وأحس قنصوه وخز الطعنة في فؤاده فقال ضجرا: حسبك يا طومان! هل هو إلا صبي يعبث!
ثم زفر زفرة، ورفت ابتسامة غامضة على شفتي طومان باي الدوادار، وأيقن أنه قد بلغ من نفس الأمير مبلغه، فمال بالحديث إلى جانب آخر يقول: وما جريرة هذا الشعب حتى يتولى أمره هذا الصبي، الذي لا يحسن تدبير أمر نفسه؟ هل عقم الجركس حتى ليس فيهم من يلي عرش مصر غير محمد بن قايتباي، فأين منهم مثل مولاي الأمير؟
فبرقت أسارير قنصوه، وبدت في وجهه أمارات الرضا، ثم استدرك قائلا: هذا رأي لا يراه غيرك يا طومان.
قال طومان باي: بل هو رأي الشعب والأمراء والمماليك جميعا يا مولاي، وإني لأعلم أن مولاي لا يزهد في العرش إلا تحرجا من رفع السيف في وجه ابن أخته، فإن شئت يا مولاي فإن علي تدبير الأمر، ولن ينالك شيء مما تكره!
قال قنصوه متزهدا: ولكني أكره أن يراق دم أبناء الجركس، ويموت بعضهم بأيدي بعض، وهم عدة الدولة في كل ما ينوبها!
قال طومان باي: ليطمئن مولاي، فلن يراق دم!
وخرج طومان باي الدوادار على نيته، وأقام قنصوه الخال في داره أياما مرهف السمع لكل ما يصل إليه من أنباء، فلم يصعد إلى القلعة ولم يلق السلطان!
بلغ السلطان الناصر غايته من مصرباي، فما أمضى إلى جانبها إلا أياما، ثم عاد إلى ما كان من شأنه: يخرج إلى أسواق المدينة، ويجوس خلال طرقاتها في الليل والنهار، في بطانة من الرعاع والسفلة، يفتك ويسفك الدم، ويهتك الحرمات، ثم يعود إلى القلعة راكبا أو راجلا، منهوكا مخمورا لا يكاد يفيق!
وبلغت مصرباي الجركسية غايتها من السلطان، حين رأت نفسها وقد صارت سلطانة، تجلس إلى مرآتها في غرفة الزينة، ومن خلفها جارية ترجل لها شعرها، فتنطبع في المرآة صورتان ... ولكنها لم تسمع مرة واحدة خفق أقدام السلطان تقترب من الباب!
امرأة واحدة في القصر كان قد بلغ منها الهم والقلق كل مبلغ حتى ضاقت بحياتها ... تلك هي أصل باي أم السلطان، لقد أغفلت شأن ولدها حين يئست من صلاح أمره، منذ تزوج على كره منها بمصرباي، وأغفلت شأن أخيها قنصوه حين يئست من وفائه بالذمة، منذ وقع في همها أن له مطامع في عرش ولدها الناصر، وأغفلت شأن نفسها حين يئست من عودة جانبلاط منذ ذهب إلى الشام أميرا، فطاب له من دونها المقام! وقام بينها وبين الناس جميعا حجاب من الوهم لا ينفذ من ورائه قلب إلى قلب، فلولا جاريتها الخاصة وما تنقل إليها من حديث الناس، لنسيت أنها الأميرة أصل باي أم السلطان الناصر، ولكن أين هو الناصر؟ لقد استأثرت به بطانة السوء من أصحابه، فانقطع ما بينه وبين الناس جميعا؛ فلا أمه، ولا خاله، ولا مصرباي، ولا أحد من الأمراء أو المماليك أو الرعية تربطه به صلة من الود، أو آصرة من الولاء، لقد استهان بالرعية فاستهانت به، وضيع شعبه فأضاعه ... ذلك السلطان ابن السلطان الذي كانت تهتف باسمه الملايين من قلوب عامرة بالمحبة والولاء.
نامعلوم صفحہ