ومع ضآلة المساحة الجغرافية التي حققتها مقدون أثناء حكم فيليب الثاني مقارنة بمساحة دولة الفرس، فإن نموها على مر الزمن وسع رقعتها كثيرا؛ إذ تضاعفت أبعادها المادية أكثر من ثلاثة أمثالها منذ حكم الإسكندر الأول، الذي اتسعت المملكة أصلا في عهده اتساعا شديدا. امتدت رقعة المملكة التي تزيد على 16600 ميل مربع (43 ألف كيلومتر مربع) من البحر الأدرياتي إلى ساحل البحر الأسود الغربي، وجنوبا من دول البلقان مرورا بالبر الرئيس اليوناني. لم يكن عدد السكان كبيرا كبر عدد سكان الإمبراطورية الفارسية، غير أن ثمة تقديرا يشير إلى وجود حوالي مليون ساكن عبر المنطقة الواقعة تحت سيطرة فيليب الفعلية برمتها بحلول سنة 336، وهذا الرقم تضاعف أيضا ثلاث مرات منذ نهاية القرن الخامس. كانت مقدون عملاقة مقارنة بحجم الدول الواقعة في غربي بحر إيجة. كان تنوع سكانها لافتا للنظر؛ إذ مع أن معظم الشعوب التي وحدها فيليب كانت هندية-أوروبية، كانت لغاتها وثقافاتها شديدة التباين. كان الإغريق قد ألفوا حياة الدول-المدن منذ قرون، وأما الإليريون والتراقيون فاحتفظوا بوجودهم القبلي، وكان سكان مقدونيا الدنيا يشهدون بأعينهم إنشاء الهيكل الإداري لمملكة متنامية.
تمخض اتساع رقعة الدولتين عن مشكلات في الاتصال. سبق أن نوهنا إلى صد الدول-المدن الشديدة الصغر في البر الرئيس اليوناني محاولات داريوس الأول وابنه أحشويرش الأول، الرامية إلى مزيد من التوسع. كان التمرد يغلب على المناطق القصوى عن العواصم الفارسية منذ حكم أرتحششتا (465-424)، فكانت آسيا الصغرى الإغريقية مصدر قلق دائم في ظل سعي إغريق البر الرئيس إلى تحريرها من الأغلال الفارسية. وكانت مصر هي الأخرى شديدة المراس؛ إذ نالت استقلالها قبل نهاية القرن الخامس واحتفظت بحريتها حتى 343. ولربما كان من الممكن استعادتها قبل ذلك عندما انتزع الفرس السيطرة على أحد مصبي النيل في أواخر القرن الخامس؛ مما جعلهم في وضع مؤات لأخذ العاصمة منف على حين غرة، لكن بحلول وقت إحالة القائد العسكري خطته إلى الملك للموافقة عليها، كان المدافعون قد اكتسبوا اليد العليا. وكانت المناطق التي يصعب الوصول إليها في عموم الإمبراطورية بقاعا ساخنة طوال فترة حكم الأخمينيين، لكن سنة بعد سنة اقتربت الثورات من العواصم الفارسية؛ فكانت ميديا في حالة ثورة في السنوات الأخيرة من حكم داريوس الثاني. وحتى المرازبة، الذين يدينون بمناصبهم للملك، كان بوسعهم حشد جيوش كبيرة؛ ومن ثم نيل الاستقلال عن السيطرة الملكية. تجلى بعض هذه الحرية في التنافس بين مرازبة المناطق الكبيرة. ومن ناحية أخرى، كان المرازبة الغربيون جميعا في حالة ثورة ضد داريوس الثاني في ستينيات القرن الرابع.
ومع اتساع المملكة المقدونية، استحال على الملك قيادة الجيوش بنفسه في مناطق القلاقل، فاضطر إلى الاعتماد على معاونيه. كانت التقارير تستغرق وقتا لكي تصل إلى فيليب من بارمنيون، الذي عينه لقيادة الفرقة المؤلفة من 10 آلاف جندي، التي أرسلها إلى آسيا الصغرى. وكانت أفعال فيليب ذاته تعتمد على نجاح قوات يقودها آخرون أو فشلها.
كانت الدولتان متماثلتين في نشأتهما بحد السيف، وهو ما بيناه باختصار في هذا الفصل فيما يخص بلاد فارس، وفي الفصل الخامس فيما يخص مقدونيا. كان اكتساب وجود مستقل آمن هو الدافع لكل من الحكام الأخمينيين والأرغيين الأوائل. كانت فارس تابعة لميديا قبل حكم قورش، وأما مملكة مقدون الصغيرة فكانت عرضة للتهديد من كل جوانبها من جانب دول أقوى. ومع أن التوسع الفارسي كان أسرع وأعظم بكثير، كان الحفاظ على الإمبراطورية الموحدة يتطلب قوة عسكرية دائمة وتدريبا مستمرا. وكانت الوحدة المقدونية على رقعة جغرافية أوسع تشهد مدا وجزرا في ظل التهديدات المستمرة من الإليريين والتراقيين والإغريق كما رأينا في نهاية القرن السادس من الفرس؛ مما كان يتطلب من ثم تأهبا عسكريا مماثلا.
