139

وتبادل الرجلان نظرتين لم يخف مغزاهما على السلطان، فقال باسما: دعه يا خاير بك وما يدبر من أمره، وليذهب إلى القاهرة إن شاء، فإني لآمل أن نبلغ بتدبيره ما نريد، فيكون لك عرش مصر وله عرش الشام ...

غامت سحابة من الهم على وجه جان بردي، أفمن أجل أن يكون لخاير بك عرش مصر بذل جان بردي ما بذل وخان وطنه وغدر بسلطانه؟ يا لها خاتمة! ولكنه حتى اليوم لا يزال مستطيعا أن يبلغ بتدبيره ما يريد لنفسه، وإن لم يرض السلطان سليم ولا خاير بك، فسيقصد من فوره إلى القاهرة يطلب لنفسه العرش، ويدع لخاير بك الندم واللهفة!

وأصبح جان بردي على الطريق إلى القاهرة، فما كاد يصل حتى كان طومان باي قد بلغ العرش، وبايعته مصر كلها سلطانا، فلا مطمع لجان بردي في شيء مما كان يأمله، فأكل الغيظ قلبه وعاد يفكر في تدبير جديد ...

وكان السلطان طومان باي قد أجمع خطته على أن يجعل خط الدفاع الأول عن مصر عند مدينة غزة، على حدود فلسطين، ريثما يهيئ وسائله للدفاع عن القاهرة وما يليها من البلاد، وعرف جان بردي الغزالي خطة السلطان وما أجمع عليه رأيه، فرآها فرصة سانحة لتدبير جديد، فعرض أن يتطوع لقيادة الجيش الذي يتأهب للمسير إلى غزة للدفاع، فأباها عليه السلطان طومان باي وارتاب في نيته، ولكن أمراء السلطان لم يرتابوا وحملوه على الرضا، فأولاه قيادة الجيش طاعة لمشورة أمرائه وندب له الجند للدفاع ...

وخرج جان بردي على رأس الجيش المصري إلى غزة، فلم يكد يتراءى له جيش السلطان سليم حتى أسلم له جان بردي جنده ورايته، وعاد إلى القاهرة عجلان في زي منهزم قد أفلت من منيته، ومثل بين يدي السلطان طومان باي يصف له ما لقي من شدة بأس ابن عثمان وقوة عسكره.

وكان الجيش العثماني في أثره يجتاز الحدود إلى مصر.

قال السلطان طومان باي: ألهذا بعثتك على رأس الجيش يا جان بردي؟!

قال جان بردي في لهجة المعتذر: لو رأيت يا مولاي ما حشد الروم من الجند والعتاد، وما تزود به من أدوات التحطيم والدمار؛ لرأيت جيشا لا يسلم من بطشه أحد من عدوه.

قال السلطان مؤنبا وعلى شفتيه ابتسامة غيظ وحنق: ومع ذلك فقد سلمت أنت يا أمير!

وصلت القافلة التي فيها أرقم ونوركلدي القاهرة، والقاهرة يومئذ في أمر مريج، فقد بلغ جيش الروم حدود مصر، وأوشكت خيله أن تطأ أرض الوادي الذي استعصى على الفاتحين، فلم يدخله جيش أجنبي منذ استقل عن الدولة العباسية لعهد ابن طولون، حتى التتر والصليبيين - على ما اجتمع لهم من أسباب القوة - قد ارتدوا جميعا عن بابه مقهورين لم ينالوا منه منالا، ونالت مصر منهم منالها، واليوم يوشك هؤلاء الترك أن يقتحموه؛ ليتخذوا المصريين عبيدا وخولا وكانوا أصحاب السلطان والسيادة ...

نامعلوم صفحہ