قال: «فإن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ذلك الذي كان يرعى لنا الغنم بالقراريط إلى وقت قريب، قد تزوج من خديجة بنت خويلد بن أسد.»
قال شيخ من شيوخ قريش: «ويحك يا ابن أخي! إنه لابن عبد المطلب، وإنه للأمين. وأي قريش أكفأ لخديجة من ابن عبد المطلب! وأي قريش يستطيع أن يسامي الأمين!»
الفصل الثالث
حديث باخوم
1
أخذ القوم يرفعون أيديهم عن الطعام، وجعلوا كلما تحول واحد منهم عن المائدة ممتلئا ثقيلا سعى هادئا رفيقا، لا تكاد قدماه تحملانه، كأنما أثقله ما ازدرد من الطعام والشراب، حتى إذا تخطى عتبة الدار اتخذ مجلسه أو ألقى نفسه إلقاء في هذا الميدان الفسيح الذي كان يمتد فيه البصر إلى غير مدى، والذي كان ينحدر في يسر وأناة حتى يبلغ النيل. وما هي إلا ساعة حتى كان القوم جميعا قد أخذوا أماكنهم أمام الدار، وبدءوا حديثا خافتا بطيئا متقطعا أول الأمر، ولكنه يرتفع ويسرع ويتصل، ويزداد حظه من الارتفاع والسرعة والاتصال، كأنما كان ذلك يقدر بما يكون من استقرار الطعام والشراب في أجوافهم شيئا فشيئا، وتوفر معداتهم على الهضم قليلا قليلا.
وليس من شك في أن هذا النسيم العليل الذي كان يهب عليهم من الشمال رفيقا رطبا، قد أعانهم على هضم ما ازدردوا، ورد عليهم شيئا من النشاط الذي كانوا في حاجة إليه، ليتصل بهم المجلس شطرا من الليل، وليأخذوا في أسمارهم كما تعودوا أن يفعلوا كلما دعاهم صديقهم «يوحنا» إلى الطعام.
وكان «يوحنا» أكثر أهل القرية مالا، وأعظمهم ثراء، وأوسعهم أرضا، يعمل في زراعته الفقراء من شباب القرية الذين لا يملكون أرضا، يفرغون لها، ويقفون جهودهم عليها. وربما احتاج في بعض المواسم والأوقات إلى عدد أكثر من هؤلاء الذين كانوا يجدهم في قريته، فيجلب العمال والفلاحين من القرى المجاورة. وقد كان بعضهم يسمع بثروة «يوحنا» وكرمه ورفقه بالعاملين في أرضه وسخائه عليهم، فيقصد إلى هذه القرية من بعيد، ليعمل عند هذا الرجل الذي لم يكن يشبه الكثير من أغنياء الإقليم وأصحاب الثروة فيه.
وكان «يوحنا» قد عود نفسه البر بأهل قريته، والتوسعة عليهم بين حين وحين، لا يعرف أن أحدا منهم قد مسه الضر، أو اشتدت عليه الحال، إلا أعانه وأغاثه وأنجده، يكتم ذلك ما وسعه الكتمان! كأنما كان يستحيي من أن يعرف الناس عنه بره وكرمه، ولكن الناس كانوا يعلمون منه ذلك ويتسامعون به. وكان صنائعه يرون من شكر الصنيعة ومعرفة الجميل أن يذيعوا إحسانه إليهم، وأياديه فيهم.
وكان «يوحنا» على ذلك لا يكتفي بهذا البر المكتوم يبذله لأهل قريته كلما احتاجوا إليه، وإنما كان يدعوهم من حين إلى حين إلى طعام عام يقدمه إليهم في أيام كانوا يرونها أعيادا، وكانوا يستجيبون لدعوته ولا يتخلفون عنها، سواء في ذلك الميسور والمقتر عليه في الرزق، يرون ذلك نعمة منه عليهم، وحقا له في أعناقهم. وكانوا إذا أخذوا حظهم من الطعام والشراب فرغوا للأحاديث والأسمار فقضوا فيها شطرا غير قصير من الليل، ثم تفرقوا موفورين محبورين، تخفق قلوبهم بالحب له، وتنطلق ألسنتهم بالثناء عليه.
نامعلوم صفحہ