خدم فيليب قضيته لكنه استفاد أيضا من أفعال أعدائه ومواقفهم، وكان العون الذي قدمه له أعداؤه هو التفرق؛ فباستثناء التحالفات التي كانت تنطلق من مقدونيا بمعدل متزايد، لم يكن يوجد إلا قليل من الوحدة بين مختلف شعوب البلقان أو التراقيين أو الإغريق، الذين كانت الحرب فيما بينهم ضد بعضهم بعضا حقيقة من حقائق الحياة. أدرك فيليب الصراعات الداخلية واستغلها لمصلحته في توسيع نطاق نفوذه بدرجة أكبر جنوبا في اليونان، وشرقا ضد الدول الإغريقية في شبه جزيرة خالكيذيكي، ثم داخل تراقيا وصولا إلى البحر الأسود، وغربا إلى شاطئ البحر الأدرياتي، وشمالا في بلاد البلقان.
ظلت تيساليا والدول الخالكيذيكية تشغل باله خلال عقد الخمسينيات. وبحلول سنة 352، كانت الحملات التي جردت في تيساليا قد حققت نجاحا كافيا، وإن لم يكن نصرا كاملا، لدرجة توليه منصب «تاجوس» التيسالي، بمعنى قائد القوات العسكرية التابعة لمناطق تيساليا الأربع جميعها. أدى استيلاء فيليب على مركز الحلف الخالكيذيكي في أولينثوس سنة 348، وما تلا ذلك من تدمير لتلك المدينة، ربما بالإضافة إلى 30 مستوطنة أخرى؛ إلى ضم خالكيذيكي فعليا إلى المحيط المقدوني. وبما أن الإغريق الجنوبيين، وخصوصا الأثينيين، كانوا ناشطين في شمال بحر إيجة؛ آذن عمل فيليب فعليا بمواجهة مستمرة مع المدن الإغريقية الكبرى. وفي الوقت نفسه كان هؤلاء الإغريق الأقصاء يقدرون قوة الجيش المقدوني، الذي كان يمكن استخدامه لخدمة قضية أحد الطرفين في الحروب التي لا تنتهي بين الدول-المدن الإغريقية أينما وجدت.
شهد النصف الأخير من القرن الرابع استمرارا للحرب الأهلية المدمرة بين أثينا وإسبرطة وحلفائهما من 431 إلى 404. وفي عدد لا نهائي من محاولات التسيد من جانب الدول الكبيرة والصغيرة على السواء، انتقل المشاركون من مراكز السلطة إلى وضع الرعايا المهزومين. وفي تلك الأثناء صار الأعداء السابقون حلفاء، وخرج الحلفاء السابقون إلى الميادين بعضهم في مواجهة بعض. وبينما كان الإغريق يحارب بعضهم بعضا، كان انتباههم أول الأمر مصروفا عن مقدونيا، وفيما بعد اتجهوا إلى فيليب وجيشه كأداتين في إطار جهودهم، فاستغل فيليب هذا الموقف ببراعة، وعندما دعي إلى تسوية الحرب المستعرة بين فوكيس والدول الأخرى في وسط اليونان، لبى الدعوة؛ فهزمت فوكيس سنة 346 واكتسب فيليب منصبا رسميا آخر، وهو عضوية المجلس الحامي لحرم دلفي.
لم يكن بوسع فيليب تجاهل الأعداء التقليديين الآخرين، فسارت الجيوش المقدونية ضد الإليريين في الشمال، وزحفت إلى إبيروس في الغرب وعبر تراقيا ثم سكيثيا في الشرق. أبرمت اتفاقيات جديدة، كالتحالف الذي أقيم مع ملك جيتاي، الذي كان يسكن المنطقة الواقعة بين تراقيا والدانوب، وأنشئت مستعمرات جديدة. وأما مع جنوب اليونان، فلم تكن العلاقات عسكرية، على الأقل مؤقتا. أرسل فيليب السفراء واستقبلهم، وخصوصا إلى أثينا ومنها، وساند العناصر الموالية للمقدونيين في مختلف أصقاع اليونان، فدعيت دولتا ميسينيا وميجالوبوليس في بيلوبونيز، على سبيل المثال، إلى الانضمام إلى الحلف الأمفكتيوني الدلفي بجانب الدول الإغريقية الأخرى وفيليب.
