو، وتظهر بعض تجمعات للغابات المخروطية، وخاصة حول نهر الماكنزي والبحيرات، لكنها بعيدة جدا عن مناطق الاستغلال الاقتصادي، والزراعة في هذه الأراضي ذات الصقيع الدائم غير ممكنة حتى في الطبقة السطحية - بضعة سنتيمترات - التي يذوب فيها الصقيع خلال صيف قصير.
والحرفة التاريخية للمنطقة هي الفراء، ولكن نتيجة الاستغلال المنظم الذي بدأته شركة خليج الهدسن، منذ القرن السابع عشر، فإن موارد المنطقة من الفراء قد هبطت كثيرا، ولا تزال هناك مناطق محدودة توجد فيها أنواع من حيوان الفراء مثل الثعلب الأبيض والأحمر، والبيفر واللينكس والأرمين وغيرها، لكن تجارة الفراء في هذه المناطق تعوقها الأبعاد الشاسعة في هذا الإقليم القطبي الخالي من الطرق، وتنتج المنطقة 5٪ فقط من قيمة الفراء الكندية.
وتأثير البعد الجغرافي للإقليم ينعكس في تاريخ استغلال البترول في حوض الماكنزي، لقد اكتشف البترول في أوائل العشرينيات في نورمان ويلز قرب اتصال بحيرة الدب الكبير بالماكنزي، ولم تستغل هذه الآبار إلا في خلال الحرب العالمية الثانية حينما مد خط أنابيب إلى طريق ألسكا عند هوايت هورس، ومنذ ذلك التاريخ يكرر معمل نورمان ويلز ما يقرب من نصف مليون برميل سنويا، وبذلك يغطي نصف احتياجات الشمال الأقصى الكندي.
وقد اكتشفت خامات الفضة الحاملة للراديوم سنة 1930 عند خليج أيكو على الساحل الشرقي لبحيرة الدب الكبير في التجمع السكني المعروف باسم بورت راديوم، وقد ترتب على ذلك أن أصبحت هذه المنطقة على رأس العالم في إنتاج الراديوم، لكن ذلك العهد انقضى فلم تعد بورت راديوم تنتج الراديوم، وعند بحيرة أتباسكا وجدت خامات اليورانيوم والراديوم والفضة والكوبالت التي تنتج في منطقة يورانيوم سيتي، لكن تكلفة الإنتاج عالية جدا في الوقت الذي يتذبذب فيه سوق المواد المشعة كثيرا، ولا تزال بلدة يلو نايف - 3250 شخص - عند بحيرة العبد الكبير منطقة تعدين للذهب منذ 1938، وعلى وجه العموم فإن حافة الصخور البلورية الغربية التي تكون الرصيف الكندي منطقة غنية بالمعادن: كوبالت، تنجستن، يورانيوم، نيكل، نحاس، رصاص، زنك، بريليوم، لكن استغلال هذه المعادن النادرة في معظمها لم يبدأ؛ لأن التقدير الدقيق لهذه الخامات لم يتم بعد.
ويكون نهر ماكنزي طريقا طوله 2600 كيلومتر تقريبا من مصبه عند إينوفيك-إكلافيك إلى بحيرة أتباسكا بالإضافة إلى الملاحة الممكنة في داخل البحيرات الثلاث الشمالية الداخلية، وفي حوض هذا النهر، ولقد تم مد خط حديدي عام 1960 من مدينة روما إلى نهر هاي على الساحل الجنوبي لبحيرة العبد الكبير حيث مناجم الرصاص والزنك، ويبلغ طول هذا الخط 650 كيلومترا، كما أن هناك طريقا لكل الأجواء يربط يلو نايف بطريق ماكنزي الرئيسي الذي يمتد من ولاية ألبرتا إلى نورمان ويلز.
وتجمعات الإسكيمو توجد على الساحل الشمالي، وهي قليلة العدد وصغيرة في الوقت نفسه، والإسكيمو على عكس الأمريند - لا يعيشون في تجمعات قبلية، لكن في عصب قليلة العدد مكونة من أسرتين إلى ثلاث أسر، والحرفة التقليدية لديهم هي الصيد البحري شبه المتنقل، ومساكنهم خلال الصيف تتكون من الخيام المصنوعة من جلد الفقمة، وفي الشتاء من الأيجلو أو المساكن الحجرية، ورحلات الصيد الشتوية تتم بواسطة زحافة الكلاب، والصيد الصيفي يتم بواسطة قوارب الكاياك المصنوعة أيضا من جلد الفقمة، أو القوارب الكبيرة التي تتسع لعدة أفراد من الصيادين، ولقد كان دخول البندقية أمرا جعل صيد الفقمة سهلا بدرجة كبيرة عن الصيد التقليدي بواسطة الهاربون أو الرمح، ولكن كثرة استخدام السلاح الناري يؤدي إلى استهلاك أكبر للحياة الطبيعية، ويهدد بنقص سريع وتدمير للموارد الاقتصادية في الإقليم.
وكذلك دخلت مؤخرا قوارب تسير بالديزل من أجل صيد الحيتان، ولكن بوجه عام فإن إمكانية استغلال المنطقة من أجل الصيد التجاري ما زالت إمكانية ضئيلة لقلة المواصلات الداخلية والخارجية.
وبالرغم من التأقلم التام بين الإسكيمو والظروف الطبيعية للإقليم، فإن تأثير الاتصال مع الحضارة الحديثة قد نجمت عنه آثاره السيئة: تعاطي السكان للخمور، وتعرضهم لكثير من الفيروسات الضارة التي لا توجد لديهم مناعة ضدها، فموجات الإنفلونزا بين الإسكيمو تقتلهم بوحشية، وكذلك ظهر السل بشدة لعدة سنوات، لكن جهود الحكومة الكندية قد بدأ يعطي ثمارا جيدة، ولكن أخطر المشاكل هي أن عددا كبيرا من الإسكيمو أصبحوا معتمدين على معونة الحكومة في صور شتى: النواحي الخيرية والاجتماعية وشئون التغذية والتعليم الابتدائي والمهني والإسكان الدائم.
ولكن أهم ما قدمته الحكومة الكندية للإسكيمو هو تعليم تربية الكاريبو، ويقوم بعض الإسكيمو الذين يربون الكاريبو الآن بالهجرة مع هجرة الحيوان من التندرا إلى النطاق الغابي حول منطقة مصب الماكنزي والجبال الغربية، ولعل أنجح مجموعات الإسكيمو في هذا المجال الاقتصادي الجديد هي تلك التي توجد في وادي هورتن وأندرسون إلى الشرق قليلا من مصب ماكنزي، ولقد أثر ذلك على الاستقرار الغذائي للإسكيمو بدلا من الاعتماد المتذبذب على الصيد البحري، أو صيد الفراء.
رابعا: الأرخبيل الكندي
المساحة حوالي 550 ألف ميل مربع - حوالي مليون ونصف كيلومتر مربعا.
عدد السكان حوالي ستة آلاف شخص غالبيتهم الساحقة من الإسكيمو والأمريند.
كل أشكال الاستقرار السكني غير دائمة فيما عدا مدينة ليك هاربور على الساحل الجنوبي لجزيرة بافن، وباستثناء الغطاء الجليدي الدائم فإن النبات الطبيعي يتبع نمط التندرا، ومعظم المنطقة غير مأهولة، ومعظم الأرخبيل يقع شمال الدائرة القطبية الشمالية، ويعيش الإسكيمو على السواحل لكي يمارسوا صيد البحر التقليدي؛ لأن داخلية الجزر لا تعطي هؤلاء السكان أي مصدر معاشي.
وقد تكونت عدة جمعيات تعاونية لتحسين أحوال الإسكيمو، وبعض هذه التعاونيات تنظم صيد الفقمة وبيع منتجاتها، سواء لأولئك المقيمين في الأرخبيل أو على الساحل الشمالي لكندا أو غرب جزيرة بافن، وهناك تعاونيات أخرى لتشجيع الفنون التشكيلية الإسكيماوية غرب بافن، ومنها تنقل إلى الأسواق في كندا والولايات المتحدة.
وهناك نوع دخيل من الاستقرار الدائم مرتبط بخط الإنذار المبكر الدفاعي
DEW
المتكون من محطات رادار وقواعد جوية للطائرات والصواريخ، ومعظمها عبارة عن قواعد تابعة للولايات المتحدة الأمريكية.
وهناك احتمالات قوية لوجود المعادن والفحم، لكن ذلك لم يتم بحثه على وجه الدقة، كما أن احتمالات استغلاله صغيرة في مثل هذه الظروف الجغرافية القاسية، مع قلة وسائل الانتقال والأبعاد المكانية الشاسعة التي تفصل بين هذه المناطق وبين أسواق الاستهلاك الرئيسية الموجودة في مناطق الكثافة السكانية ومناطق الحضارة الصناعية في جنوب كندا ومعظم الولايات المتحدة.
القسم الثاني
نورديا1
دراسة لشمال أوروبا
مقدمة
تكون الدول الخمس الأوروبية الشمالية: دول اسكندنافيا الثلاث السويد والنرويج والدنمارك، ودولتا فنلندا في الشرق وأيسلندا في الغرب، إقليما واضح المعالم من القارة الأوروبية، وهذا الإقليم الذي يسميه أهل اسكندنافيا باسم نورديا أي الشمال، لا يتميز فقط بظروف جغرافية طبيعية، متشابهة، ولكن تميزه وتفرده يرجع بدرجة أكبر إلى تاريخه وحضارته، وهما رابطتان قويتان وحدتا سكان هذا الإقليم، ففي هذه الدول الخمس نجد شعوبا من أصل مشترك ولغة مشتركة - بالإضافة إلى أقليات سلالية ولغوية، والغالبية الساحقة من السكان في الدول الخمس تدين بدين واحد، وفي الدول الخمس أعداد السكان قليلة والموارد الاقتصادية في عمومها محدودة وغير متوازنة، وبرغم قلة الأرض الجيدة في الدول الخمس التي تكون أراضي هامشية بالنسبة لمساحة كل دولة، فإن مستوى المعيشة هو من أعلى المستويات في أوروبا، كما أن مستوى الصحة والتعليم والرخاء الاجتماعي في نورديا من أعلى مستويات العالم، ويشترك سكان نورديا في وجهات نظر مشتركة في النواحي الاقتصادية والاجتماعية، ويسهمون قدر الإمكان في الإبقاء على شخصيتهم، وخلاصة القول أن أمم نورديا موحدة في شتى الصور عدا الوحدة السياسية.
ودراستنا لهذه الدول تحدوها الرغبة في فهم واستطلاع هذا النوع من الدول الأوروبية المنعزلة نسبيا: أسماؤها غير لامعة، ودورها في حياة القارة أقل بكثير من دور بعض الأمم الأوروبية مثل فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا أو الاتحاد السوفيتي ، وظروفها المناخية قاسية، والتربة الزراعية قليلة، ومع ذلك تقف على رأس دول العالم في نواح معينة، ومن الناحية السياسية موقف هذه الدول غريب. في أوروبا تمت وحدات أممية كثيرة: الوحدة الألمانية أكبرها، ولكن هذه الدول الشمالية لم تسع للوحدة برغم اشتراكها في كثير من طبائع الحياة والحضارة، بل على العكس نجد لكل من هذه الدول دورا سياسيا خاصا ومختلفا عن جيرانها، وفي عالم المعسكرات العالمية المعاصرة اختلفت اتجاهات هذه الدول الخمس اختلافا بينا في دور كل منها في المواقف الدولية المعاصرة: «الحرب الباردة» - «التعايش السلمي» - «استراتيجية السلام العالمي»، لكي نفهم هذه الموضوعات جميعها، ونعرف ماذا يمكن أن يئول إليه مصير هذه الدول، علينا أن ندرس صفاتها العامة الجغرافية والحضارية ثم نتناول كلا منها على حدة.
الفصل الأول
الأوضاع الجغرافية
مكونات نورديا وموقعها
تقع نورديا في شمال أوروبا مما جعلها تتمتع بنوع من الانفصال عن بقية القارة، ولكن هذا الانفصال ليس تاما كما هو حادث في بريطانيا وأيرلندا، ولهذا لم يكن أمام دول نورديا الفرصة المماثلة للخروج تماما عن مؤثرات القارة الأوروبية، هذا التأثير من القوى الأوروبية المجاورة لم يكن دائم الحدوث، ولكنه في فترات التأثير يصبح عاملا حاسما في تشكيل دول الشمال.
وانفصال نورديا عن أوروبا غير كامل؛ لأن نورديا تتكون من أشباه جزر باستثناء أيسلندا، فهناك شبه جزيرة وجزر الدنمارك، وما يشبه شبه الجزيرة في فنلندا، وأكبر شبه جزيرة في نورديا تتقاسمها كل من السويد والنرويج، أما بحر البلطيق وخليجا فنلندا وبوثنيا فيكونان حدود نورديا الشرقية، ومضايق السوند والكاتيجات وسكاجراك تكون الحدود الجنوبية، بحر الشمال وبحر النرويج يكونان الحدود الغربية والبحر الأبيض والمحيط الشمالي تكون الحدود الشمالية لها، وتغطي الجبال الالتوائية الوعرة غربي سكاندينافيا وتغطي نورديا مساحات شاسعة من الغابات المخروطية والآلاف من البحيرات والمستنقعات، وربما كان ذلك سببا من أسباب عدم تشجيع الهجرة من الشرق إلى أشباه الجزر النوردية، برغم العرض الكبير لليابس الفاصل بين خليج فنلندا والبحر الأبيض.
وبين طرف خليج بوثنيا وخليج كندلاكشا - الامتداد الغربي للبحر الأبيض - توجد مسافة لا تزيد عن 350كم، وإلى الشمال من هذا الخط يوجد اثنان من أشباه الجزر هما: (1)
شبه جزيرة كولا التي تقع كلها داخل الاتحاد السوفيتي . (2)
شبه جزيرة سكندينافيا الممتدة إلى الجنوب الغربي مسافة 2000كم، وهي تنقسم في الجنوب إلى قسمين بواسطة مضيق سكاجراك وفيورد أوسلو، مما يتكون معه مركزان أرضيان منفصلان نشأت في كل منهما نواة دولتي السويد والنرويج، ولكن ليس معنى هذا أن تعرجات اليابسة في داخل أشباه جزر فنوسكانديا قد أدى إلى فصل كل منها إلى دول ثلاث، بل الواقع أن الأحداث التاريخية والحضارية هي المسئولة عن التعدد السياسي في هذه المنطقة المتشابهة.
وإلى جانب الربط الأرضي لنورديا في منطقة فنلندا، فإن الجزء الجنوبي من نورديا المشتمل على الدنمارك، يربطه أيضا بأوروبا امتداد أرضي في شبه جزيرة جوتلند، وعرض هذا الامتداد 65كم فقط، ولكنه أهم بكثير من الرابط الأرضي الفنلندي، لانعدام وجود الغابات والبحيرات، ولسهولة تضاريس جوتلند - جيلاند - وارتباطها بقلب القارة الأوروبية في عروضها المعتدلة مما جعلها أسهل وأهم طريق تمتد من أوروبا إلى نورديا، وتكون جوتلند
مساحة الدنمارك، ولكنها برغم ذلك ليست قلب الدنمارك.
وجزر نورديا عديدة، أهمها المجموعة الجزرية الدنماركية، قلب دولة الدنمارك وتقع في الجنوب بين جوتلند وسكندنافيا وعددها 400 جزيرة، مائة منها مسكونة، ومساحة الجزر الدنماركية نصف جوتلند، ولكنها المركز الحقيقي للنشاط الاقتصادي في الدنمارك، كما أنها المركز الحضاري والسياسي، وإلى جانب هذه الأهمية بالنسبة لدولة الدنمارك، فإن جزر الدنمارك بقربها الشديد من جنوب السويد - 15كم متوسط عرض مضيق السوند، 6كم أضيق نقطة فيه - قد أصبحت مفتاح بحر البلطيق كله مما ساعد الدنمارك على التحكم في الملاحة في البلطيق، وفي البلطيق عدة جزر تابعة لنورديا منها جوتلاند وأولاند
Gotland, Oland
التابعتان للسويد، وبورنهولم
Bornholm
الدنماركية، وأرخبيل
Aland
الفنلندي الذي يتحكم في مدخل خليج بوثنيا.
خريطة رقم (11): دول نورديا المقاطعات والمحافظات والأقسام المحلية.
وأبعد المجموعات الجزرية النوردية تلك الممتدة في الأطلنطي الشمالي إلى المحيط المتجمد الشمالي: وتشمل مجموعات جزر فارو
Faeroes
الدنماركية ثم سفالبارد النروجية (سبتزبرجن سابقا) وجرينلند (دنماركية )، والأخيرة برغم انتمائها إلى قارة أمريكا الشمالية، إلا أنها سياسيا جزء من الدنمارك برغم أن مساحتها تبلغ (50) مرة قدر مساحة الدنمارك، وجزر فارو تابعة للدنمارك، ولكنها تتمتع بحكم ذاتي محلي، وأيسلندا ظلت تابعة للدنمارك حتى استقلت عام 1944، وقد أعطت عصبة الأمم جزر سفالبارد إلى النرويج على شرط استمرار نشاط تعدين الفحم للدول التي كانت تعدنه من قبل ضمها للنرويج، ويمارس الاتحاد السوفيتي وحده هذا الحق.
هذا الموقع المتطرف لنورديا لم يعد كذلك في عهد الطيران الذي فتح آفاقا جديدة في مجالات الاحتكاك والاستغلال، ولم يعد انعزال نورديا عن أوروبا غير موجود وحسب، بل أصبح الاتصال بأمريكا وآسيا أمرا قائما، ولقد عدل الطيران حقا موقع نورديا في عصرنا الحاضر، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وجعلها في مركز وسط بين القطبين الكبيرين اللذين تخلفا عن الحرب العالمية الثانية وهما: موسكو وواشنطن، فإن الطيران عبر القطب أو المنطقة القطبية أصبح الآن أقصر الطرق الجوية عبر الأطلنطي، والطريق الجوي الجديد المسمى بالدائرة الكبرى
The Great Circle
يمر بالطرف الجنوبي لجرينلند ثم أيسلند ثم بوسط النرويج والسويد ثم بهلسنكي ثم يدخل الأراضي السوفيتية، وهكذا تقع دول نورديا الآن تماما وسط منطقة الصراع بين الكتلتين الكبيرتين.
هذا الموقع في الوقت الحاضر أو في أوقات الجذب والدفع ليس موقعا تحسد عليه نورديا، لهذا وصلت خطوط دفاع الغرب الأولى إلى نورديا: الدنمارك - النرويج - أيسلندا، وكلها لهذا السبب أصبحت أعضاء في حلف الأطلنطي، ومقابل ذلك تقع فنلندا على حافة الاتحاد السوفيتي، وبالتبعية، ولكي تصبح «جارا طيبا» لم يكن أمامها إلا طريق الحياد، ووسط هذا الإقليم تحتله السويد التي تجنبت حربين عالميتين وتسعى بوسائلها إلى تجنب صراع ثالث بواسطة «حياد مسلح».
ولكن نورديا استطاعت أن تحصل على مزايا عديدة من عصر الطيران، فلقد كانت شركة
SAS
هي التي بدأت عصر الطيران القطبي بافتتاح خطها إلى لوس أنجلوس عام 1954 وإلى طوكيو عام 1956، وقد عارض الكثيرون هذا الطريق في البداية، ولكن هذه المغامرة الناجحة قد أدت إلى ظهور منافسة شديدة فيما بعد من جانب شركات أخرى.
نورديا: قاعدة موارد هامشية (أ)
مساحة نورديا
مساحة أوروبا بدون الاتحاد السوفيتي. (ب)
سكان نورديا
سكان أوروبا بدون الاتحاد السوفيتي.
هاتان الحقيقتان توضحان الطبيعة الهامشية لنورديا، وهناك عدد آخر من الإحصاءات تساعد على توضيح هذه الطبيعة: (1)
10٪ من مساحة نورديا زراعية (8٪ حقول + 2٪ مزارع طبيعية). (2)
45٪ من مساحة نورديا غابات مخروطة. (3)
45٪ من مساحة نورديا أراض أخرى = صخور جرداء - مستنقعات - رمال ... إلخ.
جدول 1-1: استخدام الأرض في نورديا (المساحة بآلاف كم
2 ).
الدولة
المساحة الكلية ألف كم
2
مساحة الأرض (1) (ألف كم
2 )
مساحة الأرض الزراعية
مساحة الغابات
أراض غير صالحة
حقول
مراع
السويد
446
411
33
5
225
186
النرويج
324
308
8
2
70
243
فنلندا
337
305
27
1
217
91
الدنمارك
43
43
27
3
4
8
أيسلندا
103
100
0,01
22
0,3
80
جرينلاند
2175
0,3 (2)
0,1
2175
الجدول عن إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة. (1) مساحة الأرض بدون البحيرات. (2) 341 كيلومترا مربعا فقط هي الخالية من الجليد الدائم ويمكن سكناها.
خريطة رقم (12).
توضح هذه الأرقام أن سكان نورديا يكادون أن يعيشوا على نتاج نصف أرضهم باستثناء الدنمارك التي تستغل كل مساحتها على وجه التقريب لملاءمة المناخ، والعامل الأساسي في هذا الصدد هو الموقع الشمالي لهذه المجموعة من الدول، ولكن المناخ عامة معقول بالنسبة لدرجة العرض؛ لأن كتل الهواء الممطرة معظم أيام السنة هي القادمة من الجنوب الغربي، ولهذا فإن حرارة جزر لوفوتن أعلى 20°م عن معدل حرارة خط عرضها (68° شمالا)، ومع ذلك فإن الارتفاع يؤدي إلى خفض درجة الحرارة في هذه المناطق الشمالية بمقدار قرابة 2°م لكل 300 متر ارتفاع، ومن ثم فإن الكثير من أرض النرويج وأيسلندا المرتفعة تقع باستمرار فوق خط الزراعة وخط الأشجارانظر خريطة رقم (12) .
وكذلك يظهر أثر التضاريس بشكل آخر، ففي النرويج وأيسلندا توجد مساحات كبيرة من الانحدارات التضاريسية الشديدة مما يحدد تماما السكن والاستغلال الاقتصادي، ونظرا لأن مرتفعات النرويج وأيسلندا تواجه الرياح الممطرة، ولارتفاع الجبال، فإن التساقط هناك يحدث على صورة ثلج مما يساعد على استمرار ونمو أكبر ثلاجات أوروبا ويعرقل المواصلات في الشتاء، وجبال النرويج بهذه الصورة والامتداد تجعل هناك تغيرا مناخيا واضحا بين السهول الساحلية المتناهية الضيق في النرويج، والمتمتعة بتأثير كتل الهواء المحيطي الدافئ وبين بقية مناطق فنوسكانديا المتعرضة لتأثير الكتل الهوائية القارية والقطبية، وعلى هذا النحو فالتغاير المناخي في نورديا على العموم طولي وليس مع درجات العرض - أي مع درجات الطول وذلك نتيجة «خط التقسيم المناخي» المتمثل في جبال النرويج انظر الخريطة رقم (12)
ورقم (13) .
أما من الناحية الجيولوجية فهناك اختلافات كبيرة في نورديا، ولكن من ناحية موارد الثروة المعدنية تعتبر نورديا فقيرة برمتها عدا السويد، فنوسكانديا تسودها التكوينات البلورية القديمة، وهي غنية بالحديد والنحاس ومعادن أخرى، ولكن مثل هذه التكوينات البلورية نراها تفتقر إلى الوقود المعدني: الفحم أو البترول، أما أيسلندا فبركانية بأكملها وخالية من المعادن باستثناء الكبريت، أما الدنمارك فتتكون في غالبيتها من الطباشير والجير، وهي بذلك الدولة النوردية الوحيدة التي يمكن أن يوجد فيها البترول برغم سلبية النتائج التي ظهرت من الآبار التي حفرت حتى الآن.
خريطة رقم (13).
ويعوض نقص الوقود المعدني غنى الأجزاء الجبلية من نورديا بالطاقة المائية خاصة في النرويج وأيسلندا والسويد، وفي فنلندا فالطاقة المائية موجودة، ولكن ليس بدرجة غنى الدول الثلاثة السابق ذكرها، أما الدنمارك فمحرومة تماما من الطاقة المائية انظر الخريطة رقم (13) .
ومصادر الطاقة المائية الغنية في نورديا راجعة إلى التأثير السابق للتعرية الجليدية التي كونت مستويات تصريف مختلفة وبحيرات عديدة، ولكن الغطاء الجليدي السكندنافي، وإن كان قد ساعد على إمكانيات توفر هذه الطاقة، إلا أنه عرى التربة التي انتقلت بواسطة الرياح أساسا إلى الدنمارك وشمال ألمانيا، ولم يبق في فنوسكانديا من التربة سوى رمال وحصى وصخور متناثرة، ولقد غطى الجليد رقعة الدنمارك أيضا، ولكن تأثيره على الجير والطباشير مختلف مما أدى إلى تكوين أغنى تربات نورديا فيها، وإن كانت هناك في الدنمارك أتربة رملية وحصوية كثيرة غير صالحة، وكذلك أثر الجليد على أيسلندا تأثيرا كبيرا، ولكن الهواء نقل معه من خط ذوبان الجليد تربة «لوس» الجيدة وأرسبها في جيوب صغيرة متناثرة على الساحل، ولكن تربة اللوس تعرضت لتعرية خطيرة نتيجة تدمير غابات البتولا
Birch
في هذه الجيوب مما يساعده، ولا يزال، على تدهور خطير ونمو لصحاري الرمال والحصى على حساب التربة الخصبة المحدودة في هذه المنطقة الباردة.
وإذا تركنا هذا الأثر السيئ للتعرية الجليدية على التربة في فنوسكانديا، فإننا نجد للغطاءات الجليدية آثارا غير سيئة، فإن فنوسكانديا قد هبطت تحت ثقل الجليد، وحينما بدأ الجليد في الانقشاع، ارتفع مستوى البحر مما تسبب في إغراق الكثير من الأودية السفلى فرسبت عليها طبقات سميكة من الطين البحري ظهرت مرة أخرى على سطح اليابسة بعد ارتفاع اليابس السكندنافية حينما تخلص من ثقل الجليد، وهذه التربة الطينية الصلصالية الموجودة في كل من فنلندا والسويد والنرويج هي أحسن تربة يمكن استغلالها في أراضي هذه الدول الثلاث في نواحي الزراعة والرعي.
ويعطينا الغطاء النباتي الطبيعي صورة مجملة لأثر التضاريس والمناخ والتربة المشترك على نورديا، ففي الدنمارك وفي جنوب السويد الغربي يتكون الغطاء النباتي الطبيعي من غابات البلوط والزان، وفي معظم جنوب السويد والسواحل الجنوبية لفنلندا والنرويج كانت الغابات مختلطة ومتكونة من الأشجار السابق ذكرها، وهي عريضة الأوراق وأشجار إبرية أخرى من نوع الصنوبر والتنوب، وبقية فنوسكنديا تغطيها الأشجار المخروطية الكثيفة التي هي امتداد التابيحا الروسية، وفي المناطق الشمالية وعلى جبال النرويج أحراش بتولا، ثم في المناطق الشمالية القصوى وأعالي الجبال البتولا القزمية ونبات أعالي الجبال من الحشائش.
الأهمية الجيوبوليتيكية لأوضاع نورديا الطبيعية
إلى جانب الوضع الهامشي لموارد نورديا فإن لكل عنصر من عناصر هذه المنطقة الطبيعية أهمية خاصة من الناحية الجيوبوليتيكية، فلنتعمق مثلا في الموقع الخاص لهذا الإقليم، فمجرد وقوع الدنمارك على مفاتيح البلطيق يعني أن كل السفن المتجهة من وإلى دول الكتلة الشرقية حاليا (ألمانيا - بولندا - الاتحاد السوفيتي) يجب أن تمر في المياه الدنماركية، ومن ناحية أخرى تشرف سواحل النرويج الشمالية على الممر البحري المفتوح طوال أيام السنة إلى بحر بارنتس وموانئ الاتحاد السوفيتي الشمالية، وعلى هذا فكل السفن المتحركة من وإلى ميناء مورمانسك السوفيتي يمكن مراقبتها باستمرار، ليس فقط من سواحل النرويج الطويلة، بل وأيضا من أيسلندا، وعلى هذا فإن مياه الاتحاد السوفيتي المنفتحة على طريق الملاحة الرئيسي المار في بحر الشمال والأطلنطي الشمالي كلها يجب أن تعبر المضايق أو تمر بجوار سواحل دول نورديا الثلاث الأعضاء في حلف الأطلنطي (الدنمارك - النرويج - أيسلندا).
كذلك هناك مثال آخر، فأحداث التاريخ توضح الأهمية السياسية لأنماط المناخ النوردي، فالكثير من المعارك الحربية كان يعتمد على مدى قسوة المناخ، فالمناخ ذو الشتاء البارد يعني جليد صلب، والجليد الصلب كثيرا ما غير الأهمية الاستراتيجية لكثير من المواقع أو النقط العسكرية على البحيرات والمجاري المائية: يعني إمكان غزو الموقع بالسير على الجليد، كذلك فإن مثل هذا الشتاء في الماضي كان باستمرار موسم نقل البضائع الثقيلة على الزحافات، ويسهل استعمال التزلج دون أن تقف الصخور أو البحيرات أو الأنهار عائقا أمام المرور، كذلك ولهذا السبب كان الشتاء هو موسم إقامة الأسواق التجارية الكبرى، وموسم زيارة الأساقفة لأبروشياتهم المتناثرة، ولهذا نجد أن الكثير من حدود الأبروشيات أو الحدود السياسية قد أقيمت في سكندنافيا في الماضي على أساس مدى إمكانية الاتصال شتاء، ولهذا فإن وادي فالدرز
Valdres
وهالنجدال
Hallingdal
في شرق النرويج كانا يتبعان أسقفية ستافنجر على الساحل الجنوبي الغربي، كذلك فإن إقليم يامتلاند
Jamtland
السويدي في منتصف سكندنافيا يقع تاريخيا ضمن نطاق النفوذ النرويجي.
ولكن لم يكن المناخ وحده هو المحدد لمثل هذه الأنواع من التوجيه، فإن طبوغرافية الإقليم قد ساعدت بقوة في التفريق الإقليمي، وخاصة في النرويج، ففي هذه الدولة يخيم تاريخ طويل من العزلة المحلية ينعكس في صورة تنوع في اللهجات لا مثيل له في نورديا، ولهذا فإن الاختلافات السياسية الداخلية في النرويج أوضح منها في أية دولة في نورديا، ولهذا أيضا فالحدود الإقليمية الداخلية في النرويج تعكس صورة الانقطاع الجغرافي بواسطة قوة المظاهر التضاريسية، وللنبات دوره أيضا في تحديد الحدود السياسية في نورديا، وفي النرويج والسويد تتضح هذه الحقيقة بصورة مدهشة، ففي كثير من نقاط حدود الدولتين تلعب الغابات دورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في تخطيط الحدود في الماضي، ومسافات طويلة من خط الحدود يعود تخطيطها إلى وجود نطاقات واسعة من الأرض غير المنتجة أو الغابات الشاسعة قليلة السكان، وفي العصور الوسطى في السويد كان التوجيه الجغرافي يعبر عنه باصطلاحين شائعين هما «شمال الغابة» أو «جنوب الغابة»
Nordanskog-Sunnankog
تماما كما يتكلم النرويجيون عن «نرويج شمال الجبال ونرويج جنوب الجبال
Nordonf jollske-Soudenf jollske ».
فلقد كانت الغابة عائقا أمام الاتصال لدرجة أن الاختيار كان يقع على أي طريق يتجنب الغابة مهما طال، ويمكن أن يتضح ذلك من المثل النرويجي القائل «الغابة تفصل والجبل والهضبة توحد»
Skogene skiller, Viddene Binder Sammen
ويفسر لنا المثل لماذا كان هناك ارتباط بين بعض المناطق في الماضي، مثل ارتباط ستافنجر بواديا فالدرز وهالنجدال برغم بعد الشقة.
كذلك للتربة دور هام أيضا في عملية بناء الدولة في نورديا، بل وبصورة يندر وجود مثيل لها في العالم، ولا شك أن قوة الدولة ترجع في جانب كبير منها إلى نجاح وثبات مزروعاتها، وهذا يرتبط بمدى خصوبة وإنتاجية التربة، وعلى هذا نجد أن مركز القوة في كل من دول نورديا الخمس قد يكون في إقليم يتميز بتربة جيدة، ويصبح هذا المركز قلب الدولة أو نواتها، ففي النرويج كانت الإرسابات الناجمة عن التعرية السهلة لصخور الكمبري والسيللوري في المجاري الدنيا للأنهار الشرقية + الطين البحري على شواطئ فيورد أوسلو قد جعلت منطقة أوسلو مهد أولى الممالك المحلية في النرويج، وفي السويد كانت رسوبات الطين البحري في السهول الوسطى هي مصدر القوة التي أنشئت عليها الأمتين السويدية والقوطية، وفي فنلندا كان وما زال مركز القوة مرتبطا بالسهول الطينية الساحلية على خليج فنلندا وبوثنيا، وبرغم أن كل جزيرة رئيسية أو شبه جزيرة في الدنمارك قد نمت فيها سلطات سياسية خاصة، فإن واحدة من هذه السلطات لم تتخذ لها من غرب جتلند الفقيرة التربة مركزا للحكم، وحتى أيسلندا التي لم تصل إلى مرحلة الدولة المنتجة للمحاصيل فإن مركز القوة السياسية فيها كان محصورا دائما في السهول الجنوبية، وهي أحسن مناطق الجزيرة إنتاجا.
ولقد لعب وجود المعدن دورا هاما في التطور السياسي لدولة واحدة من نورديا هي السويد، فمنذ العصور الوسطى كانت للسويد شهرة في تصدير خام النحاس والحديد، وقد ساعد دخل السويد من هذا النوع من التجارة، بالإضافة إلى إمكان صناعة السلاح محليا، على أن تصبح السويد دولة كبيرة قبل سنة 1700، ولكن نقصان الوقود المعدني في نورديا - الذي أشرنا إليه سابقا - كان بدون شك عاملا حاسما في هبوط النفوذ السياسي لنورديا ككل بالنسبة لأوروبا منذ بدء العصر الصناعي، ففقدان الخامات والوقود قد منع هذه الدول من الاندفاع للتصنيع مبكرا كغيرهم من الأوروبيين وليس بالسرعة ذاتها كغيرهم من دول العالم، ولكن تأخر دخول الصناعة إلى نورديا كان له آثار حسنة، ذلك أن هذا التأخر في التصنيع قد ساعد على حدوث هجرات نوردية كبيرة بالنسبة لعدد سكانها الأكثر من أية دولة أوروبية أخرى عبر الأطلنطي، فالكثير من أبناء الريف الذين لم يجدوا عملا بالمدن قد هاجروا باستمرار إلى أمريكا، وقد وصلت الهجرة إلى قمتها في الثمانيات من القرن الماضي، ولو أن هذه الهجرة وصفت بأنها ذات آثار خطيرة بالنسبة لسكان الدول النوردية؛ لأنها اشتملت على شباب وشابات الريف، إلا أنها كانت صمام أمن خلال فترة اقتصادية حرجة في نورديا - هي فترة عدم نشوء الصناعة، ولو لم «تتخلص» هذه الدول من ذاك الضغط السكاني على هذه الصورة في الماضي القريب لكان هناك شك كبير في أن يصل النورديون إلى ما وصلوا إليه الآن من ارتفاع عظيم في مستواهم الاقتصادي.
ولقد ارتبط نمو الصناعة في نورديا بتطوير فكرة استغلال الموارد المائية لإنتاج الطاقة، ولهذا فإن التوزع الصناعي يوضح نمط الانتشار والتناثر بدلا من التمركز المكاني في أحواض أو مناطق محدودة مثل ألمانيا وبريطانيا «حول حقول الفحم»، وبدلا من نشوء تجمعات صناعية عملاقة ومدن ضخمة مليونية فإن الصناعة غزت أقاليم سكندنافيا بطريقة أرقى وأحسن، فالفحم الأبيض لا ينتج المؤثرات الصحية السيئة التي تظهر في الأقاليم السوداء، والاتساع والانتشار يمنع تدهور المساكن لضيق الحيز ويمنع نشوء الأحياء العمالية الفقيرة، وكثير من صناعات سكندنافيا تمت في إطار صحي: أقاليم ريفية - بحيرات - غابات، وليست هناك مشاكل ازدحام ومواصلات كما هو الحال في مناطق الصناعة الألمانية أو البلجيكية أو الإنجليزية، أو حتى بتسبورج، ولم يترتب على ذلك نشوء الفوارق الاجتماعية والسكنية والصحية العميقة التي تتميز بها الأمم الصناعية الأوروبية.
الفصل الثاني
الأوضاع الحضارية
على الرغم من الاختلافات الطبيعية التي شهدناها في نورديا، فإن دول هذا الإقليم تتشابه حضاريا كل في داخلها وكل مع الأخرى تشابها منسجما، ففي هذه المنطقة تسكن مجموعتان أساسيتان هما جماعة الجرمان وجماعة الفينو أوجري، وفي مناطق التقاء هاتين المجموعتين كما في فنلندا ولابلاند، فإن الاندماج والانصهار يسير تدريجيا منذ قرون، وقد حدث أيضا في الماضي نوع من الاندماج على هوامش الإقليم النوردي، مثل اندماج الكلتيين مع النورديين في أيسلندا أو الانصهار بين النورديين والإسكيمو الذي يكون الآخر جزءا من سكان جرينلاند. (1) لغات نورديا
كل لغات نورديا مشتقة من الجرمانية، وفي خلال عهد الفايكنج كانت اللغة هي لغة النورسمن القديمة
Old Norse
التي تطورت إلى النورس الشرقية في السويد والدنمارك، والنورس الغربية في النرويج وفاروا وأيسلندا، وفي العصور الوسطى ازداد تفرق اللغات الثلاث في السويد والدنمارك والنرويج، ففي السويد كان لنفوذ دول الهانزا على التجارة والتعدين وإدارة المدن أثر واضح في دخول كثير من المفردات الألمانية في اللغة السويدية، وفي النرويج كان للسيطرة والنفوذ الدنماركي على الحياة الاقتصادية والسياسية أثر عكسي، فقد أدى إلى خلق هوة لغوية ما زالت قائمة حتى اليوم، ففي الأقاليم الجنوبية والشرقية من النرويج تطورت لغة نرويجية دنماركية، تختلف عن النورس القديمة التي ظلت اللغة السائدة في الوديان والفيوردات المنعزلة، وأصبحت اللغة الخليطة تعرف باسم اللغة القومية والثانية عرفت باسم لغة الريف، ولكن هذه التعريفات لم تكن صحيحة؛ لأن الأولى لم تكن قومية ولا الثانية كانت لغة أهل الريف فقط، خاصة بعد هجرة الريف إلى المدينة على نطاق واسع، واليوم فإن تعريف كل منهما قد تغير إلى «اللغة الأدبية أو لغة الكتابة» بدلا من «اللغة القومية» وإلى «النرويجية الجديدة» بدلا من «لغة الريف» اللغة الأدبية =
Bokmal
واللغة القومية =
Riksmal
والنرويجية الحديثة =
Nynorsk
ولغة الريف =
Landsmal ، ولكن حتى هذه التعريفات هي غير صحيحة؛ لأن هناك كتابات أدبية كثيرة بالنروجية الحديثة، كما أن النرويجية ليست في الواقع سوى تعديل وتنظيم للهجات من العصور الوسطى، وفي الوقت الحاضر هناك اندماج مخطط بين اللغتين من أجل إيجاد لغة واحدة تعرف في التخطيط باسم «النرويجية المشتركة
Samnorsk » ولكن هذا الجهد يجد سخرية كبيرة من كلا اللغتين لدرجة أنهم يسمونها «النرويجية المشينة
Skamnorsk ».
وكذلك كان للسيطرة على فنلندا خلال العصور الوسطى أثر في ثنائية لغوية سائدة حتى اليوم، فلغة الفن قريبة الشبه بالأستونية جنوب خليج فنلندا، ولهما ارتباط بعيد بالهنغاري - لغات مغولية، ولهذا فهي لغة غريبة عن الهندوأوروبية بالنسبة لجارتها سواء كانت الروسية أو السويدية، ولكن الفنية أدمجت داخلها كثيرا من المفردات السويدية، خاصة المفردات المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة، وفي القرن 19 كان
سكان فنلندا لا يعرفون سوى السويدية لغة لهم، أما اليوم فقد تناقص عدد هؤلاء إلى 8٪ فقط نتيجة للسكن المدني والهجرة، ويتركز أصحاب اللغة السويدية على السواحل الجنوبية والغربية من فنلندا، بينما بقية سكان فنلندا يتكلمون الفنية، وبرغم ذلك فالسويدية لغة رسمية إلى جانب الفنية وأهميتها واضحة؛ لأنها معبر فنلندا إلى بقية نورديا، وربما لكونها تشكل مدخلا جيدا للعلوم الحديثة أيضا.
