وفي شيء من المفارقة، يبدو أن الضعف المتأصل في الحدود المائعة كان المفتاح إلى حل ما. كانت الهجمات الإليرية من الشمال الغربي والغارات البيونية من الشمال، تمر عبر أراضي مقدونيا العليا في طريقها إلى مقدونيا الدنيا، وأما قوات المشاة الثقيلة الإغريقية فكان يمكنها التحرش بشعبي إيليميا وبييريا أثناء سيرها نحو بيلا. ومن الجائز تماما أن استشعار الخطر المشترك، مقرونا بالتحالفات التي أبرمت فيما مضى، تمخض عن إدراك أنه قد يكون في مصلحة المنطقة بأسرها إقامة صورة من صور الاتحاد . زد على ذلك التوحد متباين الدرجات الذي شهدته الفترات السابقة عندما كانت مقدونيا الدنيا منبع قوة المركزية.
ربما كانت في صلة القرابة بين شعوب مقدونيا العليا والدنيا قوة أخرى من قوى التعاون بحلول القرنين الخامس والرابع؛ فكما وصف هاري ديل جغرافية المنطقة، كان السهل المقدوني قلبها. وفي المنطقة الواقعة وراء الحاجز الطبيعي الأول، ونعني سلسلة جبال بيرميون، أزاح الإليريون فيما بعد الجماعات المكدونية التي سكنت الوديان والجبال أولا؛ فأثار نجاح الغزو الإليري سنة 360 مزيدا من التهديدات في الشمال إذ مضى البيونيون ينهبون أعالي وادي نهر أكسيوس. وربما كان هذا المزيج دافعا إلى توحيد المكدونيين، ولو مؤقتا، وقد يأتي قائد قوي يمكنه إقامة اتحاد أطول أمدا. (4) سبل التوحيد العسكرية
لو أن إدراك الحاجة إلى دفاع مشترك هو الذي بعث على التوحد، لما كان بد من صياغة التزام أطول عمرا من أي أزمة مؤقتة. ونظرا لطبيعة القيادة في مقدون والدول المجاورة، كان النجاح يرتبط ارتباطا وثيقا بمهارات الزعماء الشخصية.
تسمي مصادرنا الملك المقدوني «بازيليوس» والحكم المقدوني «بازيليا»، لكن لا يسعنا تأكيد أو نفي ما إذا كان المقدونيون أنفسهم، قبل حكم فيليب الثاني، يلقبون زعيمهم بازيليوس؛ فالنقود التي ضربها فيليب لا تحمل اللقب، ولا نجد إلا قرب نهاية حكم الإسكندر الأكبر قطعة نقد منقوشا عليها الكلمتين «ألكسندرو» و«بازيليوس». وحتى لو استخدم الحكام الأرغيون السابقون هذا اللفظ، فما كان معناه ليضاهي المعنى المتأصل في الاستخدام الإغريقي الدارج كإطلاق لقب بازيليوس مثلا على «الأركون» (منصب يشغله عدة أشخاص يختارون سنويا لأداء مسئوليات محددة) الأثيني. بدلا من ذلك كان مجمل الصلاحيات والامتيازات المنوطة بالملوك المقدونيين أشبه من نواح كثيرة بما كان منوطا بملوك الملاحم الهوميرية؛ إذ كان الملك طوال حكم الإسكندر الثالث في جوهره قائدا عسكريا، وكانت مسئولياته وما يرافقها من امتيازات تنبع من ذلك الدور. وفي كلتا الحالتين أيضا كان الملوك يحكمون انطلاقا من قدرتهم الشخصية لا بصفتهم تجسيدا اعتباريا عاما للدولة. حقق الملوك المقدونيون دائما نجاحهم، قل أو كثر، بفضل سماتهم القيادية الفردية ؛ إذ كانوا يأتون أفعالا عظيمة وينطقون بكلمات مقنعة مثل أوديسيوس، وينبغي أن نضيف إلى ذلك أنهم كانوا نماذج للدهاء وسرعة التصرف، بطبيعة لا تعرف الرحمة غالبا. مع أنه يبدو من شبه المؤكد أن فيليب الثاني أضاف عناصر إدارية إلى الحكم في عهده، سيكون إنشاء هيكل إداري مدني كامل مهمة خلفاء الإسكندر الأنتيغونيين في القرن الثالث.