على الرغم من هذه الدبلوماسية، كان الخوف من نوايا فيليب في ازدياد، ومن جديد كان هذا سائدا بالأخص في أثينا، التي كانت مصالحها في البحر الأسود معرضة للهجمات المقدونية. لكن المواجهة ستجر أرجل دول أكثر من مقدون وأثينا، ولن يكون مكانها في بحر بروبونتيس. بدلا من ذلك، عندما اشتعل فتيل الحرب في وسط اليونان مجددا في مطلع ثلاثينيات القرن الرابع، قاد فيليب المقدونيين عائدا بهم إلى اليونان كملك مقدوني ومسئول إغريقي في آن واحد. تمخض القلق المتنامي إزاء نوايا فيليب النهائية عن قيام تحالف بقيادة أثينا وطيبة، مع مشاركة حلفاء طيبة البيوتيين وفرق عسكرية من الدول الآخية، وفي موقع خيرونية في بيوتيا التقى ما بين 30 و35 ألف جندي إغريقي عددا مقاربا من المقدونيين بقيادة فيليب على رأس الجناح الأيمن، وابنه الإسكندر - الذي كان يقود الخيالة - على رأس الجناح الأيسر. كان النصر المقدوني حاسما، وفر الناجون من الإغريقيين إلى ديارهم على أمل الانتقام.
بدلا من الانتقام، سويت شئون الدول الإغريقية بتأسيس الحلف الكورنثي لأغراض هجومية ودفاعية، وانضم إليه الجميع باستثناء حليف بارز هو إسبرطة. ولغياب إسبرطة عن الحلف دلالته؛ إذ إن وجود الدولة - التي كانت ذات يوم الأعلى كعبا من حيث المشاة الثقيلة بين كل دول اليونان - لم يعد ضروريا لتسيير أمور مملكة صارت رقعتها بحلول سنة 336 تمتد من إليريا في الشمال الغربي إلى ساحل البحر الأسود الغربي في الجنوب الشرقي، ومن جنوب البلقان في الشمال إلى البر الرئيس الإغريقي في الجنوب. وتقدر الرقعة الجغرافية للملكة بمساحة 16680 ميلا مربعا (43210 كيلومترات مربعة)، كان أكثر من 12000 ميل مربع (31500 كيلومتر مربع) منها مملوكا فعليا، و4500 ميل مربع (11710 كيلومترات مربعة) منها تحت السيطرة المباشرة. في نهاية الحرب البيلوبونيزية كانت المساحة قد صارت 8400 ميل مربع (21750 كيلومترا مربعا)، بينما كانت أثناء حكم الإسكندر الأول 6600 ميل مربع (17200 كيلومتر مربع). كان أعضاء الحلف ينتمون إليه بالفتح، وبالتحالف الذي يعززه الزواج بالملك المقدوني، وبالاجتماع على أهداف مشتركة يجري التخطيط لها في اجتماعات مجلس المندوبين الموفدين من لدن جميع الأعضاء. في قلب كل حلقة كان هناك فيليب الثاني، الذي كان يتشعب بطرق مختلفة وفي اتجاهات متنوعة انطلاقا من عاصمته في بيلا. •••
لم يكد النظام الجديد يبدأ حتى اغتيل فيليب سنة 336. وما يبرهن على صحة تخطيط فيليب أن ابنه وخليفته الإسكندر الثالث استطاع إعادة تأكيد ترتيبات أبيه أثناء السنتين الأوليين من ملكه. قامت ثورتان؛ إحداهما في إليريا، قاد إليها الإسكندر جيشه المقدوني سنة 335، والأخرى في اليونان حيث تمحورت حول طيبة. فتعامل الملك الجديد مع كلتيهما بسرعة وفعالية، فدمرت طيبة. كانت مملكة مقدونيا تحت السيطرة، وكانت الأوضاع على حدودها الشمالية قد استتبت عندما استهل حملته ضد الفرس سنة 334.
