قال خشقدم الرومي: أما في بيت أقبردي فلا، فليهدأ بالك يا أمير، ولكن له هناك أمنية يتطلع إليها منذ بعيد ...
فابتسم خاير بك وقال: تعني شهددار بنت أقبردي؟
قال خشقدم: نعم، ولكنه لن ينالها، فقد أجمع السلطان على أن يزوجه ابنته جان سكر، وما أظنه يغفر له لو عرف أن له هوى هنالك، فإن شئت يا أمير فقد عرفت من أين تناله.
فسرحت نظرة خاير بك إلى بعيد وهز رأسه وهو يردد في صوت خافت: نعم، نعم قد عرفت!
ثبتت قوائم عرش السلطان في مصر بعد اضطرام دام سنين، منذ مات السلطان قايتباي، واستقر الغوري على عرشه هادئا راضي النفس قد أمن ظهره، فليس بين أمراء المماليك اليوم أمير واحد يزعم لنفسه أو لأحد ممن حوله أنه أولى بها من ذلك السلطان الشيخ، وقد تفانى الأمراء العظام ومات بعضهم بأيدي بعض ...
على أن طائفة من الأمراء الشبان كانت أنفسهم تنازعهم إلى لون من المجد والجاه، ولكنها لم تكن تبلغ بهم مبلغ الأمل القريب في عرش السلطان الشيخ إلا أن يموت حتف أنفه، وكان السلطان الغوري رجلا من ذوي الرأي والحيلة، له تدبير وكيد، وقد سلخ ما مضى من عمره لا يفكر إلا في الوسيلة التي يبلغ بها العرش، فلما بلغ لم يكن له فكر إلا في الوسيلة التي تحفظ له هذا العرش، ما عاش ليجعله من بعده ميراثا لولده، فغفل عن كل تدبير إلا ما كان سببا إلى هذه الغاية، فلم يكد يحكم حتى كان من أول همه التخلص من أعدائه، يغري بعضهم ببعض ليخلص منهم جميعا، ولم يسفك دما أو يؤرث بغضاء، ثم جد في طلب السلطان المخلوع، حتى ظفر به فأسلمه إلى أعدائه يأخذون منه بثأرهم. وتخلقت أصل باي بدمه وتخلق عيالها، وهيأ لها السلطان الوفاء بذلك النذر.
ولم يكن به شره إلى المال، ولكنه أيقن أن المال هو الوسيلة إلى استبقاء العرش، فكان كل تدبيره من بعد ليجمع ما يقدر عليه من المال بكل ما يملك من أسباب، ولم يبق في ذلك ممكنا إلا استعان به، حتى اتجر في الغذاء والكساء، واتجر في وظائف الدولة، واحتكر أنواعا من المتاجر لا تباع ولا تشترى إلا من بابه. وسار الموظفون على نهج السلطان، فاتجروا واحتكروا، وفرضوا الضرائب لأنفسهم على الناس باسم السلطان، له منها نصيب ولهم نصيب، وليس يعنيه شيء مما يصيب الشعب من وراء ذلك ما دامت خزانته عامرة بالمال، واتخذ من أعوانه في تقدير الضرائب وتحصيل المال طائفة من ذوي الرأي والحيلة، أو ذوي الغلظة والعنفوان، فيهم جاني باي الأستادار، وفيهم علي بن أبي الجود بياع الحلوى والمشبك عند حمام شيخو كان.
وجعل همه إلى زيادة مماليكه الخاصة؛ ليكون له منهم جيش يحميه ويدفع عنه، حتى بلغ عدد مماليكه الخاصة في طباق القلعة ألفا ومائتين، غير مماليك الأمراء والوزراء وأصحاب الوظائف، ينفق عليهم جميعا من مال الدولة ويحتظيهم ويمكن لهم، على حين ترك القرانصة من مماليك السلاطين السابقين لا يجدون ما ينفقون، وانتزع ما كان بأيدي أولاد الناس - ذراري الأمراء السابقين - من إقطاعات خلفها لهم آباؤهم؛ ليهبها لمماليكه الخاصة أو يضمها إلى ملكه ...
وضاق الشعب بما يحمل من عبء الضرائب وعسف المماليك الخاصة.
وثار القرانصة لإيثار الجلبان عليهم بالخير والنعماء.
نامعلوم صفحہ