خلاصة القول أن الارتباط المديد بين مقدون واليونان مكن فيليب من تحدث الإغريقية بأكثر من مجرد الألفاظ؛ إذ صار يفهم دقائق المعاهدات والتحالفات، ويدرك أهمية التقاليد من قبيل الألعاب الأوليمبية، أو الممارسات من قبيل الاعتبار الديني لحرم أبولو في دلفي. كان يعرف الصراع داخل الدول الإغريقية وفيما بينها حق المعرفة، وتمكن من استغلاله. وما من شك في أن درايته بمختلف أوضاع البلدات الواقعة تحت سيطرته وبالمدن المطالبة باستقلالها، حتى الواقعة منها في أرضه، أثرت على تفضيله الصنف الأول. ومثلما أعاد بيرديكاس تأسيس مدينة بدنا الإغريقية كبلدة تحت هيمنة المقدونيين، أعاد فيليب تنظيم كرينيدس لتصير «فيليبوي»؛ أي مدينة فيليب. كانت الأحلاف، ولا سيما الأحلاف الإغريقية، مثار إزعاج للمقدونيين، وهو ما كان أسلاف فيليب يعرفونه تمام المعرفة؛ لكنها كانت ضرورية، أولا في إنشاء المملكة المقدونية المتأخرة، وثانيا في وضع حد للحرب المستمرة بين الائتلافات الأكبر التي تضم الدول الإغريقية. والواضح أن فيليب كان يقدر جيش المشاة الثقيلة الإغريقي واستند إليه في بناء جيشه، ومع نجاح جهوده في تراقيا أدرك شخصيا أن فارس تمثل مشكلة للمناطق الواقعة في شمال بحر إيجة وغربه. كان أبوه قد أيد الطيبيين في عونهم الذي قدموه للمرازبة الغربيين ضد ملك الفرس آنذاك، ويبدو أن فيليب كانت له تعاملات مع شخص يدعى هيرمياس أنشأ مملكة صغيرة في شبه جزيرة ترواس (المنطقة الشمالية الغربية من الأناضول حول موقع طروادة)، وكذلك مع بيكسوداروس، حاكم جزء من كاريا في جنوب الأناضول. وكانت لهذه الاتصالات دلالة ثقافية وعسكرية عند المقدونيين. (2) التأثيرات الثقافية
كان الإغريق والمقدونيون جيرانا منذ ثلاثة قرون ونصف قرن على الأقل قبل حكم فيليب الثاني، وكانت العلاقة، على نحو ما بينا، في العادة تنافسا عدائيا على السيطرة على الأرض والوصول إلى الموارد. لكن صاحبت ذلك الصراع معرفة كل منهما بثقافة الآخر، وكانت هاتان الثقافتان في المراحل الأولى من التفاعل مختلفتين اختلافا ملحوظا في نواح كثيرة، إن لم يكن في كل النواحي. وبمرور الوقت ازدادت أوجه الشبه، خصوصا في الدين واللغة والعمارة والفنون والأعراف الثقافية. وبما أن الثقافة الإغريقية كانت الأكثر تطورا من بين الاثنتين، كان تأثيرها على مقدونيا بحلول العصر العتيق (حوالي 750-500) هو الغالب.
نوهنا إلى أن زيوس وهرقل كانا الشخصيتين الإلهيتين والبطوليتين الرئيستين عند السلالة الأرغية، وقد ضاع تفسير هذه الآصرة في غياهب الأصول الأرغية، ولا يلزم أن نقبل حكاية رحيل ثلاثة إخوة من أرجوس لكي ندرك فهم الأرغيين أنفسهم صلات نسبهم؛ والمهم هو التماثل مع الفكر الإغريقي الذي ينشأ عن هذا الفهم. علاوة على ذلك، ضمت آلهة هيلينية أخرى بمرور الزمن إلى المهرجانات المقدونية؛ إذ حلت معابد أواخر القرن الرابع التي كرست للربة ديميتر محل منشأتي ميغارون (الميغارون وحدة معمارية تتألف من رواق ذي أعمدة، وغرفة رئيسة بها مجمرة، وفي الغالب غرفة ثالثة في الأمام أو الخلف) تعودان إلى القرن السادس ومرتبطتان بتلك الربة. وتكشف الرسومات، التي تمخضت عنها مدافن آيجي/فيرجينا، عن وجود بيرسيفوني ابنة ديميتر في المعين الفني المقدوني، بينما اكتشف مذبح لديونيسيوس بين أطلال المسرح الكائن في الموقع ذاته. ولا شك أن ديونيسيوس موضوع مفضل في الفسيفسائيات التي ترقى إلى أواخر القرن الرابع وما بعدها. وصور الإله بان على قطع النقد التي ضربها أمينتاس الثاني، وصور أبولو على قطع النقد التي ضربها فيليب الثاني. وافتتحت المناسبة التي قتل فيها فيليب باستعراض لتماثيل مجموعة الآلهة الإغريقية، مع إضافة تمثال ثالث عشر لفيليب.