ولغات أيسلندا وجزر فارو تعطينا صورة واضحة عن العزلة الجغرافية، فلغة أيسلندا الحالية ما هي إلا في أساسها النورس القديمة التي جلبها معهم أول مستوطنيها من الفايكنج لدرجة أن كثيرا من كتابات القرن 13، أو أمثالها، تقرأ دون أي إيضاح، أما لغة جزر فارو فهي تمثل نورس القديمة الأكثر تطورا، خاصة بعد هجرة عدد من النرويجيين الغربيين إلى الجزيرة بعد الموت الأسود في العصور الوسطى.
وباستثناء فنلندا فلا توجد في دول نورديا أقليات لغوية تزيد أعدادها عن 1٪ من مجموع السكان، ففي الدنمارك أقلية ألمانية في إقليم سلزفيك وفي شلزفيج الألمانية قرابة 30000 دنماركي، وهناك قرابة 30 ألفا من اللاب موزعين بين شمال النرويج والسويد وفنلندا (
اللاب في النرويج)، وخلال القرن 17 هاجرت بعض أسر الفن إلى غابات وسط السويد والنرويج، وما زالت سلالتهم حافظة لمميزاتها الخاصة ويسمونهم فينيوا الغابات أو غابات الفن
Finnskogar .
وعلينا أن نلاحظ أنه بالرغم من أن الأقليات اللغوية لم تكن عاملا في أية قلقلة سياسية داخل دول نورديا، إلا أنها في الوقت ذاته كانت عاملا مساعدا على الاستقلال الذاتي لسكان جزر فارو عن الدنمارك وجزر ألند عن فنلندا.
ومن ناحية الديانة والمذهب فإن الغالبية الساحقة هي مسيحية إيفانجيلية لوثرية - بروتستانت، ولقد ساعدت عملية الإصلاح الديني والبروتستانتية، على تدعيم الملكية في السويد إبان مراحلها الأولى ونشر سلطان السويد في فنلندا، وكذلك الحال بالنسبة للدنمارك التي ساعد اعتناقها للوثرية على تدعيم سلطان الملك في جرينلند وأيسلندا وفارو والنرويج، ولهذا فإن اعتناق نورديا للوثرية لم يكن وازعا دينيا فقط، بل كان أكثر من ذلك أداة سياسية واقتصادية. (2) الأسس الاقتصادية لحضارة نورديا
إن الأقسام السلالية واللغوية في نورديا قد نجمت عن الأوضاع الاقتصادية، فقد كان اللاب في الماضي يحتلون معظم فنلندا، ولكنهم طردوا من الجنوب عند وصول الفن الصيادين إليها، فاتجهوا إلى سكندنافيا، ولكنهم سرعان ما طردوا من وسطها أيضا نتيجة وصول الصيادين الجرمان، ولهذا احتلوا كل الإقليم شمال نطاق الغابات، وأصبح رعي الرنة الوسيلة الاقتصادية الوحيدة لاستغلال هذه الأصقاع القاسية، وبرغم دخول عناصر جديدة عديدة على شكل الاقتصاد اللابي، إلا أن أساسه ما زال رعويا متنقلا، وذلك لسبب بسيط هو أن لابلند ما زالت غير صالحة للزراعة حسب معارفنا الحالية، كما أنها تقع شمال خط الغابات، والاستثناء الوحيد هو مناطق تعدين الحديد في كيرونا وجيلفار وكيركنيز
Kirkenes
التي تقع قرب حدود النرويج والاتحاد السوفيتي المشتركة.
وفي الوقت الذي شغل فيه اللاب الأقاليم الشمالية والداخلية، فإن السواحل قد أصبحت موطنا للصيادين والسماكين الاسكندنافيين على طول الأطلنطي، وهكذا نشأت نويات عديدة من التجمع السكني السكندنافي وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبحر، ولقد قضي مبكرا على الحيوانات الكبيرة: الرنة البرية أو الألك
Moose = Elk
في أمريكا والذئب والدب وعجل وفيل البحر، ولكن الأسماك ما زالت تكون أساسا قويا لاقتصاديات هذه التجمعات السكنية، وفيما عدا ذلك لا توجد حرف أخرى أكثر رقيا يمكن تطبيقها على شواطئ النرويج الشمالية.
والراجح أن الزراعة والرعي وصلتا نورديا حوالي 2000ق.م ولكن انتشارها على حساب الصيادين والسماكين كان بطيئا لسوء المناخ والتربة ، ولهذا فإن أجزاء من الدنمارك كانت أولى مناطق الزراعة، بالإضافة إلى قواعد صغيرة جنوبي ستافنجر على ساحل النرويج الجنوبي وأجزاء من السهول السويدية الوسطى وسواحل جنوب فنلندا، ولكنها زراعة إشباع الحاجة فقط ، لهذا لم تنم قرى كبيرة، وكان النظام السكني متناثرا وسط الحقول باستثناء الدنمارك التي لا يسهل فيها الحصول على الماء الجوفي في كل مكان، ومن ثم تحددت أماكن السكن بنقط مختارة نمت حولها القرى، ولضآلة مساحة الأرض ذات التربة الجيدة فإن انتشار الزراعة سرعان ما التهمها ولم يعد هناك أرض جديدة، فزاد الضغط السكاني ابتداء من القرن التاسع الميلادي، وانعكس ذلك في الهجرات السكندنافية التي حصلت من القرن التاسع إلى الثاني عشر الميلادي؛ أي خلال الفترة التاريخية المعروفة باسم عصر الفايكنج الذي أدى إلى خدمات جليلة لنورديا أهمها التجارة والمسيحية، وكلاهما عنصر ساعد على نمو المدن، وكان ذلك واضحا تماما في النرويج حيث نشأت مدن تجارية ساعدت المسيحية على تنميتها وتمركزها الإقليمي مثل: تروندهايم - ستافنجر - هامار - أوسلو، ولكن الموقع المكاني المرتبط باحتياجات الموقع التجاري يختلف عادة عن احتياجات المركز الديني، ولهذا فإن المدن التي نمت حول مراكز عبادة الفايكنج مثل فيبورج في الدنمارك ولوند وأبسالا في السويد سرعان ما وقعت تحت ظل المراكز التجارية الاستراتيجية في العصور الوسطى مثل آرهوس وكوبنهاجن في الدنمارك، ومالمو وستكهولم في السويد.
ودخلت نورديا عصرا جديدا تميز بنفوذ مدن الهانزا التي طورت تجارة تبادل رائجة من الأسماك والأخشاب والفراء مقابل الحبوب الغذائية والملح، وأصبحت برجن مركزا زاخرا لتجارة الأسماك على الأطلنطي الشمالي، ومقابلها أصبحت فسبي
Visby
أهم مراكز التجارة على البلطيق - في جزيرة جوتلاند، وفي حوالي ذلك الوقت وتحت إمرة الهانزا بدأ استغلال مناجم برجسلاجن في وسط السويد - نحاس من فالون
Falun
وحديد من جرانجزبرج
Grangesberg
إلى الشمال الغربي من استوكهولم.
وبعد أفول عصر الهانزا بدأ التجار الدنماركيون في السيطرة على أسس التجارة النوردية، ومع ذلك اشتد نشاط هؤلاء التجار في تجارة الأخشاب من جنوب النرويج، وحينما بدأ التجار الإنجليز يوجهون نظرهم إلى نورديا كانت اقتصاديات الدنمارك والسويد قد حولتهما إلى دولتين قويتين، وخاصة السويد نتيجة لكبر مواردها، فالبرغم من ثراء الدنمارك الناجم عن استغلال مناجم الفضة في كونجزبرج والنحاس في جبال دوفر
Dovre
وكلاهما في النرويج، إلا أن ذلك لا يقابل غنى نحاس وحديد برجسلاجن السويدي، ولهذا فإنه بعد العصور الوسطى خرجت السويد كأقوى دولة في نورديا.
عهد الصناعة
كان التوسع التجاري في الزراعة والغابات والأسماك والتعدين محدودا بالمناطق المركزية في دول نورديا باستثناء أيسلندا التي ظل يسودها نوع الاقتصاد الموجه من أجل تحقيق الكفاية، وكذلك في بقية دول نورديا وخاصة أصقاعها الشمالية في فنوسكاديا، وحينما وصلت الابتكارات الصناعية الحديثة إلى نورديا في أوائل القرن التاسع عشر حدث أكبر تطور صناعي في المناطق التي أمكن استخدام الطاقة المائية فيها مثل
Sarpsborg
في النرويج (جنوب أوسلو قرب نهر جلوما
glomma ) وجوتبورج في السويد، وتامبيري في فنلندا (شمال هلسنكي بنحو 150كم)، أما الصناعات المعتمدة على قوة البخار فارتبطت بالفحم المستورد، لهذا تركزت صناعات عديدة في الموانئ العواصم (كوبنهاجن - استوكهولم - هلسنكي)، وحينما دخلت نورديا عصر توليد الكهرباء من الطاقة المائية فإن الصناعة قد وجدت فيها دافعا قويا لتوافر الطاقة الرخيصة، ولكن هذه الطاقة حرمت منها الدنمارك في الوقت الذي نمت فيه الصناعات في ريكيافيك في أيسلندا، وفي النرويج نرى أكبر مصادر الطاقة مركزة في جبال هاردنجر على هوامش السقوط، وبذلك فهي قريبة من مراكز التجمع العمراني الساحلي، أما في السويد فإن الطاقة تتركز في نورلاند
Norrland - الإقليم الشمالي - بعيدا عن مراكز التجمع السكاني الرئيسية، ولهذا نجد في السويد خطوط تحميل كهربائية طويلة جدا لكي تصل إلى مراكز الحاجة إليها.
ومع التقدم الصناعي بدأ الاهتمام بالنقل، أولا الاهتمام بالسكك الحديدية ثم بالطرق البرية، وفي الدنمارك شبكة كثيفة من المواصلات الحديدية، وكذلك في قلب السويد والنرويج وفنلندا، بينما توجد خطوط متباعدة في شمال فنوسكانديا، ولم تظهر السكك الحديدية إطلاقا لا في أقصى شمال فنوسكانديا ولا في أيسلندا، بل ظهرت الطرق البرية والخطوط الجوية، بالإضافة إلى البواخر الساحلية الصغيرة القديمة.
وعلى أثر التقدم الصناعي والمواصلات فإن سكان نورديا زادوا عدديا بسرعة، ولكنهم انكمشوا من حيث المساحة التي يتمركزون فيها.
ولهذا نجد زيادة سريعة وكبيرة في الكثافة السكانية في عدة مناطق من أهمها المدن ومناطق الصناعة، في الوقت الذي أخذت فيه الكثافة في التخلخل في المناطق ذات الاقتصاد الهامشي أو التي تشارك فيه الآلة الحديثة بنصيب متزايد - مناطق التحطيب والتعدين والزراعة، وقد تضاعف سكان نورديا من أوائل القرن 19 حتى عام 1960 من خمسة إلى عشرين مليونا، وفي أواخر الستينيات بلغ عددهم نحو 21,5 مليونا، وفيما يلي حقائق إحصائية عن السكان في نورديا.
جدول 2-1: السكان والكثافة.
الدولة
عدد السكان (1968)
الكثافة العامة شخص/كم
2
الكثافة الفزيولوجية *
شخص/كم
2
السويد
7918000
18
208
الدنمارك
4870000
113
162
فنلندا
4688000
14
161
النرويج
3819000
12
381
أيسلندا
201000
2
2010 *
ملاحظة: الكثافة الفزيولوجية هي نسبة السكان إلى مساحة الأرض الزراعية فقط.
جدول 2-2: إحصاءات حيوية (1968).
الدولة
مواليد
وفيات
وفيات أطفال
النمو السكاني السنوي
عدد النساء
لكل ألف من السكان
لكل ألف رجل
السويد
15,4
10,1
13
5,3
1002
الدنمارك
16,8
9,7
16
7,1
1016
فنلندا
16,6
9,6
15
7,0
1075
النرويج
17,6
9,7
13
7,9
1007
أيسلندا
20,9
6,9
13
14,0
981
يتضح من هذه الإحصاءات أن نسبة الوفيات العالية علوا طفيفا في بعض دول نورديا عن كندا والولايات المتحدة راجعة أساسا إلى ارتفاع نسبة كبار السن في نورديا، وفي فنلندا نجد أكبر زيادة للنساء على الرجال، وربما كان السبب وفيات الرجال خلال الحرب العالمية الثانية.
وهكذا نرى أن نورديا تمثل إقليما ناضجا من حيث ظروفه، ومن حيث نسبة الزيادة الطبيعية - نصف الزيادة في كندا أو الولايات المتحدة، ولا شك أن هذه الزيادة الطبيعية الضئيلة تساعد على استمرار ارتفاع المستوى المعيشي والاجتماعي لنورديا، ولكن يجب ألا ننسى أيضا أن معظم دول نورديا قد انتهجت سياسة مخططة وسطى
the Middle Way
وتقدمت بخطى واسعة في سبيل الديموقراطية الاجتماعية والاقتصادية.
ولكننا نرى بعض النقاد يهاجمون الرخاء الاجتماعي والاقتصادي في نورديا ويصفونه بأنه قد سبب «تحللا» اجتماعيا، وخاصة في السويد، ولكن هذا التدهور لا يمكن التدليل عليه إذا ما قارناه بالدول الرأسمالية الغنية، فنسبة الانتحار في ألمانيا الغربية وسويسرا والنمسا أعلى بكثير من السويد، ومجموع ما يتعاطاه الأمريكي من خمور حوالي ضعف الكمية بالنسبة للسويدي، ونسبة الجرائم في الولايات المتحدة سبع مرات ونصف عما هي عليه في السويد.
ولا شك أن جانبا من رخاء نورديا يعود إلى الاستقرار والهدوء المحلي نتيجة ل (1) عدد سكان قليل. (2) نسبة تعليم عالية - ليست أمية ولكن الثقافة عالية. (3) السكان متجانسون لغويا وسلاليا. (4) عدم دخول الحروب بالمعنى المفهوم.
الفصل الثالث
الدنمارك
(1) مقدمة
تقع الدنمارك بين درجات العرض 54,34 و75,45 شمالا، ودرجات الطول 8,05 و15,12 شرقا، وتبلغ مساحتها 43 ألف كيلومتر مربع - حوالي ثلث مساحة بريطانيا، مرة وربع مساحة الأراضي الزراعية في جمهورية مصر العربية، وتكون الدنمارك أكثر دول نورديا اتجاها نحو الجنوب، كما أنها بالمقارنة بغالبية دول الشمال هذه تحتل ظروفا طبيعية ومكانية أفضل من غيرها.
فالدنمارك في مجموعها أرض سهلية زراعية كثيفة السكان، وإلى جانب اهتمامها بالزراعة، فإن لها اهتمامات كبيرة بالبحر وحرفة السماكة والنقل البحري، ومناخها أحسن من بقية دول نورديا، لكن إلى جانب هذه المميزات فإن هناك عددا من نقاط الضعف، فالدنمارك دولة صغيرة المساحة بالقياس إلى جيرانها، بل إنها أصغر من مستعمراتها السابقة كجمهورية أيسلندا الحالية - 103 ألف كيلومتر مربع، وبطبيعة الحال فهي قزمية المساحة بالنسبة إلى مستعمراتها الحالية جرينلاند - 2,1 مليون كيلومتر مربع، وهي تتكون من عدد كبير من الجزر مما يصعب معه وجود الاتصالات السهلة التي تتميز بها دول نورديا الأخرى، كما أن تركيبها الجيولوجي قد حرمها من مصادر الوقود والمعادن على النحو الذي سوف نعرفه فيما بعد.
ولكن نشاط الدنماركيين وتنظيمهم الحديث قد جعل الدنمارك تتغلب - بصعوبة - على هذه المساوئ، وتستفيد من مزايا الأرض بدرجة قل أن يكون لها نظير في العالم، ولكن هناك صعوبة واحدة لا يستطيع الدنماركيون - على الأقل في العصر الحالي - أن يفعلوا إزاءها شيئا، تلك هي صعوبة الدفاع عن الدولة، ويعرف الدنماركيون ذلك جيدا، يعرفون أن أي دولة كبيرة يمكن أن تحتل بلادهم في ساعات قليلة، ولكنهم برغم ذلك يتعايشون مع موقعهم وطبيعة بلادهم المكشوفة، ولعل انضمام الدنمارك لحلف الأطلنطي الشمالي يعكس هذه الحقيقة. (2) الظروف الطبيعية العامة وتكوين دولة الدنمارك
تتكون الدنمارك من الأرخبيل الذي يقع عند مدخل بحر البلطيق، بالإضافة إلى شبه جزيرة جتلند - تسمى في اللغة الدنماركية جيلند
Jyiland ، وبالإضافة أيضا إلى جزر فارو
Faroe
في المحيط الأطلنطي شمالي الجزر البريطانية وجرينلاند، ولكن أهم أجزاء الدنمارك هي جزر الأرخبيل الدنماركي وشبه جزيرة جتلند، وشبه الجزيرة هذه الأرخبيل عبارة عن جزء مكمل للسهل الأوروبي الذي يمتد إلى الشمال من ألمانيا، وكذلك كان الأرخبيل وسهول السويد الجنوبية، لكن هبوط اليابس قد أدى إلى انفصالها عن هذا السهل، ويتكون الأرخبيل من عدة مئات من الجزر الصغيرة والكبيرة، ولكن حوالي مائة جزيرة منها فقط هي المأهولة بالسكان، وتقترب هذه الجزر من بعضها اقترابا كثيرا باستثناء جزيرتي بورنهولم وأرتهولم اللتين تقعان في بحر البلطيق على بعد حوالي ست ساعات بالباخرة جنوب شرقي كوبنهاجن، والمضايق المائية بين هذه الجزر كثيرة والكثير منها ضيق ضحل، وأكبر هذه المضايق اثنان هما البلت الكبير الذي يفصل بين جزيرة زيلاند (التي تقع عليها كوبنهاجن) وبين جزيرة فين
Fyn (فينين
Fuenen ) ثانية الجزر الدنماركية مساحة، ومضيق البلت الصغير الذي يفصل بين جزيرة فين وبين شبه جزيرة جتلند.
وتقع الدنمارك كلها - كما قلنا عند مدخل بحر البلطيق، ويفصلها عن شبه جزيرة سكندنافيا ثلاثة مضايق بحرية هي: مضيق سكاجراك الذي يفصل بين جتلند والنرويج، ومضيق كاتجات الذي يفصل أيضا بين جتلند والسويد، وأخيرا مضيق سوند
Sund
الذي يفصل بين جزيرة زيلاند وبين الطرف الجنوبي الغربي للسويد، والمضيقان الأولان من المضايق الواسعة، بينما مضيق السوند ضيق ومتحكم فعلا في مدخل بحر البلطيق.
وتتكون الدنمارك في مجموعها من إرسابات بحرية من الزمنين الثاني والثالث كما تتكون من الحجر الجيري والطباشيري والرمال والطين البحري، والاستثناء الوحيد هو جزيرة بورنهولم التي يتكون معظمها من الصخور البلورية القديمة، ولقد تعرضت الدنمارك بكاملها للغطاءات الجليدية السميكية خلال عصر البليوستوسين، ومن ثم فإن مظاهر التعرية الجليدية واضحة في مورفولوجية الأراضي الدنماركية، ولهذا فإن غالبية الأشكال المورفولوجية تتسم بطابع التعرية الجليدية، ومن أهم تلك المظاهر الركامات الجليدية التي تعكس أشكال التصرفات المائية، إلى جانب التلال ذات الانحدارات التدريجية، وذلك بالإضافة إلى شكل السواحل الذي تكثر فيه ظاهرة الفيرد
Foerd - وهو نوع من الفيوردات يظهر في الأراضي الصخرية القليلة الارتفاع، ناجم عن التعرية الجليدية حيث يعقبه هبوط في خط الساحل وبحيث تغمر المياه هذه الوديان الجليدية السابقة.
ومعظم الدنمارك أراض سهلية، ولا تتجاوز المناطق التلية العالية فيها خط كنتور مائتي متر، ويختلف شكل الساحل من مكان إلى آخر، ولكن يمكن أن نقول إن ساحل شبه جزيرة جتلند المطل على بحر الشمال هو أكثر استقامة من خطوط الساحل الشرقي في شبه الجزيرة أو الجزر التي تكون الأرخبيل الدنماركي، وكذلك يتميز ساحل جتلند الغربي - المطل على بحر الشمال - بالشواطئ الرملية، وكثرة الكثبان الرملية، وقد كان لهذا التكوين أثره الواضح في توجيه الدنمارك السكاني والمدني والبحري، فلقد ظلت المنطقة الغربية من جتلند أقل حظا من الاستغلال الاقتصادي الزراعي من بقية شبه الجزيرة، وترتب على ذلك أن غالبية السكان والمدن تركزت على الساحل الشرقي، وترتب على ذلك أيضا أن معظم الموانئ الدنماركية والتوجيه البحري قد اقتصر على منطقة البلطيق ودول سكندنافيا الأخرى موليا ظهره لبحر الشمال إلى فترة قريبة جدا حينما اتجهت تجارة الدنمارك إلى دول أوروبا الغربية، وخاصة بريطانيا عبر بحر الشمال بعد انضمام الدنمارك لمجموعة دول التجارة الحرة
EFTA
ثم انضمامها هذا العام إلى السوق الأوروبية.
وقد ظلت صلات الدنمارك البرية ضعيفة بجارتها الطبيعية ألمانيا عبر البرزخ الأرضي الوحيد الذي يصلها بالبر الأوروبي نتيجة لوجود نطاق من المستنقعات صعبة الاختراق تمتد في جنوب شبه جزيرة جتلند في محور عرضي من البحر البلطي إلى بحر الشمال، وقد أدى ذلك النطاق إلى ضعف الاتصال الأرضي بين الدنمارك وألمانيا، وكون بذلك نوعا من الحدود الحضارية والسياسة والطبيعية بين الدنمارك الصغيرة وألمانيا الكبيرة مساحة وسكانا واقتصادا، وقد ساعد ذلك على أن تظل الدنمارك بعيدة عن النفوذ الألماني، ونمو الدنمارك نموا سليما بعيدا عن علاقات القارة الأوروبية المضطربة سياسيا طوال القرن السابع عشر إلى القرن العشرين.
هذان العاملان الطبيعيان: صعوبة الملاحة وفقر البيئة في جتلند الغربية، وحاجز الأمان في جتلند الجنوبية، قد ساعدا بدون شك على أن تتمركز الدنمارك بعيدا إلى الشرق عن هذين الحاجزين، لكن العامل الحاسم في تكوين نواة الدنمارك في الجزر وليس في شبه الجزيرة يرتبط بدون شك بعلاقات الموقع والمكان لهذه الجزر على مدخل البلطيق، ومن ثم تأسست دولة الدنمارك على أساس العلاقات التجارية البحرية في هذا الجزء من أوروبا، مستغلة هذا الموقع الجغرافي التجاري المتحكم أحسن استغلال في الماضي والحاضر.
فأقدم الأدلة على السكن البشري في الدنمارك تشير إلى العصر الحجري القديم - الباليوليتي، وكانت المجموعات التي تعيش في الفترة التالية - الحجري المتوسط - تمارس الصيد والجمع وتعيش في قرى سكنية كبيرة نسبيا، كما كانت تعرف صناعة الفخار، ولا شك أن في ذلك دلالة واضحة على وجود سكن مستقر بسبب حيوان الصيد إلى جانب الصيد البحري الشاطئي، وفي خلال عصر البرونز والنحاس عرف سكان الدنمارك الزراعة حينما أصبح المناخ أميل إلى الدفء، وبذلك عاش الدنماركيون المزارعون في قرى كبيرة أو مزارع متناثرة داخل الغابات النفضية التي كانت سائدة آنذاك.
وقد أدت الزراعة وانتشارها بين السكان إلى قطع الأشجار تدريجيا منذ تاريخ قديم، وكان آخر عهد الدنمارك بالغابات ذات المساحات الكبيرة في خلال العصور الوسطى، وفي تلك الفترة نستطيع أن نقول: إن المنظر الطبيعي لسطح الأرض كان قد تغير إلى سطح بشري لكثرة انتشار الحقول الزراعية.
وفي القرن الحادي عشر بدأ خروج الدنماركيين من الداخل الزراعي، سواء كان ذلك في شبه جزيرة جتلند أو في الجزر، ومنذ ذلك التاريخ يبدأ التوجيه البحري يلعب دوره في حياة الدنمارك، وقد بنيت في تلك الفترة سلسلة من القلاع والحصون على الشواطئ لتحمي الجزر وشبه الجزيرة من غارات القراصنة وغزواتهم المدمرة، وفي تلك الفترة أيضا أنشئت كوبنهاجن وآرهوس وآلبورج كمراكز مدنية رئيسية.
ومنذ إنشاء هذه المدن والحصون على ساحل البحر بدأ عهد التوسع الدنماركي خارج جتلند والأرخبيل الدنماركي، وقد امتد نفوذ الدنمارك السياسي إلى المناطق المجاورة عبر البحار، وفي فترة كانت تحتل جزءا من جزيرة بريطانيا، ثم احتلت بعض أراضي البلطيق، كذلك ظلت تحتل النرويج من سنة 1397 إلى سنة 1814 - أي قرابة أربعة قرون ونصف القرن، وهذا الاحتلال الطويل قد أثر - كما رأينا - تأثيرا واضحا في اختلاف لغة النرويج.
خريطة رقم (14): الدنمارك وجنوب السويد.
وفي خلال هذه الفترة التوسعية للدنمارك حدث نزاع طويل مع المدن الألمانية المؤتلفة في اتحاد الهانزا التجاري المنتشرة في بحر البلطيق وبحر الشمال، ثم أخذت المنافسة تشتد بين الدنمارك والسويد كقوة جديدة نامية ومتوسعة، وقد أدت هذه الحروب والصراعات إلى إجهاد الدنمارك، وترتب على ذلك أن أخذ نجم الإمبراطورية الدنماركية في الأفول، فانسحبت من البلطيق أولا، ثم انسحبت بعد ذلك من النرويج، ففي القرن السادس عشر كانت الجيوش السويدية تكتسح أمامها الدنماركيين من جنوب السويد ومن البلطيق، ولم يكن أمام الدنمارك إلا التراجع نتيجة لإجهاد الدولة حيث إن قاعدة الدنمارك طبيعيا وسكانيا أصغر من القاعدة التي تنمو عليها السويد، وقد ظلت الدنمارك متمسكة بالنرويج إلى أن استقلت في أوائل القرن التاسع عشر، وكذلك فقدت الدنمارك أيسلندا التي كانت منذ 1918 تتمتع بالحكم الذاتي تحت تاج الدنمارك، ثم أعلن استقلالها في الربع الثاني من القرن الحالي (سنة 1944)، وكذلك باعت الدنمارك جزر فرجين
Virgin
في جزر الهند الغربية إلى الولايات المتحدة في عام 1917، ولم يبق من الإمبراطورية سوى جرينلاند ومجموعة جزر فارو
Faroe
الصخرية - 22 جزيرة صغيرة وكبيرة مجموع مساحتها 1400 كيلومتر مربع، منها 17 جزيرة مأهولة بالسكان، وعدد السكان في الوقت الحاضر حوالي أربعين ألف شخص، وقد أصبحت جزر فارو تتمتع بحكم ذاتي منذ عام 1948، ولكنها ما زالت مرتبطة بالدنمارك سياسيا وحضاريا.
ومنذ نهاية القرن الثامن عشر - بعد نمو السويد وسقوط الدنمارك في البلطيق - أخذت الدنمارك تركز كل جهودها لمشاكلها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية مما أعطاها فترة طويلة تعيد فيها تنظيم مواردها على أساس المساحة الصغيرة التي تشغلها، وقد كان لذلك أثر كبير على ظهور الدنمارك في الوقت الحاضر كدولة رخاء ووفرة بالقياس إلى دول أخرى كثيرة. (3) المظاهر الأساسية في جغرافية الدنمارك الطبيعية
قلنا إن الدنمارك أرض سهلية في مجموعها، وإن التغاير التضاريسي محدود ويتخذ صورة سهول متماوجة واسعة، وأثر التعرية الجليدية واضح وهام لتفسير الظاهرات التضاريسية وأشكال السواحل، فالمنظر الطبيعي العام تظهر فيه تشكيلات المورين - الركامات الجليدية النهائية والجانبية - في كل مكان، وتتكون هذه الركامات من كتل مختلفة الأحجام من المخلفات الصخرية مختلطة مع التربة التي تكونت نتيجة تضاغط حقول الجليد وطحن الصخور، وتتراوح السطوح بين تماوجات خفيفة جدا، إلى تماوجات شديدة في بعض الأحيان، وهذه الاختلافات راجعة إلى حركة واتجاه الحقول الجليدية أثناء إرساب هذه الركامات، وبالإضافة إلى ذلك فإن عودة تقدم الجليد في خلال البليوستوسين قد أدى إلى إحداث فوضى وتغيير في شكل الركامات السابقة، وترتب على هذا كله فوضى واضحة في شكل السطح العام، مع كثرة الحفر التي أحدثها الجليد والتي تكون الآن البحيرات أو المستنقعات.
وقد جفت البحيرات القديمة مما أدى إلى تكوين طبقة من التربة البحيرية الطينية التي تستخدم الآن كخامة لعمل الطوب، وقد ترتب على اختلاف طريقة ذوبان حقول الجليد ظهور أشكال أخرى من السطح، فالجليد الذائب داخل الحقول الجليدية لم يكن يجد له تصريفا سريعا مما أدى إلى رسوبات سميكة نسبيا في أشكال متفاوتة من المنحنيات والأقواس، وتظهر هذه الإرسابات الآن في صورة حافات طويلة متعرجة، متوسطة الارتفاع فوق السهول، أما في حالة ذوبان الجليد من حافات الحقول الجليدية فإننا نجد تكوينا أشبه بالأودية، وفي حالة الجليد الذائب تحت الحافة الجليدية نجد المياه الذائبة تنحت رأسيا مما يؤدي إلى ظهور أودية عميقة بعد زوال الجليد، ويترتب على ذلك أن الأودية الناجمة عن الذوبان الهامشي لحقول الجليد لا تتخذ قطاعا طوليا عاديا، بل إن القطاع الطولي يصبح غير منتظم لعدم انتظام الحفر الرأسي لهذه الأودية، ويظهر هذا النوع من الأودية غير المنتظمة في شرقي جتلند.
وبعد انقشاع الجليد تماما وحدوث ارتفاع في مستوى سطح الأرض، فإن تغير منسوب القاعدة للأنهار المختلفة قد أدى إلى ظهور أثر التعرية النهرية، ولقد نشأ عن ذلك أودية نهرية عادية ذات قطاع طولي معتاد، كذلك أخذت التعرية النهرية الجديدة تعمل في إزالة أجزاء من الركامات الجليدية السابقة، وقد غطت الكثبان الرملية - وخاصة في غرب جتلند - الكثير من الركامات الجليدية، وتنمو الكثبان الرملية بسرعة على هذا الساحل نتيجة لانتظام وقوة الرياح الغربية طوال العام، بالإضافة إلى ارتفاع مياه المد إلى قرابة متر ونصف يوميا على الساحل الغربي مما يؤدي إلى تكوين مفتتات كثيرة تأخذها الرياح لتبني بها الكثبان، وتمتد سلسلة الكثبان الرملية - بلا انقطاع تقريبا، لمسافة 300 كيلومتر من سكاجن - في أقصى الشمال الشرقي - إلى سكالنجن - على الساحل الغربي أزبرج، وإلى الجنوب من سكالنجن لا تظهر الكثبان في صورة شريط طويل، بل تبدو متقطعة مما يسمح بظهور الاستقرار السكني وإمكانية قيام الموانئ الصغيرة.
وأشكال السواحل الدنماركية لا مثيل لها في سواحل اسكندنافيا فإن الطبيعة السهلية وضعف مقاومة الصخور للتعرية والانزلاق الطيني البحري إلى البحر - مما يعطي للأمواج قوة أكثر في التعرية، وتكوين حافات جديدة بعد حدوث الانزلاق، كل ذلك يساعد على التآكل وتغير شكل الساحل بسبب نمو الحواجز الرملية التي تقفل الخلجان وتربط الجزر بشبه الجزيرة أو بالجزر الأكبر منها.
كذلك فإن ظاهرة ارتفاع الأرض قد أعطت للساحل الغربي شكلا جديدا مليئا باللاجونات العريضة، ولكن عملية الرفع التي تعرض لها الساحل الغربي شمال أزبرج قد حدث نقيض لها في الساحل جنوبي هذا الميناء، فهبوط الأرض قد أدى إلى إغراق الكثير من الكثبان وبقاء بعضها في صورة جزر صغيرة مواجهة للشاطئ، وهذه الجزر هي الجزء الشمالي من مجموعة جزر فريزيان الشمالية الألمانية، وكذلك يتميز ساحل جتلند الشرقي وسواحل جزر الأرخبيل بأنها سواحل غارقة أدت إلى اقتطاع الأرخبيل عن جتلند.
أما جزيرة بورنهولم فإنها تتميز بسواحل مستقيمة على عكس سواحل الأرخبيل الدنماركي وجتلند، ويرجع ذلك بدون شك إلى التركيب الجيولوجي القديم لصخور هذه الجزيرة، فالصخور شديدة المقاومة للتعرية الساحلية مما يعطي هذا الشكل من السواحل المستقيمة القليلة التعاريج.
أما المناخ الدنماركي فيعكس اختلاطا بين المناخ القاري والبحري، وبذلك تصبح الدنمارك من وجهة النظر المناخية أكثر قارية من النرويج وأكثر بحرية من السويد وفنلندا، فسواحل الدنمارك لا تقع على مسار كتل المياه الدافئة - تيار الخليج - الذي تقع عليه الجزر البريطانية ومعظم سواحل النرويج، ومن ثم فإن المدى الحراري السنوي أكبر من بريطانيا والنرويج، والمطر أقل منهما، وبذلك فإن مناخ الدنمارك يتشابه مع مناخ اسكتلندا في درجات عرض أكثر تطرفا نحو الشمال، وكذلك فإن تعاقب الفصول سريع فالربيع والخريف يمثلان فصلين قصيرين بالقياس إلى الشتاء والصيف.
ونظرا لوقوع معظم الأرخبيل على واجهة البلطيق، فإن تأثره بالمناخ البحري محدود؛ لأن البلطيق مسطح بحري محدود المساحة ويقع كبحيرة مغلقة وسط مسطح قاري كبير، مما يؤدي إلى تجمد أجزائه الشمالية الشرقية، وبذلك يصبح دوره كعامل ملطف للتغيرات المناخية دورا محدودا.
ويترتب على ذلك أن التغير المناخي في الدنمارك يرتبط بنوعين من المؤثرات: غربية وشرقية، فالمؤثرات الغربية تجلب الرطوبة بينما المؤثرات الشرقية جافة على وجه العموم، لكن يعوض ذلك أن الدنمارك في مجموعها ذات طبيعة سهلية فلا تظهر عقبات تحول بين نفاذ المؤثرات الغربية أو الشرقية بحيث تغطي كل الدنمارك، بالإضافة إلى ذلك فإن المساحة محدودة، حتى كتلة الأرض الأساسية - جتلند - ليست سوى شبه جزيرة ضيقة تمتد من الشمال إلى الجنوب، بحيث لا يسمح عرضها بوجود مانع يفصل المؤثرات الغربية عن بقية الجزر الدنماركية، ولهذا كله فإن التغاير المناخي في أجزاء الدولة هو تغاير محدود، ويتحدد فصل النمو الزراعي بمدى حدوث الصقيع، والحكم الغالب أن الصقيع يحدث في الفترة الممتدة من سبتمبر/أيلول إلى مايو/أيار في داخلية البلاد بعيدا عن السواحل، ويتراوح الفصل الخالي من الصقيع بين 150 يوما و225 يوما، وذلك حسب الموقع.
وتسقط الأمطار نتيجة للأعاصير خلال معظم السنة، بالإضافة إلى أمطار تصاعدية تهطل في الصيف مما يؤدي إلى أن قمة المطر الساقط تحدث في أغسطس/آب، وكمية المطر الساقطة تتناقص على طول محورين: إلى الشرق وإلى الشمال، وبذلك فإن جنوب جتلند هو أكثر مناطق الدنمارك مطرا، ولكن هناك أيضا تغير محلي في كمية المطر نتيجة للظروف المحلية وأشكال التضاريس في المواقع المختلفة، وتمثل مناطق التربة الرملية المطيرة أحسن مناطق الدنمارك لنمو المحاصيل، وعدد أيام المطر في حدود 150-170 يوما، والضباب - وخاصة في الشتاء - يكون مشكلة بالنسبة للسفن الصغيرة والكبيرة، فإن الساحل المنخفض مع الضباب يجعل رؤية أضواء الفنارات محدودة المدى، وبالتالي تصبح هناك احتمالات كثيرة لأن تصطدم بالساحل، ولهذا فإن القصص والأساطير الدنماركية مليئة بحكايات السفن المتحطمة، وخاصة بالنسبة للشاطئ الغربي لجتلند، وكذلك تتعرض الزراعة والمحاصيل لتأثير الضباب المملح والرذاذ المملح على طول المنطقة الغربية لجتلند، بمساحة يبلغ عرضها حوالي 50 كيلومترا من الساحل الغربي، ويؤدي ذلك الملح إلى عطب وفساد المحصول أحيانا، وفي مقابل ذلك تتعرض السواحل الشرقية لرياح باردة جافة، تعرف باسم سكاي
Skai
وتحدث في بواكير الصيف، وهذه أيضا لها أثرها السيئ على المحاصيل، وتساعد المصارف المغطاة المصنوعة من الفخار والسيراميك، المنشأة في خلال المائة سنة الأخيرة، على صرف مياه التربة بصفة مستمرة، مما يؤدي إلى صرف المياه السطحية الباردة ويسمح للزراع أن يعدوا الحقول مبكرا للزراعة عند تباشير الربيع.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذه التغايرات المناخية المحلية والتأثيرات التي تمارسها الظروف القارية والبحرية على مناخ الدنمارك، فإنه يمكننا أن نسترشد ببعض أرقام المناخ في كوبنهاجن على أنها ممثل للمناخ العام في الدنمارك، (المدى الحراري السنوي 17,5 مئوية - كمية المطر الساقط السنوية حوالي 600 مليمتر).
جدول 3-1: الحرارة والمطر في كوبنهاجن.
الشهور
يناير
فبراير
مارس
أبريل
مايو
يونيو
متوسط الحرارة (م°)
صفر −1
3
7
12
15
متوسط المطر (ملم)
45
35
25
40
45
50
الشهور
يوليو
أغسطس
سبتمبر
أكتوبر
نوفمبر
ديسمبر
متوسط الحرارة (م°)
17
16
13
10
5
2
متوسط المطر (ملم)
55
75
50
60
60
55
ونظرا لحداثة التكوين السطحي وتأثير الجليد فإن التربة في الدنمارك تختلف كثيرا حسب الأصل الذي اشتقت منه، وأفقر أنواع التربات هي البودزول التي توجد فوق التكوينات الغربية القديمة، وهي أيضا تربة رملية كثيرة الأملاح نتيجة للأمطار الغزيرة، أما في اتجاه الشرق فإن التربة تتحسن حيث كانت الركامات القديمة، وفي الأرخبيل تسود التربة الطينية اللومية، وتصنف مع أنواع التربات البنية الرطيبة، وقد دلت دراسة التربة على أن ثلثي تربة جتلند ينقصها الجير بكثرة، بينما لا يظهر هذا النقص إلا في حوالي ثلث تربة الجزر.
