كانت طبيعة الملك المقدوني تشكل تحديين كبيرين أمام أي ملك جديد، فلم تكن الفترات الانتقالية، وخصوصا عند مقتل أحد الملوك، تثير اضطرابات في المملكة وحدها بل في عموم نطاقها، الذي كان قد اتسع بشدة بحلول سنة 336. بادئ الأمر لا بد من أن يثبت الإسكندر أنه الأرغي الأنسب للحكم، وهو ما كان سيسهل تحقيقه لو غاب المنافسون بالكلية، أو لم يوجد إلا القليل منهم. بعد مقتل فيليب بفترة وجيزة، قتلت أحدث زوجات فيليب ورضيعها، ربما بناء على أوامر أوليمبياس، وقتل أمينتاس ابن عمه، الذي ربما كان يداهن الإغريق للفوز بالملك، وأما فيليب الثالث أريدايوس فترك على قيد الحياة.
ثاني الطرق وأهمها ليثبت لياقته للحكم براعته الشخصية كقائد عسكري دون مساعدة أبيه. أشعل موت فيليب انتفاضات في المناطق الحدودية القبلية وفي اليونان، فقاد الإسكندر جيشه صوب تراقيا إلى أرض تريبالي والإليريين، ثم إلى أرض التراقيين المستقلين (آريانوس، الكتاب الأول، 1، 4-7) الذين أطلقوا عربات تجرها الدواب في وجه المقدونيين أثناء ارتقائهم ممرا جبليا شديد الانحدار. واحتاج الهجوم على جيتاي عبور نهر إستروس (الدانوب)، أكبر الأنهار على الإطلاق (آريانوس، الكتاب الأول، 3، 5)، وكانت الدراية بالأنهار والجبال المقدونية بممراتها الضيقة تدريبا جيدا تلقاه قائد الجيش الذي نودي به حديثا.
استلزم التعامل مع الإغريق أيضا عملا عسكريا؛ إذ استدعت الثورة التي قامت في طيبة أثناء انشغال الجيش في الشمال الشرقي عودته السريعة إلى بيلا، ومنها إلى وسط اليونان؛ فحوصرت طيبة واستولي عليها ودمرت أو كادت. من الجدير بالتنويه أن الإسكندر أعفى منزل بندار (آريانوس، الكتاب الأول، 9، 10) بينما محا الكيان المادي الذي كان يشكل ذات يوم الدولة-المدينة الرائدة في يونان العصر الكلاسيكي. كانت الثقافة الإغريقية ثمينة وينبغي الحفاظ عليها، وأما الدولة المستقلة فكانت جموحا ومن ثم يمكن الاستغناء عنها. صار دور الملك المقدوني في العالم الإغريقي آنذاك يقتضي أيضا لباقة إدارية على اعتبار أن فيليب الثاني كان يشغل منصب التاجوس التيسالي وعضوية المجلس الأمفكتيوني الدلفي والقائد الأعلى للحلف الكورنثي؛ وولي ابنه هذه المناصب بالإضافة إلى الحقوق التي توجبها المعاهدات التي أبرمها فيليب. كان استمرار الحلف يقتضي التزاما - وهو أيضا من إرث فيليب - بخوض الحرب ضد الفرس.
بعد زيارة معبد دلفي وعرافته، عاد الإسكندر إلى بيلا ليعد العدة لذلك الالتزام؛ فأضيفت إلى تدريب جيشه، وتنظيم مؤنه وإمداداته، وتجهيز سفنه للعبور إلى الأناضول، وتعيين وصي على العرش يسيطر على المملكة بكامل نطاقها؛ مسيرة أخرى شمالا صوب الدانوب في غزوة ستكون ممارسة مفيدة للجنود واختبارا للعتاد الحربي، ويرجى أن يخفف النصر فيها مهمة الوصي على العرش. وقد تحققت هذه الأهداف كلها.