أقيم ذلك الاحتفال في مسرح العاصمة القديمة آيجي الذي أنشئ في عهد أرخيلاوس لإقامة المهرجانات على شرف زيوس وربات الفنون، والمسابقات، والعروض المسرحية. ومع أنه كان أصغر من المسارح الإغريقية، إلا أنه أقيم على طرازها. علاوة على ذلك، دعي الكتاب المسرحيون الإغريق إلى مقدونيا، ومنهم الشاعر الأثيني يوربيديس الذي ألف «الباخوسيات» (موجودة) و«أرخيلاوس» (غير موجودة)، ومات في مقدونيا. كان كاتب مسرحي أثيني آخر، وهو أجاثون، ضيفا على الحاكم الأرغي ذاته، ومثله كان الشاعر الكورالي تيموثيوس الملطي والشاعر الملحمي خويريلوس الساموسي.
ومع هذا كانت المسابقات على الطراز الأوليمبي التي استحدثها أرخيلاوس في ديون من الاحتفالات الأخرى الشائعة في عموم العالم الإغريقي. ويكشف العنصر الدرامي في التنافس عن انفتاح المقدونيين على الثقافة الهيلينية، ويتجلى تقدير مشترك للبراعة الرياضية في قيم كلا المجتمعين. وناقشنا التأكيد المقدوني على التدريب البدني في الفصلين الثاني والثالث، وخصوصا لأبناء السلالة الملكية الذين كان يتوقع منهم قيادة الجيش المقدوني بالقدوة. وتبرهن الرواية التي تتحدث عن مشاركة الإسكندر الأول في الألعاب الأوليمبية الإغريقية، سواء أصحت أم لم تصح، على لياقته الشخصية من واقع النتيجة؛ إذ حصل على المركز الأول مناصفة في سباق العدو.
من الممكن طبعا أن نفهم هذه الاقتراضات كدعاية - مفادها: «نحن المقدونيين نشبهكم بحق أيها الإغريق» - أو كجهود لتمدين شعب بدائي بل همجي أيضا. لكن رسوخ هذه الاقتراضات وازديادها قوة وعددا حجة مضادة لهذه الاستنتاجات؛ فكما أن الجسم البيولوجي يلفظ العضو المزروع فيه الغريب عن تكوينه، كذلك سيلفظ الجسم الثقافي العادات الأجنبية غير المتوافقة معه.
صار استخدام الألفبائية الإغريقية العرف المتبع في لغة المملكة المكتوبة، ولندرة الأدلة فيما يخص لغة المقدونيين المنطوقة، لا يمكن حسم مسألة علاقتها بالإغريقية. ومن ناحية أخرى، توجد أدلة أكثر فيما يخص لغتهم المكتوبة؛ إذ وصلت إلينا نقوش سجلت الاتفاقيات المبرمة بين المقدونيين والإغريق، وخصوصا الأثينيين، وإن كان مصدر هذه النقوش الدول الإغريقية التي كانت طرفا في هذه الاتفاقيات، وربما صيغت النسخ التي كتبت بالمقدونية صياغة مختلفة تماما. وتوحي الأنواع الأخرى من النقوش التي وصلت إلينا بأن الحال لم يكن كذلك؛ إذ تسجل 47 لوحة تذكارية استخرجت من مدافن آيجي/فيرجينا ونسبت إلى النصف الثاني من القرن الرابع أسماء المتوفين وغالبيتها إغريقية. وكما فسر الباحث الذي نقب عن الألواح، فإن تاريخ الوفاة حوالي سنة 330 يوحي بأن تاريخ ميلاد كثير من هؤلاء المتوفين وقع في العقد 370-360 تقريبا. ويوحي اشتمال اسم مركب من اسم الأب أو الجد الأعلى في معظم شواهد القبور بأن تاريخها يعود إلى حوالي سنة 410-400 فيما يخص الأسماء الثانية المسجلة. ولا ينتمي جميع الأشخاص المسجلين على اللوحات التذكارية، ولا حتى غالبيتهم، إلى نبلاء مقدونيا، بمعنى أنهم من عامة المقدونيين، ولا شك أن آيجي/فيرجينا كانت عاصمة المملكة الأصلية؛ ومن ثم ربما كان استخدام أسماء إغريقية بديلة ممارسة متبعة في هذا المكان بعينه فقط. ومع ذلك فهذا الاستنتاج تنفيه النقوش المستمدة من بيرويا في منطقة بيرميون؛ إذ كتبت هذه النقوش - وتشمل أسماء أيضا - بالألفبائية الإغريقية. ويجب أن نعترف بعدم إمكانية أن يكون الإليريون أو غيرهم من الشعوب المجاورة في الشمال أو الغرب أو الشرق وفروا ألفبائية بديلة، وأن اليونان كانت الخيار الوحيد. لكن ما نريد قوله إنه كما في حالة الآلهة الهيلينيين، وجدت الألفبائية الإغريقية مرضية، وصار استخدامها هو القاعدة في النقوش المقدونية، الرسمية منها والشخصية.
شكل 4-3: مخطط المسرح الذي اغتيل فيه فيليب سنة 336 قبل الميلاد في فيرجينا. تشير الأرقام الرومانية من
I
إلى
نامعلوم صفحہ