وحضر جاني باي، فما كاد يراه صديقه جقمق حتى أسرع إليه فاعتنقه بشوق، ثم استدار بهم المجلس يتبادلون فنونا من الأحاديث حتى تقدم الليل، فافترقوا وذهب كل منهم إلى مضجعه لينام.
فلما كان الصباح، بصر طومان بخاير بن ملباي يتمشى ثقيل الخطو عند باب الغرفة، حيث كانت مصرباي جالسة بين يدي مولاها وفي وجهها أمارات القلق واللهفة، فأدرك طومان ما بين جنبيها من السر، وهمس لنفسه قائلا: يا للمسكينة! لقد غلبها الفتى على أمرها، ولكن لا بأس، فسيذهب من وجهها بعد ساعات فلن تراه بعد، وتنجو الشاة من سكين الجزار!
ولكن صوت سيده لم يلبث أن رده إلى فكر جديد حين سمعه يقول: اسمعي يا مصرباي! ستكونين يا ابنتي منذ اليوم تحت يد صديقي جاني باي، وستصحبينه في رحلته غدا إلى القاهرة، حيث أرجو لك أيتها العروس الصغيرة حظا سعيدا ...
ثم صمت برهة ونظر إلى طومان وخشقدم، فإذا في أعينهما سؤال حائر، فأردف قائلا: أما أنتما يا طومان وخشقدم فستبقيان هنا في حلب ... ولعل القدر يهيئ لكما فرصة سعيدة في صحبة قنصوه الغوري نائب قلعة حلب. إنه في حاجة إلى رجل صغير مثلك يا طومان، يعتمد عليه في مهماته، وإنك في حاجة إلى أمير قوي مثل الغوري يهيئ لك السبيل إلى الإمارة ... وستجد صديقا لطيف المعشر في زميلك خشقدم ...
عبس خشقدم حين رأى منزلته في حديث مولاه دون منزلة صاحبه، أما طومان فلم يفكر وقتئذ إلا في أمر واحد، هو أمر صديقته الصغيرة مصرباي التي حيل بينه وبين حمايتها من ذلك الذئب، فصاح محتجا: سيدي ...
قال جقمق غاضبا: صه! لقد عقدت الصفقة ولا سبيل إلى الرجوع بعد!
وكان خاير بن ملباي لا يزال يتمشى ثقيل الخطو عند باب الغرفة التي يتحدث فيها جقمق إلى غلمانه، ولكن أمارات القلق واللهفة كانت قد زالت عن وجه مصرباي، ورفت على شفتيها ابتسامة رضا واطمئنان ...
ونهض طومان إلى باب الغرفة ففتحه، فإذا هو وجها لوجه أمام خاير بن ملباي، أما خاير فطأطأ رأسه خجلا وأوفض في السير، وأما طومان فتمتم في غيظ: اذهب حيث شئت، فلا بد أن نلتقي يوما ...
ثم أغلق باب الغرفة وعاد إلى مجلسه بين يدي أستاذه جقمق!
ومضى الركب لوجهه وفيه ملباي الجركسي وأولاده الأربعة، وفيه جاني باي وصحابته من أقارب السلطان، ومعهم مصرباي.
نامعلوم صفحہ