وأخيرا كانت هناك توترات مستمرة في قلب الدولة، وتحديدا داخل السلالة الأرغية الحاكمة. كان عدد من الفروع الجانبية قد تفرع من الأسرة بحلول القرن الرابع، وعلى الرغم من أن الملك كان ينتقل من الأب إلى الابن، كان من الجائز أن ينتقل - كما في حالة وفاة أرخيلاوس التي أسلفنا بيانها - من الأخ الأكبر إلى الأخ الأصغر أو إلى أحد فروع العائلة الجانبية؛ فأبو فيليب نفسه، وهو أمينتاس الثالث، كان ينتمي إلى فرع جانبي من فروع السلالة. كانت الأحقية بالملك تتعرض للطعن دوما لدى موت الملك الحالي.
خلاصة القول أنه مع التوسع الذي كان مثار الإعجاب وأواصر المركزية داخل المملكة، ظلت المملكة هشة وعرضة دائما للتهديدات الآتية من وراء حدودها. (3) طبيعة الحياة في مقدونيا القرن الرابع قبل الميلاد
عندما عنف الإسكندر رجاله على نكرانهم الجميل سنة 324، كان يصف التغير الهائل في طبيعة الحياة في مقدونيا على عهد أبيه.
تولى فيليب أمركم وكنتم رحلا لا تملكون موارد، وكان معظمكم يرتدي الجلود، ويرعى قليلا من الغنم على جانب الجبل ولا يحسن القتال لحماية نفسه في مواجهة الإليريين والتريباليين والتراقيين على حدودنا، فأبدلكم بجلود الحيوانات أردية كاسية، وأنزلكم من الجبال إلى السهول، وجعل منكم محاربين أولي بأس في مواجهة الجيران البرابرة، حتى يمكنكم الاعتماد على أنفسكم بدلا من الأمن الذي يوفره إقليمكم. جعل منكم سكان مدن، وسن قوانين وأعرافا نافعة. وعلى البرابرة الذين كانوا يحكمونكم وينهبونكم ذات يوم جعلكم سادة لا عبيدا لهم ولا رعايا. (آريانوس، الكتاب السابع، 9، 2-3)
لو قبلنا بصحة هذا التوبيخ، يكون فيليب هو الذي حول المقدونيين من الهيئة البربرية إلى الهيئة المتمدنة. وتستدعي الشواهد، على الرغم من ضآلتها، بعض التعديل لفجائية عملية التمدين؛ إذ يمكن تتبع تاريخ عملية مستمرة قوامها التحول إلى الاستقرار وسكنى الحضر في تيساليا ومقدونيا وإبيروس إلى نهاية العصر البرونزي وحتى القرن الرابع قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن جهود فيليب حفزت هذه العملية بشدة، كانت حياة القرية قد اتسعت قبل ذلك في أجزاء من مقدونيا، وخصوصا المناطق الواقعة في مقدونيا الدنيا المتأثرة بالمستعمرات الإغريقية التي أنشئت قبل ذلك في العصر الحديدي، وبدأت تتكاثر عددا في القرن الثامن وما تلاه. كانت القرى صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان على حد سواء في معظم مناطق مقدونيا، وكانت المواقع التي تزيد على نحو 7,5 إلى 10 آكر (3-4 هكتارات) نادرة في غربي مقدونيا. على النقيض من ذلك، كانت بيلا أكبر مستوطنة، وبمساحة 74 آكر (27 هكتارا) مع أكروبول على مساحة 4,5 آكر (1,8 هكتار).
تباينت أيضا الوظائف والأشغال بين المناطق؛ إذ كانت الزراعة بالإضافة إلى تربية المواشي وسيلة كسب الرزق للكثيرين في المناطق ذات السهول الخصيبة، أما المناطق الواقعة في النجود والمرتفعات فكان يكثر فيها الرعي المترحل كسبيل للعيش، وهذا هو صنف العيش الذي يذكره آريانوس من خلال خطاب الإسكندر في رجاله. كانت موارد تلك النجود ذاتها تشجع على القنص وصيد الأسماك، ومع ازدياد الطلب على الخشب المقدوني، احتاج حصاد منتجات الغابة إلى أيد عاملة من السكان. اشتغل آخرون باستخراج الموارد المعدنية؛ إذ يسجل هيرودوت أنشطة تعدين من زمن الإسكندر الأول، منوها إلى منجم كان ينتج كل يوم وزنة من الفضة لذلك الملك (الكتاب الخامس، 17). كانت الحرب - وهي كما رأينا حاجة مستمرة - مهنة أخرى اعتيادية يمتهنها الذكور البالغون، وتبين الحسابات المستندة إلى عدد المقدونيين الأحرار معين الرجال الذي كان يمكن تعبئته:
قبل حكم فيليب:
80 ألفا-100 ألف
أثناء حكم فيليب:
160 ألفا-200 ألف
نامعلوم صفحہ