كان لزاما على الملك المقدوني أن يمتلك مقدرة قيادية واضحة ليقود ويحكم بنفسه؛ إذ كانت قدرة الملك على اختيار معاونين أكفاء مهمة لكن لا تكفي وحدها. وكما يتبين لنا من تاريخ المملكة المبكر، كانت وظيفة الملك الأولى الدفاع عن المملكة والحفاظ عليها من التهديدات الداخلية والخارجية، ولكي يفعل ذلك كان يقود رجاله في ساحة القتال بنفسه. أدرك بيرديكاس ضرورة التماس تدخل الإسبرطيين حفاظا على سلامة مقدونيا، لكنه أضاف إلى القوة الإسبرطية لدى وصولها فرقة مقدونية تحت قيادته، وسارت القوتان سويا لإجبار الزعيم اللنكستي على الدخول بإقليمه الواقع في مقدونيا العليا من جديد في حلف بيرديكاس. ولو لم يكن بمقدور الملك أن يقود جيشه ببراعة وبنفسه، فلا يليق به أن يكون حاكما مقدونيا. وهكذا فمع أن الملك كان ينتقل غالبا من الأب إلى ابنه، فلا شك أن ابن بيرديكاس الثالث لم يكن لائقا لإظهار المقدرة المطلوبة؛ لصغره، فانتقل الملك من الأخ الأكبر إلى الأخ الأصغر؛ أي من بيرديكاس إلى فيليب. كان يجب أن تكون المكانة رفيعة في أعين الجنود، وخصوصا من ينتمون منهم إلى أقاليم كانت ذات يوم ممالك مستقلة، لا لكسب احترامهم فحسب، بل أيضا لمناداتهم به قائدا أول الأمر.
نظرا لأن الملك المقدوني كان شكلا من أشكال القيادة الشخصية، كانت دعائمه تقوم على الولاء الشخصي لا على قاعدة دستورية. كان الملك يحتل صميم العديد من روابط الولاء التي تعززها منزلته العسكرية والدينية والاقتصادية الخاصة، وكما رأينا فإن مصدر سلطة الملك الأساسي كان قيادته العسكرية، التي لم تكن لتوجد من دونها مملكة يحكمها. كان توطيد دعائم المملكة وتوسيعها، ما إن تتحقق السيطرة على قلبها، يتطلب حضورا عسكريا قويا للتصرف والرد بسرعة. ومع أن كثيرا من عناصر الجيش المقدوني، كما هو معروف من المصادر المعنية بفيليب والإسكندر، طور في القرن الخامس، فإن جهود فيليب أحدثت ما وصف بأنه ثورة عسكرية.
كان العنصر الأول قوة بحجم كاف. أتينا فيما سبق على ذكر محدودية حجم الجيش المقدوني في عهد بيرديكاس، وربما كانت ترتبط قلة عدد جنوده بتنصل اللنكستيين من ولائهم للحكم الأرغي، ففقد من ثم مصدر مهم للحصول على المجندين. وعند تصدي الملك بيرديكاس الثالث للغزو الإليري سنة 360، فقد 4 آلاف رجل من جيشه، وربما كان هؤلاء جزءا من رقم العشرة آلاف المقبول عموما كحد أقصى لأي جيش مقدوني قبل حكم فيليب الثاني. لا ريب أن مسئولية فيليب الأولى لدى المناداة به ملكا كانت تجنيد جيش آخر للتعامل مع التهديد الإليري، وتقول الروايات إن جيشه بلغ 10 آلاف جندي مشاة و600 فارس. وبعملية حسابية بسيطة لو طرحنا القتلى الذين خلفهم الإليريون، نجد هذا الرقم يزيد بمقدار 4 آلاف رجل عن الحد الأقصى الذي يمكن لقلب مملكة مقدون حشده. ومع أننا لا نعرف حالة التحالفات مع ممالك مقدونيا العليا سنة 360 / 359، فمن المستبعد أنها كانت متينة. ويتبين من حاجة أمينتاس الثالث إلى الالتجاء إلى الدول الإغريقية الكبرى طلبا للمساعدة بسبب افتقاره إلى مصدر عون موثوق فيه أقرب إليه منها؛ أن أحداث العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع قوضت الروابط مع هذه الممالك. ومن الجائز تماما أن الانتصار الإليري هو الذي وفر مجندين جددا؛ أمن الشطط أن نقترح أن الأربعة آلاف أو أكثر من الجنود الذين يتطلبهم التصدي لغزوة الإليريين (أو التراقيين أو الإغريق) التالية جاءوا من مناطق مقدونيا العليا استجابة للخطر المشترك الذي لا يخفى على ذي عينين؟ ربما نجد ما يؤيد هذا الطرح في وجود القائد فيليب الموثوق فيه بارمنيون في سنوات حكمه الأولى؛ إذ كان بارمنيون من مقدونيا العليا.
