لو ثبت جند السلطان طومان باي ساعة من نهار أمام الجيش العثماني الذي دهمهم في معسكرهم عند جامع شيخو، لتم لهم النصر، ولارتدت فلول الروم منهزمة إلى الشرق وجلت عن القاهرة، ولكن جند السلطان طومان باي لم يثبتوا لقذائف البارود التي تحصدهم، وليس في أيديهم إلا الرماح والسيوف، لا ينالون بها رماة البنادق الذين أشرفوا عليهم من التل القريب وصبوا عليهم النار الحامية، وصاح طومان باي بأصحابه: اقتحموا عليهم بسيوفكم فإن قذائفهم لا تنال إلا البعيد! ثم قذف بنفسه في المعركة ومن حوله طائفة من أتباعه يفلقون بسيوفهم الهام، ويشقون المرائر ويجندلون الأبطال، فأثخنوا في العدو ونالوا منه بحد السيف أكثر مما نال منهم بقذائف البارود، ولكن الكثرة من أصحابه لم يلبثوا أن انفضوا، فنظر حوله فإذا هو والطائفة القليلة من أتباعه قد أوشك جيش الروم أن يطبق عليهم من كل جانب، فتقهقر والسيف في يده لم يزل يميل به ويعتدل وهو يقطر من دم العدو، حتى خلص من الزحام وما كاد ...
وكانت خوند شهددار جالسة في دارها الجديدة عند بركة الفيل، تنتظر ما يكون من أنباء المعركة بقلب واجف، وبين يديها طفلة في الثالثة تهتف باسم أبيها الذي يجالد الأبطال بسيفه وحيدا في المعركة، والمنايا من حوله تحصد النفوس ...
وسمعت شهددار طرقا على الباب فخفت إليه ملهوفة؛ لترى من الطارق في وقت لم تكن تنتظر أن يزورها فيه حبيب ولا نسيب، ورأت أمامها السلطان والسيف في يده لم تزل يقطر دما، وفي وجهه أمارات الإعياء وفي عينيه نظرة يأس، وقد اصطبغت حلته الملوكية بما تطاير إليها من دماء القتلى ...
وتراجعت شهددار وهي تقول في إنكار: لغير انتظار مقدمك في تلك الساعة جلست مجلسي هذا يا طومان!
قال طومان وقد أغلق الباب دونه وتقدم إليها خطوات: ولغير هذه الخاتمة جاهدت ما جاهدت يا خوند! - الخاتمة! إذن فقد يئست يا طومان! - لا وحقك يا حبيبتي! ولكن ماذا يصنع فرد قد انفض من حوله أمراؤه وأصحابه، وطارت أنفسهم شعاعا من قذائف النار فخلفوه في طائفة قليلة لا يغني غناء بين هذه الآلاف؟ - يجاهد وحيدا حتى ينتصر أو يموت! - وأنت؟ - وأشهد العيد يوم يعود إلي منتصرا يزين مفرقه التاج! - ويوم يجيئك منعاي يا شهددار؟ - أباهي بأنني امرأة السلطان الذي حارب وحيدا؛ دفاعا عن وطنه حتى استشهد في ساحة الجهاد! - ونوركلدي، ابنتنا الصغيرة التي توشك أن تفقد أباها في المعركة، كما فقدت نوركلدي الأخرى في بلاد الغور ولدها في غير حرب ولا قتال؟ - ليست نوركلدي الصغيرة بأعز من وطنك الغالي يا طومان! - وإذن فهو الوداع! - وداع إلى لقاء!
ليست نوركلدي الصغيرة بأعز من وطنك الغالي يا طومان.
وانحدرت دمعتان على وجنتيها الشاحبتين فجاوبتهما دمعتان على وجنتيه، وتلاصقا صدرا لصدر، وكانت خفقات قلبيهما تمام الحديث الذي لم تلفظه الشفاه!
وعلى مقربة من الزوجين المتعانقين عناق الوداع، كانت طفلة في الثالثة واقفة وقد تعلقت عيناها بأبويها وظلت صامتة كأن قد سمعت وفهمت، وعرفت كل ما هنالك، ثم استهلت هاتفة بعد فترة: أبي!
فتناولها الرجل بين ذراعيه فطبع على جبينها قبلة، وجفف في صدرها دمعه، ثم أرسلها من بين يديه واتخذ طريقه إلى الباب!
قال أرقم: لقد ذهب ولكنه سيعود!
نامعلوم صفحہ