كان في تحقيق مزيد من استتباب الأوضاع مع الأعداء التقليديين حافز آخر للاضطلاع بمهمة الحلف الكورنثي. كان إدراك أهمية وجود جيش دائم لوجود المملكة المقدونية ذاته يستلزم إدراك ضرورة توظيف الجيش في دوره الطبيعي. ولو لم تكن المملكة الموسعة تتطلب اهتماما دائما، لكان بإمكان الجيش ممارسة مهاراته في بقاع بعيدة. الأمر الثاني أن استخدام وحدات عسكرية خاصة من الأراضي التي ضمت حديثا لن يوسع نطاق الجيش المقدوني فحسب، بل سيحرم أيضا أقاليم المملكة التي تحتمل ثورتها من بعض ما في أيديها من وسائل الثورة ضد السيطرة المقدونية؛ فالخيالة التيسالية التي قاتلت باقتدار تحت قيادة الإسكندر ضد الفرس (آريانوس، الكتاب الثالث، 15، 3)، لم يكن بوسعها معاونة انتفاضة تيسالية ضد الوصي على العرش. وبزحف الإسكندر وجيشه ضد الفرس أبعد الجنود الإغريق السبعة آلاف التابعون للحلف الكورنثي عن مصادر النزاع المحتمل في جنوب اليونان. ولم يكن بوسع الرماة الأغريانيين وغيرهم من القوات القبلية تقديم العون لزعمائهم الذين كانوا ذات يوم مستقلين.
شكل 7-2: ممر بترا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
في ضوء هذا الإرث، وخلافته السلسة نسبيا، ونجاحاته الأولية في التعامل مع الانتفاضات التي قامت في أقاليم المملكة، يجوز لنا أن نعزو إلى الملك ذي الاثنين والعشرين ربيعا إحساسا بالثقة بينما كان يعد العدة لمواصلة هجوم أبيه على بلاد فارس. وازدادت ثقته قوة بفضل معرفته بالأحداث الأخيرة في فارس؛ إذ شهدت سنة 338 مقتل الملك الأخميني أرتحششتا الثالث على يد مستشار «ثقة» يدعى باغواس، الذي أقام ابن الملك القتيل على العرش باسم أرتحششتا الرابع، ومضى في طريقه ليقضي على أبناء الأسرة المالكة الآخرين. وبعد ذلك بسنتين قتل أرتحششتا الدمية هو وأولاده على يد المستشار ذاته، فورث العرش أحد أبناء عمومة أرتحششتا الثالث، مرة أخرى بمساعدة باغواس وبفضل قلة المرشحين الآخرين لوراثة العرش. نوهنا في الفصل الخامس إلى أن مناسبات الخلافة على العرش كانت تتمخض دوما عن انتفاضات في بقاع الإمبراطورية المترامية الأطراف، ولا بد أن هذه السنوات الثلاث بما شهدته من عمليات تطهير وعدم استقرار السيطرة المركزية، كان من شأنها أن تتيح فرصة ممتازة للثورة أو لنجاح جيش غاز في مهمته.