وقبل أن يصبح سطح الدنمارك سطحا بشريا - أي قبل اجتثاث الغابات - كان هناك ترابط قوي بين النبات الطبيعي والتربة، والمعتقد أن الحشائش الخشنة الغربية لم تكن كذلك في الماضي، وأنها كانت أراض غابية قبل بداية الألف الثانية الميلادية، كذلك يعتقد الأخصائيون أن الإنسان قد حول مساحة قدرها حوالي ثمانية آلاف كيلومتر مربع في الدنمارك إلى أرض خراب نتيجة لسوء الاستغلال في الماضي وقطع الغابات، فمثلا كان في إحدى أشباه الجزر في جزيرة زيلاند غابة تستخدم للصيد قطعت بأمر فالدمار الثاني عام 1231، ومنذ ذلك الوقت ساءت هذه الأرض كثيرا ونمى العشب الخشن محلها، وعلى العموم فإن هناك اختلافا في رأي الأيكولوجيين حول منشأ الحشائش الخشنة: بعضهم يؤكد أنه غطاء نباتي تال لقطع الأشجار، والبعض يؤكد أن أراضي الحشائش هذه كانت تربة تندرا، ثم بعد أن زالت ظروف المناخ حلت الحشائش محل نباتات التندرا.
والرأي الراجح أن الحشائش تنمو في التربات الضعيفة الرملية الغربية، بينما كانت غابات البلوط والزان وغيرها من الأشجار النفضية تنمو على الأرض الطينية الغنية في شرق جتلند والأرخبيل، لكن اقتطاع شجر البلوط بكثرة خلال القرون الثلاثة الماضية قد أدى إلى ندرته حاليا وسيادة الزان في الغابات القليلة الحالية، وقد أعادت الدنمارك التشجير مرة أخرى في بعض المناطق، لكنها استوردت أنواعا من الأشجار الغريبة عن الدنمارك من الأشجار المخروطية - عكس النفضية القديمة - مثل التنوب النرويجي والشربين الفضي، والصنوبر الجبلي والصنوبر الاسكتلندي، وتشجع الدنمارك مشروعات التشجير في المناطق المحمية في الغرب على وجه الخصوص لتكوين مصدات للرياح، وبالتالي التقليل من التعرية الهوائية للتربة، وهي مشكلة خطيرة في جتلند الغربية. (4) المظاهر الأساسية في الجغرافيا البشرية للدنمارك
يكون السكان أهم المظاهر البشرية في الجغرافيا، كعنصر يشكل الظروف الطبيعية وكمورد من موارد هذا التشكيل، ولقد دخل الإنسان منطقة اسكندنافيا عامة في العصر الحجري القديم بعد تراجع الجليد، وقد ظل الإنسان يعيش على الصيد حتى الانقلاب الزراعي في خلال عصر البرونز، ومهما كانت الظروف التي مرت بنوع السلالة البشرية، وأيا كانت السلالات التي سكنت اسكندنافيا قديما، فإن الغالبية العظمى من السكان الحاليين يكونون جزءا من السلالة النوردية - التي تكون بدورها جزءا من مجموعة السلالات البيضاء الكبرى - التي تسمى في أحيان كثيرة مجموعة السلالات القوقازية، وهؤلاء يتميزون بلون البشرة الفاتح ومظاهر الشقرة في لون العين والشعر والرأس الطويل والقامة الطويلة والبنية القوية.
وبالرغم من سيادة النظام الإقطاعي لفترة طويلة في الدنمارك، وبرغم وجود النظام الملكي حتى وقتنا الحاضر، إلا أن بقايا النبلاء والإقطاعيين محدود جدا في الوقت الحاضر، وقد بدأ هذا النظام الإقطاعي في التغير والاضمحلال بعد إلغاء قانون العبودية - قن الأرض - في الدنمارك في أواخر القرن الثامن عشر 1788، وكذلك يتميز المجتمع الدنماركي بقلة واضحة في الطبقة الفقيرة، وعلى هذا فإن أهم مميزات المجتمع الحالية هي السيطرة العددية للطبقة المتوسطة، فإن كان النبلاء والإقطاعيون قد انقرضوا نتيجة فرض المزيد من القوانين التي تحد نشاطهم وسيطرتهم على الأرض، فإن الفقراء أيضا قد رفعتهم القوانين والنظم الاجتماعية من وهدة الفقر إلى مستوى متوسط، وقد تم كل ذلك بواسطة تحويل ملكية الأرض الزراعية إلى مزارعيها مما أدى ويؤدي بكبار الملاك الزراعيين الحاليين إلى الاشتراك الفعلي في إدارة الأعمال الزراعية.
وقد كان لهذا كله أثره على السكان من الناحية العددية، ففي خلال العصور الوسطى حتى القرن السابع عشر كانت الدنمارك - كغيرها من الدول الأوروبية - تقع تحت تأثير كوارث هائلة تودي بحياة عشرات الآلاف من الناس، ومن أمثلة ذلك انتشار الطاعون - الموت الأسود - قد أدى إلى موت ثلث سكان جتلند في عام 1349، وتحولت مساحات كبيرة إلى أراض مهجورة، كذلك كان للتغير المناخي المفاجئ أثر هائل في إعطاب المحاصيل وبالتالي حدوث المجاعات، وموت الآلاف جوعا.
ولقد خرجت الدنمارك من تلك الظروف التي تؤدي إلى إعاقة النمو السكاني بصفة دائمة، بعدد من السكان قدر بنحو 797 ألف شخص في عام 1769، ثم جاء الإصلاح والنهضة الزراعية طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، فارتفع تعداد الدنماركيين إلى 4,9 مليون شخص (حسب إحصاءات عام 1968).
وفي الفترة ذاتها ارتفع عدد ساكني المدن من 159 ألفا إلى 2,3 مليونا، وهذا النمو في المدن راجع إلى نمو اقتصادي قائم على أساس التجارة المعتمدة على: (1) العلاقات البحرية، (2) الإنتاج المحلي.
لقد تقدمت الزراعة ابتداء من عام 1788 بعد تحرير الفلاحين وتمليك الأراضي ملكية خاصة، فانقسمت معظم القرى الكبيرة وتفككت معها الروابط الإقليمية وانتشرت المزارع في كل أنحاء الدولة، ومع هذا بدأ الاهتمام بالثروة الحيوانية، وأدى هذا إلى قلة الحاجة للأيدي العاملة مما اضطرت معه الأيدي الفائضة إلى الهجرة للمدن، وخاصة العاصمة، وما زالت هناك مناطق يمكن التوسع الصغير فيها في جتلند، فطبيعة شبه الجزيرة هذه غير سهلة وما زالت مساحات منها غير مستغلة بالكامل، فهي في أعماقها ريفية، ويجب القضاء على الحشائش والمستنقعات والكثبان لكي تصبح الأرض منتجة، وتتضح صعوبة المنطقة من أن الكثافة في جتلند هي 165 شخصا في الميل المربع الواحد وهي كثافة منخفضة جدا بالنسبة لمتوسط الكثافة الدنماركية (258)، وشمال جتلند معرض باستمرار لرياح شديدة، وهو أرض رعوية خالصة بالإضافة إلى حرفة صيد الأسماك في مدينة سكاجن في أقصى شمالها الشرقي، وتصل الملاحة البحرية داخل فيورد ليم حتى مدينة ألبورج القديمة (83000 شخص)، وفي هذه المدينة يوجد عدد من الصناعات منها البيرة والمخصبات والأسمنت، وشرق جتلند يتمتع بطبوغرافية متنوعة وتربة غنية وبعض نطاقات الغابات والأرض الزراعية المنتجة للقمح والشعير والبنجر، كما تربى الماشية والدواجن، وفي هذا القسم أيضا نشأت مدن صناعية مثل آرهوس (119000 شخص) وهي ثاني مدن الدنمارك وعاصمة إقليمية لجتلند وتحتوي على صناعات ميكانيكية وملابس، وفي هورسنز
Horsens (36000 شخص) مناسج، وفي راندرز (42000 شخص) ورش لصناعات عربات السكك الحديدية، والحقيقة أن الفارق ضخم وكبير بين الساحل الشرقي لجتلند المليء بالنشاط والمدن والساحل الغربي المليء بغابات الصنوبر والأحراش والحشائش، وبالرغم من ذلك فإن المناطق الكائنة غرب جتلند أصبحت مفتاح أمان للنمو السكاني والنشاط الزراعي الرعوي، فالتربة الرملية تخلط بالمارل وتقام سدود كما في هولندا، ولكن على نطاق أصغر، والمستنقعات تجفف، وقد بني ميناء إزبرج
Esberg
صناعيا في ساحل رملي غير صالح، ولكنه أصبح الآن ميناء هاما لتصدير الزبد واللبن ولحم الخنزير إلى بريطانيا، وأصبح سكان إيزبرج 51 ألفا، أما شلزفيج التي استولى عليها الألمان من 1864 إلى 1920 فقد أعيدت إلى الدنمارك، ولكن عمليات الإصلاح الزراعي فيها غير واسعة، وهي ألمانية الطابع إلى حد ما.
الجزر الدنماركية تعادل نصف مساحة جتلند، ولكنها أكثف منها سكانا وأكثر استغلالا إلى الحد الأقصى لطاقتها، وأكبر هذه الجزر هي زيلند في الشرق وفينن في الغرب، وفي فينن مزارع صغيرة أقل من 20 فدانا، وتنتج البنجر والورود والفاكهة، وأكبر مدينة هي أودنزه
Odense (106000 شخص) ثالث مدن الدنمارك، وهي مركز سكك الحديد، ولسوقها شهرة قديمة، والجزر الجنوبية تنتج البنجر والعلف، أما زيلند فهي أغنى جزيرة من حيث التربة، والمزارع تدار بدقة وعناية بالغة، وتنتج كميات كبيرة من الحبوب والبنجر والعلف، وتتراوح مساحة المزرعة بين 50 و150 فدانا، والأرض كلها سهلية مفتوحة دون مظاهر طبوغرافية تكسر حدة الملل إلا أستار الأشجار التي تحمي المزارع، والجزيرة تقع تحت ظل العاصمة، وهي في الوقت ذاته أكبر مدينة في نورديا.
كوبنهاجن: يبلغ عدد سكانها نحو 1,3 مليون شخص، وهو ما يعادل ربع سكان الدنمارك، واسمها الأصلي
Kopmanna Haven «ميناء التاجر» قد بنيت بواسطة كبير أساقفة الدنمارك في القرن 12، وموقعها كبوابة البلطيق، قد جعلها مركزا ملاحيا هاما، وكذلك تعتبر مركزا تجاريا وصناعيا هاما أيضا، ويتوغل الميناء عميقا داخل المدينة، وللمدينة تاريخ حضاري له آثاره في نورديا وغرب أوروبا، وهي المكان الوحيد في الدنمارك الذي توجد فيه صناعة ثقيلة: ترسانة لبناء السفن ومناسج كبرى - صناعات غذائية - مصانع كهربائية - أجهزة ميكانيكية - آلات ديزل على وجه الخصوص، وإلى جانب ذلك صناعة الصيني والفضة.
والدنمارك إذن دولة اصطنعها الإنسان من بين طبيعة غير خيرة تماما، ولا أدل على ذلك من مجهودات التوسع الزراعي في جتلند ونشأة الصناعة في كوبنهاجن، 76٪ من المساحة مزروعة على أحدث الوسائل الزراعية للدرجة التي أصبح إنتاج الفدان فيها أكبر من أي دولة أوروبية أو في العالم باستثناء هولندا، ولقد تعلم الدنماركيون من الهولنديين عددا من الأشياء مثل الزراعة الكثيفة في أرض محدودة رطبة كثيرة السكان، ولكنهم فاقوا دولا عديدة في الإدارة الكفأة للإنتاج وتعميم إنتاج عالي الجودة لمنتجات الألبان والدواجن والبيض ولحم الخنزير وكلها تصدر بكميات كبيرة، ومستوى الإنتاج الدنماركي يعتبر القمة في نوعه في أوروبا، وقد ساعد انتشار الحركة التعاونية في الإنتاج والتصنيع والتسويق على الجودة وأعطى المزارعين الصغار ميزة المزارع الكبرى.
وعلى هذا فالاقتصاد الدنماركي موجه للتجارة الدولية وليس للكفاية المحلية فقط، وصادراته تحتوي على الألبان ومنتجاتها واللحم ومنتجاته والسكر والبيرة والسفن والآلات، ولكن مقابل ذلك تستورد الدنمارك كميات كبيرة من الأغذية وخاصة الحبوب، والوقود والفحم والمعادن والمنسوجات والمخصبات، فليس في الدنمارك ثروة معدنية، وكذلك للدنمارك أسطول صيد كبير وأسطول تجاري حمولته 2,3 مليون طن، بالإضافة إلى تجارة الترانزيت الكبيرة في كوبنهاجن.
وخلاصة القول أن الدنمارك، من بين دول نورديا، هي الأكثر اعتمادا على التجارة الخارجية، وأكبر عملائها هم من دول أوروبا الغربية وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا، ونظرا لأهمية الزراعة بهذه الصورة الحيوية، فإنه لا بد من دراسة موجزة للزراعة الدنماركية. (5) دراسة الزراعة في الدنمارك
الزراعة الدنماركية - كما سبق توضيحه - وصلت إلى مستوى عال خلال فترة قصيرة، لدرجة أن وصف الدنمارك بالدولة الزراعية هو وصف شائع، ولكن ذلك كان إلى قبل عشرين سنة على الأكثر، والأصح أن توصف الآن بأنها دولة زراعية صناعية.
في عام 1955 كان نحو 22٪ من مجموع السكان يعملون بالزراعة، ولكن إذا أضفنا إليهم عدد الذين يعملون في مجال الخدمات المرتبطة بالزراعة، مثل النقل والتصنيع والتجارة فإن النسبة تصبح أكبر من ذلك بدون شك.
ويوضح لنا شكل (15)
كيف تستحوذ الزراعة على أكبر نصيب من أشكال استخدام الأرض في الدنمارك، كما يوضح وجود هذا الاتجاه الزراعي بصورة بارزة منذ أواخر القرن الماضي.
وعلى عكس ذلك نجد نموا مستمرا في مساحة الغابات نتيجة لسياسة التشجير المتعمدة، وكذلك نمو المساحة المستغلة في السكن القروي والمدني وفي طرق المواصلات.
والشكل الوحيد من أشكال استغلال الأرض الذي يتناقض هو مساحة الحشائش الطبيعية والمستنقعات والكثبان - وكلها كانت تكون احتياطيا كبيرا للنمو المدني والغابي والزراعي.
وأهمية الزراعة لا تتضح من نسبة العمالة الزراعية إلى كل العمالة، بل من نصيب الدولة من الزراعة والتجارة الخارجية والاقتصاد القومي، فبرغم الارتفاع الكبير في قيمة وكمية صادرات الصناعة، إلا أن نسبة الإنتاج الزراعي والسلع الزراعية ما تزال تتفوق عليه بدرجة كبيرة.
ولا توجد في أرض الدنمارك من المؤهلات للزراعة ما لا يوجد عند دولة أخرى، بل هناك ما يفوقها في مؤهلات الزراعة من حيث جودة التربة أو اعتدال المناخ، ولكن موقعها إلى جوار دولتين مزدحمتين بالسكان وصناعيتين، هما بريطانيا وألمانيا، قد جعل للزراعة الدنماركية أهمية حيوية.
ولولا الروح التنظيمة العالية عند المزارع الدنماركي لما استطاع أن يقوم بهذه المهمة، فالزراعة الدنماركية قد ارتبطت منذ فترة بالتوجيه نحو السوق، ولهذا تأقلم كل من المزارع والزراعة على هذا النوع، بالإضافة إلى سرعة اتخاذ القرارات في المواقف المختلفة، ويدرس تغير الطلب على ضوء أنماط الإنتاج المستقبلة، وفوق هذا فالحركة التعاونية قد سهلت وأسرعت بالتغير اللازم الناجم عن الدراسة المستمرة للسوق والطلب، فمثل هذه الزراعة، المرتبطة بحساسيات السوق الخارجية تعد الآن أشبه ب «جهاز عصبي» يخضع للإشراف والرقابة حكوميا وينتهج الدراسة والاستشارة لكي يستطيع أن يعيش في صورته الحية المعاصرة، والنتيجة أن الزراعة الدنماركية صناعة حية متقدمة على عكسها في كثير من الدول الأوروبية، حيث تمثل صناعة أو حرفة أقل شأنا في مجالات الحياة الاقتصادية.
وفي عام 1951 كانت مساحة الأراضي الزراعية نحو 27000 كم
2
من مجموع المساحة 42000 = 66٪، وفي أوروبا لا يوجد غير هولندا التي تشترك مع الدنمارك في كبر مساحة الأرض الزراعية، أما الثلث الباقي من الدنمارك فاستخدامه على النحو التالي: 9٪ مراع دائمة، 10٪ غابات وأشجار، 7٪ حشائش ومستنقعات، 8٪ أراضي بناء وطرق، وفي خلال القرن الماضي كانت مساحة المباني والطرق تنمو على حساب الأرض الزراعية، ولكن الزراعة تعوض الفاقد باستصلاح أرض جديدة، وهذا الاستيطان الداخلي هو الذي عوض ما تفقده الزراعة من أراض تستخدم في أغراض الصناعة والمباني. (5-1) حجم المزارع
بينما ظلت مساحة الأرض المزروعة ثابتة، فإن حجم المزرعة قد تغير كثيرا خلال نصف القرن الماضي وذلك نتيجة لسياسة زراعية متعمدة، ومنذ مائتي سنة كان الملك والنبلاء يمتلكون مساحات كبيرة من الأرض الزراعية، ومن ثم كان نمط الزراعة الكبيرة أو الأبعادية أو الخاصة الملكية هو النمط السائد للمزرعة الدنماركية، ومن ناحية إدارة هذه المزارع كان النمط هو إعطاء أجزاء من الأرض للمستأجرين يزرعونها، ونتيجة للتطور سقطت قيمة المزرعة الكبيرة وظهرت أهمية الملكية الصغيرة، ويعطينا الإحصاء الزراعي لعام 1956 عدد المزارع وهو (199000) مزرعة في مساحة قدرها 3,1 مليون هكتار، ونسبة المزارع الكبيرة 10٪ من مجموع الملكيات الزراعية - على عكس عدد من الدول الأوروبية ما بين 25٪ و40٪ كما هو الحال في ألمانيا.
تبلغ مساحة المزرعة الدنماركية السائدة بين 10 و30 هكتارا، وفي هذا النوع توجد 81000 ملكية زراعية، وهناك نوع ثالث هو المزرعة الصغيرة التي هي أقل من 10 هكتارات، ولكنها كبيرة بما فيه الكفاية للمزارع، ونظرا لاختلاف التربة فإن المزارع الصغيرة تختلف عن بعضها، وقد شجعت الدولة المزارع الصغيرة (1899 و1911 قوانين زراعية) نتيجة لنقص العمالة في الريف أولا ثم لأسباب سياسية ثانيا، ونجم عن هذه القوانين تكوين 27 ألف مزرعة صغيرة.
جدول 3-2: أنواع المزرعة الدنماركية.
مساحة المزرعة بالهكتار
عدد المزارع الإجمالي
عدد المزارع في جتلند
عدد المزارع في الجزر (1) 0,5 إلى 5
42000
20000
22000 (2) 5 إلى 10
53000
24000
29000 (3) 10 إلى 30
81000
58000
23000 (4) 30 إلى 60
18000
12000
6000 (5) 60 وأكثر
5000
2000
2000
ويبرز الجدول الحقائق الأساسية التالية: (1)
أكبر مساحة تحتلها المزارع المتوسطة (تفكيك الملكيات الكبيرة). (2)
المزارع الصغيرة 1 + 2 كثيرة الانتشار في الجزر (تربة خصبة). (3)
المزارع المتوسطة والكبيرة منتشرة في جتلند أكثر من الجزر (تربة متوسطة). (5-2) التربة والمناخ
إن الظروف الطبيعية السائدة على العموم مشجعة على الزراعة إلا مناطق التلال المنحدرة بشدة أو المناطق الساحلية المستنقعية، ففي الماضي كان سوء تصريف المياه يشكل عاملا مانعا للزراعة، لكن التقدم في وسائل الصرف ساعد على اكتساب أراض كثيرة للزراعة، والتربة في الجزر وفي شرق وشمال جتلند ذات ركامات جليدية لعبت فيها عوامل التعرية، وأضيفت إليها كميات من الصلصال والرمال والحصى وحجارة متوسطة أزالها المزارعون خلال القرون، والأمطار أغزر في غرب جتلند، ولكن لأن التربة رملية فالماء لا يظل طويلا في التربة العليا، والدنمارك في مجموعها تتمتع بفترة طويلة لا يحدث فيها الصقيع، وأمطارها الخفيفة في الربيع مفيدة في سرعة نمو المحصول، وأمطارها الغزيرة في أغسطس تتفق مع موسم حصاد الحبوب. (5-3) المحصول
يوضح الرسم البياني شكل (16)
تطور المساحة في أنواع المحاصيل الرئيسية في أواخر الخمسينيات مقارنا بمثيلاتها في الثلاثينيات الأخيرة من هذا القرن.
ويتضح من دراسة الشكل الحقائق التالية: (1)
زيادة قدرها 13٪ في مساحات النباتات الدرنية. (2)
زيادة قدرها 3٪ في مساحة الحبوب. (3)
نقص قدره 8٪ في مساحة الحشائش التي تزرع في دورة زراعية. (4)
نقص قدره 32٪ في مساحة الحشائش النامية بدون دورة زراعية؛ أي تلك التي تنمو طبيعيا.
شكل رقم (15): استخدام الأرض في الدنمارك: التطور المساحي لأشكال استخدام الأرض فيما بين عام 1881 وعام 1951.
شكل رقم (16): رسم بياني لتوضيح مساحات المحاصيل الرئيسية لعام 1958 بالنسبة المئوية ومدى الزيادة والنقص في هذه المساحات عن متوسط سنوات 1935-1939. ملاحظة: (1) المساحة المنقوطة = كمية النقص المساحي للمحصول. (2) المساحة المهشرة = كمية الزيادة المساحية للمحصول (3) الخط المستقيم = المساحة المحصولية لعام 1958. (4) الخط المتقطع = المساحة المحصولية لأعوام 35-1939.
ومرة أخرى يؤكد هذا التغير في مساحة المحاصيل خلال عشرين عاما (1939-1958) الاتجاهات والاهتمامات الجديدة في الزراعة الدنماركية لمواجهة السوق المتغيرة إلى جوارها.
فالنمو الكبير في مساحة المحاصيل الجذرية والدرنية - البنجر والبطاطس وغيرهما من الدرنيات - يوضح الاهتمام بغذاء الحيوان، وذلك على عكس تناقص مساحة الحشائش سواء الطبيعية أو المزروعة.
أما مساحة الحبوب فإن النمو فيها ضئيل وذلك لأن الظروف الطبيعية، وخاصة التربة تتحكم في هذا النمو، بالإضافة إلى أن الدنمارك تستورد كثيرا من احتياجاتها من الغذاء البشري من الخارج.
تحتل الحبوب 45٪ من مساحة الزراعة الدنماركية، أما الحشائش فتنمو في دورة زراعية أو مراع دائمة، وكلتاهما تحتل 33٪ من المساحة وتحتل النباتات الدرنية المكانة الثالثة 19٪ من المساحة (1958) وتتكون من البطاطس والبنجر، وتختلف مساحة هذه المحصولات الثلاثة بين الجزر وجتلند، ففي جتلند مساحات أكبر من الدرنيات والمراعي، بينما في الجزر نسبة أكبر من الحبوب والبذور، ونظرا للأهمية العظمى لتربية الحيوان في الدنمارك، فإن المحاصيل الموجهة لغذاء الحيوان تسيطر على الزراعة الدنماركية، سواء كانت حشائش أو جذورا أو حبوبا.
الحبوب
القمح: نظرا لحساسيته واحتياجاته لتربة جيدة فإن إنتاجه يتركز في جنوب وغرب زيلاند فينن ولولاند وشرقي جتلند، ويتأرجح المحصول بين 250 و350 ألف طن، أما الشيلم
Rye
فنظرا لإمكان زراعته في التربة الرملية أو الحمضية فإنه يتركز في غرب وشمال جتلند، وإنتاجه السنوي بين 250 و400 ألف طن، والشعير هو بحق محصول الحبوب الرئيسي في الدنمارك ويكون نصف المحاصيل، في الماضي كان يزرع في التربة الجيدة كالقمح، ولكن بعد الحرب أخذ يزرع في كل المناطق نظرا لقلة استيراد المواد الغذائية، وزاد ذلك الاتجاه بعد تحسن وسائل اختيار أنواع ملائمة من الشعير واستخدام المخصبات، ويبلغ الإنتاج قرابة 2,8 مليون طن، ومعظم المحصول يتجه كعلف حيواني خاصة للخنازير وجزء صغير يتجه لصناعة البيرة وعمل الخمائر، أما الشوفان فمحصول يمكن زراعته في أي أرض، وهو يقاوم رطوبة الصيف ولهذا يتمركز في غرب وشمال جتلند، ولكن هناك تناقص في مساحته لقلة قيمته الغذائية، ولتناقص عدد الخيول بعد انتشار الزراعة الميكانيكية ووسائل النقل الآلية، وكانت مساحة الشوفان قبل الحرب 375 ألف هكتار تناقصت إلى 200 ألف هكتار عام 1960، وفي تلك السنة بلغ إنتاج الشوفان 675 ألف طن معظمه موجه إلى غذاء الحيوان.
وبرغم قلة إنتاج الفدان من الحبوب بالقياس إلى إنتاج الدرنيات إلا أن هذه الحبوب تزرع؛ لأنها تغطي احتياجات العلف الحيواني، والحقيقة أن هناك تكاملا ضروريا بالنسبة لعلف الحيوان في الزراعة الدنماركية، فالحشائش والدرنيات تعطيه أحسن غذاء والحبوب تعطيه الكربوهيدرات، أما البروتين المتمثل في بذور الزيت فيجب أن تستورد.
الدرنيات
بدأت أهميتها تزداد كغذاء حيواني من أواخر القرن الماضي، ومعظم الإنتاج يتجه للعلف الحيواني، أول الدرنيات كان اللفت ثم الكرنب ثم البنجر، والبروتين في الدرنيات 10٪ وأقل، وللتغلب على ذلك يعطى للحيوان الجذر والنمو النباتي العلوي لما فيه من بروتين كثير، وقد قلت مساحة اللفت كثيرا، ويتركز حاليا في غرب وشمال جتلند في الأراضي الرملية، أما الكرنب اللفتي
Kohlrabi
فهو المحصول الدرني الأول، ويزرع في جتلند وفي شمال شرق زيلند، وهو ينمو في التربة الحمضية والرملية وأنواع التربات غير الصالحة للدرنيات الأخرى، كذلك فإن هذا النبات يقاوم الصقيع مما يمكن من تركه فترة طويلة حتى ينتهي حصاد المحاصيل الأخرى دون أن يتهدده الخطر، أما البنجر الموجه للعلف فهو نوع مهجن من بنجر السكر ودرنيات أخرى، ويتركز إنتاجه في الجزر وشرق جتلند.
أما البطاطس فينمو جيدا في التربة الرملية الخفيفة في غرب جتلند وشمال شرق زيلند، ويستهلك ثلاثة أوجه: (1) الغذاء الإنساني، (2) عمل الكحول، (3) عمل دقيق البطاطس.
الحشائش
إن ثلث المساحة الزراعية مخصصة للحشائش وزراعة العلف الأخضر، ويلاحظ نقص كبير في مساحة الأرض التي تترك فيها الحشائش تنمو طبيعيا كمراع دائمة بعد الحرب الثانية، وذلك للزيادة الكبيرة في زراعة العلف الأخضر في دورة زراعية، وأكبر مساحة لهذا المحصول في جتلند وتحتل هناك 38٪ من مجموع المساحة بينما في الجزر 24٪ فقط. (5-4) تربية الحيوان
تحولت الدنمارك في أواخر القرن الماضي من دولة زراعية إلى دولة تعيش على تربية الحيوان، وتحولت معها الزراعة لكي تخدم هذا الغرض، فكما أوضحنا أن 85٪ من إنتاج الزراعة موجه نحو العلف الحيواني، ولم تتميز الدنمارك بنوع معين في مجال تربية الحيوان؛ أي لم تتجه فقط إلى اللحوم أو الألبان، أو الخنازير، بل كل هذه الاتجاهات تظهر في هذا النوع من الاقتصاد، وبرغم الاتجاه خلال هذا القرن إلى الألبان إلا أن الاتجاه إلى اللحوم ظهر أيضا.
وأبقار الدنمارك الأصلية نوعان: (1) الدنماركي الأبيض والأسود، (2) الدنماركي الأحمر، ويكونان معا 85٪ من أبقار الدنمارك، وهناك 8٪ من أبقار جرسي و4٪ شورت هورن أو قصير القرن، وتتركز الأبقار البيضاء والسوداء - أبقار اللبن - في جتلند، وكانت منتشرة في كل أرجاء الدولة لكنها تتناقص. سبب انتشارها الكثير في الماضي راجع إلى مقاومتها وإمكان حياتها في الأرض أو الحشائش غير الجيدة، ولكن مع تحسن العلف أصبح النوع الأحمر أفضل لكمية اللبن الكبيرة، والنوع الأحمر هو تهجين بين البقر الأصلي في الجزر ونوع سلزفيج الأحمر، وتكون هذه الأبقار المهجنة نحو 88٪ من أبقار اللبن الدنماركي في الجزر و61٪ في جتلند.
وفي جتلند 70٪ من مجموع أبقار الدنمارك، متوسط الكثافة 105 رأس من الماشية لكل 100 هكتار، وتقل هذه الكثافة في الجزر خاصة شرق زيلند ولولاند
Lolland
حيث تنتشر زراعة الحدائق وبنجر السكر، وتزيد الكثافة عن المتوسط في فيونن وجتلند، وتصل إلى أكثر من 110 رءوس في جنوب فيونن وشرق ووسط الشمال في جتلند، ويبلغ عدد رءوس الماشية 3143000 رأس منها 1408000 من الأبقار (سنة 1968).
وإنتاج اللبن السنوي حوالي 5,5 مليون طن، وإنتاج البقرة هو نحو 3500كجم سنويا من اللبن، لكن هناك ذبذبة وبعض الأبقار تنتج 10000كجم لبن، معظم اللبن يستخدم لعمل الزبدة ولكن نسبته قلت أخيرا إلى 61٪ من مجموع إنتاج اللبن، وتستهلك صناعة الجبن 13٪.
والخنازير هي بمثابة حيوان التربية الثاني وعددها 7963000 رأس، ويلاحظ أن أعداد الخنازير يمكن أن تزيد أو تنقص بسرعة، وذلك بذبح أو عدم ذبح النتاج الجديد، ويرتبط ذلك بطبيعة الحال بحالة السوق الخارجية والمنافسة التي تحدث في هذه السوق، وكذلك سعر العلف - خاصة الحبوب - بالنسبة لسعر السوق للخنازير، وغذاء الخنازير المعتاد هو الحبوب والبطاطس، وفي أحيان بنجر السكر واللبن الخالي الدسم الذي يعود إلى المزارعين بعد أخذ القشدة منه في المصانع.
وأخيرا فإن الدجاج قد أصبح يمثل نوعا جديدا هاما من أنواع الثروة الحيوانية في الدنمارك، وقد بلغ إنتاج البيض مليار ونصف مليار بيضة عام 1968. (6) الصناعة في الدنمارك
نظرا لقلة المعادن ولتوجيه الدنمارك الزراعي فإن غالبية الصناعات في الدنمارك موجه نحو الصناعات الزراعية فيما يختص بمكان المصانع ومورد الخامات الزراعية، ويستثنى من ذلك الصناعة التي قامت في كوبنهاجن التي تخرج في كثير من صفاتها عن التوجيه الزراعي.
ومع ذلك فإن هناك تنازعا واختلافا في الاتجاهات الصناعية في دولة زراعية سكانها شبه مدينيين شبه ريفيين - كما هو الحال في نيوزيلندا. وهذا الصراع يتلخص في المجتمع الريفي الذي يرغب في الحصول على المصنوعات رخيصة، والمجتمع المديني الذي يرجو أن يشتري المواد الغذائية رخيصة، ومن ثم يعارضون المنح والمساعدات التي تعطى للزراع للمساعدة على التصدير الزراعي.
وعلى أية حال فنظرا لأن الدنمارك تفتقر إلى مواد الوقود وإلى الغابات، فقد كان لزاما على الصناعة الدنماركية أن تتجه بكل ثقلها وترتبط بمصدرين أساسيين من مصادر الثروة هما الزراعة والبحر.
وتقوم الصناعات الزراعية على أساس تصنيع المواد الغذائية: الزبدة - الجبن - لحم الخنزير - سكر البنجر (الشمندر)، ولكن نظرا لسيادة الزراعة على أشكال الاقتصاد فقد قامت أيضا صناعات مرتبطة بالآلات والأدوات الزراعية، وكذلك نظرا للاحتياج إلى علف الماشية في صورة أقراص الغذاء الزيتية، فإن الصناعات تحتوي أيضا على معاصر كبيرة لحبوب الزيت وخاصة فول الصويا وفول السوداني، وثمار نخيل الزيت - وكلها منتجات الإقليم المداري، ومن ثم لا بد من استيرادها ، وتستخدم هذه الزيوت أيضا لعمل المرجرين - السمن النباتي، وبرغم أن الدنمارك دولة تنتج الزبدة الحيوانية بكثرة، إلا أن معظم منتجاتها يوجه إلى التصدير، ويكتفي الدنماركيون بالزيوت النباتية في غذائهم!
وقد كان في الدنمارك أيضا صناعات كبيرة لنسج الصوف، ولكن مع تناقص أعداد الأغنام بكثرة في الفترة بين 1871 و1938، حل القطن محل الصوف كصناعة نسيج رئيسية، ولا تزال صناعات الجلود تحتل مكانة هامة بين الصناعات الزراعية في الدنمارك، ولكثرة الاهتمام بها فإن هناك فائضا كبيرا يدخل تجارة الصادرات الدنماركية.
وهناك أيضا صناعات بيو-كيميائية (كيمائية عضوية) مرتبطة بمذابح الحيوانات، وتنتج هذه الصناعة الأنسولين والهرمونات والمضادات الحيوية، وكذلك العقاقير الطبية، بالإضافة إلى الدم المجفف، وأنواع من السماد الكيميائي والعضوي الذي يدخل في احتياجات الزراعة.
وكانت الدنمارك قد أدخلت زراعة الخشخاش وغيره من أجل الحصول على المورفين والكودايين للأغراض الطبية، ولكنها عدلت نهائيا عن زراعة هذه النباتات في عام 1938، وبرغم أن الصناعة الطبية الدنماركية تنتج الكثير من الأحماض ومشتقاتها إلا أنه لا توجد صناعة تقطير لقطران الفحم «لعدم وجود الفحم في الدنمارك»، ولهذا فإن كميات الأحماض المشتقة من القطران مثل «حامض أستيل ساليساليك» تستورد من الخارج، ولا شك أن صغر حجم السوق في الدنمارك يجعل من الأرخص استيراد هذه الأحماض عن محاولة تصنيعها محليا.
وكانت الدنمارك قد اتبعت سياسة تشجير من أجل توفير بعض احتياجات السوق المحلية للأخشاب، ولكن إلى جانب ذلك أيضا أصبح في إمكان صناعة العقاقير الدنماركية أن تستخرج زيوتا تستخدم في صناعتها من إبر أنواع معينة من الصنوبر الجبلي
.
واهتمام الدنماركيين بالبحر قديم وقوي، وبرغم نقص الخامات، فإن الصناعة الدنماركية قد شيدت صناعة جيدة وكبيرة لبناء السفن تتركز في كل من كوبنهاجن وأودنزه
Odense ، وهي تتخصص أيضا في صناعة محركات الديزل لاستخدام البحر والبر، ولقد كانت شركة بورمايستر
Burmeister & Wain
أول شركة بناء سفن تنزل إلى البحر أول عابرة للمحيطات تعمل بالمحرك - الموتور، وكان ذلك عام 1911 حينما بنت هذه الشركة السفينة زيلانديا - نسبة إلى جزيرة زيلاند التي تقع عليها كوبنهاجن، وفي سنة 1948 أنزلت ترسانة هذه الشركة أيضا إلى البحر أضخم سفينة مصنع لصيد الحيتان في العالم، وهي السفينة تور شفده
Thorshoevdi
وكانت حمولتها 23,5 ألف طن، ولكن في عام 1954 أنزلت ترسانة السفن النرويجية في ستافنجر سفينة مصنع أضخم منها، حمولتها 30 ألف طن.
ويلعب الأسطول التجاري الدنماركي دورا هاما وحيويا بالنسبة للحياة الاقتصادية للدولة، وهو فضلا عن كبر حمولته بالقياس إلى حجم الدولة، فإنه أسطول حديث يستخدم المحركات - الموتورات - في الدفع، فإلى جانب أهمية النقل البحري بالنسبة للدنمارك - بطبيعتها الجزرية - فإن الأسطول الدنماركي منتشر فوق معظم مياه المحيطات ويزور أكثر بلاد العالم ما عدا الهند ومعظم أفريقيا جنوب خط الاستواء، ومعظم القواعد البحرية للأسطول التجاري توجد في المنطقة الشرقية من جتلند وبعض جزر الأرخبيل الدنماركي وخاصة زيلاند، وذلك لأن السواحل الغربية ليست مهيأة كمرافئ أو موانئ جيدة نظرا لطبيعة التكوين الساحلي.
ونظرا لنقص الثروة المعدنية في الدنمارك فإن الصناعات الكيميائية الموجودة حاليا تعاني من عقبة كبيرة، فإن احتياجات الدنمارك الكبيرة من الأسمدة المعدنية تؤدي إلى استيراد خام الفوسفات من شمال أفريقيا بكميات كبيرة، وفي جرينلاند يوجد منجم لخام الكريولايت الذي قامت عليه صناعة تنقية وتكرير في كوبنهاجن تنتج معدنا درجة نقاوته 99,7٪ وهو يستخدم في صهر الألمونيوم، ووضع طبقة من الميناء على الحديد والصلب، وفي عمل الزجاج الذي يقترب لونه من لون اللبن، وتستهلك صناعة الألومنيوم ثلاثة أخماس الكريولايت المنتج، بينما يبلغ نصيب ميناء الحديد والصلب قرابة الثلث والباقي يستخدم في صناعة الزجاج المشار إليها.
والطباشير هو أهم منتج معدني في الدنمارك، ويستخدم في صناعة الطوب وفي عمل الأسمنت وصناعة الجير، وكذلك يستخدم الصوان - الذي يحفر بواسطة الحفارات الكبيرة من مناطق المستنقعات والتربات الرطبة، ويستخدم عدة آلاف الأطنان منه في عمل الصيني، كما يستخدم أيضا في المطاحن؛ لأن المطاحن الفولاذية تضيف بعض الشوائب إلى الطحين، ولقد كان لوجود الحجر الجيري، إلى جانب بعض الطين الذي يعود إلى العصر الجليدي أثر واضح في نشأة صناعة كبيرة لعمل الأسمنت والطوب الأسمنتي الرملي، ولكن نقص الوقود والاحتياج إلى استيراده يرفع تكلفة الإنتاج بدرجة محسوسة، وفي جزيرة بورنهولم الدنماركية - في البلطيق - تكوينات جرانيتية تستخدم أيضا في البناء أو تصدر إلى ألمانيا، ومنذ عام 1794 بدأت النهضة الزراعية تسيطر على شبه جزيرة جتلند، وقد أدى ذلك إلى إعداد الأرض للزراعة، وكان أهم عائق هو وجود الكثير من الأحجار داخل التكوين الطيني، وقد أزيلت هذه الأحجار واستخدمت في صورة جدران لتحديد الحقول والملكيات الزراعية، وفي الربع الثاني من هذا القرن أزيلت هذه الجدران الحجرية واستخدمت لعمل طرق مكدامية حديثة في ريف جتلند، فجاء ذلك مرتبطا بنهضة الزراعة ودخول السيارات إلى مجال النقل الحديث للمنتجات الزراعية وإيصالها إلى مراكز الصناعات الزراعية، ولكن هذه الأحجار لم تسد الاحتياج، وفي عام 1931 نقلت من جزيرة بورنهولم كميات من الحجارة بلغت 110 آلاف طن لإكمال شبكة الطرق في جتلند والجزر الأخرى، كما استورد في العام نفسه حوالي مائة ألف طن أخرى من السويد للغرض نفسه، ويدل هذا على مدى النقص المعدني في تركيب الدنمارك الجيولوجي حتى فيما يختص بالأحجار! (7) صيد الأسماك
إن تكوين الدنمارك الجزري يجعلها من الدول القليلة المحظوظة بطول السواحل، وذلك أن هناك ميلا واحدا من أطول الشواطئ لكل خمسة أميال مربعة وثلاثة أرباع الميل من مساحة الدولة، ويضاف إلى ذلك أن البحار المحيطة في مجموعها هي مياه ضحلة غنية بالموارد السمكية، ومن ثم، فلا عجب أن يكون الدنماركيون شعبا من السماكين، وتقوم السماكة الدنماركية على أساس تسويق الأسماك طازجة للاستهلاك المباشر، ولكن جزءا من الصيد - يقدر بحوالي الخمس - يصنع ويعلب، لكن هذه الصناعة قد أخذت مؤخرا تسلك نفس الاتجاه العالمي: إعداد الأسماك وتجميدها بدلا من تعليبها - وذلك مرتبط أشد الارتباط بتغير الذوق الغذائي عند الشعوب عامة، والشعوب المتقدمة على وجه خاص ، التي أصبحت تفضل الطعام الطازج أو أقرب الأشكال إليه، وهو المجمد، بينما المعلب لم يعد سلعة رائجة إلا في الأسواق البعيدة التي لا تحتمل النقل مجمدا، أو أسواق الفقراء، وفي نفس الاتجاه أخذ سوق الأسماك المملحة ينكمش ويهبط بسرعة، وتقوم صناعة الأسماك الحديثة في الدنمارك بإعداد سمك الباكلاه - القد - في شرائح مجمدة مطهية أو معدة للطهو، وكذلك في صورة أقراص - كفتة، وإلى جانب ذلك أيضا تعد شرائح من الرنجة والماكاريل وغير ذلك بصورة مجمدة، بالإضافة إلى تعليب السردين، وقد بلغ إنتاج الأسماك 1,5 مليون طن عام 1968. (8) التجارة الخارجية للدنمارك
بدأت التجارة في الدنمارك منذ فترة طويلة تؤرخ بعصر ائتلاف مدن الهانزا التجارية، وحينما سقط هذا الائتلاف التجاري في القرن السادس عشر كان لموقع كوبنهاجن على مضيق السوند أثر واضح في نمو قبضة هذه المدينة على تجارة منطقة بحر البلطيق، وكان التجار الدنماركيون يجوبون البلطيق محتكرين تجارته لفترة طويلة مما أدى إلى نمو الثروة والرخاء حتى جاءت فترة توسع نابليون في أوروبا، وقد أدت الحروب النابليونية إلى تدمير الأسطول التجاري الدنماركي، ولكن التجارة عادت إلى النمو ابتداء من منتصف القرن الماضي، ومنذ ذلك التاريخ أخذت التجارة الدنماركية طابعا ما زال حتى الآن يمثل النمط الدنماركي في التجارة: وهو تصدير المنتجات الحيوانية - ألبان ومنتجاتها واللحوم والجلود - والمنتجات الزراعية، وبعض الآلات، أما الاستيراد فيدور حول الخامات اللازمة للزراعة والغذاء الحيواني والمخصبات الزراعية، بالإضافة إلى الوقود - الفحم والبترول - والمعادن.