بالإضافة إلى قوة السلاح، عززت كلتا السلالتين الحاكمتين الوحدة بالدبلوماسية وإقامة إدارة مركزية فعالة. كانت التحالفات والاتفاقات التجارية والمفاوضات التي تجرى من خلال مبعوثين كلها أدوات من أدوات الحكم، شأنها شأن القيام بأعمال لتقليص قوة المنافسين المحتملين داخل الدولتين؛ فقد واجه الملوك الأخمينيون تهديدات من أسر أرستقراطية فارسية أخرى، وثورات من حكام الدول التي كانت ذات يوم مستقلة. كانت ممارسة إسناد مناصب مهمة، كمنصب المرزبان، إلى أبناء الطبقة الأرستقراطية الفارسية أداة للتخفيف من القلاقل النابعة من هذا الشق، مثلما كان تعيين مسئولين فرس يرجى ولاؤهم في مناصب عسكرية ومدنية في جميع مناطق المملكة استجابة لخطر الانفصالية في أقسام كاملة من الإمبراطورية. دعي أيضا غير الفرس للخدمة في أدوار مهمة. كانت قوة الأرستقراطيين المقدونيين مساوية في خطورتها، ولا نعني أبناء فروع السلالة الأرغية، بل أيضا أسر مقدونيا العليا النبيلة، وهو ما يتبين بوضوح من مسيرة أبي فيليب المتقلبة. كانت صياغة الهيكل الذي سيستقطب معونة هؤلاء المنافسين المحتملين ناجحة في أغلب الأحوال، وأما استحداث نظام غلمان الملك - وهم كما رأينا أبناء الأسر الأرستقراطية الذين ألحقوا بالتدريب المهني في بيلا وأعمارهم 13 أو 14 سنة - فكان حافزا فعالا بالقدر نفسه لضمان حسن سلوك آبائهم. وكان الاعتماد على غير المقدونيين لولاية المناصب الحيوية حلا آخر.
سعي في كلتا الدولتين إلى توازن بين ثقافة الفاتحين وثقافات الأقاليم المفتوحة المحلية، واستفاد الأخمينيون والأرغيون على السواء من كثير من المؤسسات المكينة في عموم دولتيهما؛ إذ برع فيليب الثاني في إقحام نفسه في مناصب موروثة كتاجوس تيساليا، وعضو المجلس الأمفكتيوني، والقائد الأعلى للحلف الكورنثي. ويسر إدماج النظم الإدارية المجربة، كنظم مصر وبلاد ما بين النهرين، إنشاء الإطار الفارسي الذي كان بسيطا نوعا ما في البداية. لم يتمخض قبول مختلف المعتقدات واللغات والتقاليد عن مشترك ثقافي فحسب، بل خفف أيضا من وطأة الفتح على الشعوب المفتوحة. وسمح للشعوب التي هجرها الآشوريون، كبني إسرائيل، بالعودة إلى مواطنها الأصلية التي ربما يمكنها فيها بناء معبد وممارسة الديانة التي عرفوا بها. وأما المقدونيون، فإن قبولهم مهارات الأقوام المفتوحة وثقافتها أثرى ثقافتهم دون أن تحل ثقافتها محلها، وخفف في الوقت نفسه من الشعور بالعداوة لدى كثير ممن ضموا إلى سيطرة بيلا، لكن يقينا ليس كلهم.
كان إنشاء هيكل حكم مركزي يستوعب النظم المحلية في الوقت نفسه الشاغل الأول لأسباب بديهية عديدة. من ناحية أخرى، أمدت الدولة ملوك كلتا المملكتين بميزة كبيرة على المنافسين المحتملين من حيث الموارد، المالية منها والبشرية، وقوتهم الشخصية. وعلى الرغم من عدم وضوح بعض ملامح الإدارة الأخمينية، تفصح ملامحها الأساسية عن تدرج هيكل السلطة من سلطة الملك المطلقة، إلى سلطة المرزبان، إلى الوظائف الخاصة في الخزائن والأراشيف في عموم الإمبراطورية. وعلى الصعيد المادي أيضا، كانت أصقاع الإمبراطورية متصلة من خلال شبكة الطرق والعملات النقدية والمراكز الشعائرية وإعلان المراسيم الملكية. كما قلنا فيما سبق فقد عمل الأرغيون على ترسيخ السيطرة المركزية على نحو مماثل، لكن بدرجة أقل مما يتضح من الوضع الفارسي، وإن كان هذا يتعارض نوعا ما مع الرؤية السائدة. من المهم أن نتذكر أن قدرا كبيرا من التطور المقدوني تحقق على يد فيليب، وأما الهيكل الفارسي فظل يتطور منذ منتصف القرن السادس. لم يعد الأرشيف المقدوني موجودا، لكن الأدلة على المعاهدات التي أبرمت مع الدول الأخرى حفظت. ويتضح لنا مدى الموارد الملكية من الكنوز التي اكتشفت في فيرجينا، وأما أطلال بيلا فتكشف عن مزيج يثير الإعجاب من المنشآت الإدارية والمسكن الملكي. عرف الأرغيون قيمة شبكة الطرق في مرحلة مبكرة تعود إلى حكم أرخيلاوس، ومضى فيليب قدما في إنشاء هذه الطرق واستخدم تصميمات مسكوكاته النقدية ليبرهن على طبيعة حكمه.