كانت المعلومات المباشرة عن طبيعة الفرس متاحة للإسكندر بصور عديدة. تضمنت المصادر الإغريقية سرودا مكتوبة؛ إذ كان هيرودوت قد قضى شبابه في مدينة- دولة هاليكارناسوس الإغريقية في آسيا الصغرى، وزار فيما بعد بعض بقاع الإمبراطورية الفارسية على الأقل في إطار الاستقصاءات اللازمة لمصنفه «الحروب الفارسية». وضمن زينوفون أنباسته المغامرات والإخفاقات التي حدثت منه هو شخصيا ومن المرتزقة الإغريق الآخرين الذين استعين بهم لإطاحة الشاه أرتحششتا الثاني وإقامة أخيه قورش الذي يصغره مكانه. ووضع طبيب الأخمينيين الإغريقي 23 كتابا عن التاريخ الفارسي ضاعت كلها الآن، ولم يتبق منها غير شذرات، وأما خويريلوس الساموسي فعدد الجماعات القبلية التي عبرت الهلسبونت مع المهاجرين الفرس. وكانت في الكلام المتداول معلومات أخرى؛ إذ هرب أرتبازوس مرزبان المنطقة التي كانت قديما المركز الآشوري خوفا من حاكمه الأخميني في أعقاب انتفاضة فاشلة، وعاش بصحبة أسرته 10 سنوات في بيلا. وجدير بالتنويه أن داريوس الثالث أسند قيادتين بحريتين مهمتين إلى أخوين إغريقيين بينهما وبين أرتبازوس صهر . وكان أرسطو معلم الإسكندر قد قضى بضع سنين في مملكة أتارنيوس الصغيرة في شبه جزيرة ترواس. وكان يشتبه في تواطؤ «الملك الفيلسوف» هيرمياس مع أعداء فارس (اقترحنا أن فيليب المقدوني ربما يكون المقصود)، وأعدم بأوامر من أرتحششتا الثالث . كان الرسل أيضا يتنقلون بين بيلا والعواصم الفارسية، لكن استطلاع الكشافة كان من مصادر المعلومات الأخرى المهمة، وكانت الكشافة عنصرا أساسيا من عناصر الجيش المقدوني منذ زمن فيليب إن لم يكن قبله. أخيرا توجد أوجه تشابه عديدة بين المملكتين، فكلتاهما كانت دولة ملكية مركزية الإدارة، وكلتاهما كانت ضخمة من حيث الرقعة الجغرافية وعدد السكان مقارنة بالدول-المدن الإغريقية، وكلتاهما كانت تحتوي على ثقافات متعددة جمعها الفتح في البداية وحافظ على تماسكها - بإحكام أو بغير إحكام - جيش قوي. تمخضت هذه السمات المتشابهة عن الكثير من المشكلات المتطابقة التي واجهت ملوك كلتا الدولتين، وسنعود إلى أوجه الشبه في تمحيص طبيعة جهود الإسكندر لدمج المملكتين في إمبراطورية واحدة. (3) الحملة
لا خلاف على عبقرية الإسكندر القيادية. يستهل القائد جيه إف سي فولر ملخص دراسته التي تحمل عنوان «قيادة الإسكندر الأكبر العسكرية» بمبحث عنوانه «كعبقري». ولن ننكر هذه العبقرية وإن كنا سنجادل بأنها كانت متوقعة من نواح كثيرة. كان تحت يد الإسكندر إرث ما صنع أبوه، وهو جيش دائم مخلص مشحوذ القدرات، وأركان جيش من الضباط المخضرمين الرفيعي المستوى. كان استقطاب المعاونين المستقبليين من خلال تدريب شباب الطبقة الأرستقراطية في بيلا قد أثمر بالفعل رجالا في مثل سن الإسكندر، يمكنهم في النهاية أن يحلوا محل من هم أكبر منهم سنا. ومع أن الجيش وقواده كانوا ينتمون إلى خلفيات وتكتيكات عسكرية متنوعة، كانت الوحدات تعمل كوحدة واحدة. وعلى الرغم من اشتمال جيش الإسكندر على مرتزقة، فإنهم لم يشكلوا إلا سبعه (أو ثمنه على حسب عدده الإجمالي). كانت الغالبية العظمى مرتبطة بالإسكندر كملك وكقائد للحلف الكورنثي، ومن خلال التحالفات بموجب المعاهدات المبرمة. علاوة على ذلك، كان فيليب قد توسع في إنتاج العتاد العسكري ليشمل آلات الحصار والمجانق القادرة على قذف حجارة يصل وزنها إلى 50 رطلا (أكثر من 22 كيلوجراما).
شكل 7-3: معركة جرانيكوس. المصدر: جيه بي ماهافي، «إمبراطورية الإسكندر»، لندن: تي فيشر أنوين، 1887، 1، الصفحة 13.
نامعلوم صفحہ