ولقد تناقصت الروابط التجارية مع ألمانيا في أوائل هذا القرن، وبتأثير الأزمات الاقتصادية العالمية فيما بين الحربين العالميتين اضطرت الدنمارك إلى عقد اتفاقيات تجارية مع دول أخرى، ومن بين هذه الاتفاقات ذلك الاتفاق الذي عقد مع بريطانيا وبمقتضاه منحت الدنمارك امتياز توريد 62٪ من لحم الخنزير و38٪ من البيض من مجموع احتياجات بريطانيا، بالإضافة إلى نسبة لا بأس بها من الزبدة، وفي مقابل ذلك أعطى لبريطانيا امتياز تصدير أربعة أخماس الاحتياجات الدنماركية من الفحم.
وبرغم الموارد الدنماركية المحدودة فإن لهذه الدولة نشاطا تجاريا أكبر من مساحتها وعدد سكانها، ويدل ذلك على مدى التنظيم الاقتصادي الممتاز وعلى نشاط الشعب والتخطيط، فللدنمارك الآن علاقات تجارية وثيقة بعدد كبير من الدول، وخاصة مع جيرانها بريطانيا وألمانيا والسويد والنرويج، وبرغم أن الصادرات أقل من قيمة الواردات، وبالتالي فإن الميزان التجاري ليس في مصلحة الدنمارك، إلا أن هذا النقص في الميدان التجاري يعوضه النشاط الكبير للأسطول التجاري الدنماركي وأرباحه الكثيرة، بالإضافة إلى الفوائد السنوية التي تعود إلى الدنمارك نتيجة لقروضها ورأسمالها في الخارج.
فلكي تقوم الصناعة المعدنية في الدنمارك يجب أن تستمر واردات الفحم والحديد والصلب، وتقوم مبيعات صناعة الآلات الدنماركية، ومبيعات ترسانة السفن الدنماركية، بتغطية أكثر من نصف قيمة هذه الواردات، ونظرا لصغر مساحة الأراضي الزراعية وقلة محاصيل الغذاء الحيواني فإن الدنمارك تستورد كميات كبيرة من الخامات الزراعية والأغذية الحيوانية والزيوت، كذلك تستورد الدولة الكثير من الحبوب الغذائية اللازمة للغذاء البشري، أما الصادرات الدنماركية فلا تزال السلع والمنتجات الزراعية تتصدرها، إلى جانب السفن والأسمنت والآلات.
الفصل الرابع
السويد
(1) تكوين دولة السويد
تمثل السويد الدولة الكبرى في نورديا من حيث السكان والمساحة والتقدم الاقتصادي، وهي في الوقت ذاته أكثر دول نورديا ارتباطا بالبلطيق ومشاكله السياسية وبدولة فنلندا، وبالرغم من أن للسويد جبهة بحرية طويلة نسبيا تطل على سكاجراك، ومن ثم على بحر الشمال - وبرغم أن هذه الجبهة ذات أهمية اقتصادية عالية للسويد الحديثة - إلا أن معظم السويد موجه بواسطة بنائه التضاريسي نحو الجبهة البحرية المطلة على بحر البلطيق وخليج بوثنيا، وقد ظلت السويد قرونا طويلة تتبع هذا التوجيه الطبيعي.
ولقد عمرت أراضي السويد متأخرا عن الدنمارك بفترة طويلة نظرا لقسوة مناخ ما بعد العصر الجليدي مباشرة، وقد جاء المهاجرون الذين عمروا السويد من الجنوب في صورة صيادين وسماكين، وذلك حينما نمت الغابات المخروطية محل غطاء الجليد، وقد تعاقبت حضارات عدة في السويد أولها حضارة مجلموس التي تميزت باستخدام العظام وانتشرت في السويد من جزيرة زيلاند الدنماركية حتى حوض يمتلاند في شمال وسط السويد، وكان معظم النشاط الاقتصادي مركزا حول الصيد البري وجمع البذور والثمار في داخل الغابات، ثم جاءت حضارة أرتبول التي تميزت بالاستقرار حول الشواطئ والفيوردات والأنهار، والاعتماد كثيرا على السماكة، وكانت أدوات هذه الحضارة تصنع من الصوان وغيره من الحجارة، وأخيرا جاءت الزراعة في صورة هجرة من الجنوب أيضا، بينما ظل الصيد حرفة سكان الشمال والوسط لفترة طويلة .
وعلى وجه العموم فإن هجرات التعمير في السويد كانت تتجنب هضبة سمالاند الفقيرة في الجنوب، وتتجه مع السهول الساحلية من سكانيا إلى المناطق الغنية حول البحيرات الوسطى، وقد انتشرت الزراعة مع الرعي في خلال نهاية النيوليتي - العصر الحجري الحديث، وعصر البرونز نتيجة حركة رفع أرضية في اسكندنافيا عامة أدت إلى كشف مناظق التربة الفيضية أو الرسوبات الطينية الخصبة الصالحة للزراعة في وسط السويد.
وقد تبع ذلك تغير مناخي أدى إلى سوء الأحوال الزراعية في خلال عصر الحديد، ترتب عليه هجرة عكسية لكثير من الناس من وسط السويد في اتجاه الجنوب.
تنقسم السويد إلى 24 قسما إداريا
Lan
وهذا التقسيم يرجع إلى القرن الثالث عشر، أما التقسيم القديم إلى مديريات ومحافظات
Landskap
فيرجع إلى العصور السابقة للتاريخ حينما كانت أقسام السويد المسكونة بالناس تكون وحدات سياسية مستقلة، وقد تم فيما بعد اندماج هذه الوحدات المستقلة في وحدات سياسية أقل عددا وأكبر مساحة
Lagsagor
تطورت فيما بعد إلى 25 محافظة داخل دولة السويد المتحدة، وبرغم وجود هذه المحافظات في صورة عامة معترف بها إلا أنها لا تكون وحدات إدارية، والواقع أن كثيرا من المحافظات القديمة هي بعينها الأقاليم الإدارية الحديثة، مع بعض التغيرات في الحدود أو الأسماء، ولكن في الجنوب والوسط نجد بعض المحافظات قد قسمت إلى إقليمين أو ثلاثة أقاليم إدارية جديدة.
ومن الناحية التاريخية نجد مركزين أو نواتين للسويد، ويمكن أن نضيف إليهما نواة ثالثة، النواة الأولى هي المنطقة المحيطة ببحيرة مالرن - إقليم سفيا
Svealand ، والثانية هي إقليم جوتالاند في الجنوب الغربي من وسط السويد حيث كان الاستيطان السكاني كثيفا في منطقة سهول أوستر جوتلاند، وكان يحيط بكل من هاتين النواتين غابات كثيفة، أما المركز الثالث فكان منطقة سكانيا الحالية في أقصى جنوب غرب السويد، والذي ضم إلى السويد في فترة لاحقة، وقد كان هذا الإقليم كثيف السكان بحكم سهولته ومناخه ومواجهته للدنمارك التي كان يكون معها وحدة حضارية وسياسية لفترة طويلة، ويعزله عن بقية السويد نطاق من الغابات الكثيفة صعبة الاختراق.
وقد تمكن أمراء أبسالا من بسط نفوذهم السياسي على كل منطقة بحيرة مالرن وكونوا مملكة سفيا في عصور مبكرة، وفي خلال عصر الفايكينج يبدو أنها اتحدت مع مملكة جوتالاند (حوالي القرن الحادي عشر كان هناك اتحاد ضعيف بين هذين الإقليمين)، وتوسعت مملكة سفيا صوب الشمال الغربي إلى إقليم دالارنا (أواسط نهر دال ألف)، ثم اتجه التوسع غربا نحو إقليم فيرملاند (شمال بحيرة فينرن) الذي كانت تربطه بالنرويج وجوتالاند روابط وثيقة في فترة سابقة.
وفي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر كانت الدنمارك تمثل القوة السياسية السائدة في منطقة اسكندنافيا، بما في ذلك السويد، وفي الربع الأول من القرن السادس عشر (1521-1523) تمكنت ثورة السويديين بقيادة جوستاف فازا من الاستقلال عن الدنمارك.
وفي خلال فترة السيطرة الدنماركية كان هناك استعمار واستيطان كثيف للناس داخل السويد - يميزه أسماء الأماكن والبلاد التي تنتهي ب
Ryd, Sacter, Bo ، وتداخل شديد بين النفوذ الذي تمارسه الوحدات السياسية والإدارية المختلفة، مما أدى إلى حصول اندماج وانصهار بين تلك الوحدات مهدا الطريق فيما بعد للأمجاد التي حققتها السويد خلال القرن السابع عشر.
خريطة رقم (17): تطور إمبراطورية السويد.
نمت السويد في القرنين السادس عشر والسابع عشر صوب النطاق القطبي وعبر خليج بوثنيا إلى الساحل الشرقي للبلطيق، وقد تلا ذلك تقلص للإمبراطورية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث استقرت حدودها إلى الوقت الراهن.
وقد نجحت السويد في أن تخلق من نفسها دولة بلطية عظمى، فقد سيطرت السويد على كل مصبات الأنهار في ذلك البحر فيما عدا منطقة بروسيا وسكانيا، وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر، استطاعت السويد أن تطرد الدنماركيين تماما من سكانيا وشاطئ سكاجراك، وأن تبني ميناء جوتبرج خلال نهاية ذلك القرن، وكان ذلك إيذانا بتحول اهتمامات السويد إلى بحر الشمال والبحار المفتوحة طوال السنة.
ثم بدأ عهد التقلص في الإمبراطورية السويدية سريعا نتيجة لعدد من العوامل ومنها: (1)
امتداد النفوذ الروسي في شرق البلطيق وإنشاء سان بطرسبرج كرمز لاهتمامات الدولة الجديدة بالتوسع في البلطيق، وهو الأمر الذي انتهى بطرد السويد من فنلندا في أوائل القرن التاسع عشر (1908) واحتلال الروس لها، حتى استقلت عنها في 1919. (2)
نشوء دولة بروسيا كقوة جديدة أدى إلى طرد السويد من السواحل الجنوبية الشرقية والجنوبية لبحر البلطيق. (3)
إنهاك السويد في حروب طويلة أدى إلى اضمحلال قوتها.
ولكن النتائج الهامة التي ترتبت على نشوء دولة السويد تتلخص في نقطتين جوهريتين:
أولا:
التوسع الاستقراري السويدي المستمر شمالا في نورلاند.
ثانيا:
التوسع إلى مياه سكاجراك وسكانيا قد أدى إلى نتائج اقتصادية هامة للسويد خلال العصر الحديث، وخاصة نمو الروح البحرية وانتقال مركز الثقل الاقتصادي من الوسط إلى الجنوب الغربي، وفي نفس الوقت فإن الحدود الفاصلة بين أوبسالا - عاصمة دولة سفيا القديمة - وبين حدود نورلاند لا تزيد عن 150كم، ولكن هذه الحدود تمثل الحد الفاصل بين الاستغلال القديم والجديد في منطقتين من السويد: الوسط والشمال، وتبرز الأهمية الجوهرية لنورلاند في الوقت الحاضر من خلال عدد من الحقائق على رأسها الثروة التعدينية والطاقة الكهربائية والموارد الغابية الشاسعة. (2) تضاريس السويد
تكون جبال فييل
Fjaell
في شمال غربي السويد - أعلى مناطق هذه الدولة، وتلتحم هذه الجبال بجبال النرويج الشمالية، ويكونان معا السلسلة الفقرية الجبلية في شبه جزيرة اسكندنافيا، وتستمر هذه السلسلة من الجبال ممتدة إلى الجنوب في صورة نطاق يشمل غرب السويد، تمتد بمحاذاته الحدود المشتركة بين السويد والنرويج.
وتصل هذه الجبال إلى أعلى نقطة فيها في الشمال (2117 مترا جنوب خط حديد كيرونا-نارفيك)، وتستمر مستوياتها في الانخفاض تدريجيا صوب الجنوب فتصل إلى قرابة 700-800 متر عند المنطقة التي يخترقها الخط الحديدي الممتد من ميناء تروند هايم النرويجي في اتجاه السويد عبر حوض يمتلاند.
وإلى الشرق من السلسلة الجبلية، يمتد نطاق هضبي يتميز بسطوح أثرت فيها عوامل الرفع، ويخترقها العديد من الأنهار التي حفرت لنفسها أودية تتراوح بين الضيق والاتساع حتى تسقط على حافة الهضبة وتواصل سيرها عبر سهول السويد الشرقية لكي تصب في النهاية في خليج بوثنيا.
وتتخذ سهول بوثنيا الساحلية منظرا مغايرا للمنظر الهضبي الداخلي، فالسهول مغطاة برسوبات عديدة ترجع لما بعد العصر الجليدي، فيما عدا بعض المناطق التلية التي تظهر فيها الصخور الأصلية بعد أن تعرت - بواسطة عوامل التعرية البحرية والجوية - من رسوبات العصر الجليدي.
ويلاحظ الجيولوجيون أن هناك حركة ارتفاع في الأرض ما زالت مستمرة، وأن الأنهار ما زالت تعمق مجاريها بالحفر في الإرسابات البحرية، ويقول هؤلاء الخبراء: إن الجزر العديدة الصغيرة التي توجد أمام سواحل الخليج بوثنيا وأمام منطقة استوكهولم ليست سوى قمم تلال المستقبل حينما ترتفع الأرض التي تواجه خط الساحل الحالي.
وعلى العموم فإن الشكل التضاريسي العام لشمال السويد هو عبارة عن شرائح طولية تبدأ من السلسلة الجبلية في الغرب، يليها نطاق الهضاب ثم السهل الساحلي في الشرق.
وعلى عكس هذا الترتيب الطولي تماما نجد وسط السويد يتكون من أراض منخفضة تمتد عبر الدولة من الشرق إلى الغرب من شواطئ بحر البلطيق إلى مياه الكاتجات وسكاجراك، لكن هذه الأراضي المنخفظة لا تكون سهلا مستمرا، إنما تتكون من ثلاث مناطق منخفضة هي: (1)
سهل مالرن-هايلمارن
Malaren-Hjalmaren
الذي يمتد في القسم الشرقي حول البحيرتين اللتين تحملان نفس الاسم. (2)
سهل فينرن
Vanern
الذي يحتل القسم الغربي، ويمتد حول بحيرة فينرن ومع وادي جوتا حتى شواطئ البحر. (3)
سهل جوتا الشرقي والأوسط الذي يمتد حول بحيرة فيترن
Vattern
ويفصل بين هذه السهول الثلاثة أراض مرتفعة نسبيا تتكون من تربات حجرية ومغطاة بغطاء غابي كثيف.
وتتكون هذه السهول من صخور من الزمن الأول والأركي تغطيها رسوبات حديثة، ويمتلئ السهل بالانكسارات التي تحتلها البحيرات، مثل بحيرة مالرن وفينرن، وهناك غيرهما آلاف البحيرات الصغيرة، وفوق السهل تمتد حافات طويلة تصل في ارتفاعها إلى نحو 50-60 مترا في اتجاهات غير منتظمة، وكانت ظهور - جمع ظهر - هذه الحافات في الماضي تكون طرقا جيدة بعيدة عن الأرض الرخوة في المناطق المنخفضة، وهي تكون الآن مصدرا للحصى والرمال.
أما المرتفعات الجنوبية في السويد فتمثل جزيرة قديمة ارتفعت فوق مستوى البحار التي خلفت العصر الجليدي الأخير، وهي تكون سطوحا جرداء مليئة بالركامات الجليدية، وعلى هوامش هذه الهضبة توجد السهول الساحلية لجنوب السويد، بما في ذلك جزيرتا أولاند وجوتالاند في بحر البلطيق اللتان تتكونان من صخور تعود للزمن الأول، وسهول إقليم سكانيا بدورها تتكون أيضا من صخور من الزمن الأول تغطيها صخور من العصر الكريتاسي، وفوق هذا وذاك توجد الإرسابات المتخلفة عن فترة ما بعد العصر الجليدي. (2-1) بحيرات السويد وأنهارها
تكون البحيرات ما يوازي 8,5٪ من مساحة السويد، وأكبر هذه البحيرات هي تلك التي تحتل السهل الأوسط.
البحيرة
الارتفاع فوق البحر بالمتر
المساحة كم
2
أكبر عمق بالمتر
مساحة حوض التصريف كم
2
فنرن
44
5571
97
51288
فيترن
89
1908
128
19961
مالرن
0,3
1144
63
22386
هايلمارن
22
481
25
ونتيجة للتعرية الجليدية وعملية الارتفاع الأرضي فإن أنهار السويد تشتمل في أجزاء من مجاريها على مظاهر حداثة كثيرة تؤدي إلى ظاهرات عدم النضوج المتمثلة في المساقط والمندفعات المائية والبحيرات، وكذلك يتضح من التاريخ المورفولوجي الحديث أن كثيرا من خطوط تقسيم المياه بين الأنهار غير واضحة أو محددة.
ووجود الصخور المتحولة والطين الناجم عن التعرية الجليدية والبحرية يؤدي إلى قلة ظاهرة في المياه الباطنية، حتى في حالة عدم تجمد التربة، والاستثناء الوحيد هو وجود خزانات المياه الباطنية في مناطق الصخور الجيرية والرملية، وفي مناطق الجبال الشمالية الغربية يستمر غطاء الجليد مسيطرا على الأرض لحوالي نصف العام، ويترتب على ذلك أن التصريف النهري في الموسم الشتوي يصبح ضئيلا للغاية، بينما في الصيف تعاني المنطقة ككل من فيضانات عالية نتيجة ذوبان الغطاء الجليدي، وتصل ذروة الفيضانات بعد ذوبان الجليد الأسفل ثم جليد أعالي الجبال، وكان يمكن لهذه الفيضانات العالية أن تصيب الأودية النهرية بالكوارث لولا وجود البحيرات الكثيرة التي تقوم مقام الخزان المعادل للفيضانات.
وأهم أنهار السويد هي من الشمال إلى الجنوب:
مونيو:
الذي يكون الحدود بين السويد وفنلندا، وفي حوض رافده تورني تقع منطقة كيرونا الغنية بمصادرها من خام الحديد.
لولي :
تقع منطقة جيليفار الغنية بخام الحديد في الحوض الأوسط لهذا النهر، وعلى مصب النهر يقع ميناء لوليا الذي أقيم فيه مصنع للحديد تابع للدولة.
أندالز:
يقع حوض يمتلاند في أجزائه العليا ويصب في وسط ساحل السويد على خليج بوثنيا بالقرب من ميناء سوندسفال.
دال ألف:
يجري جزؤه الأدنى في القسم الشمالي من إقليم سفيا الشرقي، وهو على وجه العموم يكون الحدود بين وسط وشمال السويد.
جوتا ألف:
نهر قصير بين بحيرة فينرن وساحل السويد على الكاتجات، وبرغم قصر مسار هذا النهر إلا أنه يكون وسيلة للملاحة النهرية عبر سهول السويد الوسطى، كما تقع عليه مناطق صناعية كثيرة على رأسها جوتبورج التي تقع على مصب النهر. (3) مناخ السويد
تتمتع السويد عامة بمناخ ذي حرارة مرتفعة بالقياس إلى درجات العرض التي تقع فيها، وذلك راجع إلى التعديل الناجم عن تأثيرات المحيط الأطلنطي الشمالي - تيار الخليج - بالإضافة إلى كتل الهواء الجنوبية الغربية الدافئة.
ومما يؤكد هذه الحقيقة أن متوسط درجة الحرارة في شهر يناير/كانون ثاني أعلى بمقدار عشر درجات مئوية في السويد عما هو متوقع لدرجات العرض المماثلة، ومتوسط حرارة يوليو/تموز أعلى بثلاث درجات.
لكن امتداد السويد في درجات عرض كثيرة - حوالي 15 درجة عرضية بين درجات العرض 55-69 شمالا، ووقوع حوالي 15٪ من الدولة شمال الدائرة القطبية الشمالية قد أديا إلى وجود اختلافات كبيرة بين شمال السويد وجنوبها، ومما يزيد من حدة التناقض بين المنطقتين أن القسم الجنوبي من السويد يتكون من سهول وهضاب قديمة قليلة الارتفاع، وأنه يكون شبه جزيرة تطل على أجزاء من بحر الشمال مما يساعد على بروز أثر التعديل المناخي إلى الدفء، بينما القسم الشمالي من السويد يظل بعيدا عن تأثيرات المحيط الأطلنطي، وهو يطل على خليج بوثنيا الذي يتجمد خلال الشتاء، فضلا عن أنه يقع خلف الفييل السكندنافية، وكل هذه العوامل - بالإضافة إلى الموقع في درجات العرض الشمالية - تميل بشمال السويد إلى القارية والبرودة عن القسم الجنوبي.
ويعوض قصر فصل الصيف في شمال السويد: (1)
ارتفاع درجة حرارة الصيف ارتفاعا نسبيا. (2)
طول ساعات النهار (عند الحدود الفنلندية السويدية هناك 53 يوما لا تغيب فيها الشمس عن الأفق). (3)
طول ساعات الفجر والغسق عامة في السويد وخاصة في الشمال، مما يؤدي إلى ارتفاع محسوس في الحرارة. (4)
قلة غطاء السحب في الصيف يؤدي إلى رفع درجة الحرارة التي تستقبلها الأرض؛ إذ إن تأثير أشعة الشمس يصبح مباشرا. (5)
كثافة غطاء السحب في الشتاء مما يؤدي إلى تقليل فاقد الحرارة المشعة من الأرض إلى الفضاء الخارجي، وبذلك يحتفظ نسبيا بحرارة الأرض لفترة زمنية كبيرة.
وتؤدي هذه الظروف جميعا إلى أن شمال السويد عامة يتلقى في شهر يونيو/حزيران مقدارا من الإشعاع الشمسي أكثر مما تتلقاه كل من مدريد وروما على حدة.
وتتدرج كمية الأمطار الساقطة عامة في القلة كلما اتجهنا شرقا، وهي بذلك أعلى ما تكون في منطقة الجبال الغربية وعلى الساحل الجنوبي الغربي حيث يزيد ما يسقط من الأمطار سنويا عن ألف مليمتر، ولكن الجبال الغربية تتلقى في مجموعها كمية من الأمطار تزيد في بعض مناطقها عن ألفي مليمتر، وبذلك يلعب ارتفاع التضاريس أثره في كمية المطر بالقياس إلى الإقليم الهضبي الجنوبي الغربي، وتتمتع منطقة شمال برجسلاجن أيضا بكمية أمطار وفيرة، أما جنوب السويد ووسطها وغربي نورلاند فتسقط فيها كمية أمطار متوسطة تتراوح بين 500 و700 مليمتر في السنة، ويمثل إقليم نوربوتن وسواحل خليج بوثنيا أقل مناطق السويد مطرا لوقوعها في ظل الجبال.
وتبلغ كمية المطر الساقطة أقصاها في أواسط وأواخر الصيف، وفي بعض الأحيان نجد قمة مطر صغيرة أخرى في شهر أكتوبر/تشرين أول؛ بينما أقل كمية مطر هي تلك التي تسقط في أوائل الربيع، ولكن إلى جانب ذلك فهناك كمية كبيرة من الثلج المتساقط الذي يغطي معظم السويد بغطاء أبيض طوال الشتاء، وتبدو الطبيعة كلها كما لو كانت تغط في سبات عميق، ومع ذلك فالشتاء هو فصل النشاط والحركة في وسط وشمال السويد، وذلك بالنسبة إلى الذين يعيشون على حرف الغابات، وإلى معدني خام الحديد وعمال النقل.
أما الربيع في السويد فهو قصير جدا لدرجة أن كثيرا من الكتاب يعتقدون أن في السويد فصلين: صيف لا بأس بدفئه وشتاء طويل تغطي فيه الثلوج أسوار الحقول والبيوت وتتجمد الأنهار ومسطحات البحيرات، ويصبح الانتقال سهلا ومباشرا وغير مرتبط بالطرق التي لا تظهر تحت غطاء الجليد، ولكن في جوتالاند يمتد الربيع والخريف امتدادا زمنيا أطول بكثير مما في الوسط والشمال، ولا شك في أن ذلك مرتبط بتأثير نفوذ البحر.
ولعل مدى فصل الإنبات هو دليل على التغير الحراري الموسمي، وتحسب عدد أيام الإنبات في نورديا على أساس الأيام التي يزيد متوسط الحرارة اليومي فيها في الربيع والخريف عن ثلاث درجات مئوية فوق الصفر.
وبناء على هذا المقياس نجد أن فصل الإنبات في إقليم سكانيا يبدأ في أول أبريل ويستمر حتى بداية ديسمبر (حوالي ثمانية أشهر - مثله في ذلك مثل الدنمارك)، أما في وسط السويد (وجنوب شرق النرويج وجنوب فنلندا حوالي درجة العرض 60 شمالا)، فإن فصل الإنبات والنمو النباتي يمتد من أول مايو إلى الأسبوع الأول من نوفمبر (حوالي ستة أشهر)، وتتأخر بداية موسم الإنبات على طول سواحل خليج بوثنيا السويدية والفنلندية معا حوالي عشرة أيام أخرى عن بدايته في وسط السويد (أي يبدأ حوالي 10-15 مايو)، وذلك نتيجة للتأثير البارد لخليج بوثنيا والبلطيق، ولكن يعوض ذلك أن البحر يؤثر مرة أخرى في تأخير انخفاض درجة الحرارة خلال الخريف، ويؤدي التأثير البحري إذن إلى أن فصل الإنبات يمتد زمنيا في مناطق بوثنيا الساحلية لفترة مساوية لتلك التي يرصدها الباحثون في وسط السويد - وإن تأخر موعد البداية والنهاية لهذا الفصل عن مثيلهما بحوالي عشرة أيام.
وفي منطقة الدائرة القطبية نجد فصل الإنبات يبدأ في حوالي 20 مايو، ولكنه يبدأ في أول مايو على الساحل النرويجي في العروض القطبية، ويدل على مدى تأثير البحر على النرويج، ويستمر هذا الفصل أربعة أشهر فقط (أواخر سبتمبر، بينما يستمر إلى أواخر أكتوبر على الساحل النرويجي)، ويعوض هذا النقص في طول موسم الإنبات أن الإشعاع الشمسي طويل الأمد كما سبق أن ذكرنا. (4) التربة
تتغير التربة كثيرا من مكان لآخر في السويد، وهذا التغير مرتبط بدون شك بالتعرية الجليدية التي عاشتها الأراضي الاسكندنافية حتى العصر الحديث، وفي إقليم نورلاند نجد التربة مستمدة من الإرسابات البحرية اللاحقة للعصر الجليدي؛ ولذا فهي تربة خالية من الأحجار وصالحة للزراعة بسهولة، أما الأراضي التي يظهر فوقها إرسابات جليدية فوق الرسوبات البحرية، فإنها مليئة بالأحجار مما يصعب معها القيام بالأعمال الزراعية.
وعلى وجه العموم فإن التربة ضعيفة ولم تصل بعد إلى مرحلة النضوج وذلك راجع إلى رطوبة الجو وبرودته الدائمة، وهما عاملان لا يساعدان على تكوين وإنضاج التربة، ونلاحظ تشابها كبيرا بين أنواع التربة والتركيب الجيولوجي، فأحسن التربات هي تلك المشتقة عن صخور الكمبري والسيلوري - الرملية والجيرية - التي تحتوي على غذاء النبات - وخاصة الجير، وتوجد مثل هذه التكوينات الصخرية في سكانيا وأولاند وجوتلاند وأحواض منعزلة في منطقة البحيرات الوسطى وإقليم يمتلاند، ومناطق صغيرة متفرقة في شرق وسط السويد - وتمتد أيضا في جنوب فنلندا وإستونيا عبر البلطيق.
وكذلك نجد قيمة عالية للتربات المشتقة من الصخور الجيرية الكريتاسية، مثلها في ذلك مثل التربة المشتقة من الصخور الكمبروسيلورية، وهذه توجد أيضا في إقليم سكانيا الغربي والجنوبي، وفيما عدا ذلك فإن التربات السويدية الأخرى محتاجة دائما إلى كميات كبيرة من الجير كل سنة، كما تحتاج الحقول إلى صرف جيد للمياه الزائدة خلال موسم الفيضان وإلا تأخر نمو المحصول كثيرا. (5) النبات الطبيعي
اشتركت عوامل التغير المناخي وأشكال التربة في ظهور تغيرات كثيرة في شكل الغطاء النباتي، ففي المناطق التي تعلو عن 500 متر نجد الغطاء النباتي فقيرا في الأنواع ومتفرقا غير كثيف، وتسيطر عليه الأعشاب والأشنيات والطحالب إلى جانب أنواع قزمية من أشجار البتولا، وفي أسفل هذه المناطق الألبية نجد مساحات واسعة من غابات البتولا المتنوعة حسب أنواع التربة، ففي المناطق ذات التربة الجيدة تنمو البتولا إلى ارتفاعات عالية، كما تنمو الأعشاب وغيرها مما يميز النمو النباتي الأرضي بالكثافة والغزارة، أما في التربات الفقيرة فإن النمو الأرضي قليل ولا ترتفع الأشجار كثيرا إلى أطوال عالية.
وإلى أسفل نطاق غابات البتولا تمتد مساحات كبيرة من الأشجار المخروطية التي تغطي معظم أراضي السويد، وتتعدد أنواع هذه الأشجار لكن يسودها الصنوبر الاسكتلندي والتنوب، ويظهر البلوط في الأجزاء الجنوبية من السويد إلى جوار الأشجار المخروطية الأخرى، وإلى جانب ذلك كانت غابات الزان والبلوط تغطي مساحات كبيرة، ولكن معظمها أزيل لتحل الحقول الزراعية محلها. (6) سكان السويد
تضم السويد شعبا متجانسا بصورة كبيرة؛ إذ لا توجد سوى أقليات صغيرة العدد هي: 25 ألفا من الفنلنديين، وهؤلاء هم من أصل الفنلنديين الذين شجعتهم حكومة السويد منذ القرن السادس عشر على الهجرة إلى دالارنا وهيلسنجلاند وميدلباد من أجل استغلال ثروة السويد الغابية في القسم الجنوبي في نورلاند، وهناك أيضا حوالي خمسة آلاف من اليهود وسلالة ثلاثمائة من الوالون الحرفيين الذين استقدموا إلى السويد خلال القرن السابع عشر، وأخيرا فإن هناك حوالي سبعة آلاف ينتمون إلى قبيلة اللاب.
وأصل اللاب، كما قلنا، من شمال آسيا وزحفوا غربا إلى شمال أوروبا ثم دخلوا اسكندنافيا ووصلوا في هجرتهم جنوبا حتى إقليم دالارنا، وحصلوا على حقوق الرعي فيه سنة 1881، وقد تغيرت حرفة حوالي نصف لاب السويد من الرعي البدائي للرنة إلى السماكة أو - بمساعدة الحكومة - إلى الزراعة مع تربية الرنة كمصدر ثان للثروة، وللاب الرعاة حق عبور حدود النرويج والسويد وفنلندا والاتحاد السوفيتي بمقتضى اتفاقيات دولية قديمة ترجع إلى 1595 و1613.
وتسود اللغة السويدية كل أنحاء السويد فيما عدا أجزاء هامشية على الحدود الفنلندية حيث تسود لغة الفن.
وتمتلك السويد مجموعة من الإحصاءات الحيوية عن عدد السكان على فترة زمنية طويلة، وتشير هذه الإحصاءات إلى صحة ما ذهب إليه مالتوس عن «الضوابط الإيجابية» التي تقلل عدد السكان كلما زادوا عن حجم الموارد الاقتصادية المتاحة.
وفي عام 1800 كان عدد السكان في السويد 2,35 مليونا من الأشخاص زادوا إلى سبعة ملايين في عام 1950، ونتيجة لانخفاض نسبة المواليد والوفيات فإن الزيادة الطبيعية للسكان ضئيلة، وحتى هذه الزيادة الصغيرة تزداد صغرا باستمرار الهجرة إلى الخارج، خاصة في اتجاه الولايات المتحدة، ولقد أدى ذلك إلى نقص في الأيدي العاملة السويدية لفترة لا بأس بها، وقد اقترح على السويد أن تشجع الهجرة إليها لتعوض نقص الأيدي العاملة، وقد ترتب على ذلك أن عدد المهاجرين إلى السويد قد أصبح يزيد قليلا على عدد المهاجرين من السويد، وذلك منذ ثلاثينيات هذا القرن، وأن الزيادة أصبحت واضحة منذ الأربعينيات.
خريطة رقم (18): وسط السويد وجنوب النرويج.
ولا شك أن ذلك مرتبط بتدفق اللاجئين من الدول المجاورة خلال الحرب العالمية الثانية، وقد عاد معظم هؤلاء اللاجئين، ولكن بعضهم استقر نهائيا في السويد، وخاصة من دول البلطيق المجاورة - لتوانيا ولاتفيا وأستونيا وألمانيا ... إلخ.
وقد وافقت الحكومة السويدية على أن تستقبل خمسمائة من العمال المهرة من شمال إيطاليا، وعددا مماثلا من العمال الصناعيين والزراعيين المهرة من المجر، وعددا آخر مماثلا من يهود بولندا، وفي الوقت نفسه هناك اتفاق يسهل تبادل العمال بين السويد والدنمارك، وكل هذا من أجل التغلب على مشكلة نقص القوى العاملة.
وتدلنا الإحصاءات على أن هناك تيارا مستمرا للهجرة من الريف إلى المدن مما يؤدي إلى نقص مستمر في سكان الريف والطاقة العاملة الزراعية، ففي عام 1800 كان 10٪ من سكان السويد من ساكني المدن، وفي عام 1952 ارتفعت نسبة ساكني المدن إلى 48٪ من مجموع سكان الدولة، وقد ازداد تيار هذه الهجرة قوة بعد إلغاء أنظمة النقابات الخاصة بالحرف منذ 1846، وترتب عليه ازدياد السكن المديني بسرعة أكبر من الدول الأوروبية الأخرى، وفي عام 1967 بلغت نسبة غير العاملين في الزراعة 88٪ من مجموع السكان.
ومن الجدير بالملاحظة أن نسبة النمو في السكن المديني في الوقت الحاضر تزداد في منطقة الساحل الغربي عنها في بقية السويد، ففي 1800 كانت نسبة سكان المدن في هذا الساحل 15٪ من مجموع سكان مدن السويد، وفي أوائل هذا القرن ارتفعت هذه النسبة إلى 25٪، وهي في زيادة مستمرة، ولعل في هذا إشارة واضحة إلى الأهمية الاقتصادية للساحل الغربي في مجالات الصناعة والنقل والتجارة البحرية.
وينتشر سكان الريف بشيء من العدالة على معظم الريف السويدي، باستثناء نورلاند حيث يتركز السكن الريفي في مجالات منعزلة متباعدة مرتبطة بحرفتي الزراعة وقطع الأخشاب معا. (7) النشاط الاقتصادي (7-1) الزراعة
كانت الزراعة التقليدية في السويد تقوم في المناطق الخصبة المحدودة الانتشار، وبالتالي كانت القرى كبيرة ومتجمعة، وكان محراث الحيوان هو أداة الزراعة الرئيسية، كما كانت خصوبة التربة تزداد بواسطة حرق الأشجار وتوزيع رمادها على التربة، لكن الخوف من حرائق الغابات كان سببا من أسباب منع هذا النوع من الحريق.
ومنذ منتصف القرن الثامن عشر صدرت عدة تشريعات لتحسين الأحوال الزراعية منها تجميع الشرائح الزراعية في ملكيات مجمعة قدر الإمكان، وقد ترتب على ذلك أن القرى المتجمعة قد تبعثر سكانها في داخل المزارع، ومن ثم تبعثر السكن الريفي، وذلك كما حدث في الدنمارك من قبل.
وفي خلال هذا القرن تشجع الحكومة نشأة الملكيات الزراعية الصغيرة حول المدن الكبيرة، ومنذ عام 1800 إلى عام 1870 كان هناك نشاط ملحوظ في استصلاح الأراضي ونمو السكن الاستيطاني في الأراضي التي لم تكن تزرع من قبل، وترتب على ذلك أن تضاعفت مساحة الأرض الزراعية ثلاث مرات خلال تلك الفترة وحدها، لكن هذا النمو في المساحة المزروعة توقف بتأثير عاملين: (1)
نمو إنتاج الحبوب الأمريكية واتجاه فائضها عبر الأطلنطي إلى سوق أوروبا. (2)
ازدياد هجرة السكان من الريف السويدي إلى المدن أو إلى القارة الأمريكية.
وبالرغم من انخفاض عدد السكان الزراعيين في السويد إلا أن الإنتاج الزراعي قد تزايد، ولا شك أن هذا راجع إلى التحسينات الفنية في الزراعة، وخاصة استخدام نظام الدورة الزراعية الكثيفة وتقليل مساحة البور وتنويع المزارع وتخصصاتها، وتحسين أنواع البذور التي تؤدي إلى ازدياد المحصول، وأخيرا تحسين أنواع الماشية.
وتشبه الزراعة السويدية الحالية مثيلتها في الدنمارك من حيث مرونتها، فقد ترتب على انخفاض أسعار الحبوب اتجاه الزراعة إلى الألبان ومنتجاتها، وقد زادت كمية الزبدة المصدرة عن المستورد لأول مرة عام 1870، ولكن نظرا لأن موارد الثروة في السويد أكثر تنوعا من الدنمارك، وخاصة في جانب إنتاج المعادن والسلع الصناعية، فإن السويد لم تركز كثيرا على اتجاه تحويل الزراعة إلى المنتجات الحيوانية مثلما فعلت الدنمارك.
ويمكن أن نقسم السويد إلى ثلاث مناطق زراعية هي: (1)
المنطقة الجنوبية : هنا تشترك عوامل المناخ الجيد والتربة الخصبة في جعل هذه المنطقة أكبر منتج للحبوب وبنجر السكر إلى جانب محاصيل أخرى متعددة. (2)
المنطقة الوسطى : نتيجة لتجمع بعض العوامل الطبيعية فإن هذه المنطقة قد أصبحت تنتج محاصيل جذرية درنية والقليل من الحبوب. (3)
المنطقة الشمالية : لا تتلاءم الظروف المناخية مع تنوع محصولي، ولذلك نجد التركيز في هذه المنطقة على زراعة محاصيل غذاء الماشية، ومن ثم فإن الزراعة هنا تتجه بشدة إلى الاعتماد على تربية الحيوان.