غير أنه من المهم أن نتذكر أن التوحيد كان حديث عهد، وأن التوترات لم تتواصل فحسب بل اشتدت في خضم إنشاء المملكة المترامية الأطراف، التي اتسعت في عهد فيليب اتساعا كبيرا في رقعتها الجغرافية وتعداد سكانها، حتى صارت آنذاك تضم فئات كثيرة من البشر وحدتها الفتوحات أو التحالفات بعد أن كانت كيانات منفصلة تفرق بينها معالم الأرض الطبيعية والثقافة على حد سواء. كان معظم هذه الفئات، إن لم يكن كلها، يحن إلى استقلاله، وستظل الحركات الانفصالية التي كانت مشكلة تواجه الحكام الأرغيين الأوائل تقض مضجع الإسكندر. علاوة على ذلك، كانت أنماط الحياة لا تزال متباينة في عموم المملكة؛ إذ كان الرعي المترحل هو النشاط السائد في بعض المناطق، وكانت الزراعة المستقرة تشغل اهتمام معظم الناس في بعضها الآخر. وقد لاقى الرعاة والمزارعون على امتداد معظم التاريخ صعوبة في استيعاب أحدهما الآخر. كانت الاختلافات الإقليمية تتمخض عن توتر آخر؛ إذ تعرضت مواقع معينة لتشكيلة من الشعوب الأخرى، فساد التأثير البلقاني والصراع المحتمل في مقدونيا العليا، وأما على امتداد الخليج الثيرمي فتعرض المقدونيون للتأثير والاجتياح الإغريقي والتراقي.
كان معظم الملوك الأرغيين قد سعوا دأبا إلى إدماج عناصر من الثقافة الإغريقية؛ إذ برهن الإسكندر الأول في القرن الخامس على حقه في المشاركة في الألعاب الأوليمبية، وجلب أرخيلاوس بضائع ورجالا إغريقا إلى عاصمته في آيجي وأقام دورة ألعاب في ديون، واعتمد فيليب الثاني على الابتكارات الإغريقية كالإصلاح العسكري الطيبي، وكذلك على البضائع وعلى الأشخاص مثل أرسطو. عزز فيليب أيضا روابطه باليونان بإحراز ثلاثة انتصارات في الألعاب الأوليمبية في السنوات 356 و352 و348. كان هذا الاقتراض الثقافي عمليا من منظور معين، لكنه كان سببا للصدام من وجهة نظر أخرى. والراجح أن كثيرين من رعايا أرخيلاوس وفيليب لم يكونوا راضين بالكلية عن «أغرقة» الثقافة المقدونية. ومع قيادة الإسكندر جيشه وزحفه شرقا أكثر فأكثر، واجه ما يعرف شيوعا باسم ردود الأفعال المقدونية ضد ممارساته غير المقدونية المكتسبة حديثا.
كان توسيع المملكة قد تطلب قدرا أكبر من المركزية، وكانت هناك مراكز تأسست من قبل (في آيجي وبيلا)، لكن تعين اتخاذ المزيد من الخطوات مع ضم أقاليم جديدة إلى المملكة؛ فوسعت المراكز القائمة، وأقيمت حصون ومستعمرات كلما اتسعت حدود المملكة، وتعين شق طرق لربط المناطق. كان لزاما أيضا وجود قوة عسكرية كبيرة مرنة، ومع امتداد جهود فيليب إلى بحر بروبونتيس والبحر الأسود، تعين إقامة قوة بحرية. كانت كل هذه التطورات تحتاج إلى موارد، وكانت هذه الموارد موجودة يقينا، لكن تعين آنذاك قيام سلطة مركزية على أمر إنتاجها بكميات كافية واستغلالها، وتطلبت تلك المركزية بدورها توسيع الأجهزة الإدارية فيما وراء هيكل السلطة المقدونية الأصلي البسيط نوعا ما. حتى الإنشاء الفعلي لهذه الأجهزة كان من الجائز تماما أن يثير نفور العناصر المحافظة من السكان، وخصوصا العائلات النخبوية الأخرى.
نامعلوم صفحہ