لكن المركز الحقيقي لكل مملكة كان ملكها، فكان الحاكم الأخميني يلقب ب «ملك العالم»، ومع أن الأرغيين لم يحصلوا على هذا اللقب، فإن فيليب وابنه الإسكندر كانا يستحقانه يقينا. كان فيليب ملك مقدونيا الأرغي وتاجوس تيساليا والقائد الأعلى للحلف الكورنثي وحليف المولوسيين الإبيروسيين بالعهد والزواج؛ وكان الإسكندر كل ما سبق وفوقه الكثير عندما وافاه أجله سنة 323. لم تقف في طريق ملوك كلتا الدولتين جمعيات أو مجالس قوية، حتى لو تمتعت جمعية الجيش المقدوني ببعض الحقوق المحددة، ولو كان الحكام الأخمينيون والأرغيون على السواء يتشاورون مع كبار معاونيهم. الأكثر من ذلك أن ترامي أطراف المملكتين وضع مزيدا من العوائق أمام ممارسة السلطة الملكية؛ إذ سبق أن ذكرنا أن تأخر وصول موافقة الملك على خطة الاستيلاء على العاصمة المصرية تسبب في إخفاق مجهود القوات الفارسية في نهاية القرن الخامس. وتوقفت أفعال فيليب ذاته سنة 356 على أخبار نجاح بارمنيون أو إخفاقه في التعامل مع التهديدات الجديدة التي شكلها الإليريون. وهكذا لم يكن أي من الحاكمين حاكما مطلقا بمعنى الكلمة في ممارسته سلطته، ومن ناحية أخرى كانت سلطتهما أقل قيودا بكثير من سلطة الزعماء في الدول الإغريقية.
من النتائج الأخرى للمركزية نتيجة اقتصادية؛ إذ كانت الثروة الموجودة تحت تصرف الملك طائلة؛ فمن حيث الكمية والثراء والأناقة تشهد مقتنيات المدافن المقدونية على طبيعة الموارد التي كانت تحت سيطرة الأرغيين المتأخرين، فكانت الأرض التي يفتحها جيش الملك تحمل صفة الأرض الملكية، وهذه يمكن تخصيصها لرجالات الملك أو تأجيرها لمستأجرين. وبالإضافة إلى الإيرادات المتحصلة من الأرض، كان الملوك المقدونيون يسيطرون على ما يبدو على الموارد الخشبية والمعدنية؛ إذ كان سك العملة امتيازا ملكيا، وكانت تجبى ضرائب على استخدام المرافق. كانت الثروة الملكية الفارسية تأتي من مصادر مماثلة لكن أكبر، وهي الإيجارات والضرائب والخدمات والسلع والحيوانات والحاصلات الزراعية وبعض الأنشطة الاحتكارية كسك العملة. ويروي آريانوس (الكتاب الثالث، 16، 7) اكتشاف الإسكندر، لدى دخوله شوشان بعد هزيمة داريوس وجيشه في جاوجاميلا، 50 ألف وزنة من الفضة وغيرها من العتاد الملكي.
خلاصة القول أن طبيعة مقدون في عهد فيليب والإسكندر كانت تشترك في سمات كثيرة مع الإمبراطورية الفارسية الأكثر نضجا. علاوة على ذلك، تجمع بين أصول السلالتين الملكيتين أوجه شبه مذهلة. كان الفرس وافدين جددا نسبيا على الشرق الأدنى؛ إذ رحلوا إلى المنطقة الواقعة شرق دجلة في منتصف الألفية الثانية، وتدريجيا شكل هؤلاء المهاجرون الهنود-الأوروبيون ممالك صغيرة يحكمها شيوخ قبائل، وحلت الزراعة المستقرة والرعي محل حياة الترحل. مر نحو ألف سنة قبل أن يدفع الضغط، الذي مارسه الجيران الأكثر اتحادا، إلى المركزية المتنامية بين الجماعات المنفردة. وتنقل لنا رواية هيرودوت عن خلافة داريوس الأول - على الرغم من غلبة الخيال على جوانب عدة فيها - طبيعة الحكم الفارسي المبكر بوصفه تنافسا بين زعماء سبع عشائر كبرى على العرش الأخميني (الكتاب الثالث، 82-86). ومن سمات تاريخ الإمبراطورية المتأخر استمرار تنافس أعيان الفرس مع الملك، زد على ذلك أن الأسرة الأخمينية ذاتها تكاثرت حتى شكلت فروعا كثيرة. وتدل الرواية التي تتحدث عن إقدام أرتحششتا الثالث على قتل أكثر من مائة منافس من السلالة الأخمينية لكي يحمي نفسه، على مدى خطورة هذا التكاثر.
نامعلوم صفحہ