وفضلا عن ذلك فإن هناك شروطا معينة لكل محصول على حدة تجعل زراعته محددة بنطاقات معينة، أو على الأقل تجعل إنتاجه أوفر وعائده أكثر في مناطق محددة، وفي السويد نجد زراعة البطاطس تمثل أكثر المحاصيل امتدادا إلى الشمال، تليها زراعة الشعير ثم الشيلم والشوفان، ويكاد الحد الشمالي للأراضي المزروعة قمحا يتفق مع حد انتشار غابات البلوط - أي الحدود الجنوبية لنورلاند، وتتحدد أراضي بنجر السكر بالمنطقة الجنوبية.
والحد الأدنى لنمو حبوب صناعة الخبز (القمح - الشعير - الشيلم ... إلخ) هو 400 مليمتر من الأمطار، ولكن الأمطار الكثيرة مع التربة السيئة تمنع نجاح مثل هذه المحاصيل، وتتحول مثل هذه المناطق إلى نمو الأعشاب والقرطم.
وتحتل حقول السويد ما يوازي 9٪ من مساحة أراضي الدولة، يضاف إليها نحو 2,6٪ من أراضي الحشائش والأعشاب، وتحدد أشكال التضاريس عامة مناطق انتشار الحقول الزراعية، وعلى وجه العموم تتركز الزراعة في الأراضي السهلية ذات التربة الخصبة في الجنوب والوسط والشرق، وتمثل منطقة سكابيا أكثف أقاليم الزراعة في الدولة بحيث إن أربعة أخماس المنطقة تزرع، والخمس الباقي تحتله أراضي الغابات والحشائش، وقد انكمشت مساحة أراضي الحشائش في السويد خلال السنوات السبعين الماضية نتيجة لنمو مساحة الحقول الزراعية وذلك لسهولة تحويلها إلى الزراعة بالقياس إلى أراضي الغابات.
وفي بداية القرن التاسع عشر كان نظام الزراعة عبارة عن دورة يتعاقب فيها البور مع الحبوب، وكان الفلاحون يعتمدون على الأعشاب والحشائش الطبيعية كغذاء للماشية، لكن النظام الحالي يعتمد على زراعة النباتات الدرنية كعلف للماشية، أما القمح الشتوي فتتركز زراعته في محافظة مالموهوس
Malmohus
في جنوب غرب إقليم سكانيا، بالإضافة إلى زراعته في وسط السويد كتطور حديث، والقمح في وسط السويد يحتل الأراضي الخصبة الجيرية، ويتجنب التربات الرملية التي تترك لشيلم الشتاء، وينتشر القمح الشتوي حتى شمال برجسلاجن وجنوب دالارنا التي تكون الحدود الشمالية لزراعة القمح، بالإضافة إلى أن التربة هنا ضعيفة والمحصول قليل - درجة عرض 60 شمالا، وقد أدى تحسين البذور وتهجينها إلى إنتاج أنواع من القمح ذات غلة تبلغ ضعف ما كان الفدان يغله في 1880.
وخلال الحرب العالمية الأولى بدأت زراعة القمح الربيعي تنتشر في مساحات لم تكن تزرع فيها من قبل، وهذا النوع من القمح يتميز بنسبة عالية من الجيلوتين، مما أدى إلى تقليل كمية المستورد من القمح الصلب للحصول على الطحين، ولا يزال القمح الربيعي موجودا في سكانيا وسهول جوتا الشرقية - بين بحيرتي فينرن وفيترن، ولو أنه كان يزرع في التربات الفقيرة، ومن ثم كانت الغلة ضعيفة، ولكن مع ازدياد الطلب على الطحين فإن القمح الربيعي أخذ يغزو الأراضي الجيدة الخصوبة، ويسد الإنتاج الحالي احتياجات السوق المحلية.
وقد كان الشيلم في الماضي هو محصول الحبوب الرئيسي، لكنه أعطى مكانه للقمح الشتوي في معظم الأقاليم الجنوبية عدا إقليمي كريستيانستاد وبليكنج - في جنوب شرق سكانيا وجنوب سمالاند، حيث لا تصلح التربة الرملية وأمطار الربيع وأوائل الصيف القليلة لإنتاج محصول جيد من القمح الشتوي.
ويزرع الشعير على أساس بذره في الربيع، وهو على نوعين الأول مجهد وكثير الغلة ويزرع في مالموهوس وجزيرتي أولاند وجوتلاند، أما النوع الثاني فيزرع في نورلاند ويحتل حوالي عشر مساحة الأرض الزراعية في هذا الإقليم الشمالي، وقد نقصت مساحة الشعير نتيجة نمو المساحة المحصولية للشوفان، ويستغل ثلاثة أخماس محصول الشعير للماشية والباقي يستهلك كطحين أو لعمل البيرة.
أما الشوفان فقد أصبح أكبر محصول من الحبوب مساحيا منذ 1850، وأصبح محصولا للتصدير وخاصة في الفترة بين 1870 و1900، ويتركز إنتاج الشوفان في السهول الساحلية الغربية وحول بحيرة فينرن، أما في الأقاليم الشمالية فإن الشوفان يستهلك كعلف أخضر للماشية.
وتنتشر حقول البطاطس بكثرة في داخلية نورلاند حيث توجد مخاطرة كبيرة نتيجة للصقيع ويسوق المحصول في أنحاء السويد لسد احتياجات السوق الزراعية والمدنية، وغلة الفدان من البطاطس هي أعلى ما تكون في نورلاند، وليس معنى ذلك أن البطاطس محصول متخصص في أقاليم الشمال، بل لأن البطاطس تزرع في الأراضي الفقيرة في وسط وجنوب السويد مما يؤدي إلى غلة أقل من أراضي الشمال؛ إذ تخصص أفقر الأراضي الرملية على سفوح التلال في جنوب السويد لزراعة البطاطس، ومحصول هذه الأراضي يذهب إلى مصانع صناعة النشا ونوع من الخمور - شنابس، وتوجد مساحات لا بأس بها حول المدن مخصصة للبطاطس من أجل احتياجات سوق المدن المحلية، ويقدر الدارسون أن نصف محصول البطاطس السويدي عامة يذهب كعلف للماشية، وخمسي المحصول يذهب إلى الاستهلاك البشري، والباقي يستهلك لصناعة النشا والخمور واستخدامه كتقاوي للزراعة.
ويمثل بنجر السكر - الشمندر - المحصول شديد التوطن من المحاصيل الزراعية في السويد، يتحدد بالمنطقة الجنوبية الغربية نظرا لاحتياجه إلى شروط خاصة من التربة والعمالة، وبالرغم من أن هذا المحصول جديد بالنسبة للزراعة في السويد - إذ بدأت الزراعة في الثمانينيات من القرن الماضي فقط - إلا أن إنتاجه أصبح كافيا لسد احتياجات السوق الداخلية كلها، ومن العوامل التي تشجع زراعته أن مخلفات المحصول ومنتجاته الجانبية تعود إلى الفلاحين كعلف للماشية - فضلا عن أرباحه الصناعية.
وفيما يلي بعض الأرقام التي توضح قيمة المحاصيل الأساسية وتطورها في السويد:
جدول 4-1: تطور نمط استخدام الأراضي الزراعية في السويد (نسب مئوية من مجموع الأراضي الزراعية).
المحصول
1911-1915
1941-1945
1965 (1) محاصيل الغذاء الإنساني:
21٪
21٪
18٪
القمح والشيلم
14٪
13٪
11٪
البطاطس والبنجر
7٪
7٪
4٪
نباتات الزيوت
صفر
1٪
3٪ (2) محاصيل العلف الحيواني:
70٪
74٪
77٪
حبوب (شعير - شوفان)
32٪
27٪
36٪
حشائش وأعشاب
38٪
47٪
41٪ (3) أراضي البور
9٪
5٪
5٪
مجموع مساحة الأراضي المزروعة (ألف هكتار)
3692
3738
3211
يتضح من هذا الجدول أن مساحة الأراضي الزراعية قد أخذت تنكمش نتيجة نقص اليد العاملة، لكن الإنتاج يتزايد نتيجة عوامل التحسين السابقة الذكر، وأكبر دليل على ذلك أن مساحة محاصيل الغذاء الإنساني قد قلت خلال الفترة التي تغطيها الأرقام المذكورة (نصف قرن)، لكن الإنتاج وقيمته قد زادا كثيرا، وفي الوقت نفسه نلاحظ ارتفاعا مستمرا في المساحة المحصولية للعلف الحيواني، وهو أمر مرتبط باتجاه السويد إلى المنتجات الحيوانية اتجاها معقولا (على نحو ما فعلته الدانمرك)، وقلة مساحة البور توضح حركة استصلاح الأراضي واستخدام دورة زراعية كثيفة.
جدول 4-2: قيمة الإنتاج الزراعي في السويد (نسب مئوية) على أساس أسعار 1960-1965.
المحصول
1950-1951
1964-1965 (1) الإنتاج النباتي العام - المحاصيل :
20,6٪
23,5٪
الحبوب
7,3٪
11,5٪
البطاطس وبنجر السكر
8,1٪
7,2٪
محاصيل أخرى
5,2٪
4,8٪ (2) الإنتاج الحيواني العام:
79,4٪
76,5٪
الألبان ومنتجاتها
43,7٪
34,1٪
اللحوم - ماشية وخنازير
29,2٪
35,5٪
منتجات حيوانية أخرى
6,5٪
6,9٪
القيمة الإجمالية للإنتاج (مليون كرون سويدي)
5051
5057
ويوضح هذا الجدول أن الإنتاج الحيواني ما زال أعلى بكثير من الإنتاج الزراعي، ولو أن هناك هبوطا ملحوظا في الإنتاج الحيواني لحساب الإنتاج الزراعي، ولعل ذلك مرتبط بالمضاربات والمنافسات القوية الحاصلة في السوق العالمية للمنتجات الحيوانية، وكذلك تدل القيمة الفعلية للمنتجات الزراعية والحيوانية عامة على أن الزراعة السويدية قد بلغت حد التوسع النهائي؛ لأن القيمة لم تزد خلال ال «15» سنة الموضحة في الجدول إلا بقدر ضئيل. (7-2) الثروة الحيوانية
اتضح من الجدول (
4-2 ) أن المنتجات الحيوانية تساوي أكثر من 75٪ من مجموع منتجات الريف السويدي، وتتنوع الثروة الحيوانية كثيرا، لكن أهمها هي الماشية والخنازير على النحو الذي يوضحه الجدول (
4-3 ).
جدول 4-3: الثروة الحيوانية في السويد (آلاف الرءوس).
الحيوان
1932
1958
1965
الماشية
2920
2542
2250
الخيول
612
244
109
الأغنام
468
139
220
الماعز
50
8
الخنازير
1495
2031
1884
الدواجن
11504
7503
8048
النقص العام الذي نلاحظه في أعداد الثروة الحيوانية - خاصة في الماشية والخنازير - راجع إلى تغير نمط الزراعة وتحول عدد من المزارع إلى التخصص الزراعي المحصولي فقط، بدلا من اشتراك المحصول والحيوان معا على الطريقة التقليدية، وقد قدر عدد المزارع التي تغيرت إلى هذا التخصص المحصولي بحوالي خمس عدد المزارع.
كذلك فإن نقص إنتاج الألبان - كما سبق أن أوضحه الجدول (
4-2 ) راجع إلى قلة وتناقص واضحين في أعداد أبقار اللبن.
ويرتبط عدد الماشية بحجم المزرعة ارتباطا وثيقا، فالمزارع الصغيرة تمتلك أعدادا من الماشية أعلى بالتناسب مع حجمها من المزارع الكبيرة، وهذه الظاهرة واضحة في نورلاند وأقاليم الغابات أكثر من وضوحها في المناطق السهلية والجنوبية، فالمزرعة الصغيرة تركز على إنتاج الألبان، بينما المزرعة الكبيرة تمتلك حيوانات لحوم ونسبة عالية من الحيوان الصغير الذي يربى أغلبه للحوم.
وقد نقص إنتاج الألبان بمقدار 16٪ في الفترة بين 1953 و1965، وفي عام 1965 كان مقدار اللبن المنتج 3,7 مليون طن، توزع استهلاكه على النحو التالي: (1)
ثلث اللبن المنتج يذهب للاستهلاك المباشر طازجا. (2)
الثلثان الباقيان يستخدمان في انتاج الزبد والجبن.
ولا يزال اللبن يكون حوالي 38٪ من دخل المزارع، يليه إنتاج اللحم الذي يكون 35٪، وبذلك فإن منتجات الحيوان تكون في المتوسط أكثر من 70٪ من دخول المزارعين - وهو ما ينسجم مع الدخول العامة للإنتاج الريفي كما جاء في جدول (
4-2 ).
وقد انخفض عدد الخيول بسرعة نظرا لأن الاحتياج إليها في العمليات الزراعية قد قل كثيرا نتيجة دخول الميكنة إلى الزراعة، وقد لوحظ أن أعدادها قد انخفضت سنويا بمقدار 15٪ في فترة السنوات الخمس 1961-1965.
وتكثر الخنازير في سكانيا والسهل الساحلي بين جوتبورج ومالمو - محافظة هالاند، وكذلك تزداد نسبة تركز الدواجن بشدة في جنوب السويد، ومعظم الإنتاج يجمد ويستهلك داخليا وخارجيا، وأخيرا فإن أعداد الأغنام ضئيلة جدا في مناطق السهول، بينما تكثر في شمال السويد وهضاب جوتلاند، في حين اختفت الماعز تماما.
ومنذ 1924 بدأت تربية حيوانات الفراء وتشتمل على الثعلب الفضي والأزرق، والمينك وقندس المستنقعات، وعند اللاب نجد قطعان الرنة قد ازداد عددها من 110000 رأس عام 1855 إلى 235000 رأس عام 1925، لكن الرقم هبط إلى حوالي 200000 في الأربعينات، وتحتاج الرنة إلى هجرة موسمية واسعة مما يؤدي إلى نوع من النزاع على المراعي بين اللاب والمزارعين السويديين في نورلاند، لكن الرعي التقليدي للاب قد بدأ ينكمش كثيرا، فبدلا من تسوير مناطق الرعي لمنع خروج الرنة أصبح الراعي يركب موتوسيكلات - درجات نارية - لزيارة القطيع ومنعه من الخروج عن الأراضي المخصصة له، وتستخدم لحوم وجلود الرنة محليا عند اللاب خلال الشتاء - بعد تجفيف وتدخين اللحوم، وهناك نوعان من الرنة: الغالبية هي رنة الجبال المهاجرة، والأقلية رنة الغابات التي يمتلكها المزارعون ويربونها في المزارع.
ومن بين الأسباب الجوهرية في تقدم الزراعة والثروة الحيوانية عامة نشأة الحركة التعاونية التي أنشأت محطات للألبان وتعليب البيض والمسالخ في مناطق كثيرة مما قلل من نفقات النقل، كما أن هذه التعاونيات تقدم الخبرات الفنية وتحسين النسل والبذور والتسهيلات الائتمانية. (7-3) الثروة الغابية
يلعب استغلال الغابات دورا هاما في اقتصاديات السويد - سواء كان ذلك من أجل استخدام الأخشاب في عمل الفحم النباتي الذي قامت عليه جذور الصناعة السويدية في الماضي، أو كان من أجل استخدام الخشب في البناء وعمل الألواح أو عمل الورق، والسويد أغنى في مواردها الغابية من النرويج، هناك ازدياد مستمر في إنتاج الخشب السويدي مقداره حوالي خمسين مليون متر مكعب سنويا.
والشجرة التجارية الأولى في غابات السويد هي ثلاثة أنواع من أشجار الصنوبر ذات الجذع السميك والفروع والأغصان القليلة والبناء الخشبي المتناسق، وتضرب أشجار الصنوبر جذورا طويلة تخترق التربة إلى أعماق أبعد من أشجار الشربين، كما أن الصنوبر لا يحتاج إلى تربات غنية، فهو ينمو في التربات الرملية أو الجافة أيضا مما يجعل انتشاره واسعا، وفي مقابل ذلك فإن الشربين ينمو بجوار بعضه بصورة أكثف من الصنوبر كما أنه يبلغ مرحلة نضجة بسرعة أكبر من الصنوبر.
ففي إقليم دالارنا لا تنمو أشجار الصنوبر إلى مرحلة نضجها قبل 210 سنة، وتقل الفترة أو تطول مع الاتجاه جنوبا أو شمالا على التوالي، ففي إقليم فيرملاند تحتاج الشجرة إلى 180 عاما، بينما تحتاج إلى 300 سنة لكي تنضج في نورلاند.
ومن ناحية النشاط الاستغلالي للغابات نجده مرتبطا بالزراع الذين يمارسون الزراعة في النطاق الغابي، ففي خلال موسم الإنبات يقوم الفلاح برعاية الحقل، وفي خلال الشتاء يتحول الشخص نفسه إلى حرف الغابة المختلفة، وهذا يعطي الفلاح دخلا إضافيا يحتاجه بشدة؛ إذ إن إنتاجه الحقلي أقل من تزويده بالدخل الأمثل، وقد أمكن إحداث استخدام جيد للثروة الغابية بواسطة إنشاء مزارع صغيرة داخل النطاقات الغابية أدت إلى إيجاد عمالة مستقرة استقرارا دائما داخل هذا النطاقات، بدلا من الاعتماد على العمالة الموسمية المهاجرة التي لا يمكن ضبطها عدديا ونوعيا السنة تلو السنة، أما الفلاحون الذين يزرعون حقولهم في مناطق السهول الخصبة فهم أبعد عن الاشتراك في حرف الغابة.
وقد كان الطلب على الخشب السويدي كبيرا محليا، وفي التجارة الخارجية، وبخاصة مع احتياجات ألمانيا وهولندا وبريطانيا إلى كميات كبيرة من الخشب؛ لصناعة السفن وبناء المرافئ والاحتياجات العامة الأخرى.
وعلى أثر قلة استخدام الفحم النباتي في صهر المعادن السويدية وقلة تدخل الهيئات الخاصة والحكومية السويدية في تنظيم استغلال الغابات، فإن ملكية واستغلال غابات السويد الشمالية قد وقعت في براثن ملاك أجانب من الاسكتلنديين أو الألمان أو النرويجيين الذين يشترون الحيازات الغابية من الفلاحين البسطاء الذين لا يعرفون استغلالها استغلالا أمثل، وليست لديهم الخبرة والمال لتوظيفهما في هذه الثروة الطبيعية الهائلة، وقد قام الملاك الأجانب باستغلال الغابات السويدية أبشع استغلال، وخاصة الموجودة منها إلى جوار الأنهار أو بالقرب منها، للدرجة التي كتب معها الكتاب في تلك الحقبة (1860) أنه أصبح من المتعذر أن نرى في في تلك المناطق القريبة من الأنهار أشجارا يزيد عمرها عن خمسين عاما.
وقد بدأ هذا الاستغلال البشع اعتبارا من عام 1850، خاصة بعد أن ألغت بريطانيا نظام الضرائب الجمركية العالية التي فرضتها على الأخشاب المستوردة لصالح ولحماية واردات الأخشاب الكندية إلى بريطانيا، وقد حسن المستغلون الأنهار وأقاموا رقابة شديدة على مسار الخشب المقطوع وتجنب فقدانها عند المندفعات المائية لدرجة أن الفاقد منها كان لا يزيد عن واحد في المائة فقط، وحتى 1870 كان الاستغلال يسير بسرعة كبيرة إلى أن بدأت المنافسة الأمريكية وهبطت الأسعار، ولكن نمو صناعة الورق والسليلوز قد عوض عن ذلك، ولو كانت الأمور قد تركت على حالها لفترة زمنية أطول لكانت السويد حاليا من الدول غير ذات القيمة في إنتاج الموارد الغابية.
ولقد بدأت صناعة الورق في السويد منذ القرن السادس عشر، ولكنها لم تثبت وتنمو كصناعة قوية إلا بعد اختراع عجينة الورق في منتصف القرن الماضي، وبعد اختراع عمل العجينة كيميائيا في سبعينيات القرن الماضي، وتستهلك صناعة الورق كميات كبيرة من الخشب إلى جانب استهلاك كبير للطاقة، وقد نمت صناعة الورق السويدية من 12 ألف طن عام 1877 إلى ربع مليون طن 1907، وإلى نصف مليون طن في 1930 - صدر منها 380 ألف طن ، ووصل الإنتاج إلى 740 ألف طن عام 1965.
وتتركز صناعة عجين الورق على مصبات الأنهار المطلة على خليج بوثنيا، وفي منطقة فيرملاند حول بحيرة فينرن، أما مصانع الورق فتتركز في وسط السويد ومنطقة نوركيبنج، ومناطق محدودة من موانئ خليج بوثنيا (بيتيا - أوتفيكن - جيفليه - هاستافيك) وفي دالارنا. (7-4) السماكة
كان لموقع السويد المطل على بحر البلطيق والشمال أثر واضح في إعطاء الفرصة لنمو حرفة السماكة قديما وحديثا - ولو أنها في هذا الوضع أقل بكثير من النرويج، فالبلطيق لا يعطي أسماكا جيدة كبحر الشمال، وواجهة النرويج على ذلك البحر وعلى الأطلنطي الشمالي أكبر بكثير مما تمتلكه السويد.
وأهم أسماك البلطيق نوع من الرنجة يسمى
Stromming
لا يزيد طوله عن عشرين سنتيمترا، أما مصايد الساحل الغربي فأغنى بكثير، وأهم أسماكه الرنجة والماكريل إلى جانب وجود أنواع أخرى، ويصعب التنبؤ بتجمعات سمك الرنجة التي تصاد بالشباك الضخمة من السفن الحديثة، ولهذا فإن الدراسات تشير إلى مواسم صيد غنية وأخرى فقيرة تمتد كل منها بضع سنوات، ومن السنوات الغنية: 1556-1587، 1660-1675، 1747-1808، 1877-1900، وأكبر كمية صيد سجلت في السويد كانت في عام 1787 - أنزلت في جوتبورج، وكانت ثعابين البحر المهاجرة تصاد بكثرة قبيل الحرب العالمية الثانية وتصدر إلى ألمانيا، وهناك أيضا مصايد الماء العذب من الأنهار والبحيرات، ومن أهم ما تنتجه هذه المصايد نوع من القشريات شبيه بالإستاكوزا، يستهلك محليا على أنه من أطايب الطعام.
وقد لوحظ أن عدد العاملين بالسماكة قد تناقص بسرعة من 14 ألفا عام 1949 إلى ثمانية آلاف في عام 1963، وكذلك تناقص عدد الذين يقومون بالصيد كحرفة ونشاط ثانوي - حوالي سبعة آلاف شخص، وبالرغم من تناقص عدد القوارب إلا أن أحجام القوارب والسفن التي تعمل حاليا أكبر بكثير من السابقة، كما أن الكمية المصادة أكبر مما كانت في الماضي نتيجة تجهيزات السفن الحالية بالوسائل الحديثة في الصيد، ومع التطور الحديث أصبح الأرخبيل الصغير الذي يقع إلى الشمال من جوتبورج مركز السماكة الأساسي، وأصبح ميناء هونوكلوفا ميناء الصيد الأول في السويد - 15كم شمالي جوتبورج.
وقد بلغت كمية الأسماك المصادة 365 ألف طن عام 1965، وبذلك تحتل السويد المركز الرابع في هذا النوع من الإنتاج بين دول نورديا الخمسة - في السنة نفسها بلغت أنصبة دول نورديا من الأسماك المصادة: 2280000 طن للنرويج، 1199000 طن لأيسلندا، 986000 طن للدنمارك وفارو، 365000 طن للسويد، 74000 طن لفنلندا، هذا وتكون الرنجة حوالي 70٪ من أسماك السويد المصادة - وهي النوع الأول من أسماك نورديا كلها. (7-5) الطاقة
باستثناء حقل الفحم الصغير في سكانيا - الذي ينتج سنويا حوالي 300 ألف طن - فإن السويد تعاني عجزا كبيرا في موارد الفحم، مثلها في ذلك مثل بقية نورديا، ولكن هذا العجز يعوضه وجود الطاقة المائية بوفرة وبكثرة، فتضاريس السويد وبحيراتها العديدة وأمطارها الموزعة باعتدال نسبي على مدار السنة، قد ساعدت كلها على حسن تصريف المياه الجارية لولا فترات الصقيع الطويلة والفيضانات الناجمة عن ذوبان الجليد وانتهاء فترات الصقيع التي تجعل كمية الماء الجارية في الأنهار متذبذبة.
وبرغم ذلك فإن الطاقة الكهربائية المولدة من الأنهار هي الأساس الذي تنبني عليه الصناعة الحديثة في السويد، ومعظم الطاقة المائية المستخدمة موجودة في إقليم نورلاند انظر الخريطة رقم (13) ، ويوضح الجدول التالي مصادر الطاقة في السويد بالمقارنة بدول نورديا.
جدول 4-4: مصادر الطاقة في نورديا (1965).
السويد
النرويج
الدنمارك
فنلندا
أيسلندا
الطاقة المنتجة
الطاقة الكهرومائية
مليار ك و س
46,4
48,9
9,4
0,6
الطاقة الحرارية
2,7
0,1
7,4
4,6
الفحم
0,1
0,4
الطاقة المستوردة
الفحم
مليون طن
3,1
0,8
4,5
3,4
بترول خام
3,8
2,8
3,4
2,3
بترول مكرر ومشتقاته
15,0
2,1
6,7
3,0
0,5
طاقة كهربائية
مليار ك و س −0,8 −2,1
1,7
0,6
جملة الطاقة «معادلة بالفحم»
مليون طن
36,8
13,9
20,2
12,8
0,8
جملة الكهرباء المستهلكة
مليار ك و س
42,2
42,0
8,1
13,4
0,5
الكهرباء المستهلكة في الصناعة
26,2
25,9
2,5
9,9
0,1
ملاحظات على الجدول: (1)
ك و س = كيلوات ساعة. (2)
تتعادل مصادر الطاقة بالفحم على النحو التالي:
طن بترول خام = 1,33 طن من الفحم - طن واحد من منتجات البترول المكررة = 1,5 طن من الفحم.
ألف ك و س = 0,125 طن من الفحم.
ويوضح الجدول السابق أن السويد تنتج كمية من الطاقة الكهربائية تفيض في الوقت الحاضر عن احتياجات الاستهلاك بقدر ضئيل، وأن إنتاج السويد هو الثاني بعد النرويج في هذا المصدر من مصادر الطاقة، وتستورد السويد كميات من الفحم والبترول ومشتقاته، بحيث تحتل مركز الصدارة في استيراد هذه المصادر من الطاقة بالقياس إلى دول نورديا تليها في ذلك الدنمارك.
وعلى أساس نسب التحويل التي تتعادل بها مصادر الطاقة بالفحم نجد أن السويد لا تستطيع أن تستغني عن مصادر الطاقة المستوردة، فإذا عادلنا كل مصادر الطاقة نجد الصورة التالية:
جدول 4-5
مصدر الطاقة
الإنتاج بالوحدات الخاصة
الإنتاج معادلا بالفحم ٪ من مجموع الطاقة
جملة الطاقة الكهربائية
8,1 مليار ك و س
6,15 مليون طن
16٪
البترول الخام المستورد
3,8 مليون طن
5,05 مليون طن
13٪
البترول المكرر المستورد
15 مليون طن
22,50 مليون طن
63٪
الفحم المستورد
3,1 مليون طن
3,10 مليون طن
8٪
جملة مصادر الطاقة معادلة بالفحم
36,80 مليون طن
100٪
وتستهلك الصناعة 42٪ من مجموع الطاقة في السويد من مصادرها المختلفة في مقابل 34٪ تذهب إلى الاستهلاك المنزلي والتدفئة، و24٪ لاستهلاك وسائل المواصلات الكهربائية، ومعنى ذلك أن الصناعة والسكان والخدمات تعتمد اعتمادا كبيرا على مصادر الوقود المستوردة وخاصة البترول ومشتقاته المكررة التي تكون 75٪ من مجموع مصادر الطاقة كما هو واضح من جدول (
4-5 ).
وتحتل نورلاند المركز الأول في إنتاج الطاقة في السويد، ففي عام 1965 كان المنتج من الكهرباء 46 مليار ك و س، منها 30 مليارا تنتج في نورلاند، ولا تزال في نورلاند مصادر أخرى للطاقة الكهربائية غير مستغلة؛ إذ إن المستغل من إمكانات الإقليم يساوي حوالي 40٪ فقط، وعمر الطاقة الكهربائية حوالي 90 سنة، فأول محطة أقيمت عام 1882 عند ريفورس على نهر فيسكان في غرب السويد ثم تبعتها محطات أخرى، وكان أول خط لنقل التيار من نورلاند إلى منطقة الصناعة في وسط السويد قد أنشئ في عام 1936، وتتبادل السويد مع النرويج نقل الطاقة على شبكة تصل بينهما، وذلك لمواجهة توقف بعض المحطات في حالة تجمد الأنهار، وكذلك هناك شبكة تحمل التيار الكهربائي من السويد إلى الدنمارك عبر الكاتيجات، وتنقل الكهرباء من الدنمارك إلى السويد في حالة هبوط مستوى الأنهار. (7-6) التعدين وتشغيل المعادن
تمثل هذه المجموعة من الحرف تقليدا قديما في السويد، وما زالت تحتل المركز الأول بين أشكال النشاطات الاقتصادية، فهي تكون بالإضافة إلى الصناعة نحو 36٪ من الإنتاج القومي السويدي - الذي كان يساوي 15,5 مليار دولار عام 1965 - بالقياس إلى الزراعة والغابات والأسماك التي كونت 9٪ من قيمة هذا الإنتاج القومي للعام نفسه.
وتعتمد هذه الحرفة على وجود خامات معدنية غنية ساعد على استغلالها وجود طاقة مستمدة من الفحم النباتي والطاقة المائية، ويبدو أن أول استخدام للمعادن في السويد كان مرتبطا بخامات الحديد المستخرجة من تكوينات المستنقعات وكان صهرها يتم بواسطة أفران بسيطة، ولكن الحاجة إلى الحديد قد زادت بشدة في القرن السادس عشر نتيجة للحروب المستمرة التي قادها الملوك الطموحون في السويد، وقد أدى هذا بالملوك إلى استقدام فنيين وخبراء من الألمان والوالون والفلمنك مما ساعد على تنمية صناعة الحديد السويدية، ومن بين الشخصيات الهامة التي استقدمت إلى السويد كان لويس دجير
L. de Geer
الوالوني - من لييج - الذي لعبت سلالته فيما بعد دورا هاما في الحياة الثقافية في السويد، وقد أسس دجير مصانع الأسلحة في فنسبانج ودانيمورا مستخدما عمالا وأخصائيين من الوالون، وعلى هذا الأساس ذي التوجيه العسكري، بنيت جذور الجودة الصناعية والهندسة السويدية الحالية.
وحينما كان الفحم النباتي هو العنصر الجوهري لصناعات تشغيل المعادن كانت السويد تسود وتسيطر على العالم الأوروبي لتوفر خاماتها المعدنية ومواردها الهائلة من الفحم النباتي، وقد استخدم السويديون أولا الخامات المعدنية الموجودة في تكوينات المستنقعات، ثم أخذوا في استخدام خامات إقليم برجسلاجن الموجودة حول البحيرات الوسطى وشمالها، وأشرفت السويد على احتكار صناعات الحديد والصلب في العالم في القرن الثامن عشر، ففي عام 1740 كانت السويد تنتج خمسي الحديد العالمي.
ولكن حينما بدأ استخدام فحم الكوك في صهر المعادن وظهور الحديد الزهر في بريطانيا وغيرها هبط نصيب السويد من 31٪ من حديد وصلب العالم إلى 8٪ فقط عام 1820، وإلى 1,3٪ عام 1900.
وهكذا هبط الإنتاج لأن استخدام الطاقة الكهربائية لم يكن قد بدأ بعد، وكان استيراد الفحم إلى السويد أمرا مكلفا يزيد من نفقات الإنتاج ويجعل السويد عاجزة عن منافسة الدول الأوروبية الأخرى، ولكن السويد تحتل الآن مكانا ملحوظا في إنتاج الحديد والصلب، وذلك بالرغم من صغر حجمها مساحة وسكانا، وبالنسبة لكونها من الدول الصناعية التي ينقصها الفحم.
وقد أدى تصدير خام الحديد من نورلاند خلال هذا القرن إلى نوع من التعادل في قيمة الإنتاج القومي المعدني، فبدلا من تصدير الحديد والصلب اتجهت السويد إلى تصدير خامات كيرونا الحديدية الغنية عبر ميناء نارفيك إلى أوروبا والولايات المتحدة معا، وقد ساعدت هذه الصادرات على أن تستورد السويد الفحم اللازم لصناعاتها المعدنية.
وهناك عدد من الظواهر الطبيعية التي شجعت نمو صناعة الحديد والصلب في السويد، وأول هذه العوامل هو كثرة وجود الخام الجيد النوع، سواء كان ذلك خام الحديد الهيماتيتي الأحمر الذي يوجد بكثرة في وسط السويد - إقليم برجسلاجن - أو الحديد المغناطيسي الأسود الذي يسود في تكوينات شمال السويد، والخام الهيماتيتي تصل نقاوته إلى 70٪ وهو كذلك خال من الشوائب مثل الفسفور والكبريت، أما في الشمال فإن الخام مختلط بالفسفور، وهو الذي يصدر بكميات كبيرة، بينما الخام غير الفسفوري هو الذي يستخدم محليا في السويد.
وقد ساعد التقدم في بناء أفران الصهر - أفران بسمر ابتداء من 1858، ثم أفران سيمنز-مارتن ابتداء من 1865، ثم الأفران الكهربائية التي تستخدم الفحم النباتي ابتداء من 1909 - على تركيز خامات الحديد وتخليصها من الشوائب، ولكن أفران الفحم النباتي لا تزال تستخدم في معامل معينة؛ لأنها تعطي إنتاجا أجود من أفران الكوك في صفات معينة.
خريطة رقم (19): الثروة المعدنية في السويد. (أ) شمال السويد. (ب) وسط السويد.
وباستخدام الصلب السويدي الممتاز أقامت السويد أسس صناعة معدنية ذات جودة عالية، تجد لها سوقا رائجة في العالم الخارجي، ومن أمثلة هذه الصناعات الذائعة الصيت عالميا مواقد بريموس
على الكيروسين، ولمبات
Age ، وكرات التحميل الصلبة
SKF
وآلات حلب الأبقار ألفا لافال
Alfa-Laval ، ولا شك أن هذه الشهرة راجعة إلى المهارة التقليدية للمهندسين والعمال المهرة.
ولا يشكل الحديد ومنتجاته الصناعية كل شهرة السويد التعدينية والصناعية فقط، ففي 1280 بدأ استغلال النحاس في برجسلاجن على نحو منظم بواسطة شركة نحاس برجسلاجن المساهمة
Stora Kopparbergs Bergslags Aktiebolag ، ولم تقتصر أعمال التعدين على نحاس منطقة فالون
Falun
بل تعدتها إلى الفضة من زالا
Sala
والزنك والرصاص من أمبرج
Ammeberg ، وقد بدأت صادرات النحاس خلال العصور الوسطى بكميات قليلة، لكنها زادت نتيجة حادثة سياسية.
ففي 1613 خسرت السويد الحرب ضد الدنمارك، وكان عليها أن تدفع تعويضات عالية لتستعيد ميناء الفسبورج - الذي كان يمثل ميناء السويد الوحيد على الساحل الغربي في ذلك الوقت، ولكي تستطيع الدولة دفع هذا التعويض الباهظ أصدرت قرارا باحتكارها تجارة النحاس، وأخذت تصدره بكثرة إلى الخارج مقابل الفضة التي قبلتها الدنمارك، وأصبحت مناجم فالون خلال القرن السابع عشر أكبر مناجم النحاس في العالم، ووصل إنتاجها القمة في عام 1650 بما يقابل ثلاثة آلاف طن، وبرغم ضآلة هذا الرقم بالقياس إلى إنتاج النحاس من أي من مناطقه الرئيسية الحالية، إلا أنه كان يسيطر على السوق الأوروبية كلها بالإضافة إلى إنتاج ترانسلفانيا - جزء من رومانيا الحالية - في تلك الفترة.
وكان إنتاج النيكل السويدي لا بأس به وله سوقه الرائجة إلى أن فتحت مناجم سد بري الكندية الغنية مما اضطر مناجم النيكل في السويد إلى الإغلاق، ولم يكن بالمستطاع استغلال زنك آمبرج إلى أن ظهرت المصاهر الكهربائية التي تقلل كثيرا من نفقات صهره بالوقود المعدني.
ويختلف تنظيم استغلال المعادن وتشغيلها بين الشركات الصغيرة المحلية والشركات الكبرى التي تسيطر فعلا على هذا المضمار من النشاطات الاقتصادية، ومن أكبر الشركات شركة نحاس برجسلاجن المساهمة - التي سبق ذكرها، ولا تقتصر الشركة على أعمال استخراج وتصنيع النحاس، بل تتنوع اهتماماتها إلى صناعات كيميائية كبيرة في فالون لإنتاج حامض الكبريتيك والصودا الكاوية، وتمتلك نصف مناجم جرانجزبرج وثلث مناجم دانيمورا، وتمتلك بالإضافة إلى ذلك أكبر مصانع الحديد والصلب في أوروبا الشمالية: مصانع دومنارفت
Domnarvet
ومصاهر جيزنج الكهربائية، ولها أفرانها الخاصة في سيدرفورس لإنتاج أنواع من الصلب الممتاز، ومعامل عجائن الورق في سكوتسكار وأكبر مصنع سويدي للورق في كفارنسفيدن، وتستخدم في معملها الأخير أخشاب الغابات التي تمتلك امتيازها والتي تقدر بأكثر من مليون فدان كانت قد حصلت عليها في الماضي لإنتاج الفحم النباتي، وعلى هذا النحو من إمبراطوريات الحديد والصلب والغابات نجد عدة أسماء أخرى على رأسها أسرة أوديهولم
Uddeholm
التي تحتكر الغابات والحديد والصلب في شمال بحيرة فينرن - شرقي فيرملاند، وأسرة بيلرود
Billerud
التي تحتكر غابات وحديد غرب فيرملاند كلها حتى حدود النرويج.
خريطة رقم (20): صناعة الحديد والصلب في السويد. توضح الخريطتان 1 و2 تركز صناعة الحديد والصلب في وسط السويد حيث نمت المصانع الكبيرة (خريطة رقم 2) على حساب المعامل الصغيرة المبعثرة (خريطة 1)، أما الخريطة (3) فتوضح مصانع الحديد والصلب عام 1964 حسب حجم العمالة.
ولقد تطورت صناعة الحديد والصلب السويدية كثيرا بعد التحسينات الكثيرة التي طرأت على هذه الصناعة، ففي عام 1830 كانت الصناعة ريفية إلى حد كبير - أي موزعة في صورة أفران صغيرة بسيطة التركيب في مناطق إنتاج الخام، وقد بلغ عدد هذه المعامل الصغيرة في تلك السنة ستمائة معمل، انخفضت إلى مائتي معمل عام 1920، ثم إلى 35 معملا عام 1962 - انظر 1 و2 في الخريطة رقم (20) .
وقد حدث الانكماش في عدد مصانع الحديد والصلب نتيجة إلى قدرة المتنافسين الكبار على ضم وشراء المعامل الصغيرة وإقفالها واستثمار أموالهم في تشييد مصانع حديثة المعدات كبيرة الحجم، كما أن تقدم وسائل النقل قد ساعد على إنشاء المصانع الجديدة في أماكن مناسبة غير تلك التي في ساند فيكن - غربي جيفل - ودومنارفت وهاجفورس التي شيدت بين عامي 1860 و1880 حينما كان الاحتياج إلى الفحم النباتي ضروريا، وقرب مساقط مائية صغيرة للحصول على الطاقة، ولكن بعد إمكان مد شبكات الطاقة إلى مسافات طويلة، وتطور وسائل النقل البحري للفحم، كان يمكن أن تنشأ هذه المصانع قرب الموانئ، مثل مصنع لوليا الحكومي الذي أنشئ عام 1940 على ساحل بوثنيا مستهلكا لخام حديد جيلفار ومصنع أوكسلوسوند
Oxlosund
الذي أنشئ على ساحل البلطيق جنوبي ستكهولم عام 1957، ومصنع كالينجي على الساحل الجنوبي وهالمشتاد على الساحل الغربي، وهما يستخدمان الحديد الخردة المستوردة بحرا بصورة أساسية.