فمن الذي سيقود جيشا مؤلفا من فرق إقليمية؟ على أحد المستويات، سيتولى زعيم كل إقليم قيادة فرقة إقليمه العسكرية باتباع هيكل قيادة شبيه بالموصوف في الإلياذة. ومرة أخرى كما في طروادة، يوجد إدراك على مستوى أعلى في المعركة أن «السيادة للكثيرين ليست لائقة أو مفيدة. ليكن لنا حاكم واحد، بازيليوس واحد» (الإلياذة، 2، 204-205). والأرجح أن يختص الأرغيون بالقيادة العليا، من واقع هيبتهم وتحالفاتهم السابقة ومساهمتهم بالشطر الأكبر من مجموع القوة. وستمتد آصرة مماثلة للتي بين الملك الأرغي وفرقته، بينه وبين الجنود الذين ينتمون إلى الأقاليم الأخرى لفترة زمنية معينة.
كانت الآصرة قوية بين الحاكم الأرغي ومن لا غنى عنهم للحفاظ على المملكة، فكان كل منهما يعتمد على الآخر. كان يحق لجمعية الجيش أن تنادي بالملك لقائدها، الذي يتولى بدوره مسئولية قيادة جيشه هذا إلى النصر، وسيدر هذا النصر مكافآت (غنائم، منح أراض، ترقيا في المراتب، وحياة أطول في الحقيقة) يمنحها القائد المنتصر. وتروي المصادر إنشاء وحدة من الجنود المقدونيين تسمى صحابة الملك المشاة (بيزهيتايروي) بجانب الصحابة (هيتايروي) الموجودين فعلا من أصحاب المكانة الأرستقراطية، وذلك في مرحلة مبكرة تعود إلى حكم الإسكندر الأول. ومن الجائز تماما أن نجاح المشاة الثقيلة الإغريق في مواجهة القوات الفارسية أثار إعجاب الإسكندر، فاستحدث تشكيلا مماثلا بين جنوده المقدونيين، وإن انقسمت الآراء حول دقة هذه النسبة إليه. لكن كما رأينا فلم تحظ بالديمومة إلا تطورات قليلة في الحياة المقدونية المبكرة، مما استلزم تكرار الابتكارات السابقة على الدوام.
ومن ثم كان لفيليب ابتكاراته في دور المشاة المقدونية، وهو موضوع سننظر فيه في موضع آت. وللإبقاء على تعاون الفرق الإقليمية فيما بعد انقضاء أي أزمة راهنة متصورة، كان على فيليب أن يجني ثمارا ينعم بها على جميع سرايا الجيش، فالمتوقع أن تعزز هذه المكافآت مقرونة بالحوافز آصرة الولاء بين صفوف جيش متنوع ينتمي إلى أقاليم تتجاوز قلب المملكة، وبين قائده الأرغي. وربما يكون احتراف الجندية مسارا مهنيا مفضلا لراع يرعى قطيعه في المرتفعات الجبلية ما دامت توجد حاجة واضحة إلى جيش دائم.
نامعلوم صفحہ