قال هير مفسرا: «هو يعني أنه يريد أن يدخن. حسنا يا بروفيسور. سأعتني بالآنسة كار ريثما تروي أنت ظمأك الذهني.»
على الجانب المقابل من الطاولة التي يغطيها رماد السيجار، ابتسم هير لآيريس.
وسألها: «هل الأمر كما فهمت؟ هل حقا الآنسة فروي تلك غريبة عنك تماما؟» «بالطبع.» «ومع ذلك أنت تكادين تفقدين صوابك قلقا عليها. لا بد أنك الشخص الأكثر إيثارا على وجه الأرض. حقا، فذلك أمر غير عادي.»
قالت آيريس معترفة بصدق: «لكني لست كذلك، بل نقيضه. وهذا هو الأمر الذي يثير دهشتي؛ فأنا لا أفهم نفسي البتة.» «حسنا، كيف بدأ الأمر؟» «على النحو التقليدي. كانت لطيفة للغاية معي، ومدت لي يد العون، وما إلى ذلك؛ لذا في البداية افتقدتها لأنها لم تعد في ظهري، لكن وبعد أن ادعى الجميع أنها من وحي خيالي، تحول الأمر كله إلى كابوس مريع. كان أشبه بمحاولة إثبات أن جميع من عداي مخطئ.» «ذلك أمر ميئوس منه، لكن لم شعرت أنك مضطرة لإثبات أنها حقيقية؟» «ألا تفهم؟ لو أني لم أفعل، لما استطعت أن أشعر أن أي شيء أو أي شخص أراه حقيقي مجددا.»
علق هير بفتور: «لم أكن لأفقد صوابي لو كنت مكانك؛ فحينها كنت لأعرف أن تلك هي الأعراض اللاحقة لإصابة بالمخ؛ ومن ثم كنت لأعتبره أمرا منطقيا للغاية.»
قالت آيريس محتجة: «لا يمكنك مقارنة تجربتك بتجربتي؛ فأنت رأيت شخصا حقيقيا لكنك خلطت بينه وبين الأمير. بينما يفترض أني تبادلت الحديث مع شبح. لا يسعني أن أخبرك كم شعرت بالراحة عندما تذكرتها السيدة بارنز.»
ارتسمت على وجهها ابتسامة مبتهجة وهي تتطلع من النافذة. الآن بعد أن رسخت قدميها في العالم المنطقي مرة أخرى ، بعد أن ظلت هائمة في غياهب العالم الخيالي، لم تستطع كآبة المنظر حولها أن تتسلل إليها. حل العصر مبكرا، فامتدت فترة الغسق مضيفة لمسة أخيرة إلى كآبة البلدة الصغيرة التي كان يمر القطار من جانبها ببطء.
كلما عبروا من أمام شارع، كانت آيريس ترى محال متواضعة تعرض سلعا يسيرة مثيرة للشفقة، وطرقا مرصوفة بالحجارة، ولمحات من نهر مزبد زاخر من خلال الفجوات بين المباني. بدت البيوت - التي تتشبث بالتلال الصخرية مثل رقع من نبات الحزاز على سطح منزل - شبه متهدمة بفعل الزمن والعوامل الجوية. منذ زمن بعيد، طلي خشبها وجصها باللون الرمادي، لكن المطر محا لون بعض الحوائط والشمس أبلتها فصار لونها أبيض متسخا. كان كل جانب بالبلدة ينم عن الفقر والعزلة.
قالت آيريس مقشعرة أثناء مرورهم بجوار بوابة حديدية صدئة وراءها حديقة نمت بها أعشاب الحماض: «يا له من مكان مريع! أتساءل من بإمكانه أن يطيق العيش هنا، عدا المنتحرين.»
قال هير مقترحا: «الآنسة فروي.»
نامعلوم صفحہ