وبرغم جودة الحديد والصلب السويدي وذيوع صيته، وتصديره إلى الخارج، إلا أن السويد تستورد من هذه السلع أكثر مما تصدر، فالصناعة السويدية تستهلك جانبا من المنتج المحلي وتحتاج إلى كميات أخرى لكفاية مصانعها، وتدل الأرقام التالية على هذه الحقيقة كما تشير أيضا إلى القيمة العالية للمنتج السويدي.
جدول 4-6: تجارة الصلب في السويد 1966.
الكمية بالطن
القيمة بمليون كرون سويدي
الصادرات
984000
1652
الواردات
1242000
894
وتتخصص مصانع الصلب الحالية على النحو التالي: (أ)
مصانع إنتاج الصلب الممتاز: ساند فيكن - أكبر مصانع السويد حاليا، هوفورس، سوراهامار، أفستا، فاجرستا، هيلفورس، بوفورس، هاجفورس. (ب)
مصانع صلب البناء والأغراض العامة: دومنارفت، وأهم مصانع الصلب الكهربائية، أوكسلوسوند، لوليا، نيكروبا، سميديباكن.
هذا؛ وقد بلغت كمية الحديد والصلب المنتجة في السويد عام 1967 حوالي 7280000 طن منها 4768000 طن من الصلب ، والباقي من الحديد الزهر. (7-7) الصناعات السويدية الأخرى
تتميز السويد عن جاراتها من دول نورديا بسمعة طيبة في مجال السلع الصناعية، وبسمعة ممتازة في أنواع معينة من السلع، ويمكن أن نميز ثلاثة أقاليم صناعية هي: (1)
الجنوب الذي تتركز فيه صناعات النسيج والطحين والسكر والزجاج والفخار وتكرير البترول. (2)
الوسط الذي يتميز بتمركز الصناعات الهندسية والصناعات التي تستخدم الأخشاب. (3)
الشمال حيث تسيطر الصناعات القائمة على الغابات: مناشر الأخشاب ومعامل الورق.
وقد لعب وجود الخامات دورا أساسيا في توطين الصناعات في مناطق معينة قديما، لكن سهولة المواصلات في الوقت الحاضر، وإمكانية نقل الخامات برا وبحرا قد ساعدت على إعادة تنظيم التوزيع الجغرافي للصناعات وتركيزها في نقاط محدودة بدلا من انتشارها في صورة معامل ومصانع صغيرة عند مصدر الخامة، وعلى هذا فإن التقدم الفني عامة قد ساعد على تغيير الأسس الجغرافية الأولى لنشأة وتوطن الصناعات.
ولقد رأينا هذا سابقا في صناعة الحديد والصلب، ونلاحظه كذلك في الصناعات الميكانيكية التي أخذت تبتعد عن مصادر الخامات أحيانا، وتمتد لتشيد - على سبيل المثال - مصانع آلات الطحين في هيزلهولم في شمال سكانيا - جنوب السويد، وآلات صناعة الورق في هيرنوزاند على ساحل خليج بوثنيا، وأدوات المناجم والتعدين في استوكهولم، وصناعة السفن في جوتبورج ومالمو وغيرهما من المواني الغربية.
لقد بدأت الصناعات الهندسية في السويد بداية حديثة في عام 1870، وانتشرت جوار المناجم ومعامل الحديد، كما أنشئت أيضا في المدن الرئيسية في وسط السويد حيث تتوفر اليد العاملة، وتتمركز هذه الصناعة حاليا في نطاق يمتد من استوكهولم إلى بوفورس قرب كارلسكوجا - شمال شرق بحيرة فينرن، والتركيز الأعظم هو حول بحيرة مالرن وبحيرة هيالمارن القريبة ، وهناك مناطق أخرى صغيرة في شرق جوتالاند الشرقية وحول يونيكيبنج وهوسكفارنا - بحيرة فيترن، ومدينة جوتبورج وغربي سكانيا.
وفي عام 1965 بلغت اليد العاملة في التعدين والصناعات المعدنية الهندسية 510 آلاف شخص؛ أي 51٪ من مجموع العمالة الصناعية، وقد ساهمت هذه الصناعات ب 35٪ من قيمة مجموع صادرات السويد في الستينيات من هذا القرن.
وهناك دائما ارتباط بين الصناعات الهندسية وتلك المعتمدة عليها ، فمثلا تشتمل مجموعة جونسون الصناعية على مؤسسات مختلفة: الحديد والصلب في أفستا، ترسانة بحرية في لندهولمن (جوتبورج)، وشركة ملاحة بحرية (خطوط جونسون)، ولهذه المجموعة أيضا ناقلات بترول ومعامل تكرير البترول (في نيناشامن جنوبي استوكهولم) وأكبر خطوط أوتوبيس في السويد (لينبوس).
وقد نمت صناعة بناء السفن منذ بداية هذا القرن، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت السويد واحدة من كبار الدول التي تبني السفن؛ إذ إن ترسانتها البحرية تنزل إلى البحر حوالي 10٪ مجموع الحمولة المنزلة سنويا في العالم، ونصف هذه السفن تصدر إلى العملاء، وتوجد في جوتبورج أكبر ترسانة في السويد، ففيها شركات: أريكسبرج، وجوتا فركن ولندهولم، وفي مالمو توجد شركة كوكومز، وهناك أيضا ترسانات أصغر في أوديفالا
Uddevalla
شمالي جوتبورج وفي هيلسنجبورج ولاندزكرونا شمال مالمو، وعلى هذا يحتكر الساحل الغربي حوالي 90٪ من صناعة السفن.
وفي الفترة الواقعة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر أخذت صناعة الأسلحة والذخائر تتركز في عدة مدن وأماكن في شرق السويد، وخاصة في فينسبانج - التي أنشئت بواسطة إدارة هولندية وكانت تصدر الأسلحة إلى أوروبا بطريق أمستردام، وقد انتقلت مصانع فنسبانج هذه فيما بعد إلى بلدة بوفورس - قرب بحيرة فينرن.
وفي وسط السويد نجد أيضا تركزا جزئيا للمصانع المنتجة للآلات الزراعية والتعدينية واستغلال الغابات وصناعة الأدوات، لكن الآلات الزراعية توجد أساسا في جنوب السويد، والآلات المستخدمة في استخلاص الثروة الغابية متمركزة في الإقليم الأوسط.
وصناعة السيارات صناعة حديثة وتلقى منافسة قوية، ولكن قيمة صادرات السيارات السويدية في عام 1965 إلى بلدان نورديا والولايات المتحدة غطت نحو 60٪ من قيمة واردات السويد من السيارات العالمية، وتوجد مصانع شركة فولفو في جوتبورج ومصانع سكانيا فابيس في سودرتالي جنوبي استوكهولم ومصانع شركة ساب
Saab
في ترولهاتان، وتنتج الشركة الأخيرة طائرات في مدينة لينكوبنج.
وشركة فولفو هي أكبر شركات السيارات في السويد، وتمتلك 15 مصنعا في السويد إلى جانب مصنع جوتبورج الرئيسي، كما أن لها مصنعا في كندا، وتستخدم فولفو 25 ألف عامل منهم 13 ألفا في جوتبورج وحدها، وتصنع «الموتورات» في بلدة سكوفده - في فيستر جوتلاند، وصندوق التروس في بلدة كوبنج - بحيرة مالرن، وجسم السيارة في أوفشتروم - إقليم بليكنج في الجنوب، والجرارات في إسكلتونا، والموتورات الرشاشة في ترولهاتان، وقد باعت فولفو في عام 1963 من السيارات الخصوصية 112 ألف سيارة و32 ألف شاحنة نصفها وجد طريقه إلى الخارج.
وتتمركز مصانع الأدوات الكهربائية في أماكن محدودة، أكبرها في استوكهولم حيث توجد مصانع إريكسون للتليفونات، والثلاجات - البرادات، والمكانس الكهربائية - إلكترولوكس، أما مصانع إنتاج الأدوات الكهربائية عالية الفولت مثل التوربينات والمولدات فتوجد في فستراس - شركة
ASEA ، ولهذه الشركات الكبرى فروع في أنحاء العالم، وتستخدم إريكسون 44 ألفا من العاملين، وشركة
ASEA
34 ألفا.
ومن الشركات الصناعية الكبيرة
A. B. Gasackumulator, Lighthouses. AGA
وشركة
Tall - شركة لافال للتوربينات، وهما في استوكهولم، وشركة
SKF “Svenska Kullagerfabriken”
لعمل بيضات التحميل الفولاذية، ومركزها الأساسي في جوتبورج ومصانع الحديد التي تمتلكها توجد في مدينتي هوفورس وهيلفورس، ويعمل في هذه الشركة 68 ألفا منهم سبعة آلاف وخمسمائة في جوتبورج، ولها موظفون ووكلاء في خارج السويد، وهي تصدر حوالي ثلثي الإنتاج للخارج.
وإلى جانب الصناعات الهندسية والإنشائية المختلفة توجد أيضا عدة صناعات أخرى على رأسها صناعة النسيج والملابس، وتضم هذه الصناعة 9٪ من الطاقة العاملة الصناعية في السويد، وهي - كصناعة - أكثر تطورا من مثيلاتها في الدول الصناعية الأوروبية القديمة، وتتركز هذه الصناعة في منطقة بوراس إلى الشرق من جوتبورج، كما تنتشر أيضا حول مدن جوتبورج ومالو ونوركوبنج، أما صناعة الملابس فتوجد في المدن الكبرى.
شكل رقم (21): نصيب دول نورديا من الإنتاج الصناعي في نورديا وقيمة الإنتاج 1960.
وقد دخلت صناعة نسيج القطن في السويد في ثلاثينيات القرن الثامن عشر، وقد أنشئ أول مصنع في إلينجاس شمال شرقي جوتبورج، وقد ظل هذا هو المصنع الوحيد لفترة طويلة، وفي خلال الحرب النابليونية والحصار الذي فرضته بريطانيا على أوروبا تحولت منطقة بوراس من التيل والكتان والصوف إلى القطن؛ لأن ميناء جوتبورج ظل مفتوحا كميناء حر خلال تلك الحرب، ومنذ عام 1820 أصبحت منطقتا بوراس وجوتبورج مراكز أساسية لنسيج القطن في السويد.
أما نسج الصوف فهو أوسع انتشارا من القطن، وإن كانت نوركوبنج تمثل المركز الرئيسي لهذه الصناعة التي توطنت فيها منذ القرن السابع عشر، وتوجد صناعة نسج الكتان والجوت في منطقة بوراس-جوتبورج منذ عام 1840، كما توجد في مناطق أخرى من غرب السويد، وتعتمد هذه الصناعة على الصوف الخام المستورد من الخارج اعتمادا كليا برغم أن الكتان كان قد زرع خلال فترة الحرب الثانية في جنوب السويد.
وأخيرا فإن صناعة الملابس بكافة أنواعها تتمركز في جوتبورج واستوكهولم ومالمو، وإلى حد ما في بوراس أيضا، وهناك مناطق صغيرة لهذه الصناعة منتشرة في مدن مختلفة، والملاحظ أن هذه الصناعة تتمركز في المدن الكبرى حيث توجد سوق الاستهلاك الكبير، كما أنها تظهر في داخل منطقة الصناعات الهندسية الآلية؛ لأنها تستخدم النساء بنسبة كبيرة في عمالتها، وهن لا يجدن عملا في منطقة الصناعات الثقيلة التي تكاد أن تكون حكرا على العمالة من الذكور.
أما الصناعات الغذائية فتوجد في الموانئ ومنطقة السهول حيث تتوفر الخامات، وتضم هذه الصناعات عددا كبيرا من العمالة، وتتميز مطاحن الحبوب بحداثة آلاتها، وتتركز في كل من استوكهولم وجوتبورج ومالمو وكالمار، وتمتلك التعاونيات الزراعية معظم المسالخ ومعامل الألبان ومنتجاتها في صورة وحدات صناعية كبيرة مجمعة، وتقتصر صناعة السكر على جنوب غرب سكانيا بالقرب من مالمو، وكذلك توجد في المنطقة نفسها مصانع تعليب الخضروات المنتجة في الإقليم، وتكاد تحتكرها شركة فندوس
Findus
التي بدأت كشركة لعمل الكاكاو والشيكولاتة في استوكهولم، ولهذه الشركة مصنع كبير لتجميد الأسماك في همرفست بشمال النرويج، كما أنها قد اندمجت مؤخرا مع شركة «نسله» السويسرية.
وتقوم صناعة السمن الصناعي على الزيوت النباتية المنتجة في السويد - التي تقدم لها الحكومة الكثير من المعونات للإبقاء على زراعتها في محاولة للاكتفاء الذاتي، ويوجد عشرون مصنعا متخصصا في هذه الصناعة منتشرة في الجنوب والوسط، أكبرها تلك الموجودة في نوركوبنج وكالمار، وتشرف الدولة على إنتاج وتسعير هذه الزيوت النباتية لكيلا تنافس الزبد الطبيعية، وأخيرا فإن صناعة النشا والكحول تكاد تتركز في الجنوب حيث يزرع البطاطس، بالإضافة إلى استخدام خامات أخرى - إضافة السكر إلى السلفات الناجمة عن مخلفات مصانع العجائن في نورلاند، أما صناعة السجائر وغيرها من منتجات التبغ فاحتكار للحكومة منذ عام 1914، وتوجد هذه الصناعة في مدينة مالمو، وتعتمد على التبغ المستورد بعد أن توقفت زراعته في شرق سكانيا منذ فترة.
وتقوم صناعة الأسمنت - التي أنشئت قرب مالمو عام 1873 - على الموارد المحلية من الصخور الجيرية، وبالرغم من انتشار معامل الأسمنت في وسط وشرق السويد إلا أن الجنوب لا يزال يسيطر على حوالي نصف عدد المصانع، ولا شك أن إنشاء معامل الأسمنت في وسط وشرق السويد يرجع إلى الرغبة في تخفيف أعباء النقل من الجنوب إلى مناطق الاستهلاك الكبيرة في الوسط. (7-8) النقل والمواصلات
في خلال عصر ما قبل الصناعة كانت هناك شبكة من الطرق المحلية الممتدة بين المدن والقرى المتجاورة وعدد قليل من الطرق الرئيسية، وهذه كلها لم تكن ملائمة للنقل الثقيل، لكن كان لا بد من نقل قضبان الحديد المنتجة في برجسلاجن إلى الموانئ لتصديرها، وكانت غالبية حركة نقل الحديد تحدث في الشتاء باستخدام زحافات الجليد، ولإمكان عبور الأنهار والبحيرات المتجمدة سطوحها دون الحاجة إلى اللف والدوران حولها، وكان من المعتاد أن تقل كمية الحديد المنقولة للتصدير إذا كان الشتاء قليل الثلوج، وكذلك كان الحال بالنسبة للفحم النباتي.
أما في الصيف والربيع فكانت السلع الثقيلة تلجأ إلى وسائل النقل المائي في البحيرات والأنهار الملاحية، وفي أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر تطورت معارف بناء الأهوسة على الأنهار لتعديل مستويات المياه في مناطق الانحدارات الكبيرة، وتمكين الملاحة بهذه الطريقة من الاستمرار في الداخل، وبناء على هذا بدأ عهد القنوات في السويد، ففتحت قناة ترولهاتيه للملاحة سنة 1800 مما سهل الملاحة ونقل قضبان الحديد عبر بحيرة فينرن ونهر جوتا ألف إلى ميناء جوتبورج، كما أدت إلى تحسين شامل ومباشر لاقتصاديات إقليم بحيرة فينرن - خاصة بعد نقل الأخشاب على هذا الطريق المائي أيضا، وفي عام 1832 افتتحت قناة جوتا بين البلطيق وبحيرة فينرن عبر بحيرة فيترن، لكن كثرة الأهوسة في مسافات قصيرة، وضيق القناة لم يجعلا لهذا الطريق المائي أهمية تجارية حقيقية، كذلك أنشئت عدة قنوات صغيرة بين بحيرات وسط السويد، خاصة من أجل صناعة الحديد والصلب، وباستثناء قناة ترولهاتيه التي وسعت أهوستها مرة في عام 1844 ومرة أخرى عام 1916، وقناة سودرتالي
Soedertalje
بين البلطيق وبحيرة مالرن، فإن بقية قنوات السويد غير مفيدة تجاريا مما أدى إلى إقفال بعضها، أو استخدامها للسياحة وأغراض النزهة.
وقد بدأ عهد السكك الحديدية في صورة عربات الخيول التي تجري على القضبان في منطقة مناجم برجسلاجن بين البحيرات لتجنب النقل البري العادي لهذه السلع الثقيلة، ثم يعاد النقل على القوارب، ومن أمثلة ذلك طريق ينجن-دالاجرنسن في فيرملاند الذي كان يتكون من خمس عشرة بحيرة وأحد عشر جزءا من الطريق الحديدي بالمعنى السابق ذكره - تربط بين البحيرات، ولهذا كان الحديد ينقل ويفرغ 25 مرة قبل أن يشحن على سفن بحيرة فينرن عند كريستيانهامن.
وفي عام 1853 وافق البرلمان السويدي على منح امتيازات إنشاء خطوط حديد الدولة، ولكن تنظيم مناطق السكك الحديدية كان قد راعى في البداية ألا تنافس هذه الطرق الجديدة مسارات القنوات والأنهار، بل تعبرها وتتعامد عليها، ولا شك أن ذلك نتيجة المنافسة التي كانت قائمة بين النقل المائي الداخلي والنقل الحديدي الجديد خلال القرن التاسع عشر، وكان على الطرق الحديدية ألا تمر في المناطق الكثيفة السكان، بل تمر في مناطق السكن كوسيلة من وسائل تعمير تلك الأراضي وإدخالها في دائرة النشاطات الاقتصادية الحديثة، ولأسباب عسكرية أبعدت الخطوط الحديدية عن المناطق الساحلية، وعلى هذا نجد الخط الرئيسي بين استوكهولم وجوتبورج لا يمر بالسهول الوسطى الكثيفة السكان والكثيرة القنوات، بل يمر في مناطق الهضبة الفقيرة الممتدة جنوبي البحيرات، وكذلك يمر الخط الرئيسي بين استوكهولم ومالمو عبر هضبة سمالاند الفقيرة والقليلة الزراعة، وعلى هذا نشأت مدن مزدوجة على أبعاد من بعضها: القديمة بعيدة عن الخط الحديدي، والحديثة تقع على مسار ذلك الخط، وقد أدى ذلك إلى كساد وتدهور المدن القديمة بينما ازدهرت المدن الحديثة بنشأة الصناعة فيها، مثال ذلك مدن أيسلوف وهزلهولم والفستا وهي مدن جديدة تقع على المسار الرئيسي للخط الحديدي الجنوبي في مقابل المدن القديمة: هيربي ، كريستيانستاد، فاكسيو، ولا شك أن ذلك قد أضر كثيرا بالنمو الطبيعي للسويد في تلك الفترة، وإن كان مرور الخطوط الحديدية في الأراضي الجديدة يعتبر توجيها اقتصاديا جيدا إذا كانت الأراضي التي سيمر فيها هذا الخط صالحة لاستغلال جيد وليس مجرد استغلال هامشي، أما خطوط حديد نورلاند فقد أنشئت بمحاذاة الساحل، وعلى بعد حوالي خمسين كيلومترا منه، بحيث تمتد خطوط فرعية من الخط الرئيسي إلى موانئ ومدن بوثنيا.
وقد بدأ تشغيل الخطوط الحديدية في السويد عام 1855 على طريق قصير في منطقة التعدين في إقليم فيرملاند، وفي 1856 بدأت أجزاء من خط استوكهولم- جوتبورج، ومالمو في العمل، وفي 1900 كانت أطوال الخطوط الحديدية قد وصلت إلى عشرة آلاف كيلومتر، ووصلت في 1937 إلى 17 ألف كم بعد إتمام الخط الشمالي الداخلي (جيلفار-بحيرة فينرن) الذي يجري في مناطق بكر، وسكن بشري نادر، وقد استمر بناء هذا الخط نصف قرن كامل، ذلك لأن رأس المال السويدي لم يكن كافيا لتمويله طوال الوقت، وكان لا بد من عقد قروض بشأنه مع بريطانيا.
وقد بنيت خطوط الدولة على أساس المقياس الدولي العادي، لكن في الفترة بين 1870-1890 منحت شركات صغيرة عدة امتيازات، فبنت خطوطا حديدية ضيقة لكي تختصر في رأس المال المستثمر، لكن النتيجة النهائية أن النقل على هذه الخطوط أصبح أكثر كلفة نظرا لتكاليف إعادة الشحن من الخطوط الدولية إلى الضيقة، وتدريجيا أصبح استخدام هذه الطرق غير اقتصادي فهجرت، وفي عام 1880 كانت الدولة تمتلك نحو 33٪ من أطوال الخطوط الموجودة، ولكن منذ الثلاثينيات أممت الدولة كل الخطوط الحديدية.
وفي تلك الفترة التي أممت فيها السكك الحديدية بدأت وطأة المنافسة تظهر وتشتد بين النقل الحديدي والسيارات والشاحنات، لكن تلك المنافسة توقفت مؤقتا خلال الحرب العالمية الثانية، وعادت إلى الظهور بشدة بعد ذلك، والحقيقة أن المنافسة تؤدي إلى فقدان أطوال كثيرة من الخطوط الحديدية لأهميتها، ولذلك تعدد إغلاق عدة محطات حديدية لعدم جدواها.
وفي الوقت الحاضر نجد أكبر نقل سلعي يتم على الخطوط الرئيسية في جنوب السويد، وعلى خط حديد لوليا-نارفيك (حديد لابلند)، ويحمل الخط الأخير نحو 25 مليون طن من البضائع المنقولة على الخطوط السويدية البالغة 61 مليونا من الأطنان (1965)، وعلى هذا فإن خط لابلند يعوض خسائر السكك الحديدية السويدية في بقية قطاعاتها.
وتنقل السكك الحديدية في مثلث استوكهولم - مالمو - جوتبورج بضائع كثيرة بالإضافة إلى خط الشمال في وسط السويد الذي ينقل في الشتاء الأخشاب من نورلاند، والمعادن من فيرملاند إلى جوتبورج.
وهناك أيضا تجارة مزدهرة تنقل حديديا عبر البحر إلى أوروبا بواسطة أربعة موانئ عبور: (1)
هيلسنجبورج-هلسنجور (شمال شرقي زيلند على مضيق السوند، وهي أضيق مسطح مائي بين السويد والدنمارك). (2)
مالمو-كوبنهاجن (عبر مضيق السوند أيضا). (3)
ترليبورج-ترافيمنده (الميناء الخارجي لميناء لوبيك على ساحل ألمانيا الغربية على البلطيق). (4)
ترليبورج-زاسنيتز (نهاية خط حديدى من برلين إلى البليطق في ألمانيا الشرقية).
وإلى جانب ذلك فإن هناك عابرات كثيرة لنقل السيارات بين السويد والدنمارك، وترتبط خطوط حديد السويد بالخطوط النرويجية في عدة أماكن أهمها خط الشمال إلى ميناء نارفيك، وخط الوسط إلى ميناء تروندهايم، وخط الجنوب إلى أوسلو.
وتنقل الخطوط الحديدية إلى الداخل جميع أشكال الوقود المعدني (فحم كوك - بترول ومشتقاته)، وأهم موانئ استقبال هذه الأنواع من الوقود هي جوتبورج واستوكهولم ومالمو وهيلسنجبورج ونوركوبنج وجيفل وسوندسفال ولوليا، ومعظم ما يصل ميناء استوكهولم يبقى لاستهلاك هذه المدينة الكبيرة وضواحيها.
ومنذ أن حلت مشكلة نقل الطاقة الكهربائية إلى مسافات بعيدة، تغيرت الطاقة المستخدمة في الخطوط الحديدية الرئيسية إلى الكهرباء بدلا من الفحم والديزل، وفي الوقت الحاضر تنقل حوالي 90٪ من البضائع المحمولة بالسكك الحديدية على الخطوط المكهربة، وذلك برغم أن نصف أطوال السكك الحديدية هي التي نالها التغير فقط، وتأتي السويد في المرتبة الثانية بعد سويسرا في كهربة الخطوط الحديدية، وأما بقية الخطوط فإنها تستخدم الديزل كطاقة محركة، ومن الظاهرات الجديرة بالاهتمام أن الخطوط الحديدية المزدوجة في السويد مقتصرة على خطوط استوكهولم-جوتبورج، واستوكهولم-مالمو، واستوكهولم-نوركوبنج، أما الباقي فخطوط مفردة.
الطرق البرية والنقل بالشاحنات والسيارات تنافس السكك الحديدية بصورة ملحوظة، ففي الفترة بين عامي 1953-1966 تزايد عدد السيارات من 400 ألف إلى 1,9 مليون سيارة، وزاد عدد الشاحنات من 103 آلاف إلى 134 ألفا، وبالمثل زاد عدد الباصات من 8200 إلى 11000.
ولقد ترتب على توطن الصناعات الغذائية خاصة في مناطق محدودة زيادة العبء على النقل في مناطق الإنتاج إلى أسواق الاستهلاك، وكذلك أخذ النقل داخل الغابات بالشاحنات يحل تدريجيا محل النقل بواسطة الأنهار - بفضل عاملي السرعة وعدم تلف الأخشاب ببلها في مياه الأنهار فترة طويلة.
وقد أوضحت الدراسات التي تمت في عام 1964 على أن نسبة النقل قد توزعت على وسائل النقل المختلفة على النحو التالي:
جدول 4-7
وسيلة النقل
1950
1955
1960
1964
الشاحنات
20٪
26٪
34٪
39٪
السكك الحديدية
63٪
60٪
55٪
51٪
النقل المائي
17٪
14٪
11٪
10٪
جملة الحمولة المنقولة لكل وسائل النقل (ألف طن ك م)
13,7
17,2
19,9
25,5
وتنقل الشاحنات ثلثي الإنتاج الغابي والزراعي بينما تكون المعادن ربع الحمولة المنقولة حديديا، وتوضح الأرقام والنسب السابقة زيادة النقل عامة بالنسبة لكل وسائل النقل، مع تزايد ملحوظ للنقل البري على حساب الحديدي والنهري.
وتتركز الطرق البرية في منطقة السهول الوسطى وحول بحيرة مالرن واستوكهولم وعلى طول الطريق الدولي - أوروبا 4 - بين مالمو واستوكهولم، وعلى طول سواحل نورلاند، وتوضح مناطق شرقي السويد وغربي السهول الوسطى نفس نمط الضعف الذي نجده في شبكة الخطوط الحديدية.
وفي مجال انتقال الأشخاص نجد دورا متزايدا للسيارات الخصوصية على حساب وسائل النقل الأخرى، وقد تزايد هذا الدور بسرعة مخيفة بلغت عشرة أمثالها في السنوات الخمس عشرة (1950-1964)، ويرتبط هذا بمميزات السيارة الخاصة في الانتقال السريع مع الراحة مقابل بطء المواصلات العامة، ولا شك أيضا أن ارتفاع مستوى المعيشة، وازدياد الدخول قد ساعد على نمو هذا النمط من انتقال الأشخاص.
وأخيرا فإن النقل الجوي ما زال مركزا بين المدن الرئيسية الثلاث: استوكهولم وجوتبورج ومالمو، وهناك أيضا حركة لا بأس بها للطيران على طول سواحل خليج بوثنيا، ومع جزيرتي جوتلاند وأولاند، وفي عام 1964 بلغ عدد المسافرين جوا من مطارات السويد نحو ثلاثة ملايين شخص، منهم قرابة النصف في رحلات جوية داخل السويد والباقي في رحلات دولية.
وتمثل حركة السياحة عبئا على وسائل النقل، ففي عام 1964 بلغ عدد الذين دخلوا السويد من غير البلدان الاسكندنافية 1,1 مليون شخص، ويمثل هذا الرقم زيادة مقدارها 50٪ بالنسبة لأرقام عام 1961، وأكبر أعداد السياح تأتي من ألمانيا الغربية ثم أمريكا ثم بريطانيا. (7-9) التجارة
تأتي السويد في المرتبة الثالثة بين دول العالم في مقدار الدخل القومي موزعا على عدد السكان وذلك بعد الولايات المتحدة وكندا، ويساوي سكان السويد 0,3٪ من مجموع سكان العالم، لكن تجارة السويد الخارجية تكون 2٪ من قيمة جملة التجارة الخارجية العالمية، وهي تحتل المرتبة الخامسة بعد نيوزيلندا وبلجيكا وكندا وسويسرا فيما يختص بقيمة التجارة الخارجية موزعة على عدد السكان.
ولقد ظلت تجارة السويد الخارجية حتى أواسط القرن الماضي مقتصرة على السلع الحديدية والقطران والشيلم، كما كانت هذه التجارة محددة بالدول الأوروبية المجاورة، ومع دخول الصناعة بدأ التغيير يطرأ على نمط تجارة السويد، خاصة بعد تحسين وسائل المواصلات وقدرتها على استيعاب حمولات كبيرة، وبعد زوال الحواجز التجارية إلى حد كبير.
وقد كانت سياسة الدول المستوردة من السويد تفضل استيراد السلع السويدية نصف المصنعة والخامات الصناعية، وفي مقابل ذلك كانت الصناعة السويدية مجبرة على إنتاج سلع يمكن أن تشتريها بأسعار أرخص من السوق الخارجية، وكان ذلك نوع من المعادلة لتخفيض قيمة وارداتها.
وفي الوقت الحاضر نجد أن أهم الواردات بالنسبة للسويد هي أنواع الوقود المعدني المختلفة، وخاصة البترول - 19 مليون طن عام 1965، ويكفي الإنتاج الزراعي والحيواني الاستهلاك الداخلي في السنوات العادية، لكن ارتفاع مستوى المعيشة قد أدى إلى زيادة في واردات الغذاء من الفواكه والخضروات والتبغ والأنبذة، وفي مقابل ذلك نجد صادرات قليلة من الحبوب ومنتجات الحيوان، ويوضح الجدول التالي حقائق التجارة الخارجية للسويد خلال عام 1966.
جدول 4-8: قيمة التجارة الخارجية للسويد في عام 1966 (مليون كرون سويدي).
السلعة
الصادرات
الواردات
الميزان
الأغذية والمشروبات والتبغ
700
2942 −2242
جملة الخامات
5502
4316 +1186
أخشاب
1422
68
عجين الورق
2332
5
الخامات المعدنية
1207
410
الوقود
137
2686
المنتجات الكيميائية
831
1872 −1041
السلع المصنعة
7217
7667 −450
الورق
2072
199
المنسوجات
537
1283
الحديد والمعادن
1846
1930
الآلات ووسائل النقل
7852
6866 +986
آلات غير كهربائية
3893
3094
آلات كهربائية
1365
1623
السفن والسيارات
2593
2149
الجملة
22102
23663 −1561
والملاحظ أن حوالي 80٪ من صادرات السويد و75٪ من وارداتها عبارة عن علاقات تجارية مع الدول الأوروبية، وقد كانت ألمانيا الغربية على رأس قائمة الدول الموردة للسويد، والآن أصبحت على رأس الدول المستوردة من السويد، أما سوق السلع السويدية الحالية فهي مركزة في دول نورديا - تشتري هذه الدول حوالي ربع الصادرات السويدية، وذلك باستثناء خامات المعادن التي تذهب إلى السوق الأوروبية، وكذلك نحو 90٪ من الأخشاب.
وأكبر ميناء يتعامل في تجارة السويد هو جوتبورج، إذا استثنينا ميناء لوليا الذي يتعامل أساسا في خامات ومصنعات حديد الشمال، يلي ذلك ميناء مالمو وهيلسنجبورج، ويغطي ميناء استوكهولم على النشاط التجاري لكل من مينائي جيفل ونوركوبنج، وعلى صورة مصغرة لموانئ أمريكا وكندا على البحيرات العظمى نجد أيضا مينائي فستراس وكارلستاد الداخليين - الأول على بحيرة مالرن والثاني على بحيرة فينرن - يمثلان موانئ حركة تجارية للسفن المحيطية.
وتبلغ حمولة الأسطول التجاري السويدي 4,5 مليون طن في عام 1966 ويتكون ثلثه من ناقلات البترول، وقد سبق أن ذكرنا أن أكبر شركات الشحن توجد في كل من جوتبورج واستوكهولم.
وتوضح الجداول التالية القيمة العامة للإنتاج والاستهلاك في السويد بالمقارنة بدول نورديا الأخرى، وهي لا تحتاج إلى توضيح؛ لأن دلالتها على مكانة السويد في هذه المجموعة من الدول الشمالية واضحة:
جدول 4-9: صادرات (نورديا 1963).
السلعة
كل نورديا
الدنمارك
فنلندا
النرويج
السويد
مليون دولار ٪
النسبة المئوية من قيمة جملة صادرات نورديا
الأغذية والمشروبات والتبغ
1261
17,4
76
3
13
8
الأخشاب وعجائن الورق
1099
15,1
1
38
7
54
خام الحديد
227
3,1
1
5
9
85
خامات أخرى غير غذائية
254
3,5
42
10
22
26
وقود معدني وشحومات
57
0,8
20
1
53
26
زيوت ودهون نباتية وحيوانية
363
5
30
5
34
31
مصنعات خشبية وورق
889
12,2
3
47
12
38
معادن مصنعة
590
8,1
4
5
42
49
سلع مصنعة أخرى
376
5,2
25
6
14
55
آلات ووسائل نقل
1818
25,0
22
8
8
62
مصنعات مختلفة
297
4,1
41
6
11
42
الجملة (مليون دولار)
7269
1869
1142
1070
3187
الجملة (نسبة مئوية)
100٪
26٪
16٪
15٪
34٪
جدول 4-10: واردات نورديا (1963).
السلعة
نورديا
الدنمارك
فنلندا
النرويج
السويد
مليون دولار ٪
النسبة المئوية من قيمة جملة صادرات نورديا
الأغذية والمشروبات والتبغ
1063
12,5
27
16
19
38
خيوط نسيجية
123
1,4
26
22
14
38
خامات حديدية
102
102
6
64
30
خامات أخرى غير غذائية
476
5.6
36
13
18
33
وقود معدني وشحومات
1010
11,9
27
12
16
45
زيوت ودهون نباتية وحيوانية
723
8,5
27
16
19
38
منسوجات
537
6,3
28
13
17
42
المعادن الأساسية
463
5,4
27
18
20
35
سلع مصنعة أخرى
796
9,4
30
11
17
42
آلات ووسائل النقل
2558
30,1
20
15
27
38
مصنعات مختلفة
620
7,3
22
9
20
49
الجملة (مليون دولار)
8510
2119
1200
1816
3373
الجملة (نسبة مئوية)
100٪
25٪
14٪
21٪
40٪
جدول 4-11: الاتجاهات الرئيسية لتجارة نورديا (1965).
مكان الوارد والصادر
النسبة المئوية لجملة نورديا
الدنمارك
فنلندا
النرويج
السويد
واردات
صادرات
وارد
صادر
وارد
صادر
وارد
صادر
وارد
صادر
نورديا
19,2
22,5
20
21
19
13
27
25
14
26
بريطانيا
14,7
17,7
17
23
15
20
12
18
15
13
دول
EFTA
الأخرى *
3,8
3,0
4
4
4
1
3
2
4
4
ألمانيا الغربية
20,1
14,3
22
16
19
11
16
14
22
14
دول السوق الأوروبية المشتركة
14,5
14,1
15
10
13
17
13
11
16
17
الولايات المتحدة
7,9
7,1
8
8
5
6
7
9
9
6
الدول الأخرى
19,8
21,3
14
18
25
32
22
21
20
20
1000
1000
100
100
100
100
100
100
100
100 *
EFTA : منظمة التجارة الأوروبية الحرة، وكانت تتكون من السويد والنرويج والدنمارك والنمسا وسويسرا وبريطانيا والبرتغال. وقد دخلت بريطانيا والدنمارك السوق الأوروبية المشتركة في عام 1973، ولا نعرف ماذا ستئول إليه حالة هذه المنظمة بعد ذلك. (8) الدراسة الإقليمية للسويد
يحسن بنا أن نختم الكلام عن السويد بدراسة إقليمية موجزة للمميزات العامة لكل من أقاليم الدولة الثلاثة الشمال والوسط والجنوب. (8-1) نورلاند أو الإقليم الشمالي
مساحة نورلاند تقرب من 260 ألف كيلومتر مربع أو أكثر من نصف مساحة السويد، وحدها الجنوبي هو الجزء الأدنى من وادي
Dal Alv
ويقول السويديون: إنه إلى الشمال من وادي دال لا يوجد بلوط أو نبلاء ومعظم أراضي نورلاند مغطاة بغابات كثيفة من الصنوبر والتنوب والبتولا، وفي نورلاند توجد عدة أنهار كبيرة أو ما يسمى
alv
من أهمها أنجرمان وأندالز ألف ودال ألف، وتمر كلها في شلالات ومندفعات مائية عند سقوطها من الجبال الغربية، وتستخدم كثيرا في نقل الأخشاب، وفي توليد الطاقة، ويقدران في نورلاند 80٪ من احتمالات توليد الطاقة في السويد والجزء الأكبر منها لم يستغل بعد، وعند مصبات الأنهار على خليج بوثنيا نشأت موانئ كثيرة تستخدم الأنهار كطرق اختراق إلى الداخل.
وقد بدأ الاستقرار على الساحل منذ القرن الرابع عشر، وأنشئ عدد من المدن في حوالي سنة 1600، وتبدأ سلسلة المدن الساحلية على مصب أنجرمان وغيرها من المدن، وقد أدت
Lulea
نهاية خط الحديد إلى كيرونا ونارفك، ثم أوميا
Umea
ثم هيرنيزاند
Hernoesand
على مصب أنجرمان وغيرها من المدن، وقد أدت حركة ارتفاع أرضي إلى فقدان الكثير من المدن لأهميتها كموانئ، وكان لا بد من موانئ جديدة على مبعدة عدة أميال نزولا مع النهر، وفيما بين ميناء سوندسفال على مصب أندالزالف وترندهايم على الساحل النرويجي يمتد خط حديدي يخترق سكندنافيا مع وادي النهر إلى الفلد الأعلى في الجبال الوسطى الاسكندنافية، وكان ذلك جريا وراء الطريق البري القديم الذي يعبر شبه الجزيرة في هذه المنطقة لوجود استيطان قديم في مدينة أوسترسوند التي تقع فيما يشبه الحوض في بيد مونت يمتلاند
Jemtland ، وهذا الحوض قد قطع في منطقة من الشست والحجر الرملي والجيري مكونا تربة جيدة ذات تصريف جيد، وفوق هذا فإنها تقع في منطقة تنخفض فيها السلاسل النرويجية فيما يشبه الفتحة الكبيرة مما يجعلها تتأثر بمناخ الأطلنطي الدافئ، ونجم عن ذلك ما يشبه الواحة الغنية في يمتلاند، تمتلئ ببحيرات هادئة وزراعة نشطة وسط محيط هائل من الغابات الرطبة والهضاب الجرداء المتجمدة.
وباستثناء حوض يمتلاند هذا وسلسلة الاستقرار المدني على السهل الساحلي، فإن معظم بقاع نورلاند كانت لا تزال على طبيعتها الغابية القليلة الاستغلال لغير أغراض الخشب حتى منتصف القرن الماضي حينما اكتشفت على أنها احتياطي السويد أرضا وموارد، وأخذ الناس يتكلمون عن إمكاناتها غير النهائية كما كان الأمريكيون يتكلمون عن الغرب الأمريكي.
وفي بداية الاستغلال كان الخشب الدافع الأول الذي دفع بحدود نورلاند الطبيعية من الساحل إلى الداخل: الخشب لأغراض الورق والبناء والفحم النباتي، وتحولت مدينة سندسفال إلى مركز مهم للصناعات الكيميائية، ثم جاء دور الطاقة بعد بناء سد بوريوس
وغيره على نهر لول ألف غربي جليفار مما أعطى المنطقة طاقة رخيصة، وبدأ خط حديدي جديد يتقدم شمالا حتى وصل إلى لوليا وجيلفار عام 1887 وفتح بذلك الطريق أمام استغلال حديد نوربوتن ولابلند السويدية، ونوربوتن منطقة دون القطبية معظمها هضبي عال ونباتاته قليلة من فصائل التندرا وتجمعات من البتولا القزمية، وهذه المنطقة عاش فيها عدد قليل من اللاب مع قطعانهم من الرنة على المراعي الفقيرة، وفي المنطقة توجد عدة تلال ترتفع فوق السطح الهضبي المنبسط، وتحتوي على خام حديد ممتاز (60-70٪ معدن )، وعاق استغلالها نسبة الفسفور فيها حتى عام 1880 حينما اكتشفت طرائق جديدة للاستغلال، ثم تقدم خط حديد لوليا جيلفار شمالا إلى منطقة الحديد الغنية في كيرونا، ثم ربط المنطقة كلها بالأطلنطي عند ميناء نارفيك النرويجي الخالي من الجليد طوال العام، وتصدر الآن عدة ملايين من أطنان هذه الخامة الجيدة إلى مصاهر أوروبا وأمريكا، كما بنت السويد مصنعا للحديد والصلب في لوليا تحت إدارة الدولة، وسوف يقلل هذا المصنع استخدام الكوك ويحل محله الطاقة الكهربائية، وقد أدى التصنيع والتعدين إلى نشوء بعض الزراعات الغذائية أهمها البطاطس والخضروات خلال الصيف القصير.
وتقع كيرونا (20000 شخص) في قلب نوربوتن وهي أهم مدن تعدين الحديد، وبالرغم من بعدها الشديد إلى الشمال بالنسبة لمناجم أوروبا فإنها مدينة تنمو بسرعة من مضرب خيام لأبي صغير في بداية هذا القرن إلى مدينة حديثة جديدة تقع على منحدر يواجه تلين هما كيرونافارا ولوسافارا اللذان يبدوان كما لو كانا مرتفعين صناعيين نتيجة العمل الإنساني المستمر الذي جعل القمة مسطحة، وأقام عشرات المدرجات على السفوح، وبنى منخفضا واسعا مسطحا ما زال يتسع نتيجة تفجيرات الديناميت المستمرة والحفارات الميكانيكية الضخمة، ويستمر العمل ليل نهار تحت أضواء كاشفة مستمرة تحيل كل ساعات اليوم إلى نهار ساطع الضوء، ومن أول أكتوبر إلى أبريل يكون الجو قاسيا قارس البرد مع موجات رياح لاذعة، ولكن العمل يستمر في المناجم لتحميل القطارات الطويلة المتجهة إلى لوليا ونارفك، أما جيلفار فإنها تمثل منطقة استغلال أقدم، وتقع على الخط الحديدي ذاته، وكذلك بودن - بالقرب من لوليا، فهي مركز تعدين ومقر القيادة العسكرية الشمالية.
وفي كيرونا تناقض شديد بين الحضارة الحديثة وحضارة اللاب البدائية، ولكن التأقلم اللابي يسير في هدوء ودون قفزات إلى الحضارة الصناعية، وبما أن المعدن وفير فإن الرخاء الحالي في كيرونا قد يستمر فترة طويلة، فالمقدر أن احتياطي حديد نوربوتن يعادل ملياري طن.
وفي نورلاند معادن أخرى غير الحديد، فالنحاس قد عدن قرب جيلفار، وفي إقليم اللاب الجنوبي معادن أخرى كالنحاس والذهب والفضة في منطقة بوليدن، كذلك فإن وجود المساقط المائية بكثرة يفتح آفاق الصناعات الكهرومعدنية والكهروكيمائية، وعلى هذا فإن الخامات المعدنية والأخشاب هي الثروة الرئيسية لنورلاند الجديدة، أما الزراعة فما زالت قليلة برغم الاعتناء بالمزارع الموجودة حاليا، ولهذا فإن نورلاند تستورد الأغذية وتصدر ملايين الأطنان من الخامات، وعاصمة نوربوتن هي لوليا (29500 شخص) وبها كما قلنا مصنع الصلب، أما سكان نورلاند فيبلغون 260 ألفا، وأهم المدن الأخرى في نورلاند هي مدينة سندسفال (29000 شخص) عاصمة الصناعات المرتبطة بالأخشاب. (8-2) وسط السويد أو إقليم البحيرات
عند مصب دال ألف تبدأ أولى المدن السويدية القديمة «جيفليه
Gâvle » (53 ألف شخص) وهي تقع عند نقطة التقاء نورلاند بوسط السويد، وعمر المدينة وتنوع صناعاتها وعدد سكانها ومساحتها يؤكد أنها تقع ضمن السويد الوسطى، وإلى الجنوب منها تبدأ المظاهر العامة الحضارية في التغير وكذلك المظاهر الطبيعية، فهناك تنوع كبير من الأشجار، ومساحات كبيرة مجتثة من الغابة لأجل الزراعة، ولكن التمييز الواضح بين نورلاند ووسط السويد حضاري: درجة فعالية الإنسان في المظهر الطبيعي ونوع المدن وعمرها، وتتميز وسط السويد بأنهار سريعة ومنحدرات وبحيرات كثيرة، والتربة مختلفة عن نورلاند: فالتربة التحتية متنوعة، وهناك عدد من المنخفضات التكتونية بينها بعض الهورست وخطوط الركامات الجليدية مما يضاعف تغير المنظر، والغابات منتشرة في مناطق التربة الفقيرة الصخرية أو الرملية، بينما تزرع الأرض ذات التربة الطينية أو اللومية، والمناخ الدافئ نسبيا يسمح بزراعة شيء من القمح ونباتات العلف، والماشية أحد مصادر الثروة الرئيسية، وإلى بضعة قرون خلت كانت الضريبة هنا تدفع في شكل رءوس ماشية.
وأهم من المظهر الريفي المختلف في وسط السويد هو الشبكة الكثيفة من المدن الصناعية، ومنذ فترة طويلة يتميز وسط السويد باقتصاد متنوع مشترك من الزراعة إلى تربية الحيوان إلى الصناعة الحرفية، واليوم تسيطر المدينة الصناعية على المظهر العام للإقليم، وأدت الحرفية القديمة إلى إنتاج سلع صناعية ذات جودة عالية، تقتضي وجود مهارة عالية في العمالة، وهذه المنطقة هي التي أعطت الصناعات السويدية الشهرة الطيبة التي تتمتع بها في أرجاء العالم.
وقاعدة هذه الصناعات هي الأخشاب والحديد، كما في نورلاند ، ولكنهما قد استغلا منذ فترة طويلة، وفي أبسالا - العاصمة القديمة لسفيا والتي بنيت من جديد بعد احتراقها أوائل ق 18 شبكة طرق تنبعث منها منذ القرن الخامس عشر في كل اتجاه، وتحتوي الآن على صناعات قليلة - الدراجات والورق، وعلى سوق إقليمية، ويبلغ عدد سكانها خمسة وسبعون ألف شخص.
وفي منتصف المسافة بين منطقة أبسالا والحدود النرويجية توجد المنطقة المركزية للصناعة السويدية : برجسلاجن، وقد ظهر هذا الاسم في القرون الوسطى لوصف نوع من عمليات تنظيم التعدين أصدره الملك، ويتميز هذا التنظيم الاستغلالي بنوع من الاستقلال الذاتي والحقوق وبامتلاك المناجم ومساحات من الغابات فيما حولها، وكانت كل برجسلاجن عبارة عن جماعة اقتصادية ذات كفاية ذاتية: أرض زراعية وفلاحون يقدمون الغذاء، وعمال مناجم وحرفيون يصنعون الحديد ويقومون بعمليات النقل داخل إقليمهم، وفي القرن السابع عشر كان هناك خمسة عشر برجسلاجن معظمها شمال أبسالا، ثم زحف هذا النظام غربا إلى أن أصبحت المنطقة شمال البحيرات الوسطى تعرف الآن باسم برجسلاجن دون أن يكون لهذا الاسم المضمون التنظيمي القديم الذي تطور إلى النظم الصناعية الحديثة.
هذا؛ ويوجد في هذه المنطقة عدد من الخامات المعدنية ذات النسبة العالية من المعدن، كالحديد والمنجنيز والرصاص وغير ذلك مما سبقت الإشارة إليه، وإلى جانب ذلك فإن الغابات الصنوبرية الشاسعة في الإقليم تشكل منذ القدم خامة لا تنضب للصناعات الخشبية والورقية، أما الطاقة فلها مصدران: الفحم النباتي قديما - وهو لا يزال يستخدم لإنتاج أنواع ممتازة من الحديد والصلب، والطاقة المولدة حديثا من المساقط المائية المتعددة، وبذلك فإن الصناعة في إقليم برجسلاجن قد ارتكزت، قديما وحديثا، على خلفية طيبة من الخامات المتعددة الوفيرة، ومصادر الطاقة الجيدة، أضيفت إليها المهارة البشرية الناجمة عن الخبرة الطويلة، والملاحظ أن الصناعات المعدنية تميل إلى التركيز في القسم الشرقي من برجسلاجن، بينما تتوطن الصناعة المرتبطة بالأخشاب والورق في قسمه الغربي.
خريطة رقم (22): (1) منطقة برجسلاجن. (2) منطقة ڤستراس - صناعات هندسية. (3) منطقة استوكهولم الصناعية المتنوعة. (4) منطقة إسكلتونا - صناعات هندسية. (5) منطقة أوريبرو الصناعية. (6) منطقة جوتالاند الشرقية - مناطق نوركوبنج ولنكوبنج الصناعية. (7) منطقة بوراس - صناعات نسيج. (8) منطقة جوتبورج-جوتا ألف الصناعية. (9) منطقة سمالاند - صناعات الزجاج. (10) منطقة سكانيا الغربية - صناعات متنوعة.
وحينما نصل إلى البحيرات الكبرى نصل أيضا إلى المدن الكبيرة ذات الصناعات المتعددة، أما البحيرات الكبرى الثلاث فهي: مالرن
Malaren
عبارة عن فيورد شرقي غربي يتصل بالبلطيق عبر مضيق صغير نشأت عليه استوكهولم، أما بحيرة فيترن فتقع إلى الجنوب الغربي من مالرن، وهي عبارة عن انكسار طولي محوره شمالي جنوبي، ثم بحيرة فينرن تقع في الغرب وهي أكبر البحيرات الثلاث، وحدود هذه البحيرات الجنوبية واضحة بواسطة خط ركام جليدي، وتربط عدة أنهار هذه البحيرات معا، وهناك طريق ملاحي داخلي يسمى «قناة جوتا» يمر وسط السويد من جوتبورج على الساحل الغربي إلى نوركوبنج على الساحل الشرقي مارا ببحيرتي فينرن وفيترن، والأرض في هذا الإقليم زراعية خصبة على وجه العموم ولكن النمو الصناعي قد غطى على الاقتصاد الزراعي مما أدى إلى انكماش مدن زراعية كانت في الماضي مدنا كبرى.
وتظهر حول بحيرة مالرن عدة صناعات: ففي كوبنج تتركز الصناعات الميكانيكية، وفي فستراس نشأت الصناعات الكهروهندسية، وفيها مقر شركة
ASEA
العالمية لصناعة التوربينات والآلات الكهربائية والمحولات وغير ذلك، وفي اسكلزتونا كانت توجد مصانع السلاح السويدية القديمة منذ منتصف القرن السابع عشر، لكنها الآن المركز الرئيسي لصناعة الملاعق والسكاكين والشوك، مماثلة بذلك شفيلد الإنجليزية وسولنجن الألمانية، وقد انتقلت مراكز صناعة الأسلحة - بعد تغيرها إلى الأسلحة النارية - إلى المنطقة الواقعة حول مدينة بوفورس - تنطق أحيانا بفرز، حيث تنتج بنادق معروفة بهذا الاسم، إلى جانب المدافع والمدافع المضادة للطائرات والدبابات والذخيرة، وتشاركها في ذلك مدينة كارلزكوجا القريبة منها، والتي أنشئت في 1911 ونمت بسرعة كبيرة منذ ذلك التاريخ.
وعلى الطرف الغربي من بحيرة هيلمارن - أصغر البحيرات الرئيسية في وسط السويد، تقع مدينة أوريبرو، التي يبلغ سكانها نحو 75 ألفا، وهي من أقدم المدن في المنطقة الوسطى، وتعد هذه المدينة مركزا لصناعة الورق والأحذية والورشة الأولى لإصلاح السكك الحديدية في السويد، وفي غربي بحيرة فينرن توجد عدة مدن منها كريستينهاجن لصناعة التوربينات وكارلشتاد للورق ومنتجات خشبية أخرى، وفيما بين البلطيق وبحيرة فيترن توجد أيضا عدة مدن قديمة ارتبطت في نشأتها بمراكز الديانة قبل أن تتحول السويد إلى اللوترية منها لينكوبنج، وأهمها الآن نوركوبنج على فيورد بلطي - 90 ألفا، وهي المركز الرئيسي للمنسوجات القطنية والصوفية بالإضافة إلى الورق، كما أنها نهاية قناة جوتا على البلطيق.
وبرغم النمو الكبير للسكان في مجموعة مدن وسط السويد بين 1930-1945 بمقدار تراوح بين 50٪ و25٪ إلا أن هذا النمو قد انتابه البطء، وذلك نتيجة نمو استوكهولم أيضا.
وقد نشأت استوكهولم عام 1273 على المدخل الشرقي لبحيرة مالرن، كحصن يحمي الداخل من هجمات القراصنة، وقد نشأت المدينة القديمة والقصر الملكي في جزيرة شتادن وسط نهر
Norstrom
وهو عبارة عن وصلة بين البحيرة والبلطيق، ومستوى الماء متذبذب؛ لأنه يعتمد على كمية المياه التي تأتي بها الأنهار إلى بحيرة مالرن، وفي خلال الربيع ومع ذوبان الجليد قد يغرق الفيضان وسط المدينة، ولكن في خلال فترة الجفاف فإن مستوى البحيرة ينخفض، مما يؤدي إلى انعكاس مسار الماء في نور شتروم، فيصبح من البحر إلى البحيرة، وبرغم وجود محطمات الجليد التي تعمل على فتح الميناء طول الشتاء للملاحة، إلا أن استوكهولم ليست كما كانت في الماضي من حيث التجارة والنشاط الملاحي، وقد نمى سكان المدينة من 16 ألفا عام 1935 إلى 93 ألفا عام 1850، ثم إلى نحو ثلث مليون في أول هذا القرن، وقد بلغ عدد السكان 805 آلاف عام 1959، وتقترب الآن من المليون.
وقد امتدت رقعة استوكهولم إلى مناطق حديثة جدا بعضها عمائر عالية وبعضها فيلات مريحة ذات حدائق واسعة، وهي في مجموعها مدينة عليها مظهر الرخاء وفيها الكثير من المباني التي تذكر بتاريخ مجيد، وحتى عام 1850 هيأ الملوك لاستوكهولم سبيل التقدم بتركيز تجارة برجسلاجن ونورلاند فيها وأصبحت استوكهولم بذلك عاصمة التجارة في المحيط البلطي، وبرغم انتقال غالبية التجارة السويدية إلى ميناء جوتبورج إلا أن استوكهولم ما زالت تتحكم في الأعمال المالية والسياسية للدولة بالإضافة إلى نمو الثقافة والروح الأكاديمية وتركزها في العاصمة، كذلك بنيت حول استوكهولم عدة صناعات دقيقة ومعقدة مثل التليفونات والسينما ومواقد الكيروسين والأجهزة الكهربائية، وغير ذلك مما جعل استوكهولم تقع وسط محيط صناعي جديد، وأصبحت المنطقة تضم أكثر من مليون ونصف مليون شخص نتيجة نشوء عدة مدن وضواح حول العاصمة معتمدة تماما على المدينة الرئيسية وإن كانت منفصلة إداريا عنها، وتضم استوكهولم وإقليمها
سكان السويد، ونظرا للنفوذ العمراني للمدينة فإن المدن الكبيرة تظهر على بعد معقول منها. (8-3) الإقليم الجنوبي
أما القسم الجنوبي من السويد جنوب البحيرات الوسطى فإنه يتمتع بمناخ أكثر دفئا نتيجة وقوعه على ساحل متصل ببحر الشمال، مما يؤدي لظهور أثر تيار الخليج، وفي هذا القسم أغنى إقليمين زراعيين في السويد وهما:
Vester Gotland
في الشمال الغربي وسكانيا
Scania
في الجنوب، وفيما بينهما يظهر إقليم سمالاند
Smaland
مقفرا، والقسم الشمالي مكون النايس يحيطه من الشرق البحيرات والغرب خليج سكاجراك، وفيه تظهر تربة خصبة نتيجة التراكم فيما بعد الجليد، وكان هذا أحد مناطق السويد الأكثر ازدحاما بالسكان، والحرفة الأساسية هي تربية الماشية وزراعة مواد غذائية من بنجر ولفت وشعير وشوفان، ومنتجات الألبان مهمة بالنسبة للسويد في هذه المنطقة، والمدن صغيرة وريفية الطابع مثل سكارا وفالكوبنج ومعظمها قرى كبيرة، أما مدينة «تيداهولم» ففيها مصانع سيارات وكبريت، وفي بوراس مناسج، وقرب اتصال قناة جوتا وبحيرة فينرن مساقط كبيرة أقيم عليها سد يولد 250 ألف حصان عند ترولهاتن - 31 ألفا، وتستهلك الطاقة في صناعات القاطرات والمخصبات والورق والأحذية والبلاستيك والكبريت.
ويحتل إقليم سمالاند وسط الجنوب وهو معروف بفقره، تربته غير جيدة وجوه بارد ملبد بالغيوم وغاباته قليلة، ومعظمه مغطى بالحشائش والبطائح، وكان العسل ونوع من الخشب من أهم صادرات سمالاند إلى أن أقيم به مصنع للزجاج في القرن الثامن عشر، ومنذ ذلك الوقت أصبح الزجاج السويدي الفاخر يأتي من رمال هذه المقاطعة، وانتشرت صناعة الزجاج إلى سواحل البلطيق حيث التربة أحسن، ومدينة كالمار تشتهر بوقوعها في منطقة ذات تربة جيدة تنتج البنجر وتتاجر مع الجزر المجاورة أولاند وجوتلاند، وفي الجنوب ميناء كارلسكرونا الطبيعي الجيد الذي أصبح قاعدة بحرية مهمة، وشواطئ جزيرتي أولاند وجوتلاند صخرية جيرية وتربة أولاند أحسن وتربى فيها الماشية، أما في جوتلاند فالأغنام هي أهم الحيوانات، ولجوتلاند أهمية تاريخية، وقد كان ميناؤها «فسبي» إحدى مدن الهانزا الهامة نتيجة لأن الفضة كانت تنتج فيها بكثرة في الماضي، ولكنها الآن مدينة ساحلية زراعية هادئة وكل ما بقي من أمجادها كنائسها القوطية الطراز وأسوارها الضخمة.
وقد انتقل نشاط مناطق السويد الجنوبية إلى سواحل سكاجراك وكاتجات، بعد تحريرها من الدنمارك في القرن 17، وتاريخ المنطقة البحري قديم، وإلى اليوم ما زالت هناك عدة مدن ساحلية صغيرة تعيش على صيد الأسماك، وفي منتصف هذا الساحل وعلى مصب جوتا ألف القادم من بحيرة فينرن أنشأ الملك جوستاف أدولف عام 1618 ميناء جوتبورج أو جوتنبورج التي أصبحت الآن الميناء الأول للسويد، وتوجد فيها الآن عدة هيئات ملاحية كبيرة - بناء سفن وشركات ملاحية عديدة، وعدد السكان قرابة أربعمائة ألف لا يعيش معظمهم على البحر، بل هناك صناعات كهربائية ومناسج وصناعة آلات النسيج، ومن المدينة وفي اتجاه الداخل عدة مدن صغيرة كلها صناعية (أغذية - نسيج - كيمائيات).
وإلى الجنوب عند ميناء هالمشتات الصغيرة (36 ألفا) تبدأ سكانيا، وهي شبه جزيرة صغيرة لها أهمية كبرى، سكانها قرابة مليون، وتمتد جنوبا صوب الدنمارك كما لو كانت معبرا إلى أوروبا، تربتها خصبة ومناخها أحسن ما في السويد من حيث درجة العرض والتأثير البحري، كل هذا جعل سكانيا منطقة إنتاج الحبوب بالنسبة للسويد، والزراعة هنا مشابهة للدنمارك، والدورة الزراعية تشترك فيها زراعة القمح وبنجر السكر والعلف مع استخدام كثير للمخصبات، وتوجه الزراعة أيضا إلى الإنتاج الحيواني والألبان والدواجن، وفي سكانيا نحو 24000 مزرعة معظمها ملكيات أكثر من خمسين فدانا، والمنطقة الجنوبية الغربية المواجهة للدنمارك أخصب وأغنى نتيجة التربة الجيدة ونتيجة العلاقات التجارية والصناعة، وأكبر المدن مالمو ثالث مدن السويد عمرها يعود إلى القرن 16، وقد تحطمت ودمرت في سنة 1720 وتقهقر عدد سكانها إلى 2136 شخصا ثم ارتفع الآن إلى 225 ألفا، وإلى الشمال منها هالسنجبورج (76 ألفا) وفيها معدية مثل مالمو تربط السويد مع الدنمارك، ومعامل السكر والدقيق والمخصبات والآلات الزراعية، وفي مالمو يبدأ الخط الحديدي والطريق البري بين استوكهولم والقارة الأوروبية، وبقربها حقل فحم صغير، وفيها صناعة الأسمنت والزيوت الغذائية والصابون والبيرة وبناء السفن، ولهذا فالمنطقة كلها كثيفة السكان جدا ولا يفوقها سوى منطقة استوكهولم، وإلى جوار مالمو مدينة لوند المركز الديني والجامعي الهام في الوقت الحاضر. (9) خلاصة
يتضح من الدراسة الموجزة السابقة كيف أن السويد قد استفادت أكبر الفائدة من ظروفها الخاصة، بل زادت على ذلك بإمكانيات بشرية حضارية عالية أدت بالسويد إلى أن تصبح في مقدمة العالم من نواح كثيرة.
وبالرغم من أن الحزب الحاكم في السويد هو الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي يحكم السويد منذ عام 1932 حتى الآن، إلا أن السويد في هيكلها الأساسي دولة رأسمالية، فمعظم اليد العاملة في شركات خاصة، ولا يوجد سوى «5,5٪» من كل العمال يعملون في أجهزة الدولة، وبغض النظر عن الشركات الصناعية وقطاع الخدمات، فإن صناعة التعدين فقط هي الصناعة الوحيدة المؤممة في السويد.
وتسيطر خمس عشرة أسرة معروفة على معظم النشاط الاقتصادي في السويد، وأكبر هذه الأسر هي أسرة فالنبرج التي تسيطر على ثلث السوق المالية السويدية، وتحكم مباشرة وبطريقة غير مباشرة تسعا من الشركات الصناعية في السويد، ومن هذه الشركات شركة
SAAB
التي تبني السيارات والطائرات وشركة
SKF ، وشركة إلكترولوكس، وبذلك فإن أسرة فالنبرج تتحكم أيضا في ثلث حجم الصادرات السويدية، والمركز الرئيسي لأعمال هذه الأسرة هو بنك إنسكليدا في استوكهولم الذي اتحد أخيرا مع مجموعة بنك سكاندينافسكا ليكون بذلك إمبراطورية المال في أوروبا الشمالية بدون منازع.
وقد ترتب على شكل النشاط الاقتصادي في السويد ونظم التأمين الاجتماعية أن العمالة في قطاع الخدمات، وأن الأرباح في السويد عامة، أعلى من مثيلها في بلدان أوروبا المتقدمة بالنسبة للفرد، لكن إلى جانب ذلك فإن العبء الضريبي على الأفراد أيضا أعلى من مثيله بالنسبة لبلاد أوروبا الأخرى، وتوضح المقارنة التالية هذه الصورة توضيحا لا داعي معه للإطالة:
السويد
ألمانيا الغربية
متوسط أجرة العامل الصناعي في الساعة (مارك ألماني)
8,92
6,94
العبء الضريبي للفرد في السنة (مارك ألماني)
3696
1502
منه ضريبة الدفاع للفرد في السنة (مارك ألماني)
557
378
ميزانية الخدمات الاجتماعية لكل فرد (مارك ألماني)
1867
1674
منها بالنسبة لكبار السن (مارك ألماني)
638
516
عدد السيارات الخاصة لكل ألف من السكان
281
220
الفصل الخامس
النرويج
(1) مقدمة وشخصية النرويج
النرويج دولة فريدة في كثير من صفاتها الطبيعية والبشرية، فهي تمتد من درجة العرض 58° شمالا إلى 71° شمالا - أبعد نقطة في أوروبا تجاه الشمال، ولكنها تمتد عبر عدد أكبر من درجات الطول: 32° شرقا إلى 5° شرقا ، وهي أطول وأضيق من أي دولة أوروبية، وبذلك فإن الدولة تحتل مسطحا غربيا في امتداداته الأرضية والفلكية.
وفوق هذا فإن ساحل النرويج غريب كل الغرابة بالنسبة لدول أوروبا الأخرى، فلا توجد دولة تتصف بهذا التقطع والطول في السواحل نتيجة وجود مئات الفيوردات الصغيرة وعشرات الفيوردات الطويلة المتعمقة، وفي مواجهة الساحل آلاف الجزر والصخور الجزرية، وقد ترتب على ذلك أن طول الساحل النرويجي يبلغ 20 ألفا من الكيلومترات، في حين أنه لو كان عبارة عن خطوط مستقيمة لبلغ 2650كم فقط، وبالإضافة إلى التداخل المعقد بين اليابس والماء على شواطئ النرويج نجد الكثير من المياه الداخلية في صورة البحيرات الكثيرة المنتشرة في مختلف أرجاء الدولة نتيجة التعرية الجليدية السابقة.
والنرويج إحدى أكثر الدول الأوروبية وعورة من حيث سيادة الكتل الجبلية على المظهر التضاريسي العام، وترتب على ذلك أن مسطح السهول ضئيل جدا بالنسبة لمساحة الدولة، وكما في السويد وفنلندا فإن السهول المغطاة بالإرسابات البحرية، والتي انتابتها حركة رفع بعد انتهاء العصر الجليدي، هي الأراضي التي يمكن زراعتها بنجاح، ولكن مثل هذه السهول صغيرة المساحة ومتناثرة بالقياس إلى مثيلاتها في السويد وفنلندا - 3٪ من مساحة النرويج قابلة للزراعة.
وتتميز النرويج بمناخ معتدل نسبيا عن معظم الدول الاسكندنافية الأخرى نتيجة وقوعها غرب شبه الجزيرة، وفي مواجهة التيارات الدافئة الهوائية والبحرية القادمة عبر الأطلنطي، ففي جزر لوفوتون في الشمال نجد الحرارة أعلى من معدلها كثيرا بالنسبة لدرجة العرض، ولكن الجبال العالية وراء خط الساحل مباشرة تؤدي إلى انخفاض سريع في درجة الحرارة، وتؤدي هذه الجبال إلى غزارة المطر الساقط على السواحل من ناحية، وإلى تكوين ثلاجات واسعة لا نظير لها في القارة الأوروبية، تغطي الهضاب العالية.
وفي مقابل فقر الموارد الزراعية في النرويج يعوض البحر النقص الغذائي بدرجة لا مثيل لها، ففي مياه النرويج ثروة سمكية كبيرة ومتنوعة، ومعظم الإنتاج السمكي النرويجي يأتي من المياه الساحلية والإقليمية على عكس كثير من الدول الأوروبية التي تحصل على حصتها من الأسماك من مياه بعيدة، وبرغم ذلك فإن كمية الأسماك المصادة في النرويج أكبر منها في بقية الدول الأوروبية ذات الأساطيل الحديثة، وتحتل النرويج المكانة السادسة بين دول العالم في إنتاج الأسماك.
وإلى جانب ذلك فإن السماكين النرويجيين يرتادون - منذ فترة زمنية طويلة - مصايد أيسلندا وجرينلاند، ويتوغل النرويجيون أكثر من ذلك إلى المياه القطبية الشمالية والجنوبية وراء فقمات البحر والحيتان، وأكثر المصايد التي يرتادها النرويجيون وراء الفقمات هي تلك التي توجد حول جرينلاند ونيوفوندلاند، أما الحيتان فتصطاد من المحيط الجنوبي.
وأشهر الصناعات النرويجية في العالم هي صناعة السفن والنقل البحري، وتمتلك النرويج أسطولا تجاريا ضخما يحتل المكانة الرابعة بين أساطيل العالم من حيث الحمولة، ولكن هذا الأسطول ضخم جدا بالقياس إلى دولة كالنرويج صغيرة المساحة قليلة السكان، ومن ثم فإن الوظيفة الأولى للأسطول التجاري النرويجي ليست نقل احتياجات البلاد، بل النقل التجاري الدولي؛ ولهذا فالسفن النرويجية غالبا ما توجد فوق مسطحات البحار في العالم أجمع.
ولما كانت تجارة النرويج الخارجية تتصف بتوازن معدوم بين صادرات البلاد القليلة ووارداتها الكثيرة، فإن الأسطول التجاري النرويجي يعوض النقص في ميزان المدفوعات بما يجلبه من أرباح عالية، وقد ترتب على ذلك أن بإمكان النرويج استيراد الأغذية والمنسوجات ووسائل الحياة الحديثة، وبالإضافة إلى مظاهر البيئة الطبيعية والغذاء السمكي والأغذية المستوردة وارتفاع مستوى الحياة فإن متوسط أعمار الناس قد ارتفع أيضا إلى درجة تجعله - مع بقية الدول الاسكندنافية - من أعلى معدلات الحياة في العالم.
ومنذ القدم كانت النرويج دولة تعتمد على التجارة الخارجية في معيشتها، ففي الماضي كانت تصدر الفراء والأسماك مقابل الحبوب، وما زال هذا شكلا من أشكال التجارة النرويجية الخارجية الحالية، ولكن يضاف إليه أن الصناعة الحديثة تساهم بدور في هذه التجارة، وتقوم الصناعة أساسا على مصادر الطاقة الهيدرولوجية التي تنتشر مواردها في أماكن كثيرة من الدولة، وتعوض نقص الوقود المعدني، وقد دخلت مصادر الطاقة هذه الاستخدام الصناعي والمنزلي حديثا، وذلك بالنظر إلى ما تتكلفه من رأسمال عند إنشائها، ولا تزال في النرويج مصادر غنية بالطاقة المائية لم تستغل بعد.
وتستغل الصناعات الكهرومعدنية والكيميائية نسبة كبيرة من إنتاج الطاقة المائية، وتأتي صناعات الأخشاب في الدرجة الثانية، برغم أن استغلال الموارد الغابية في النرويج قديم تاريخيا، ومع ذلك فإن الصناعات المرتبطة بالأخشاب ما زالت صناعة هامة في الاقتصاد النرويجي - وإن كانت مساهمتها في الاقتصاد القومي أقل من مثيله في السويد وفنلندا، وعلى العموم فإن الصناعة في النرويج لا تلعب الدور الذي لها في السويد والدنمارك، ولهذا فإن النرويج مصدر كبير للخامات ومستورد كبير للآلات ووسائل النقل، بما في ذلك السفن أيضا، ولكن هناك نوعا من التعويض في صورة «صادرات غير مرئية» منها السياحة والحواتة والمساهمة في النقل البحري العالمي. (2) أقاليم النرويج الطبيعية والإدارية
يمكننا أن نقسم النرويج إلى خمسة أقاليم متميزة بظروفها الطبيعية المختلفة، وهذه الأقاليم هي في الواقع الأقاليم الإدارية بعينها:
1 (1) النرويج الشرقية. (2) النرويج الجنوبية. (3) النرويج الغربية. (4) تروندلاج. (5) النرويج الشمالية. (1)
النرويج الشرقية
Ostlandet : تسيطر أنظمة نهرية قليلة وكبيرة نوعا ما على المظهر العام للإقليم، ومن أهمها نهر جلوما وروافده العديدة، الذي ينبع من جبال المنطقة الوسطى ويسير في الشرق بموازاة منطقة الحدود السويدية، وينتهي إلى البحر شرقي فيورد أوسلو، وهناك عدة أنهار أخرى تصب حول هذا الفيورد الطويل مما يؤدي إلى وجود مجموعة من الأودية المعمورة المستغلة زراعيا ورعويا، فضلا عن كونها طرقا طبيعية تصل الجنوب بمنطقة تروندلاج الوسطى، وفي الواقع فإن هذه المنطقة هي أكثر مناطق النرويج تميزا بالسكن الريفي، وتسودها ملكيات زراعية يتراوح حجمها بين 5 وعشرة هكتارات - دليل على كثافة الاستقرار الزراعي، وفي المنطقة نفسها نجد أيضا ملكيات زراعية تزيد عن عشرين هكتارا - وهو أيضا مؤشر على الغنى الزراعي لمنطقة ريفية .
وقد أدى ذلك إلى أن تصبح منطقة فيورد أسلو والأودية النهرية شرقية وغربية مركز الثقل العمراني والاقتصادي والسياسي في الدولة، وذلك برغم تطرف المنطقة موقعا بالنسبة لمسطح الدولة. (2)
النرويج الجنوبية
Sorlandet : يطلق الاسم حرفيا على المنطقة الساحلية الجنوبية، لكنه تجاوزا يطلق على المنطقة كلها الواقعة بين الإقليمين الشرقي والغربي، وفي الإقليم الجنوبي تنتشر غابات التنوب كامتداد لغابات الإقليم الشرقي، وتمتلئ المنطقة أيضا بأودية نهرية عديدة لكنها أصغر من أودية الإقليم الشرقي، وفي المجموع تتشابه الظروف الطبيعية في هذا الإقليم مع الإقليم الشرقي فيما عدا أن الساحل مليء بالفيوردات المشابهة للإقليم الغربي - إلا أنها أصغر كثيرا منها، وهناك عدد كبير من الجزر الصغيرة في مواجهة فتحات الفيوردات، وتتميز المنطقة الجنوبية عامة باعتدال المناخ وعدم انخفاض الحرارة كثيرا في الشتاء باستثناء العواصف الثلجية العنيفة التي تجتاح الإقليم خلال بعض أيام الشتاء. (3)
النرويج الغربية
Vestlandet : تتميز بارتفاع الجبال كثيرا واقترابها من الساحل بحيث لا تكاد تترك سهولا ساحلية إلا في صورة جيوب منعزلة، وفي هذا الإقليم أطول وأعمق فيوردات النرويج وآلاف الجزر الصغيرة والكبيرة والأودية النهرية القصيرة، والإقليم في مجموعه وعر مقطع بشدة، قليل الغابات. (4)
تروندلاج
Trondlag : يحتل هذا الإقليم وسط النرويج، وأهم مظاهره فيورد تروندهايم الواسع، الإقليم الداخلي ذو ارتفاعات محدودة ومليء بغابات التنوب مما يجعله شبيه بالإقليم الشرقي - أو على الأقل امتداد شمالي لهذا الإقليم برغم انفصاله عنه بواسطة سلسلة الجبال المتجهة إلى الجنوب الغربي، أما الإقليم الساحلي من تروندلاج فهو جبلي مقطع بالفيوردات شبيه بالإقليم الغربي، ويمكن أن نعده منطقة انتقالية بين الجنوب والشمال. (5)
النرويج الشمالية
Nord Norge : يمتد هذا الإقليم مسافات طويلة من الجنوب إلى الشمال مما يدعو إلى تقسيمه عدة أقسام طبيعية تعبر عنها الأقسام الإدارية الثلاثة: فنمارك، ترومز، نوردلاند - من الشمال إلى الجنوب، وتحتل فنمارك أقصى شمال النرويج، وتتميز بتضاريس معتدلة إنسيابية غير فجائية مما يجعلها أحسن مناطق النرويج من هذه الزاوية فقط، ولكن في مقابل ذلك فإنها أسوأ مناطق النرويج مناخا ومواردها الطبيعية قليلة على وجه العموم مما يجعل أيكولوجية الحياة فيها شديدة القسوة، سواحلها طويلة غير محمية من العواصف وفيورداتها كثيرة لكنها واسعة، وتفتح على المحيط الشمالي مباشرة مما يجعلها عرضة لتأثيراته القطبية.
ويتميز إقليم ترومز بأجمل فيوردات النرويج وأكبر جزرها، أما نوردلاند فسواحلها أيضا تنتابها الفيوردات وتواجهها الجزر العديدة. (3) تضاريس النرويج
خلال العصر الجليدي غطت النرويج ثلاجات ضخمة أدت إلى إحداث الكثير من المظاهر الحالية في سطح الدولة، ولهذا نلحظ في كافة مظاهر السطح تفاعل عاملين؛ الأول: الشكل الهضبي والجبلي العام للنرويج، والثاني: التعرية الجليدية بأشكالها المختلفة، وبعد انحسار الجليد ارتفعت الأرض تدريجيا وظهرت على السطح مناطق تسودها الإرسابات البحرية، وتظهر سطوح الإرساب البحري في مساحات أكبر على مناطق الانحدارات البسيطة، بينما لا تكاد تظهر في مناطق الانحدارات الشديدة، وأكبر مناطق الإرسابات البحرية في النرويج قاطبة توجد في منطقة أوسلو، وبذلك فإن للتكاثف العمراني التاريخي والحديث في هذه المنطقة جذورا من البيئة الطبيعية - حيث إن الإرسابات البحرية هذه تشكل المناطق الخصبة الصالحة للزراعة والنمو النباتي.
وفي الوقت الحاضر توجد غطاءات جليدية دائمة في النرويج، لكنها قليلة ومبعثرة وصغيرة المساحة، وليس من الضروري أن تكون لهذه الغطاءات الجليدية بقايا الغطاء الضخم الذي سيطر على المنطقة خلال العصر الجليدي - بل ربما تكونت من جديد بعد ارتفاع سطح النرويج واستقرار الظروف المناخية الحالية.
وخط الثلج في النرويج يقع على ارتفاع حوالي 2000 متر فوق سطح البحر بصورة عامة، لكن هذه الصورة تختلف كثيرا باختلاف درجة الانحدار ومواجهة السفوح لكمية المطر الساقط، وأكبر ثلاجة في النرويج - وفي أوروبا كلها - هي ثلاجة يوستدال برين
Jostedalbreen
في المنطقة بين فيورد سوجن وفيورد نورد - في الإقليم الغربي.
وتتصف مظاهر التضاريس والسطح النرويجية بتفاعل عدة أشكال طبيعية تساهم - بدرجات مختلفة - في تميز أقاليم النرويج.
2
فعلى طول السواحل، مع استثناءات قليلة - يمتد نطاق من الصخور العارية
Skerries
تتفاوت في ارتفاعاتها من بضعة أمتار إلى 300 متر، وأمام السواحل توجد حوالي 150 ألف جزيرة غالبيتها الساحقة توجد أمام الساحل من أقصى الشمال إلى مواجهة ميناء ستافنجر، ويصل مدى المد والجزر على هذه السواحل إلى ثلاثة أمتار، بينما هو أقل من ذلك كثيرا على السواحل الجنوبية، وقد أدى ذلك إلى نشاط التعرية الساحلية كثيرا على الشواطئ الغربية كلها.
وتمتد الفيوردات بعمق كبير داخل الأراضي النرويجية، وهذه الفيوردات في أصلها عبارة عن أودية جليدية غارقة، وتتميز الفيوردات في مجموعها بعمق المياه في الداخل وضحولة واضحة عند العتبات - أي فتحات الفيورد على البحر، ومعظم فيوردات النرويج طويلة شديدة التعرج وضيقة ، فيما عدا فيوردات إقليم فنمارك في أقصى الشمال التي تتميز باتساع كبير وضحولة عامة، ويمتلئ قاع الفيوردات تدريجيا بالإرسابات الكثيرة التي تجلبها المسيلات الكثيرة العنيفة الجريان، القصيرة المجرى، المنحدرة بشدة من السفوح العالية التي تحيط بالفيوردات عامة.
خريطة رقم (23).
وفيما وراء هذا الساحل الصخري العاري، الشديد التعرج والتداخل مع البحر، ترتفع الهضاب الواسعة التي تكون مرتفعات النرويج الجنوبية، وأعلى هضاب النرويج هي هضبة يوتنهايم
Jotunheim
التي تصل إلى متوسط 1500 متر فوق سطح البحر، وتتصف الهضاب بالتعقد والتقطع التضاريسي نتيجة لفعل التعرية الجليدية وما تلاها من تعرية نهرية لاحقة للعصر الجليدي، وقد أدت هذه الأودية العميقة إلى فصل أجزاء الهضاب إلى هضيبات صغيرة يطلق عليها فييل
Fjell
تتصف بالتضاريس المنعمة الناجمة عن التعرية الجليدية، والصخر العاري عن النمو النباتي بصورة عامة.
شكل رقم (24).
وأحيانا ترتفع فوق الهضيبات قمم متكونة من الصخور الصلبة المقاومة للتعرية، وأعلى هذه القمم جالدهوبيجن
Galdhoppiggen (2469 مترا)، وعلى العموم فإن الكتل الهضبية الكبرى تنتشر في جنوب النرويج، وتعرف باسم هضبة هاردنجر التي ترتفع فوقها هضبة يوتنهايم، وفي شمال شرقي هاردنجر يضيق الاتساع الهضبي ويصبح في صورة لسان مرتفع بين الأودية العليا للنرويج الشرقية وبين الأراضي المنخفضة حول فيورد تروندهايم، وبين حوض يمتلاند السويدي، ويسمى هذا اللسان الهضبي جبال دوفر
Dovr ، وفي شمال تروندلاج تمتد سلسلة جبال كيولن
Kjolen
التي تكون الحدود المشتركة بين النرويج والسويد، والتي تنتهي في إقليم ترومز وفنمارك.
وتكون هضبة هاردنجر وجبال دوفر خطا واضحا لتقسيم المياه، فعلى المنحدرات الغربية تجري أنهار قصيرة عنيفة الجريان إلى رءوس الفيوردات في الإقليم الغربي، وعلى السفوح الشرقية والشمالية الشرقية تجري أنهار طويلة عديدة في اتجاه جنوب وجنوب شرق النرويج - الإقليمان الجنوبي والشرقي، وفي هذا الإقليم توجد أطول أنهار النرويج واسكندنافيا معا: نهر جلوما
glomma
الذي يصل طوله إلى 580 كيلومترا، والذي ينتهي إلى البحر شرقي فيورد أوسلو، وفي هذه المنطقة الشرقية أيضا توجد بحيرات أصبعية كثيرة أكبرها بحيرة ميوسا
Mjosa
التي تبلغ مساحتها 358 كيلومترا مربعا. (4) المناخ
تؤثر ثلاثة عوامل متداخلة في مناخ النرويج عامة، وهذه العوامل هي: (1)
وقوعها بامتداد 13 درجة عرضية، القليل منها داخل أطراف العروض الوسطى وأكثرها داخل العروض الشمالية الباردة. (2)
تعرضها لكتل الهواء والمياه الدافئة الأطلنطية. (3)
فجائية التضاريس وارتفاعها المباشر فوق الساحل الغربي.
وقد أدى تفاعل هذه العوامل معا إلى تغيرات مناخية في أقسام النرويج من الجنوب إلى الشمال، وتغيرات مناخية في الفصول المختلفة لدرجة أن المناطق التي تواجه المحيط تعرف تغيرات مناخية كبيرة خلال أوقات السنة، ولكن في المجموع نجد أن النرويج برغم ظروف موقعها الفلكي - العامل الأول - تتمتع بمناخ جيد - نتيجة للعامل الثاني، مما يجعلها مناخيا أحد المناطق المناقضة لظروف الموقع الفلكي، وينطبق هذا بصورة واضحة على درجات الحرارة على السواحل، وأوضح الأمثلة على ذلك أن جزر لوفوتون ترتفع فيها درجة الحرارة في شهر يناير بمقدار 25 درجة مئوية عما هو متوقع في مناطق على نفس درجة العرض - مثلا على سواحل ألسكا الشمالية الغربية.
ولكن تأثير الكتل الهوائية الأطلنطية الدافئة وكتل مياه تيار الخليج الدافئة لا تتعدى منطقة الساحل كثيرا؛ نظرا لارتفاع الهضاب مباشرة فوق منطقة الساحل - العامل الثالث. كما أن هذه الكتل الهوائية والبحرية الدافئة لا تتوغل كثيرا في مضيق سكاجراك، مما يؤدي إلى ضعف تأثيراتها المناخية على السواحل الجنوبية والمنطقة الجنوبية الشرقية من النرويج.
وإذا كانت المرتفعات النرويجية تنحدر بشدة نحو الغرب مؤدية إلى وقف التأثيرات الدافئة داخل الأراضي النرويجية، فإن الانحدارات الشرقية لهذه المرتفعات تزيد من برودة داخلية النرويج، وذلك لأن انحداراتها التدريجية صوب الشرق تسمح للرياح الباردة القادمة من البلطيق والشمال بالتوغل إلى داخلية البلاد، وفوق هذا كله فإن مجرد الارتفاع في الهضاب والجبال النرويجية يؤدي إلى خفض درجة الحرارة، ويؤدي كل ذلك إلى احتمالات كبيرة لحدوث الصقيع، مما يؤثر كثيرا على المحاصيل الزراعية، ويدعو إلى تعاون الفلاحين في إقامة حواجز خشبية متوازية متعامدة على اتجاه الرياح القوية في صورة مصايد للجليد.
جدول 5-1: معدلات الحرارة والمطر في النرويج.
المحطة
معدلات الحرارة (مئوية)
المطر السنوي
بداية ونهاية غطاء الثلج
يناير
أبريل
يوليو
أكتوبر (مليمتر)
فاردو −4,8 −1,2 +8,9 +1,7
573
31 / 10-17 / 5
ألتا −7,4 −1,0 +12,8 +0,6
298
4 / 11-1 / 5
روست +1,5 +2,7 +10,8 +5,6
712
تروندهايم −2,0 +3,9 +14,2 +4,8
764
30 / 11-2 / 4
ريروس −10,5 −1,5 +11,4 +0,2
449
ليردال −1,1 +5,7 +16,1 +5,7
444
31 / 12-18 / 2
برجن +1,7 +5,7 +14,2 +7,5
1944
أوسلو −3,5 +5,0 +17,5 +5,9
685
10 / 12-20 / 3
انظر الخريطة رقم (12) ، ومواقع بعض المحطات على الخريطة رقم (18) .
توضح لنا محطات الجدول السابق ثلاثة أنماط من المناخ في النرويج، فمحطتا فاردو
Vardo
وألتا
Alta
تمثلان مناخ أقصى الشمال شبه القطبي، حيث تنخفض درجات الحرارة عن الصفر أو حول الصفر معظم أشهر السنة نتيجة التعرض للرياح الشمالية الباردة، ومع ذلك فإن معدلات الحرارة عامة أكثر مما هو متوقع في مثل هذه العروض الشمالية، وذلك لتأثير التيار البحري الدافئ الذي يصل تأثيره بصورة محسوسة حتى ميناء مورمانسك السوفيتي - إلى الشرق قليلا من فاردو، وتساقط الثلج يستمر ستة أشهر أو يزيد حسب الموقع المحلي في شمال النرويج الأقصى، وتظل الأرض مغطاة بالجليد لهذه المدة أو أكثر، والأمر الأكثر خطورة بالنسبة للحياة الاقتصادية أن عدد الأيام التي يحدث فيها الصقيع كثيرة، فأيام الشتاء كلها تتعرض للصقيع وكذلك 80٪ من أيام الربيع وحوالي 55٪ من أيام الخريف، وقد ترتب على ذلك قصر فصل الإنبات بشدة إلى الفترة بين أواسط مايو إلى آخر سبتمبر، وهذه الفترة تتحدد بارتفاع درجة الحرارة فوق ثلاث درجات مئوية، وهي الحرارة الدنيا الملائمة لنمو الأعشاب فقط.
وتمثل محطات روست
Rost - جزر لوفوتن - وتروندهايم وبرجن المناخ النرويجي المتأثر بصورة مباشرة بالكتل الهوائية والبحرية الدافئة، ومن ثم فإن درجات حرارة الشتاء دائما فوق الصفر، وباستثناء تروندهايم التي تقع على الفيورد في الداخل، ويوضح لنا هذا كيف أن فوارق المكان ولو كانت طفيفة تؤدي إلى تغيرات مناخية واضحة، ويزيد هذه الحقيقة وضوحا أنه لا وجود لغطاء ثلجي دائم خلال أشهر الشتاء في روست وبرجن بينما يوجد مثل هذا الغطاء في تروندهايم لمدة أشهر الشتاء الأربعة، ويرتفع موسم الإنبات - بالشروط سابقة الذكر - كثيرا في الساحل الغربي عن الشمال النرويجي، فهو يبدأ من أواسط أبريل في نوردلاند وتروندلاج ويمتد إلى أوائل نوفمبر، ومن أواسط مارس إلى آخر نوفمبر في فسترلاند.
وتمثل المحطات الأخرى مناخ المناطق الداخلية الجنوبية من النرويج، فمحطة ريروس
Roros
تمثل أعالي نهر جلوما ومحطة ليردال أعالي فيورد سوجن وأوسلو أعالي فيورد أوسلو، والمدى الحراري عامة بين الصيف والشتاء حوالي عشرين درجة مئوية مع اختلاف في قسوة الشتاء حسب ظروف المكان، ومن ثم فمن الطبيعي أن تنخفض الحرارة كثيرا في أعالي جلوما، وأن تتعدل حرارة الشتاء في فيورد سوجن المطل على المحيط، ويتأكد ذلك من أن غطاء الثلج في أوسلو يستمر ضعف وقته في ليردال، وأن موسم الإنبات يمتد سبعة أشهر في ليردال، بزيادة شهر عن أوسلو.
وبطبيعة الحال تزداد ظروف الحرارة تطرفا نحو البرودة في المناطق الجبلية المرتفعة مما يؤثر كثيرا على الوجود البشري عمرانا ونشاطا، وتسقط الأمطار بغزارة واضحة على الساحل الغربي حيث تساعد الكتل المرتفعة وراء السواحل على رفع كمية الأمطار الساقطة إلى متوسط يبلغ حوالي ألف مليمتر في فسترلاند، وحوالي 600-700 ملم في تروندلاج ونوردلاند، وتقل الأمطار كثيرا في الداخل، ففي فاردو يسقط ضعف كمية المطر والثلوج عنها في ألتا - رغم وقوعها على رأس فيورد واسع، وفي برجن تبلغ كمية الأمطار أكثر من أربعة أضعاف تلك الساقطة في ليردال برغم أن المسافة ليست كبيرة بينهما، ولا شك أن كمية الأمطار الغزيرة التي تسقط في فسترلاند وسفوح هضبة هاردنجر الغربية تساعد على تراكم وتغذية الثلاجات الكبيرة - خاصة ثلاجة يوستدال.
وبرغم كمية الأمطار الساقطة بصورة كافية على غالبية النرويج إلا أن كمية المطر متذبذبة لدرجة تؤدي إلى الجفاف أحيانا، والأغرب من ذلك أن هذا التذبذب قد أدى إلى نشوء نظام الري منذ القرن السابع عشر في الأماكن المهددة بالجفاف أو قلة الأمطار خلال موسم الإنبات القصير.
وقد يبدو ساحل فسترلاند - بظروفه الحرارية المعتدلة - ملائم تماما للزراعة في المناطق التي توجد فيها التربة الجيدة ، لكن الجو الملبد دائما بالغيوم والسحب في تلك المناطق تقلل كثيرا من ساعات سطوع الشمس مما يقلل فرص المحصول الجيد، بينما السهول الصغيرة في منطقة خليج أوسلو وأودية الأنهار في الجنوب الشرقي من النرويج أكثر ملاءمة لقلة الغيوم، أما كمية المطر - برغم قلتها عن فسترلاند - فإنها تعد كافية لاحتياجات الزراعة.
وهكذا فإن الظروف المناخية في النرويج عامة معقدة بتعقد الموقع والموضع في درجات العرض، وبالنسبة للارتفاع عن سطح البحر والتأثيرات البحرية وكمية الغيوم ومدى طول فصل الإنبات وذبذبة كمية المطر الساقط. (5) الغابات النرويجية
تسود أنواع مختلفة من الأشجار المخروطية غابات النرويج وتسيطر الغابات على مناطق التربة الفقيرة، ويختلف حد الغابات نتيجة لارتفاع التضاريس والموقع الفلكي كثيرا، وعلى العموم يصل الحد الأعلى للغابات إلى ارتفاع ألف متر فوق سطح البحر في القسم الجنوبي من النرويج، وإلى 600 متر في إقليم تروندلاج وإلى 400 متر فقط في الشمال، ويلخص شكل رقم 24 هذه الحالة، وتختلط أنواع الصنوبر والشربين في معظم النرويج، ولكنها تختلط بالتنوب الصغير في ترومز وفنمارك.
ولقد عانت غابات غرب النرويج من كثرة الاستغلال منذ فترة تاريخية طويلة نتيجة لنشاط صناعة بناء السفن والحرائق واحتياج الناس إلى الوقود الذي يشكل الخشب أهم مصادره في هذه الأصقاع.
وقد ترتب على ذلك إزالة الجانب الأكبر من الغطاء الغابي وظهور الصخور عارية بعد أن جرفت الأمطار التربات الرقيقة التي كانت تحفظها الغابات، وفي الوقت الحاضر تجرى مساع كثيرة لإعادة تشجير الغابات بالتنوب، ولقد أحس النرويجيون بالحاجة إلى وقف قطع الأشجار بكثرة لصالح الاستخدامات السابق شرحها أو للحاجة للأرض الزراعية وصدرت عدة تشريعات تحافظ على الثروة الغابية منذ القرن 16.
وفي الوقت الحاضر نجد أجود غابات النرويج هي تلك التي توجد في الإقليم الشرقي، وتمتد شمالا مع منابع جلوما إلى تروندلاج حيث ترتبط بالغابات السويدية عبر الممر الجبلي الذي يفصل جبال كيولن في الشمال عن جبال دوفر في الجنوب، ويربط بين حوض يمتلاند السويدي وإقليم تروندلاج النرويجي.
وملكية الغابات فردية، والكثير منها يتكون من ملكيات وحيازات صغيرة مما يؤدي إلى عدم استخدام التكنيك الحديث في الاستثمارات الخاصة بحرف الغابة، وبذلك يقلل من الجودة والإنتاجية، ويضاف إلى ذلك سعر الأخشاب المتذبذب، وكثرة استخدام الغابات القريبة من وسائل النقل مما يؤدي إلى هرم الغابات الداخلية وفقدان جودتها. (6) سكان النرويج
يعطينا سكان النرويج مثالا آخر من نمط السكان الأوروبي، فقد هبطت الخصوبة هبوطا كبيرا منذ نهاية القرن الماضي حتى الثلاثينيات من هذا القرن، وكان هذا الهبوط ملحوظا بصورة أكبر في المناطق المدنية أكثر من الريف، وهكذا ظلت الأسر ذات حجم كبير في الإقليم الشمالي أو الغرب بالقياس إلى الأسرة في الإقليم الشرقي، ففي المتوسط كانت الأسرة مكونة من خمسة أشخاص في الإقليم الشمالي عام 1960، بينما كانت أقل من أربعة أشخاص في الإقليم الشرقي.
لكن هذه التغيرات في سكان الأقاليم ليست ملحوظة على المستوى العام كما هي ملحوظة من الدراسات التفصيلية لحالة الأسر، وذلك راجع إلى الهجرة الداخلية المستمرة إلى مناطق العمل في المدن ومناطق الصناعة الحديثة بما في ذلك التعدين.
ومنذ مائة عام كان سكان النرويج حوالي نصف سكانها الحاليين، لكن الموارد ومصادر العمل المتاحة كانت قليلة جدا مما كان يؤدي إلى هجرة نرويجية خارجية مستمرة، وخاصة إلى العالم الجديد، لكن التطور الصناعي الحديث قدم فرص عمل كثيرة لدرجة أن تضاعف عدد السكان لم يؤد إلى ضغط سكاني كما كان في الماضي.
وتوضح الإحصاءات الحيوية الحديثة - وخاصة ابتداء من عام 1947 بعد نهاية الفوضى التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية - أن هناك اتجاها إلى أن تفقد مناطق معينة سكانها في مقابل مناطق تتميز بربح سكاني مضاعف، مثال ذلك الفقدان المستمر لسكان الإقليم الجنوبي والغربي والزيادة في الإقليم الشرقي ومناطق الصناعة الحديثة. انظر الخريطة رقم (26) .
خريطة رقم (25): الغابات والتعدين والصناعة.
خريطة رقم (26): مناطق جذب الهجرة الداخلية للسكان.
جدول 5-2: سكان النرويج بالإقليم.
الإقليم
المساحة كم
2
عدد السكان
الكثافة 1971 شخص كم
2 ٪ سكن ريفي (1960)
1960
1971
الإقليم الشرقي
94658
1747722
1911307
171,1 (1)
33,5
35,4 (2)
الإقليم الجنوبي
16491
185937
205209
13,8
46,1
الإقليم الغربي
58415
892518
968289
494,0 (1)
48,1
17,5 (2)
إقليم تروندلاج
41328
328283
352304
9,2
53,4
الإقليم الشمالي
112928
436724
454630
4,6
58,7
المجموع
323882
3591234
3891739
12,6
42,9
مدينة أوسلو
453
475562
481204
1120,4
مدينة برجن
50
115689
113489
2399,3
ملاحظات: (1)
الكثافة بما في ذلك سكان المدينة الكبرى (أوسلو وبرجن). (2)
الكثافة الإقليمة للسكان بدون سكان المدينة الكبرى.
أعلى الكثافات - بدون المدن - هي المراكز الثلاثة حول فيورد أوسلو، وهي: (أ) مركز فست فولد - غربي الفيورد، 82 شخصا للكيلومتر المربع. (ب) مركز آكرزهوس - شرقي الفيورد، 70 شخصا للكيلومتر المربع. (ج) مركز أوست فولد - قرب أوسلو، 56,6 شخصا للكيلومتر المربع.
ويأتي بعد ذلك في الترتيب مركز روجالاند - قرب ستافنجر - بكثافة قدرها 31,7 شخصا للكيلومتر المربع.
ونسبة السكن المدني في النرويج قليلة، وعدد المدن الكبرى أيضا قليل، وأكبر المدن هي:
أوسلو 481204 شخصا، تروندهايم 127699 شخصا.
برجن 113489 شخصا، ستافنجر 82079 شخصا.
كريستيانسايد 56975 شخصا، درامن 49847 شخصا. (7) النشاط الاقتصادي
برغم قلة السكان في النرويج إلا أن العاملين منهم يتوزعون على عدد كبير من الأنشطة الاقتصادية، وذلك بنسب متفاوتة، أكبرها الصناعة والبناء والخدمات، وإلى جانب ذلك فإن هناك حرفا وقطاعات من النشاط الاقتصادي أهمها الزراعة والنقل البحري والأعمال المالية والبنكية والسماكة والغابات والتعدين، ويعكس هذا التنوع الكبير للأنشطة بالنسبة لعدد قليل من السكان، الاختلافات الكثيرة في البيئة الطبيعية التي تساعد على وجود هذه الحرف العديدة، وفيما يلي موجز لبعض الأنشطة الاقتصادية التي تميز النرويج وترتبط بالظروف البيئية المختلفة.
جدول 5-3: استخدامات الأرض في النرويج.
نوع الاستخدام
المساحة بالكيلومتر المربع ٪ من جملة المساحة
جملة المساحة
324220
1000
الأراضي الزراعية
8550
2,6
الغابات
70260
21,6
المراعي الدائمة
1750
0,5
الأراضي غير المستخدمة ومساحات المدن والمنافع
243660
75,2
أراضي غير مستخدمة ويحتمل استخدامها فيما بعد
ويوضح هذا الجدول كيف أن سكان النرويج يعيشون على أقل من ربع مساحة أراضيهم، وأن الزراعة والمراعي يكونان معا 3٪ فقط من مجموع مساحة الدولة، ولكن علينا ألا ننسى أن مساحات كبيرة تتمثل في المياه الإقليمية النرويجية تغل عائدا جيدا يمكن النرويجيين من تأمين مصادر غذائية وتجارية غير تلك الواردة في الجدول، وهذا بطبيعة الحال فضلا عن أنشطة اقتصادية أخرى غير واردة في الجدول هي الصناعة والتعدين والتجارة ... إلخ، مما سبق ذكره.
الزراعة
تحتل الزراعة في النرويج 2,6٪ من مجموع مساحة الدولة، ويوضح ذلك أن الظروف الطبيعية في مجموعها غير ملائمة للزراعة إلا فيما ندر، وبرغم ذلك فقد كانت الزراعة - والصيد - ذات أهمية كبرى في النشاطات الاقتصادية في النرويج إلى فترة غير بعيدة، لكنها الآن لم تعد الحرفة الأساسية، فمنذ عام 1930 زاد عدد العاملين في الصناعة على مثيلهم في الزراعة، وفي الستينيات كان عدد المعتمدين في معاشهم على الزراعة يشكل 13٪ من مجموع سكان النرويج، ولكن قيمة الإنتاج الزراعي بالنسبة للاقتصاد القومي كانت أقل بكثير من هذه النسبة، فقيمة مساهمة الزراعة في الستينيات لم تتجاوز أربعة إلى خمسة في المائة من الدخل القومي النرويجي.
وتقدم الحكومة معونات للزراعة من أجل تحقيق هدفين؛ أولهما: الإبقاء على أجور العمال الزراعيين متناسبة مع أجور العمالة في الحرف الأخرى، وثانيهما: مساعدة الفلاحين على الإبقاء على مزارعهم وعدم هجرها إلى حرف أخرى أكثر ربحا، وذلك من أجل بقاء الدولة معتمدة على الناتج المحلي من الزراعة قدر الإمكان - وخاصة في حالة الحرب.
وبرغم ذلك فإن النرويج لم تصل أبدا إلى حالة الاعتماد الذاتي في الغذاء المنتج محليا، فنقص الحبوب ما زال قائما كما كان الأمر في الماضي، والكثير من الفواكه والخضروات التي تستهلك في السوق الحالية مستوردة من الخارج، وكذلك يستورد احتياج النرويج من السكر، وبرغم أن محصول البطاطس جيد ويستهلك كغذاء آدمي وعلف حيواني، إلا أن الكثير من الأغذية الحيوانية تستورد من الخارج0 وفيما عدا ذلك فإن النرويج تنتج ما يكفيها من الألبان واللحوم، بالإضافة إلى وفرة الأسماك التي تكون بروتينا غذائيا مفيدا.
ولا يوجد في النرويج انقطاع تام بين العمالة الزراعية والسماكة، فالكثير من السماكين يقومون بنشاط مزدوج يجمعون فيه بين الصيد والزراعة، وغالبيتهم لا تستقر كسماكة على الشواطئ إلا في المناطق الساحلية التي لا يمكن استغلالها زراعيا.
شكل رقم (27): التوزيع المساحي للمحاصيل الرئيسية في النرويج (بالإقليم والمركز). (يوضح هذا الشكل الاستخدام الزراعي للأرض في الأقاليم والمراكز الموضحة أماكنها في الخريطة المجاورة، وتعتبر المراكز 3، 6، 11، 12، أجود المراكز الزراعية لخصب التربة.
ويوضح شكل (27)
المناطق الزراعية حسب التقسيم الذي يتبعه الإحصاء الزراعي النرويجي، ويتضح من هذا الشكل الحقائق التالية:
أولا:
من حيث التوزيع الجغرافي للأراضي الزراعية: يحتكر الإقليم الشرقي وحده حوالي نصف المساحة الزراعية في النرويج قاطبة (حوالي 4800 كيلومتر مربع) يليه في ذلك المضمار الإقليم الغربي (نحو 2400كم
2 ) ثم إقليم تروندلاج (1500كم
2 ) ثم الإقليم الشمالي (1200كم
2 )، وأخيرا الإقليم الجنوبي (نحو 500كم
2 ) فقط.
ثانيا:
بناء على تفاعل عدة عوامل طبيعية على رأسها التربة والمناخ الملائمين نجد تركيزا واضحا في المناطق الزراعية داخل الإقاليم كما يوضحه الشكل رقم (27)
بأنصبة المراكز من المساحة الزراعية، والدراسة الدقيقة للشكل (27)
توضح أن التوزيع الجغرافي للأراضي الزراعية تتركز في المناطق أو المراكز التالية: (أ)
من المساحة الزراعية في الإقليم الشرقي يتركز حوالي ثلاثة أخماس المساحة في المركزين 11، 12 - أي في منطقة صغيرة حول فيورد أوسلو، وهذه فعلا هي المنطقة الملائمة من حيث تواجد التربة الصالحة من الإرسابات البحرية والطميية التي ارتفعت فوق سطح البحر بعد انحسار العصر الجليدي، وبالإضافة إلى ذلك فإن الإرسابات الفيضية التي تأتي بها الأنهار تساعد على رفع خصوبة الأرض، والمنطقة تتمتع بمناخ معتدل وكمية أمطار جيدة، بينما داخلية الإقليم الشرقي التي يمثلها المركزين 9 و10 في الشكل (27)
أقل ملاءمة للزراعة في مجموعها نتيجة تداخل التضاريس العالية مع الأودية المحدودة المساحة، والمنتشرة في مناطق عديدة والتي تشكل مناطق الزراعة، ويضاف إلى ذلك أن المناخ أكثر تطرفا في هذه المراكز الداخلية من حيث الحرارة المنخفضة شتاء وطول فترات الصقيع، وذبذبة كمية الأمطار الساقطة وقلتها في المجموع. (ب)
تنتشر مساحة الأرض المزروعة في الإقليم الغربي في صورة أشرطة ونطاقات ساحلية ضيقة بطول السواحل والفيوردات حيث لا توجد انحدارات مفاجئة، لكن المركز رقم (6) وهو إقليم يارين
Jaren
حول ستافنجر يمثل أكبر منطقة زراعية متكاملة في الإقليم الغربي، ويزرع من الحبوب والدرنيات ما يساوي نصف إنتاج كل الإقليم الغربي برغم أن مساحته الزراعية أقل من خمس جملة المساحة المزروعة في الإقليم كله، ويرجع ذلك إلى أن منطقة يارين تمثل أرضا سهلية منخفضة جيدة التربة والمناخ، مماثلة بذلك لإقليم فيورد أوسلو. (ج)
في إقليم تروندلاج تسيطر منطقة فيورد تروندهايم - المركز رقم 3 - على المساحة الزراعية لأسباب طبيعية وبيئية مماثلة لتلك التي ذكرناها في منطقة خليج أوسلو، والحالة نفسها نجدها في الإقليم الجنوبي حيث تزداد مساحة الأرض الزراعية في الشريط الساحلي الضيق - المركز رقم 8، أما الإقليم الشمالي فإن الأراضي الزراعية تنتشر بتكافؤ نسبي حول الفيوردات الصغيرة داخل الإقليم حتى نارفيك.
والخلاصة أن الأراضي الزراعية الممتازة في النرويج تتركز جغرافيا في المناطق الصغيرة التالية: منطقة فيورد أوسلو، منطقة يارين، منطقة فيورد تروندهايم، منطقة الساحل الجنوبي.
ثالثا:
من حيث نوع المحاصيل المزروعة نجد أن أكبر مساحة للحبوب ومحاصيل الدرنيات تتركز في المراكز 3، 6، 8، 10، 11، 12، بينما تزيد مساحة محصول الحشائش والأعلاف الحيوانية زيادة كبيرة في بقية المراكز، وخاصة في الإقليم الشمالي والغربي.
وعلى وجه العموم فإن الحبوب تحتل الأراضي الجيدة في الأودية والسهول الساحلية، بينما تنتشر الحشائش على السفوح الأقل جودة من حيث التربة، وتزرع البطاطس في التربة الرملية.
ويتميز الإنتاج الزراعي في الإقليم الشرقي باشتراك تربية الحيوان وإنتاج الألبان واللحوم، وكذلك الحال في يارين التي يزداد الاتجاه فيها إلى الثروة الحيوانية وإنتاج الزبد والجبن والدواجن والبيض والخضروات المبكرة، أما في تروندلاج فالاتجاه أكثر إلى المحاصيل الغذائية وعلى رأسها الشعير - 80٪ مساحة الحبوب، وذلك أن الشعير هو أكثر محاصيل الحبوب قدرة على النمو في هذه المنطقة المتميزة بقصر موسم الإنبات وانخفاض درجة الحرارة، وإلى جانب الشعير فإن الحشائش الموجهة للغذاء الحيواني تحتل مساحات كبيرة في المناطق القليلة الجودة.
ومعظم الملكيات والحيازات الزراعية صغيرة ويستثنى من ذلك بعض المزراع الواسعة الوديان الدنيا في المنطقة الشرقية، وأكثر من نصف المزارع أصغر من خمسة أفدنة، و2٪ أكثر من 50 فدانا، ويمتلك تسعة أعشار المساحات الزراعية مزارعون ملاك، ويقوم الملاك بالعمل في مزارعهم دون احتياج إلى عمال أجراء، ونظرا لصغر المزارع ولوقوع معظمها على سفوح ومنحدرات شديدة، فإن استخدام الآلات الزراعية الحديثة محدود جدا، وإذا وجد فإنه يعمل على أساس تعاوني لخدمة مجموعة من المزارع.
السماكة
تمثل السماكة غالبا أقدم حرفة في النرويج، ومنذ فترة مبكرة دخلت الأسماك حياة النرويج الاقتصادية كسلعة يتبادلونها مقابل الحبوب من شعوب بحر الشمال الأخرى، وتحتل النرويج المكانة السابعة بين دول العالم المنتجة للأسماك في الوقت الحاضر - مما يعطي للثروة السمكية أهميتها في النرويج، وبرغم ذلك فإن قيمة الإنتاج السمكي تعادل 2٪ من الدخل القومي، ولكن هذه القيمة تتضاعف نتيجة لتصنيع الأسماك بأشكال مختلفة.
وعلى الرغم من أن كمية الإنتاج السمكي في النرويج أكبر منها في أي بلد أوروبي آخر، إلا أن قيمة الطن أقل من مثيله في الدول الأوروبية عدا أيسلندا، ويرجع ذلك إلى نوع الأسماك المصادة من ناحية، وإلى طبيعة العمالة الموسمية في حرفة السماكة من ناحية أخرى، وهذه العمالة الموسمية تؤدي إلى كثرة المشتغلين بالصيد في قوارب صغيرة وانتشارهم على كافة الشواطئ مما يتعذر معه جمع الصيد وإعداده للتسويق والتصنيع في الموانئ الكبيرة التي تقوم حياتها على السماكة.
وتكون الرنجة ثلثي الإنتاج، ولكنها تكون 40٪ فقط من القيمة، وأهم مناطق الرنجة هي الساحل الغربي من جنوب ستافنجر إلى تروندهايم، وموسم صيدها يبدأ من ديسمبر وينتهي في مارس، وينخفض سعرها كثيرا في حالة بيعها طازجة أو مملحة، ويصعب تعليبها كلها في هذا الموسم القصير، ولهذا فإن جزءا كبيرا من الرنجة يصنع كمخصبات زراعية أو تستخرج زيوته لعمل الدهون إذا أريد له سعر مناسب.
ويكون سمك القد - الباكلاه - ربع الكمية المصادة وثلث قيمة الإنتاج، ومنطقة القد الأساسية هي الساحل الشمالي من تروندهايم إلى شمالي نارفيك، ولكنه يتمركز بصورة أساسية حول جزر لوفوتون، وموسم الصيد الأساسي يمتد من شهر يناير إلى شهر أبريل، ونظرا لطول المسافة بين منطقة صيد القد وأسواق النرويج الرئيسية في الجنوب، فإن السمك يجب أن يملح أو يجفف تجنبا للفساد أثناء النقل، ويؤدي التمليح إلى انخفاض سعره في السوق.
وإلى جانب الرنجة والقد فإن هناك نوعا آخر من الرنجة الصغيرة تكون أساس صناعة السردين النرويجية، ويصاد هذا النوع من مياه الساحل الغربي بين أشهر يوليو وسبتمبر.
وفي عام 1960 كان في النرويج 36 ألفا من سفن وقوارب صيد الأسماك، لكن 24 ألفا منها عبارة عن قوارب مكشوفة صغيرة (أقل من 10 أمتار طولا)، وقد دخلت المحركات على سفن الصيد منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وهناك تسعة آلاف سفينة خشبية مكونة من طابقين و560 سفينة صيد مصنوعة من الحديد، وأصبحت السفن البخارية قليلة جدا.
وقد كان عدد العاملين بالصيد حوالي 90 ألفا في سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولكنهم تناقصوا إلى نحو 60 ألفا في الستينات، ومن بين هؤلاء لا نجد سوى 45٪ يحترفون السماكة كحرفة وحيدة، بينما الباقي يقومون بالسماكة كحرفة إضافية أو ثانوية، ومن ثم كان هذا العدد الكبير من القوارب الصغيرة - هذا بالإضافة إلى أن معظم الصيد النرويجي يحدث في المياه الإقليمية مما لا يتطلب أسطولا كبيرا حديثا.
وكانت الحواتة - صيد الحيتان - تكون عنصرا هاما في حياة النرويج الاقتصادية لفترة طويلة، ومع ظهور الهاربون المنطلق من المدفع عام 1860 إلى 1904 كان الحواتة النرويجيون مسيطرون على المحيط الشمالي كله من قواعدهم في فنمارك وسفاليارد وأيسلندا، وبعد ذلك التاريخ، ونتيجة الإسراف في الصيد، هبطت أعداد الحيتان بكثرة مما جعل الحواتة في المحيط الشمالي عديمة الجدوى، ومن ثم انتقل الميدان الرئيسي لصيد الحيتان إلى المحيط الجنوبي، وأصبحت قواعد أساطيل الحواتة في جزر شتلند وبعض موانئ أمريكا الجنوبية وأفريقيا الجنوبية وأستراليا، وفي عام 1905 أنزلت النرويج أول مصنع عائم لصيد الحيتان في المحيط الجنوبي، وذلك كبديل تكنولوجي لبعد المصايد عن قواعد الأساطيل، وفي عام 1925 أصبحت سفن المصانع متقدمة لدرجة أنه بات في إمكانها العمل والتحرك دون الحاجة إلى القواعد البحرية، ويصطاد حواتة النرويج حوالي ثلث كمية الحيتان المصادة عالميا.
المعادن والصناعة
توضح الخريطة رقم (27)
أن النرويج تتمتع بعدد من مصادر الخامات المعدنية التي تعدن بصورة معقولة من أقصى الشمال إلى الغرب، ومعظم صخور النرويج تعود إلى ما قبل الكمبري، وهي بذلك مليئة بخامات الحديد والنحاس وغيرهما، ولكن الثروة المعدنية النرويجية أقل من مثيلتها في السويد، ومعظم الناتج من معادن النرويج يصدر إلى البلاد الأوروبية، ويرجع ذلك إلى ضعف واضح في الصناعة.
ومعظم المعادن توجد في الإقليم الشمالي - كما لو كان ذلك تعويضا عن الفقر البيئي لهذا الإقليم، وفي أقصى الشمال، وبالقرب من حدود الاتحاد السوفيتي توجد أكبر مناجم الحديد المستغلة في النرويج: منجم سيدفارنجر
Sydvaranger
وتنقل شاحنات كبيرة الخام لطحنه ثم ينقل بالسكة الحديدية إلى كيركينز لفصل الخام عن الحجارة، ويبلغ الإنتاج السنوي قرابة 1,5 مليون طن، ويستغل جزء من هذا الإنتاج محليا في مصانع مو أيرانا
Mo I Rana
في الإقيلم الشمالي أيضا - قرب نارفك.
وينتج منجم سوليتيلما
Sulitjelma - في نوردلاند أيضا - أكبر كمية من النحاس النرويجي، وإلى جانب النحاس فهناك خام البايرايت الذي ينتج من المنطقة نفسها، ولكن أهم مصادر البايرايت هي تلك التي توجد في مناجم لوكن
Lokken
قريبا من تروندهايم في إقليم تروندلاج، ويتميز الإقليم الغربي بخام الحديد في قسمه الشمالي، ولكن الأليمانيت وأكسيد التيتانيوم ينتج بكثرة من سوكندال في أقصى جنوب الإقليم الغربي، ويساهم الإقليم الجنوبي بإنتاج المولبدنم، وهو الإنتاج الوحيد لهذا المعدن في أوروبا الغربية، وفيما عدا ذلك فإن الإقليم الشرقي فقير في الإنتاج المعدني في الوقت الراهن بينما كانت تنتج في الماضي الحديد ومعادن أخرى من مناجم صغيرة.
وتفتقر النرويج إلى مصادر الطاقة المعدنية، مثلها في ذلك مثل بقية دول نورديا، لكن هذا النقص تعوضه مصادر الطاقة الكهربائية المستمدة من المنحدرات المائية الكثيرة، وتمتلك النرويج أكبر مصادر هذا النوع من الطاقة في الدول الأوروبية جميعا، لكن 30٪ فقط من هذه المصادر هو الذي أقيمت عليه المنشآت لاستغلاله، وإنتاج الطاقة الكهربائية في الستينيات كان حوالي 53 مليار كيلوات ساعة تستخدم الصناعة 60٪ من هذه الطاقة، وأكبر مستهلك في المجال الصناعي للطاقة هي الصناعات الكيميائية والكهربائية.
وقد كانت صناعات الأخشاب والأوراق تمثل الصناعة النرويجية الرئيسية، لكن النرويج لم تعد قادرة على منافسة الإنتاج في السويد وفنلندا والاتحاد السوفيتي، برغم أن هذه الصناعة لا تزال تلعب دورا هاما في الحياة الاقتصادية للنرويج، والمركز الأساسي لصناعة الورق يوجد في سارزبورج - شرقي فيورد أوسلو، وفي دراجن - غربي أوسلو، ومناطق أخرى مجاورة.
وتحتل صناعة السفن الآن الصدارة في الصناعة النرويجية ومراكزها متعددة في الموانئ المختلفة وعلى رأسها برجن ومنطقة أوسلو، يليها على الترتيب الكيميائيات والورق وصناعة الأغذية والمشروبات، وتعد أوسلو أهم مركز صناعي حيث تحتكر وحدها ربع الصناعة من حيث العمالة والمنشآت والقيمة.
النقل
يعاني النقل في النرويج من صعوبة ووعورة المظهر التضاريسي، بالإضافة إلى الغطاء الجليدي الذي تتعرض له النرويج خلال الشتاء لأوقات مختلفة حسب ظروف المكان والموقع.
وقد أدت الظروف الأيكولوجية الهامشية للنرويج إلى تناثر العمران في أركان متباعدة وعلى أبعاد ومسافات كبيرة، ولهذا فإن النقل بالبحر يلعب دورا هاما في المواصلات، وقد بدأ في عام 1893 خط ملاحي منتظم باسم «الطريق السريع
Express Route » بين برجن وفنمارك في أقصى الشمال، ولا يزال هذا الطريق الملاحي يلعب دورا هاما في النقل بين الشمال والجنوب، فهناك سفن يومية طول السنة بين برجن وكركينبز تقطع الطريق في 5-6 أيام.
وقد دخلت السكك الحديدية النرويج عام 1854، وتبلغ أطوالها في الوقت الحاضر حوالي 4500 كيلومتر كلها ملك للشركات، وثلثها يستخدم الكهرباء كطاقة دفع، ويحمل هذا الثلث حوالي ثلثي الحركة الحديدية في نقل البضائع والأشخاص.
وهناك 50 ألف كيلومتر من الطرق البرية في النرويج، منها ثلاثة آلاف كيلومتر من الطرق المعبدة بالأسفلت، وتستخدم العبارات المائية كوصلة للطرق البرية حينما تتقاطع الفوردات المتعمقة مع الطرق البرية، وذلك تجنبا للدوران الطويل، ولكن ذلك يكلف وقتا طويلا مما دعا إلى مد طرق برية سريعة في بعض الأماكن حول الفيوردات.
أما النقل الجوي فتحتكره ثلاث شركات خطوطها الأساسية تبدأ من أوسلو في اتجاه الجنوب إلى كريستيانساند وستافنجر، وفي اتجاه الغرب برجن، وفي اتجاه الشمال إلى تروندهايم وبودو وفوس - إقليم ترومز، وهناك أيضا خط ملاحي جوي يستخدم الطائرات البحرية بين بودو ونارفيك، ومن فوس إلى كيركينيز، لكن الملاحة الجوية كثيرا ما تتعطل خلال الشتاء بسبب الظلام والجو السيئ العاصف.
المراجع الأساسية
(1)
Cole, J. P., “Geography of the U. S. S. R.”, Pelican 1967. (2)
Dury, G. H. & K. Mathieson, “The United States and Canada” London 1970. (3)
Gottmann. I. A., “A Geography of Europe” London 1955. (4)
Hoffman, C. W., “A Georgraphy of Europe” London 1953. (5)
Hooson, D. J. M., “The Soviet Union” London 1966. (6)
Mâlmstrom, V. H., “Norden: Gross roads of Destiny” New York 1965 . (7)
Melvyn Howe, G.,“The Soviet Union” London 1968. (8)
O’ Dell, A. C., “The Scandinavian World” London 1960. (9)
1961. (10)
1962. (11)
Somme, A., “A Geography of Nordén” New York 1961. (12)
Stefan, F., “Vatna Joekull, Island faehrten” Wien 1958.
نامعلوم صفحہ